الفضائيات السودانية حتى التي يموّلها الشعب من حر ماله ومعها الفضائيات الخاصة (وهي مؤتمرجية بوضع اليد أو الحكر) ما زالت على مسخها القديم وبرامجها الماسخة، ولا علاقة لها بنبض الشارع ولا حياة الناس ولا يوميات الثورة.. ومقدمو برامجها (ماخدين على خاطرهم) يظهرون على استحياء وكأنهم (يتاوقوا من الشباك) حتى يتأكدوا أنه لا مشكلة في ظهورهم..! هذه القنوات ما زالت على نهجها القديم تخرج منها ذات الوجوه الاحتكارية القديمة (البائتة) التي كانت تطل على الناس قبل الثورة وبذات البرامج التي كانت (تطمبر) لأكاذيب الإنقاذ ورموزها (مقطوعي الطاري)..وبذات الحوارات القائمة على تجاهل الآخرين و(المفصّلة) من أولها إلى آخرها على مقاس الإنقاذيين..ولا تستضيف إلا جماعة المؤتمر الوطني وأتباعهم.. من كل حلّاف مهين، همّازٍ مشاءٍ بنميم، منّاعٍ للخير مُعتدٍ أثيم، عُتلٍ بعد ذلك زنيم..!
قنوات تسبّب (عسر الهضم) لا زالت على حالها القديم ولم يتغيّر فيها شئ.. ذات البرامج الحوارية بأسمائها القديمة تريد أن تنتقل لتكسير (مجاديف الثورة) وإلهاء الناس بالحديث الميت والاحتمالات المُغرضة والتباكي حول كيانات الثورة المضادة وأحزاب الفكة..وهي تريد أن تقول إن (الحال في حالو)..فلا ثورة ولا يحزنون (ونحن باقون)..وهي قنوات تقاطع ميدان الاعتصام (وهو أكبر حدث في القرن الواحد وعشرين) في حين أنها كانت تهرع بكاميراتها إلى (سمايات) المؤتمرجية و(حفلات طهور) أنجالهم..! هي قنوات لم تستطع الخروج من عباءة نظام الإنقاذ الإقصائي الكاذب، بل هي تتجرأ الآن على استجواب شباب الثورة وكوادرها ومقاطعتهم بالأسئلة التجريمية الايحائية المُعادية من أجل مساندة بقايا الإنقاذ والأحزاب الرديفة التي ظلت مع سلطة الإنقاذ حتى آخر يوم من سقوطها..!
وإذا تركنا السياسة والانحياز السافر إلى أحزاب (الردوم والخموم) وشراذم الثورة المضادة فإن برامجها في المنوعات هي مسخ ينضح بالبلادة والبطء والسخف والخفة والهرجلة.. وأفضل مثال فاقع لها يتمثل في برنامج جرى عرضه في أول أيام رمضان اسمه "كلام رجال" جمع (الثقالة) من أطرافها، وبدأ وانتهى بالصياح والصخب، وأصحاب البرنامج يظنون أن في ذلك إبداعاً واختلافاً وابتكاراً.. وضاعت الفكرة بين الصخب و(البرجلة) والمقاطعات والصياح بعبارات غوغائية بداية من مقدم البرنامج وانتهاء بضيوفه الذين كانوا خصماً على الدبلوماسية والكوميديا والرياضة والطب النفسي.. وعلى (خفة الدم)..! وإذا لم يكن الشخص ينظر إلى شاشة تلفزيونية لما داخله شك في أن هؤلاء الناس الذين يتحدثون بهذه الطريقة الفجة إنما هم شلة أصدقاء تجلس كما اتفق تحت (شجرة نيم) في أحد الشوارع الخلفية.. يثرثرون وفق ما يعن لهم من كلام مثل (الدرّاب) لا رابط فيه ولا معنى..! ومقدِّم البرنامج يظن أن التلقائية تعنى الهرجلة والبرجلة والصياح و(المناقرات الخالية) من أي مغزى أو طرافة.. والخلاصة أن هذا البرنامج (وهو ليس وحده) يُعد نموذجاً مثالياً للبرامج التي لا تحترم المشاهدين بل تسخر منهم وتستخف بهم وتسئ إليهم..!
التلفزيونات أجهزة حساسة تقتحم البيوت..ولا بد من اعتبار مناخ البث وطبيعة المشاهدة ومزاجية الحالة وثقافة المتلقين وخلفياتهم.. دعك من روح الثورة التي شهد لها العالم بالفرادة والسمو والصمود والإبداع ونبل المفاهيم والشعارات والوجهة..ولا يمكن أن يكون (العبط) تعبيراً عن الحالة السودانية الراهنة.. ولا تدري كيف تمر برامج كهذه من غير إحكام لموضوعاتها ومحتواها وقوالبها الفنية ومحمولاتها الفكرية والثقافية وغاياتها والخيط الناظم لحيثياتها تفادياً للعشوائية (الهردبيسية) التي تقفز بالضيوف من موضوع فارغ إلى موضوع (فافنوس) بغير تسلسل ولا وشيجة منطقية بل هي مثل خياطة (القرعة بالقحف)..!
هذه برامج مفتوحة على الهواء يراها العالم ويراها الناس ويعجبون من هذه الفوضى التي يجرى جمع شتاتها في صورة برامج عقيمة؛ دعك من ضرورة استصحاب ما يدور في المجتمع من ثورة ومن نقلة نفسية عالية تتطلع للرقي وإصلاح شأن الذات السودانية وشأن المجتمع السوداني بنزعة قوية نحو تيار التجديد والإبداع وترقية المضامين والأشكال الفنية والمعرفية والثقافية والإعلامية والإعلانية والترفيهية والارتقاء إلى مخاطبة السودانيين بنهج جديد على قدر قامة وعيهم الذي يتبدى في كل فئاتهم العمرية بداية من الأطفال وانتهاء بربات البيوت وما بين هؤلاء وأولئك..!
أما البرامج الدينية فهي (كعب أخيل) وموضع (كسر الُركبة)..فهي أكثر برامج القنوات (ضعفاً وركوداً وإملالاً وإضجاراً).. فهي بعيدة بفراسخ عن الارتفاع إلى مستوى وعي المجتمع.. وكأنها لم تسمع بحلقات الشيخ عوض الله صالح في الستينيات والسبعينيات البعيدة وهي تحمل مشاعل الاستنارة وتلتحف بلطائف الدين وخفّة الظل والتواضع والمعاصرة والعلم الغزير الذي يتم تقديمه في بساطة وأريحية بدلاً من هذه الوجوه الكئيبة (العكرة) ومنها وجوه إنقاذية (مية في المية) ظلت لثلاثين عاما تقدم هذه البرامج باحتكار كامل.. ساكتة عن كل هوائل الإنقاذ وعن إذلال الناس وقتلهم وسرقة أموالهم وهي تتحدث لساعات طوال عن تفاصيل صلاة الغائب وسجود السهو.. (وتتثاقل) على الناس بالفقه الميت الذي يسد منافذ الفكر الحي..!
الأفضل أن تختفي هذه الوجوه الكئيبة من الشاشات، فهي تذكّر الناس بأقبح فترة في حياة السودانيين؛ فالوطن ملئ بالعارفين والعلماء وفقهاء الاستنارة بدلاً من هؤلاء الذين ظلوا ثلاثين عاماً يحتكرون الحديث عن الدين.. ومنهم من ظل طوال هذه السنوات يسلق ظهور الناس بأحاديثه الميتة السمجة التي ينقلها التلفزيون الرسمي (كل جمعة) ويفرضها على الناس فإذا بنا نرى إبنه بالأمس يبشّرنا ببرنامج ديني جديد من إعداده وعلى ذات طريقة أبيه...! يا للهول.. ننفك من (حفرة) فنقع في (وهدة) إنه يريد أن يخلف أباه لثلاثين عاماً أخرى..! وهذه أول مرّة نسمع فيها عن هذا النوع الجديد من التوريث ..!!
murtadamore@yahoo.com