تنضيح الوعي الثوري: (مرحلة ما بعد الارتداد الأولي)
هل يمكن أن يمثل الوعي بالحقوق خطوة تجاه تحيق الوعي؟ كيف يمكن أن يتبلور وعي ثوري يساعد السودانيين في تخطى حالة الانحباس الوجداني والانغلاق الذهني الذي يعايشونه في هذه الأيام؟ ما هو السبيل لتفادي حالة الارتدادات التي يمكن أن تحدثها الاصطفافات الجهوية والأثنية والقبائلية التي اتسمت بها الساحة السياسية؟ ما هو الأثر الذي يمكن أن يحدثه انهيار الدولة السودانية وتهتك أركانها على مستوى الحزام السوداني؟ هل من سبيل لتدارك ذاك البركان الذي ظل يعمل بصمت في نفوس السودانيين، ولا تطيق السنتهم التفوه به؟
يستخدم بعض الناشطين عبارة قحت اختصاراً لإعلان قوى الحرية والتغيير وإذ أنهم لا يعطون الحرف حقه ومستحقه، فإن التاء تصبح طاءً حال الامتنان عليها وحرمانها من "السكت". إن (قحت) كادت تسبب قحطاً (قحط) لأن جل من يتلون أمرها لا يملكون الجرأة ولا القدرة للتصدي للقضايا المفاهيمية الراهنة ومع ذلك هم يكابرون ولا يكادون يأبهون برأي حادب ولا يقبلون حجة (أو عذر) مغاضب. وقد اغتروا بإتباع الجمهور لهم كالقطيع حتى إذا ما حدثت المجزرة باتوا يتلاومون ولا يكادون يرسون على رأي في شأن الحدث الجسيم الذي قد احس بمقدمه الكثيرون لكنهم لم يقفوا في توقيته على بينة.
لو أن إجراءات التفاوض اتسمت بالشفافية (إطلاع قيادة الشباب المعتصمين على تفاصيل المداولات) والمحاسبية (محاسبة كل جهة من المفاوضين على التقصير ) والاعتراف (الاعتراف بالأخر المتواجد في طرف ميدان الاعتصام والذي لم يتم تمثيله أو دعوته إلى طاولة المفاوضات رغم تواجده الكثيف) لكان من الممكن تصميم استراتيجية تجنب البلاد التضحية بأغلى بنيها والدفع بهم ثمنا للخروج من المأزق، ومن بعد الوقوع في المنزلق. أيّ ديمقراطية هذه التي يعدوننا بها، إذا لم تلتزم جماعة قحت (قحط) منذ الأن بأبسط أسس الحكامة (الشفافية، المحاسبية، التبادلية التي تعزز سبل الاعتراف بالأخر )؟ أيُّ ديمقراطية هذه التي تعدنا بها أحزاب ترفد منسوبيها دون الرجوع إلي اللوائح والنظم، منها من يعمد إلي عسكرة المؤسسة ومنهم من يحيلها إلي منصة أسرية؟
لقد فقد كلا طرفيّ التفاوض – العسكر المرتشين والمدنيين الُمغْتَرين – زمام المبادرة ولن يستطيعا أن يردا الأمر لما كان عليه، وإن رغبا، لأن المعادلة السياسية عادت إلي مقوماتها الهوياتية متمثلة في الريف الذي كان ساكتاً أو صامتاً على مضض، والشباب الذين أغضبهم التنكر لمجاهداتهم ومحاولة دهاقنة السياسة سرقة تضحياتهم، والنساء اللائي وجدن أنفسهنّ، هنّ وأجندتهنّ، خارج المعترك تماماً. وها هي النخب المركزية تعود لنهجها البطريركي، العنصري، والجهوي، خاصة بعد أن اسلمت امرها للقيادة الطائفية أو لاذت بالصمت كي تضفي هالة على خِبال.
ما الذي سيخسره الشعب لو أنه أعاد الأمر إلى منصة التأسيس وساعد تجمع المهنيين على استعادة زمام المبادرة، لا سيما أن هناك كيانات في قحت (قحط) باتت تشكل عبئا أيديولوجياً، وقد لا يخطئ المرء إن شبهها "بالشنكل" الذي يعيق إمكانية تحقيق التحول المنشود نحو الديمقراطية؟ ما الذي سيخسره تجمع المهنيين لو أنه تخلى عن هذا الحِمل الثقيل المعيق؟ من المعلوم أن ذات المجموعة الأيديولوجية تتواجد بكثافة في تجمع المهنيين، لكن الصبغة المهنية قد تمثل "شُكَالاً" (الحبل الذي تقيد به أرجل الفرس الأمامية) يحول دون اختطافها للمنصة.
لابد أن نعض بالنواجذ على "إعلان قوى الحرية والتغيير"، أمّا اصطفافنا خلف قحت (قحط) فمشروط بتوخيها الالتزام بأسس الشراكة وغرس قيم المواطنة. يجب أن تعي قيادات هذه المجموعة الذين لم يعرف عن أكثرهم إسهام في أي منشط فكري أو أدبي، التزام بعمل حرفي أو مهني، أو حتى مجرد تمدد اجتماعي في أي ناحية بخلاف الخرطوم، هم عبارة عن ناشطين سياسيين أو سياسيين غير محترفين، ولذا فمن واجبنا أن نبذل لهم النصح حتى يعوا القضايا الأتية:
أولاً، تَجَاوب السودان بعمقه الريفي مع أهداف الثورة الحالية – ثورة البنفسج التي اختلط فيها الأبيض بالأحمر رغم حرص السودانيين على السلمية، بيد أنه أصبح من الصعب إذا لم نقل من المستحيل استتباعه كما كان يحدث في الماضي أو تجيير إرادته من خلال الاختيار لقيادات رخوة غاية ما تصبوا إليه هو الحصول على امتيازات تسهل لهم مهمة التماهي مع النخب المركزية والتعالي على ذويهم في الهامش بحكم ما اكتسبوه من منصب وجاه. فكم من قاطع طريق أو ربَّاطي سمعناه يتكلم بحرقة عن "التهميش"، فلما سنحت له الفرصة للوصول إلى مأربه بات يستنكف عن مجرد ذكر اللفظ، وينوه إلى أن هذه عنصرية فجة.
إن التحصن ضد أي رِدة سياسية، فكرية، أو حتى عسكرية يتطلب خلق تفاهمات بين القوة المدينية التي تتولى التفاوض حاليا نيابة عن المعتصمين ومجتمعات الريف متمثلة في قياداتها المدنية والأهلية، لا سيما أن الريف تَعَدَّ خانة الخصوصية الجغرافية وانداح في فضاءات ثقافية واجتماعية هيئت له فرصة التفاعل الحيوي مع كافة القطاعات والهيئات؛ دارفور مثلاً أصبحت في الخرطوم والجزيرة والشرق (دلتا القاش ودلتا طوكر).
لقد رسخ في مخيلة الجماعة قحت (قحط) أن قادة الحركات يمكن ان يساعدوا في تجسير الهوية بين المدينة والريف، على الأقل من الناحية الشعورية في حالة دارفور، علماً بأن هؤلاء لم يقوموا حتى الآن بعمل سياسي فعلي أو اجتماعي واقعي يجعل منهم أناساً فاعلين، دعك من أن يكونوا ممثلين حقيقين للريف. فقد اكتفى أكثرهم بما ناله من حظوة وقتية ربما هيئت له فرصة التحدث باسم الغلابة، لكنه لا يجرؤ الآن على مواجهة هذه المجتمعات التي تتهمه بالتآمر على وحدتها وضرب نسيجها الاجتماعي وذلك من خلال الاستهداف الممنهج لإداراتها وقادتها. لعل هذا التخوف هو الذي دفع بعضاً من الإدارات الأهلية للتحرك في محاولة لتطويق هذه الظاهرة التي تسمى "بالجبهة الثورية" أو "نداء السودان" لكنهم يخطئون إذ يظنون أن الارتماء في أحضان العسكر يحقق لهم ولمجتمعاتهم الأمان.
لقد الحقت الإنقاذ ضرراً بالمجتمعات المحلية وأساءت إساءة بالغة للإدارات الأهلية طيلة الثلاثين عاماً إذ جعلتها رافداً من روافد المؤتمر الوطني، وها هي الإنقاذ (2) تشيد برجالات القبائل وتعتبرهم سنداً لسلطتها الزائفة، فالإنقاذ (2) ما زالت متوجسة وخائفة. ونحن نسأل: أي إساءة يمكن أن توجهها السلطة لرجل الإدارة الأهلية أكبر (أو أكثر) من توظيفه في جهاز الأمن الوطني وجعله قمينا على التخبر وتوصيل رسائل يمكن أن تضر بحاضر كيانه ومستقبل أفراده؟ أي تأمر يمكن أن يقوم على كيان أكثر من إغراء أطفال القبائل المنضوية تحت لوائه وتحفيزهم للالتحاق بجيش ليس لديه هيكل وظيفي، وإذا أوجد فهو معلق بين ارض الطائف وسماء نجران؟
حرىُّ كان بوفد الإدارات الأهلية التي هي أصل الأجسام المدنية في السودان، أن يحذروا قادة المجلس العسكري، يوم أن التقوا بهم من مغبة المحاولة للالتفاف حول مطلب الجماهير في الحرية لان ذلك سيعرضهم يوماً للمسألة، وأن يشددوا على أبنائهم في المجلس خاصة على اتخاذ نهجاً عملياً لا يغرى بالركون إلى القبلية، وما لديها من مرتكزات، وألّا يتخذها مشجباً لتجاوز ساحة الوطن وما فيها من مرتكزات.
لكن هيهات، فهذه الإدارات هي نتاج السفاح الذي ظلت تمارسه النخب المركزية منذ الستينات: حل الشيوعيون الإدارة الأهلية في أوائل السبعينات فخلقوا فراغاً إدارياً وثقافياً واجتماعياً، حاولوا ملئه بفرية الضباط الإداريين، فلمّا فشلوا عمدوا على إرجاعها بسلطات محدودة، جاء الإنقاذيون فاستمالوها بحيل التمكين، ومن قاوم حيل الاستتباع تلك أحالوه إلي المعاش، وأذلوه وأفقروه. إذن، لا تلومنّ النخب المركزية إلاّ نفسها اليوم. فهؤلاء الرعاع الذين دمّروا دارفور ويسعون لتدمير الخرطوم اليوم لم يكن ليجرؤ أبا أحدهم أو جده للجلوس دعك من التكلم في حضرة الناظر. هل هذه طبقية؟ نعم. لكنّها أفضل من الفوضى الأخلاقية التي تمارسها "البروليتارية الرثة" اليوم في الخرطوم، استباحتها لأعراض الناس واستهزائها بأسلوب حياتهم.
لم يَضْرِب جهاز الأمن الوطني وحرس الحدود، والجيش، خيامهم في بوادي البقارة، حتى ارتوى الشباب من العرقي (الخمر البلدي) شربوا البنقو (المخدرات) ولم يَرْعُوا، بل استسهلوا القتل وارتكبوا الفواحش والموبقات. لقد وثقت لمآسي الإنقاذ (1) في كتابي (دارفور المستوطنة الأخيرة)، لكنني هنا بصدد التحذير من ظاهرة الاستقطاب العرقي التي يقنن لها المجلس الإنقلابي بقيادته البئيسة عسكريا ويخطط لها استراتيجياً، كي تكون درعاً واقياً من تربص المتربصين وتآمر المتآمرين، وذلك بعرض الوطن وطوله. لن يجني السودان خيراً من الاصطفافات الأثنية والعرقية والجهوية التي تخطط لها الإنقاذ (2)، بل سيتخلف كل ما لاحت له بارقة أغرته بالأزوار عن راية القومية. لماذا الاجتماع في مدينة "قري"؟ قيل لأنها عاصمة العبدلاب ولها رمزية معينة. متى ننتهي من هذا الوهم العروبي ونتفرغ لبناء وطن على أسس ديمقراطية وعلمية؟ أستمع إلي القائد الحلو يتطرق إلي قضايا مثل العقد الاجتماعي، الديمقراطية الفدرالية، إلي أخره، فأطرب؛ أستمع إلي حميدتي يهضرب ويتكلم عن حكومة التكنقراط والتنمية، فأعجب!
ثانياً، إن إتباع نهجاً قومياً لا يعني البتة إنكار الجرائم التي ارتكبت في حق "أبناء السودان الأصليين" (يُسَمَّون تجوزاً الزرقة)، وعدم الاكتراث للإشكالات البنيوية والمؤسسية التي تجعلهم في خانة دنيا، بل يعني بالضرورة اتخاذ كافة الوسائل الممكنة لمعالجات الظلامات التاريخية بصورة منهجية وموضوعية تجعلهم والآخرين، كلٌ قَيِّمٌ على نفسه، وليس معتبراً لوصاية تجعلهم في خانة الاستجداء لحقوقهم. إن تقسيم الثروة والسلطة يعتبر نهجاً غير سليم، لأنه لا يرعي بالاً لضرورة تفكيك بنية السلطة المعرفية والثقافية والاجتماعية. فيما تنافح جماعة قحت (قحط) عن الديمقراطية معتمدة نظاماً برلمانياً مركزياً، تظل أشواق السودانيين متعلقة بالديمقراطية الفدرالية التي ينتخب فيها الريف قادته ويتصرف منتخبيه في إيراداتهم حسب أولويات حياتهم. الديمقراطية الفدرالية تتمشى مع نظام الجمهورية الرئاسية، فعلام التمسك بالمجلس السيادي، الذي كان ضرورة يتمسك بها ساسة المركز لتمثيل الهامش، ولو أن يكون تمثيلاً رمزياً لا تتبعه إجراءات إدارية ومالية من شأنها أن تنصف الريف تنموياً؟
لقد سرني جداً يوم أن نزلت إلى ساحة الاعتصام أن 70% من المعتصمين هم من "أبناء السودان الأصليين"، وهالني بل أذهلني وعيهم القومي بقضيتهم رغم صغر سنهم، ووعيهم أن الظلامات تُحْمَي في ساحة الجماعية التي تعزز مفهوم المواطنة وتغرس قيم الإخاء والترابط الإنساني. لم يكتف القاتل بحرق قرى أهاليهم، سرقة مواشيهم، الاستحواذ على أراضيهم، إلى أخرها من الجرائم، بل لحقهم في ميدان الاعتصام – والذي كانت بمثابة مؤتمر دستوري شعبي، فدمَّر يافطتهم يوم المجزرة، حرق خيمتهم، غدر بالنائمين منهم، صوب الرصاص نحو صدورهم، سبَّهم ولعن أمّهاتهم، ويوم أن قَدِم أهالي هؤلاء المحتجزين لتقديم الضمان لم يقبلها من أولئك الذين ظنّهم من المتربصين وأحتسبهم من المرجفين. لقد صدَّق هؤلاء الجهلاء أنه من المُصْطَفين، وسوف يعلمون ذات ليلة أن سادتهم لا يميزون بينهم وبين أولئك إلا بدواعي الاستخدام، يساعدهم في ذلك المكر وحيل الكلام.
إن الشعب سينتصر لإرادته لا محالة ولن تثنيه عن عزمته لاسترداد حقوقه المنهوبة كل الحشود العسكرية أو الإغراءات المالية، كما لن تنجح كل المحاولات الرامية لاستتباع السودان حضارة وشعباً وارثاً تليداً لصالح مشروع توسعي، سلطوي واستيطاني، يغنى عن هذه المغامرات الصبيانية تحالفات اقتصادية واستراتيجيات تنموية يمكنها أن تسهم في معالجة الأسباب السياسية والثقافية والاقتصادية التي عطلت مجتمعات الريف وأفقرتها وجعلتها تمتهن القتال حرفة ووسيلة للتخلص من المسغبة.
نريد من الكل أن يسحب إصبعه من التتك (الزناد) وأن يضع البندقية جانباً متفكراً في مألات الأمور. إن تجار العقيدة والحرب والمال، أي السماسرة (أو السبّابة كما يطلق عليهم في الريف) يستخدمون كل ما بوسعهم عبر التاريخ لتفكيك المجتمع وإعادة تركيبه كي ينالوا حظوة أو يحصلوا على امتيازات خاصة. لذلك فأنا لا أتعجب من محاولة نخب الريف للتماهي مع نخب المركز أو محاولة نخب المركز للتماهي مع نخب الهامش، لكنني أعجب من انقياد الاتباع لهم وهم يعلمون أنهم، أي النخب المتنفجة، إنما تسعى للحصول على مرادها عبر أبهة بما يرد على الرعية الاتباع من هلاك.
نتمنى أن لا يلجأ الخصوم للاقتتال، بيد أنه بات من الواضح أن السودان قد دخل في فضاء سديمي لن يخرجه منه غير الإرادة الوطنية القادرة على كبح جماح الفئة الباغية، بالتحديد "حُرَّاس الرئيس الراقص" الذين ظنّوا أن بإمكانهم أن يرثوا ملكه وهم لم يعوا بعد أن الرشاوي لا تخول شخصاً الاستفراد بحكم بلدٍ فيه هذا المستوى من النضج الحضاري والوعي الإنساني.
ثالثاً، إن حراكاً يحدث تفاهماً ويتوخى فيه أن يكن مستداماً لا بد أن يصطحب معه التصوف كمكون أساسي من مكونات الريف في الوسط النيلي خاصة، فهؤلاء غير كونهم ممثلين أساسيين لمجتمعاتهم، هم يمثلون ترياقاً مضاداً للانتهازيين، الذين يريدون التنزه في ساحة الدين لا خدمته. لم اسمع نداءً مؤخراً أشجى وأدعى للفرحة من صوت النوبة يحفها حيران المسيد بقولهم "لا إله إلا الله، الكيزان أعداء الله". إن إهمال الفضاءات المدينية (من كلمة مدينة) وخلوها من الكوادر الدينية المؤهلة والفاعلة أحدث فراغاً استغله واحتله المُغْرِضُون الذين لم تكن لهم رغبة أو أهلية لتبني رسالة دينية تربوية، إنّما فقط ترداد أحاديث سكَّنت الطاغوت وأطالت من عمر الباطل.
لا بد إذن من استقطاب كوادر متزنة، واعية، مدركة وملتزمة تسعى لاستنهاض المواطنين وتوجه همتهم لبناء المجتمعات، وتعمل جاهدة لمراجعة المناهج التعليمية وتنقيحها من شوائب السلفية والأوهام الإخوانية، سيما توطين الإرث الصوفي السوداني في هذه الدور المدينية التي خلت من أي منشط فكري أو روحي أو اجتماعي أو رياضي أو ترفيهي، رغم تبجح الإنقاذيين بالدين فلا تكاد تكون هناك خلوة قرأن واحدة في كل مدن الخرطوم الحديثة. إن الفراغ الذي لا يُعْمَر بالفضيلة يملأ بالرذيلة. عليه، فإن اقتلاع شجرة الإفك يجب ألا يقتصر على التدابير السياسية فقط، إنما أيضاً يجب أن يشمل التدابير الثقافية والتربوية والتعليمة والإعلامية.
ختاماً، لا توجد معارك مُرجئة مع قحت (قحط)، إنما هنالك تفاهمات غائبة. ونحن إذ نُبين هذه النقاط لا ندَّعى معرفة، إنما نستنظر أجلاً يجب أن تدرج فيه هذه القضايا الملحة على الطاولة، لأن غيابها قد لا يسبب فقط تبرماً وتوجساً، إنما أيضا قد يحدث ارتكاساً وارتداداً عن الديمقراطية ويتسبب في البلبلة ويحول دون تحقق الاستقرار السياسي.
لقد نبّهت في هذه المقالة لشكل التقاطعات والعلاقات البينية التي يمكن أن تعيق إمكانية التحول الديمقراطي متمثلة في شكل العلاقة الأفقية بين المدينة والريف، العلاقة الرأسية فيما بين الريف وطبقاته المختلفة التي قهرت المستوطنين الجدد (الجانجويد)، ارتضت السلمية وأبت إلا الانتظام خلف قياداتها المدنية لتحقيق رغبتها في الحرية والكرامة الإنسانية.
لا يحتاج المرء إلى عظيم فكرة كي يدرك بأن المنصة الحالية (قحت) لا يسعها أن تحدث التغيير المنشود، لأنها لا تمتلك الرؤية التحويلية اللازمة لخلق مجتمع مغاير، ولا تود الاستعانة بأي جهة استشارية، لكنّا أيضا يجب ألا نسعى لخلق أجساماً موازية على الأقل في الوقت الحالي كي لا نُضْعِف القوة المدنية أو نعيق دافعية رموزها المُحَرِّكة – سيما المخلصة منها – والرامية لتثبيت مبدأ المدنية وتقنين أصول الديمقراطية (غير الدينية). متى ما استطعنا العبور إلى بر الأمان، فإن جبراكة الجماعة ستكب في زرعنا، وقديماً قيل ما لا يدرك بالمستحيلة يردك بالحيلة.
auwaab@gmail.com
/////////////