ثورة السودان تدخل مرحلة جديدة
في 30 يونيو/حزيران الماضي، اهتزت شوارع السودان بهدير الملايين المصممة على استكمال المرحلة الراهنة من مراحل ثورتها المتفجرة لأكثر من ستة أشهر، فحسمت الأمر وجعلت الاتفاق بين قيادة قوى الثورة والمجلس العسكري الانتقالي ممكناً. ابتهج السودانيون، ونحن من ضمنهم، بالاتفاق، رغم وعيهم الكامل بأنه لا يحقق للثورة انتصارها النهائي، ولكنه خطوة في هذا الاتجاه، والأهم من ذلك أنه منع، أو على الأقل أجّل، انفجاراً دموياً محتملاً.
والنظرة الفاحصة والموضوعية لواقع البلاد الراهن تفرض علينا أن نأخذ في اعتبارنا عدداً من العوامل الهامة والمقررة، التي هي نتاج مباشر لثلاثين عاماً من قهر الإنقاذ. من هذه العوامل أن واقع بلادنا يشهد انقسامات حادة، وتتفاقم مشكلاته وأزماته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والإثنية حد الحرب الأهلية، وأن القوى المعادية للتغيير متمكنة وراسخة في مفاصل الدولة، وتمتلك المال والسلاح والإمكانات المختلفة، بينما قوى التغيير، رغم عزيمتها القوية في تحقيق الانتصار، تعاني من تناقض له أثره السالب والمباشر على فعاليتها، متمثلاً في عنفوان وقوة الشحنة الثورية لقاعدة هذه القوى، مقابل ضعف وهشاشة وحدة وتماسك قيادتها، وأن فكرة انحياز الجيش السوداني للثورة، وهي فكرة مركزية ومحورية لإنجاز التغيير في السودان، ليست بالفهم ذاته، كما كان الحال في ثورتي أكتوبر/تشرين الأول 1964، وأبريل/نيسان 1985، فالجيش السوداني اليوم غير بعد أن أعمل فيه مشرط الإنقاذ ما أعمل، والأهم من ذلك والمزعج جداً أنه ليس الجيش الوحيد في البلد.
عامل آخر جديد، هو أن التغيير هذه المرة يشهد تدخلاً مباشراً من قوى خارجية تعمل على توجيه مساره وفق تكتيكات لا تتماشى، بل وتتناقض مع تكتيكات قوى التغيير. هذه العوامل وغيرها عززت قناعتنا منذ البداية بصعوبة أن تنهي ثورتنا جولات صراعها بالضربة القاضية، لكنها يمكن أن تخطو إلى الأمام بما يدعم المسار نحو الانتصار، دون أن ينفي ذلك عوامل الانتكاس، وأن أي خطوة تخطوها الثورة ستكون مليئة بالصراعات والمشاكسات العنيفة، والتي من الأفضل لقوى الثورة أن تخوضها وهي في موقع السلطة، مسنودة بيقظة وحذر واستعداد الشارع، حيث يمكنها ـ إن أحسنت التدبير ـ استخدام آليات السلطة لتحويل ميزان القوة لصالحها.
وعلى أساس هذه النظرة الموضوعية، تأتي دعوتنا بالتخلي عن التفكير الرغبوي الذي يعمي البصيرة عن إدراك توازنات القوى، فيخلط ما بين الحلم والواقع، ويركز على الأماني ولا يرى صعوبات تحققها، أو لا يهتم ببحث توفير الإمكانات الضرورية لذلك، يمارس نقد الاتفاق وتوجيه السؤال تلو السؤال حول التوقعات، وإن كان هذا مطلوباً وصحياً، لكن غير الصحي أن يمارس من موقع المراقب وليس الفاعل، الذي لا يرى سوى إجابة محددة لأسئلته في ذهنه. إن الموقف الثوري السليم، كما نعتقد، لأجل السير بثورتنا إلى الأمام والانتقال بها إلى مرحلة جديدة، هو أن تمارس قواعد قوى الثورة الضغوط الموزونة والعقلانية دون القفز على تعرجات وتضاريس الواقع المشار إليها، لكي تتبنى قيادة قوى الثورة عدداً من التدابير المهمة، التي بدونها يصعب السير بالثورة إلى الأمام. من هذه التدابير:
واقع البلاد يشهد انقسامات حادة، وتتفاقم مشكلاته وأزماته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والإثنية حد الحرب الأهلية
أولاً، النظر بجدية في مسألة هيكلة قوى الحرية والتغيير باعتبارها المسؤولة عن حماية الثورة وتأمينها، وباعتبارها القائد للفترة الانتقالية ومرجعيتها الأساسية، وعلى أساس أن إدارة الدولة تختلف عن إدارة العمل المعارض وتنظيم الإضرابات والاعتصامات. ومباشرة أقول إن تكوين المجلس القيادي لقوى الحرية والتغيير من رؤساء وقيادات مكونات القوى، بما في ذلك لجان الأحياء ولجان المقاومة، هو أمر ضروري وما عاد يحتمل المكايدات والمماحكات الحزبية.
ثانياً، الشروع فوراً، واليوم قبل غداً، للاتفاق مع الحركات المسلحة حول وقف الحرب الأهلية، وبناء السلام وفق مشروع يخاطب مطالب هذه الحركات في تحقيق الترتيبات الأمنية والعسكرية، وفتح مسارات المساعدات الإنسانية، والتوافق على البدء في تنفيذ كل التدابير التي تحقق إعادة هيكلة أجهزة الدولة، المدنية والعسكرية، وعقد المؤتمر الدستوري بهدف التوافق على الثوابت التي تحقق إعادة بناء الدولة على أساس قومي، والواجب تضمينها في دستور البلاد الدائم.
ثالثاً، ضرورة أن تسند مناصب مؤسسات الفترة الانتقالية إلى شخصيات ذات كفاءة ومؤهلة سياسياً وقادرة على خوض الصراعات الشرسة المتوقعة، بعيداً عن الاختيارات التي يغلب عليها الطابع الرومانسي، فنوزع المناصب على أساس الأداء في الحراك الثوري. هناك شخصيات ناجحة جداً في تحريك الشارع وتنظيم المظاهرات، ولكن هذا لا يكفي لأن تكون مؤهلة لتولي المسؤوليات في مؤسسات الحكم الانتقالي.
رابعاً، التنفيذ الفوري لما جاء في الاتفاق حول التحقيق في مجزرة فض الاعتصام وإعمال العدالة. خامساً، توجيه الضربات المباشرة لمكامن الثورة المضادة والدولة العميقة.
سادساً، تنفيذ البرنامج الاقتصادي الإسعافي لرفع المعاناة عن كاهل المواطن، وبحث الإمكانات اللازمة لتمويل هذا البرنامج، دولياً وإقليمياً ومحلياً، بما في ذلك استرداد الأموال المنهوبة، واستعادة مؤسسات الدولة وموارد البلاد التي تم التغول عليها، وإدخالها في مجرى الاقتصاد القومي تحت إشراف مؤسسات الدولة المعنية. سابعاً، وضع خطة محكمة تبحث بدقة وحذر في كيفية خروج البلاد من فخاخ صراعات المحاور التي أوقعها فيها النظام البائد. ثامناً، البدء فوراً في التواصل إقليمياً ودولياً، عبر إرسال وفود تشرح أهداف الثورة، وتقدم التطمينات الضرورية دون الإخلال بمصالح البلاد، وتأكيد أن سودان ما بعد الثورة سيكون شريكاً أساسياً، وبالممارسة العملية، في محاربة التطرف والإرهاب، وتقديم المساهمات البناءة لمخاطبة التحديات الأمنية، خصوصاً بالنسبة لأمن البحر الأحمر وأمن وادي النيل وأمن القرن الإفريقي.
تاسعاً، استناداً إلى زخم الثورة المشهود وما اكتسبته من إجماع غير مسبوق في تاريخ السودان الحديث، يجب السعي الجاد لطرح مقدمات التقاء كل التيارات السياسية والفكرية السودانية لأجل التوافق حول المشروع الوطني لبناء الدولة السودانية، والشروع في بناء أوسع جبهة ممكنة لتحقيق هذا الهدف.
كاتب سوداني