في إحدى زياراتي القليلة لوسيلة التواصل الاجتماعي الـ "فيسبوك" ، صادفتُ ذات يوم، صفحة بإسم " سولومون جولدنبيرج" . وقفتُ مليّاً عند الإسم ، ثم عادت بي الذاكرة إلى سنواتي الأولى وأنا طالب جديد في جامعة الخرطوم. كنتُ أشكو وقتها من متاعب في بصري ، فزرتُ الطبيب "عون الله" الذي كان مسئولا عن المركز الطبي للجامعة، على مقربة من داخليات "البركس" المخصصة لسكنى الطلاب. بعد كشفٍ سريع للنظر، أحالني الطبيب إلى عيادة ومحل للنظارات الطبية في الخرطوم، يديره رجل إسمه "موريس جولدنبيرج".
(2) كانت منطقة وسط الخرطوم حسبما خططها المستعمر، هي منطقة سكنى الأجلنب من سكان الخرطوم ، والمنطقة التجارية الراقية فيها تسمى "السوق الأفرنجي". . يصف صديقي عالم الاجتماع الدكتور إدريس سالم الحسن ، في مقالة علمية تحليلية قصيرة مدينة الخرطوم بوصفها أنموذج لمدينة أفريقية كولونيالية. تناول إدريس كيف كانت نشأة تلك المدينة، وكيف كانت تقسيماتها الوظيفية وتراتبياتها الاجتماعية في السنوات الاستعمارية، وحتى سنوات الخمسينات وأوائل الستينات من القرن العشرين . من بين المحلات والأمكنة المميزة في تلك المدينة، السوق "الأفرنجي"، والذي تجد فيه الـ "جي بي" (اختصاراً لبريطانيا العظمى)، وتجد مكتبة "سودان بوكشب"، والـ"جي إم. هاتش" وهي صالة غوردون للموسيقى، كما تجد محلات "فانيان" و مخابز "باباكوستا" . . وغيرها من المحلات التي كانت تحفل بالمتبضعين من الأجانب والقليل من "الأفندية" . كان "موريس جولدنبيرج" هو مالك محل النظارات الطبية الوحيد في السوق "الأفرنجي" بشارع البرلمان، وسط الخرطوم. لجامعة الخرطوم حساب مرتب مع محلات "حولدنبيرج" تقدم بموجبه نظارات طبية لمن يحتاجها من الطلاب ، وعلى نفقة الجامعة، ولقد كنت واحدا من بين أولئك الطلاب. .
(3) تمرّ الوقائعُ بشرّها، وبخيرها، فيما البلاد تتفاعل بما يدور من حولها من أحداثٍ وتوترات. في حرب الأيام الستة في يونيو من عام 1967 ، وإثر انتصار إسرائيل على الجيوش العربية وقتذاك ، أعلن السودان وقوفه بقوة مع البلدان العربية المهزومة ، وكان من بليغ حماي السودان أن بادر بالدعوة لاستضافة قمة عربية ، لعبت دبلوماسيته دورا أعاج للبلدان العربية روحاً كادت أن تضيع مع تلك الهزيمة . كانت البلدان العربية في حاجة لتضميد جراحها الكبير. لم يكن للسودان عداء مباشر مع اليهود كطائفة ، لكنه أعلن التزامه السياسي بالوقوق تضامناً مع البلدان العربية ضد دولة إسرائيل . مع أن اليهود السودانيين أو ممن كانت أصوله يهودية، شكلوا فئة قليلة من سكان الخرطوم وأم درمان ومدينة بحري، لكنهم بادروا بالتسلل خلسة بعيداً عن موطنهم السودان.
(4) ولأني نشأت في مدينتي أم درمان، فقد شهدت قدراً كبيراً من التسامح بين مختلف فئات سكان تلك المدينة. هي المدينة التي تحتضن من بين جميع مدن السودان، أكبر فئة من الأقباط وسواهم من المسيحيين ، وأيضاً ممّن تعود أصولهم البعيدة إلى أسرٍ يهودية، نزحتْ قديماً إلى السودان واستقرت فيه وخالطت وتصاهرت مع أسر سودانية عريقة . جلهم جاء من مصر ومن العراق ومن الشام. زميلاي ونحن صبيان في مدرسة المؤتمر الثانوية بأم درمان ، كانا من أسرة إبراهيم إسرائيل ، أحدالرجال الكبار الذين شاركوا في تأسيس الحزب الوطني الاتحادي في خمسينيات القرن العشرين. لست أدري لمه لم يرد له ذكر معتبر في أدبيات ذلك الحزب، إلا أن يكون مردّ ذلك توجّسات متوهّمة. .
(5) نعلم عمّن خرجوا من السودانيين اليهود أبناء الحاخام "مالكا" ، والذي أورد قصة يهود السودان من أسرته، في كتاب ترجم بعض نصوصه الأديب الراحل مكي أبوقرجة، فأحسن في إثبات ما لهذه الفئة من السودانيين من دورٍ معتبر ومؤثر، وأنه لا غبار إن استعادوا وجودهم في البلاد التي نشأوا فيها . نزحت منهم أسر لهم أسماء كبيرة وشهيرة، إلى أوروبا وإلى أستراليا وإلى الولايات المتحدة . حينَ مررتُ بـ"شارع الحرية" باتجاهِ الجنوب، لفتَ نظري أن سوراً قد ابتني حول مقابر بعض أولئك اليهود السودانيين ، وذلك أمر محمود. غير أني أسفتُ لزوال معبد أثري قديم أقامه اليهود السودانيون منذ سنوات بعيدة على شارع القصر، لا أثر له الآن، وإن حرصنا على وجوده لشكّل معلماً أثرياً يشهد للسودان حرصه على التسامح بصورة لا شبيه لها في مجتمعات البلدان من حولنا .
(6) كتبت في صفحة "سولومون جولدنبيرج" على الـ"فيسبوك"، أني أمعنتُ النظر في ملامح وجهه في صورة البروفايل التي وضعها على صفحته ، فتذكرت - بعد كل هذه السنين- ملامح وجهٍ مستديرٍ لرجلٍ ممتليء الجسم قصيره، صنع لي نظارة طبية لمّا جئته بخطاب من المركز الطبي في جامعة الخرطوم ، قبل أربعين عاماً ونيف، إسمه "موريس جولدنبيرج". . ! لك الشكر أيها الوزير المسئول الذي التفت بنظرة مفعمة بالمحبة والفرح والتسامح إلى طائفة من السودانيين ابتعدوا عن موطنهم ، ودعاهم إلى الالتفات إلى أصولهم فيه. ذلك الوزير إسمه مفرّح. .