لست أدري لماذا كلما مرّت الثورة بمنعطفاتٍ وأعاصير ، استعادت ذاكرتي رائعة شاعرنا الكبير محمد الفيتوري "إبتسمي حتّى تمرَّ الخيل". ربما لأنّ في الشِّعر الجيد والفنِّ الجيد من الإيحاء وجمال الرمز ما يتواءم والتحوّلات الكبرى في حياة الأمم. يقول الفيتوري: هذا مسارُ نجمِهِمْ يركضُ في الزاويةِ الكبرْى قليلاً.. ثم ينهارُ رماداً ! راسماً في جبهةِ الشرْقِ وعينيْه علامَهْ شهادةَ الميلادِ ، و الموت و شارةَ القيامهْ فابتسمي حينَ يجئُ قمرُ الثورة في أرديةِ القتْلَى ويمشي الهودجُ الأسودُ محمولاً على محفّةِ الأصيلْ إبتسمي ، حتّى تمُرَّ الخَيلْ !!
لا جدال أنّ أيَّ ثورة كبرى في التاريخ إنما هي محصلة لتراكمات مبعثها الغضب من سلطةٍ أخذت من الشعوب أكثر مما أعطت. وخلال الثلاثين سنة العجاف من حكم الأخوان المسلمين، ابتليت الأحزاب السياسية والنقابات ومنظمات العمل المدني بحرب شنّها عليهم النظام ، حتى تخلو له الساحة فيقيم مكانها مؤسسات وضح أنها مسميات كثيرة لحزب واحد- حزب الجبهة الإسلامية. بذلت الأحزاب السياسية والنقابات المهنية ومنظمات العمل المدني جهدها في الداخل والخارج لإزالة ما عرف بنظام الإنقاذ. حورب منتسبوها وسجنوا وشردوا.. ولا ينكر هذا إلا جاحد.كنّ الثلاثين سنة قضتها أحزاب السودان بين تجمّع وفرقة في الداخل والخارج ولم تفلح في إسقاط النظام أو تقتلع طوبة واحدة من بناء نظام يعرف أقل الناس إلماماً بالسياسة أنه ولد شائهاً ضعيف الحيل. نظام لا يملك تصوّراً للدولة العصرية. وكل برامجه السياسية تقوم على شعارات تقول بأنّ حلول مشاكلنا ومشكلات البشرية جمعاء تكمن في العودة لمجتمع المدينة المنورة ، واجتهادات السلف الصالح. نظام يحول عقيدة جيش البلاد لعقيدة جهادية تشن الحرب على مواطنيها. جيش لم يشن منذ إنشائه حرباً على عدو خارجي، ليس لأنّ الآخرين حولنا مسالمون ولا يطمعون في شبر من بلادنا. لكن لأنّ عسكر بلادنا مغرمون بلعبة الإنقلاب على السلطة ، وخلق الوهم بأنّ السلطة التي تجيء مع المارش العسكري والبيان الإنقلابي الأول فيها خلاص البلاد وبداية تاريخ جديد !! وخاتمة اللعبة أن انتهت هيبة الجيش على يد الإنقاذ سيئة الذكر، وأصبحت للمليشيات اليد الطولى !
ولأنّ الهدف من هذا المقال ليس الهجوم على أحزاب السودان، غير أننا قلنا بأنها جاهدت ولم تفلح في تغيير النظام المستبد والمولود بكل العلل والأمراض. النظام الذي لم يعرف من السياسة الخارجية إلا العمالة والإرتزاق، والذي بكل علاته بقي يعيث في بلادنا الخراب ويذيق مواطنينا الأمرّين. فشلت أحزاب السودان ونقاباته المهنية طيلة ثلاثين سنة في اقتلاعه !
ولأنّ كلَّ جيل يعرف ماذا يريد ؟ ويدري كيف يصنع مستقبله، فقد خرج من تشوهات ماضينا ، وعيوب حاضرنا جيل أبصر الواقع البائس والخطر المحدق بالبلاد بعين فاحصة وقلب لا يرجف. جيل فتح شبابه وشاباته صدورهم للرصاص الحي على مدى ستة أشهر. دفعوا مهر الثورة ركباً من الشهداء. وكلما حاول النظام الفاشي وأعوانه أن يحولوا سلمية الثورة إلى أنموذج ليبيا واليمن وسوريا تراصت صفوف شباب الثورة مرددين أهازيجهم الحلوة: سلمية ، سلمية ضد الحرامية!! أو: دم الشهيد ما راح ، لابسنو نحن وشاح!!
لابد لثورة هذا ديدنها وتلك اطروحتها أن تنتصر. ثورة تزودت بالوعي كأمضىى ما يكون السلاح في عصر مراكب الفضاء والإنترنت والفيمتو سكند. ثورة تسير في حقل فرشه الشوك لا الورد. لكنها – وكلما ازداد التآمر ضدّها وضدّ شبابها الذين صنعوها ، فتحت نافذة على شمس الوعي ، وصدعت بدعوة جديدة تقبلها الدولة المدنية- دولة المواطنة التي تسع الجميع. لكنّ المؤسف أن أحزاب السودان ونقاباته المهنية - التي لحقت بقطار الثورة الشاب قبل أن يفوتها .. ومعها حلف العسكر الخارج من رحم اللجنة الأمنية لجيش نظام الأخوان المسلمين، يقومون ومنذ أمد بعيد بالتحرّش بلجان المقاومة – الصمام الحقيقي لاستمرارية هذه الثورة وحكومتها المدنية للفترة الإنتقالية. كثرت المناورات هذه الأيام للتبشير بسقوط حكومة لم يمض عليها شهران ونصف الشهر ويريدونها أن تمحو ما دمره نظام لم ير الناس فساداً يمشي على قدمين مثلما رأوه في الثلاثين سنة من حكم الإسلامويين. والأخطر من ذلك محاواتهم المكشوفة استمالة لجان المقاومة وشق صفها. لأنهم يعرفون جيداً أن أقرب الطرق لسرقة هذه الثورة العظيمة هي تدجين لجان المقاومة وشق صفوفها. فقد أضحت الثورة شوكة في الحلق لمن لا يعرفون من الثورات سوى أنها الطريق لكرسي الحكم.
يا لجان المقاومة، أنتم من فجّرتم الحلقة الأخيرة لبركان هذه الثورة. وأنتم من حفظ جذوتها متقدة منذ اندلاعها في ديسمبر حتى اليوم. وأنتم رغم كل الويلات التي مرّت بكم ما تزالون اليد التي تحرك الشارع والزند الذي تتكسر عليه عصي العدو. أنتم الوريث الشرعي لهذه الثورة لأنكم نصف الحاضر وكل المستقبل. لذا نقول لكم إنتبهوا لما يدور هذه الأيام من مؤامرات ضد الثورة وضد أحلام شعبنا. أنتم لستم مع طائفة أو نقابة أو حزب. ولستم ضد أحد إلا من يمني نفسيه بسرقة ثورتكم. أنتم العين الساهرة لضمان استمرارية الثورة من مؤامرات هؤلاء جميعاً!
هل يقول البعض بأنّ كاتب إنما يقوم بتحريض لجان المقاومة؟ وما الكتابة الجادة إن لم تكن عملاً توعوياً ، وتحريضاً لصنع الحياة وتحريك دولابها في الإتجاه الصحيح!
وأختم بما قاله شيخي محمد مفتاح الفيتوري له الرحمة : فابتسمي حينَ يجئُ قمرُ الثورة في أرديةِ القتْلَى ويمشي الهودجُ الأسودُ محمولاً على محفّةِ الأصيلْ إبتسمي ، حتّى تمُرَّ الخَيلْ !!