تجربة الصراع من أجل استقلال الحزب الشيوعي: الفترة: مايو 1969- يوليو 1971م
تقديم :
للحزب الشيوعي السوداني تجارب واسعة في الصراع من أجل استقلاله السياسي والتنظيمي والفكري ، من أهمها تجربة الصراع بعد انقلاب 25 مايو 1969 ، ولأهمية هذه التجربة في الظروف الراهنة، نعيد نشر هذه الدراسة عنها.
1
مقدمة:
واجه الحزب الشيوعي السوداني بعد انقلاب مايو، ظروفا معقدة وصعبة، لم يواجهها من قبل، فكان هناك الصراع المركب أو المزدوج: ضد السلطة الانقلابية والصراع الفكري داخل الحزب، وزاد من تعقيد هذا الصراع تبني الانقلابيين لأجزاء كبيرة من برنامج الحزب وتعيين شيوعيين في مجلس قيادة الثورة صبيحة الانقلاب وتعيين وزراء شيوعيين بصفتهم الشخصية ودون اعطاء الحزب الحق في تحديد من يمثلونه، مما يعني نسف استقلال الحزب تمهيدا لتصفيته، هذا فضلا عن فرض ديكتاتورية عسكرية صادرت كل الحقوق والحريات الديمقراطية باسم التقدم والاشتراكية!! (أى -اذا جازاستخدام لغة اليوم - أن الانقلابيين اخترقوا اجندة الحزب الشيوعي وتبنوها وافرغوها من مضمونها)، لدرجة تصور فيها الكثيرون أن الحزب الشيوعي وراء هذا الانقلاب خاصة بعد المرارات التي شعر بها الشيوعيون نتيجة لمؤامرة حل الحزب الشيوعي وطرد نوابه من البرلمان في اواخر عام 1965م، ثم بعد ذلك اختلط الحابل بالنابل، ودار صراع داخلي حول وجود الحزب نفسه، هل يظل حزبا مستقلا ام يذوب في تنظيمات ومؤسسات السلطة ويتحول كادره الي موظفين داخل النظام؟ وزاد من تعقيد الصراع دخول النظام بثقله في الصراع لمصلحة الانقساميين الذي ربطوا نفسهم بالنظام، واصبحوا يصورون للنظام كل نقد للسلطة من مواقع الحزب المستقلة معولا لهدم النظام، اضافة لعدم صدور بيان من الحزب للجماهير في الأيام الأولي يشرح حقيقة ما حدث بسبب شل الصراع الداخلي لارادة الحزب الموحدة، وعدم طرح فكرة الانقلاب علي اللجنة المركزية بعد أن رفضها المكتب السياسي في اجتماعه بتاريخ 9/5/1969، فما هي حقيقة هذا الصراع؟ وما هي القضايا التي دار حولها والذي وصل الي ذروته في انقلاب 19/يوليو/1971م؟.
في الساعات الأولي من صباح 25/مايو/ 1969م، وقع انقلاب عسكري قام به صغار الضباط، وصفهم الحزب الشيوعي في تحليله الطبقي بفئة من البورجوازية الصغيرة، وكانت تركيبتهم: عقيد(1)، مقدم(1)، رواد(7)، مع وجود مدني بينهم هو بابكر عوض الله الذي كان رئيسا سابقا للقضاء، كان ذلك مثار دهشة للكثيرين، فكيف يجوز لرئيس سابق للقضاء أن يشترك في عملية انقلابية، ضاربا عرض الحائط بحكم القانون والدستور؟!!، اذاع جعفر النميري وبابكر عوض الله بيانين علي الشعب السوداني، أشار النميري في خطابه: أن السودان لم يشهد الاستقرار منذ الاستقلال عام 1956م، وانحي بلائمة النكسات في البلاد علي الفساد الذي انتشر خلال حكم الأحزاب السياسية وقال أن الحكومات المتعاقبة عجزت عن مواجهة الامبريالية ووقف التسلل الصهيوني الي افريقيا وحماية حدود السودان، وبعد 16 عاما كانت انتفاضة مارس- ابريل 1985م، وبعدها كان قادة النظام أمام محاكمات بتهمة ترحيل الفلاشا الي اسرائيل، والفساد!!! وغير ذلك مما لم تفعله الأحزاب التي اطاح بحكمها، وبعد ذلك اعلن النميري تشكيل مجلس ثورة مؤلفا من تسعه ضباط ومدني واحد(بابكر عوض الله)، واصبح النميري رئيسا لمجلس قيادة الثورة وقائدا للقوات المسلحة ورقي نفسه الي رتبة لواء!!، كما اعلن النميري أن المجلس عين بابكر عوض الله رئيسا للوزارة ، ووافق علي تشكيل جكومة عسكرية- مدنية من 21 عضوا.
وتم اعتقال عدد من كبار ضباط الجيش واحيل عدد كبير من كبار المسئولين في وزارات التجارة والمواصلات والداخلية علي التقاعد أو سرحوا من الوظيفه.
وصدر الأمر الجمهوري الأول الذي اعطي البلاد لقبا جديدا: جمهورية السودان الديمقراطية (انقلاب عسكري يصادر الديمقراطية ويسمي البلاد جمهورية السودان الديمقراطية!!). وحل المرسوم مجلس رأس الدولة( السيادة) ومجلس الوزراء والجمعية التأسيسية ولجان الخدمة المدنية والانتخابات وخول الحكومة الجديدة جميع السلطات التنفيذية والتشريعية ، وجعلها مسئولة مع مجلس قيادة الثورة عن جميع شئون الدولة. وأصبح من سلطات مجلس قيادة الثورة أن يقيل ويعين الوزراء علي أن يمارس هذه السلطة بعد التشاور مع رئيس الوزراء.
كما صدر الأمر الجمهوري رقم(2)(قانون الدفاع عن السودان) الذي نص الاعدام أوالسجن عشر سنوات لكل من يحاول اثارة معارضة في وجه نظام الحكم أو يخطط لمهاجمة أعضاء مجلس قيادة الثورة وذمهم، لأن ذلك يعتبر مثيرا للفتن ، وسواء كانت هذه الأعمال عن طريق رفع الشعارات أو المواكب أو المظاهرات أو المطبوعات أو الصحف أو الكراريس أو الاذاعة والتلفزيون، ويطال هذا القانون كل من يحاول الدعاية لحزب من دون اذن مسبق من مجلس قيادة الثورة، والذين يشتركون في اضطرابات تنظم من اجل عرقلة الاقتصاد، علي أن يحال المخالفون علي المحاكم العسكرية، وتطبق عليهم النصوص المناسبة في القانون الجزائي، واعلن المرسوم أن جميع أعمال مجلس قيادة الثورة هي اعمال سيادة، وبالتالي فهي غير قابلة للطعن والاستئناف أمام المحاكم، ومن حق مجلس قيادة الثورة أن يسرح من يشاء من الدوائر الحكومية من دون أن يكون خاضعا للاجرآءات التأديبية، وفي وسع الحكومة، بناء علي توصية وزير الداخلية ولأسباب تتعلق بالأمن العام أن تقيد حرية أي شخص وتحصره في أي مكان داخل الأراضي السودانية، من دون أن يحق للشخص المعني استئناف أي قرار كهذا صادر بحقه. وتم اعتقال قادة الحكومة والأحزاب السابقين: تم اعتقال الصادق المهدى، وادخل اسماعيل الأزهري السجن، ووضع محمد احمد المحجوب قيد الاقامة الجبرية .. الخ.كما وجهت الاتهامات الي ثلاثة وزراء سابقين : احمد السيد حمد، عبد الماجد ابوحسبو، احمد زين العابدين( وزراء التجارو والداخلية والمواصلات)، وقدموا لمحاكمات.
وبعد ذلك تداعت الاحداث، ففي اليوم الأول اصدر محمد عثمان الميرغني بيانا وصفه د. محمد سعيد القدال ( فيه تأييد حذر، وقد ركز علي الاتجاه الايجابي في السياسة الخارجية للنظام الجديد ) " قدال: الحزب الشيوعي وانقلاب 25 مايو، الميدان 7/10/1985م ".
وفي 2/يونيو/1969م، نظم موكب في ميدان عبد المنعم ( ميدان الأسرة حاليا)، وقد نظم الموكب وشاركت فيه قوى سياسية ونقابية متعددة، فهناك اتحاد العمال والمهنيين والمعلمين، وهناك قوى اخري، كما شاركت فيه بعض العناصر من الأحزاب، وسار الموكب تحت مظلة اليسار العريضة)( المصدر السابق)، وفي 9/يونيو/1969م، صدر بيان 9/يونيو حول مشكلة الجنوب الذي تلخصت قراراته في الآتي: استمرار ومد فترة قانون العفو العام، وضع برنامج اقتصادي اجتماعي ثقافي للجنوب، تعيين وزير لشئون الجنوب، تدريب كادر مستمر لتولي المسئولية، وكانت هذه القرارات في اتجاه حق الجنوبيين في ممارسة الحكم الذاتي الاقليمي.وهذا البيان كان مستخلصا من برنامج الحزب الشيوعي حول مشكلة الجنوب، كما تم تعيين جوزيف قرنق المحامي وزيرا لشئون الجنوب.
اصدرت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوداني خطابا داخليا في مساء 25/مايو/1969م، جاء فيه:
• ماجري صباح هذا اليوم انقلاب عسكري وليس عملا شعبيا مسلحا قامت به قوى الجبهة الوطنية الديمقراطية عن طريق قسمها المسلح، واصبحت السلطة تتشكل من فئة البورجوازية الصغيرة.
• يبني الحزب موقفه من هذه السلطة علي أساس: دعمها وحمايتها امام خطر الثورة المضادة، وأن يحتفظ الحزب بقدراته الايجابية في نقد وكشف مناهج البورجوازية الصغيرة وتطلعاتها غير المؤسسة لنقل قيادة الثورة من يد الطبقة العاملة الي يدها، فالبورجوازية الصغيرة ليس في استطاعتها السير بحركة الثورة الديمقراطية بطريقة متصلة.
ثم بعد ذلك دار صراع فكري داخل الحزب الشيوعي كانت أهم مظاهره، كما وصفها الشهيد عبد الخالق محجوب في وثيقته التي قدمها للمؤتمر التداولي الذي انعقد في اغسطس 1970م:
- المقالة التي نشرت للزميل معاوية ابراهيم في مجلة الشيوعي (المجلة الفكرية للجنة المركزية للحزب الشيوعي) ، العدد 134، ينتقد فيها الخطاب الدوري الأول للجنة المركزية ويعتبر اتجاهه سلبيا في وصفه للسلطة الجديدة بأنها بورجوازية صغيرة مما يؤدي حسب رأيه الي التقليل من قدراتها الثورية والي اضعاف دعم الشيوعيين لها والي اخطاء في تفهمهم لقضية التحالف معها، في ايراد لتحليل سابق لم توافق اللجنة علي تفاصيله، بل وافقت علي الاتجاه العام للتقرير الذي طرحه في دورة مارس 1969م حول الموقف من الانقلاب العسكري.
- رأي الزميل عمر مصطفي في اجتماع المكتب السياسي صباح الخامس والعشرين من مايو 1969م، ثم تكامل هذا الرأي في اجتماع المكتب السياسي بتاريخ 27/10/1969م حول الخطاب الدوري الأول للجنة المركزية والذي اعتبره الزميل وثيقة ملعونة، ثم رأي الزميل عمر مصطفي في مابعد حول اجتماع المكتب السياسي بتاريخ 9/مايو/1969م، والخاص بمناقشة التحضير للانقلاب العسكري، اذ يرى أن ذلك الاجتماع أخطأ في موقفه، وأكد سير الأحداث ذلك الخطأ حسب رأيه.
- مجموعة مواقف عملية أخري في نشاط الهيئات القيادية بعد صدور الخطاب الدوري الرابع، وهي علي سبيل المثال:
أ- الاختلاف في اللجنة المركزية حول تقييم استدعاء وزير الداخلية لعدد من كادر الحزب وأعضاء اللجنة المركزية بتاريخ:18/9/1969م،
ب- الاختلاف حول تقييم التعديل الوزاري وموقف الحزب الشيوعي منه مما دعا الي مناقشة هذا الموضوع في خمس جلسات للمكتب السياسي وتعطل اتخاذ موقف موحد في حينه.
ج- عدم وصول رأى الحزب الشيوعي حول تخفيض الأجور والموازنة للجماهير وعدم وضوح موقف الحزب الشيوعي من هذه القضية.
د- الخط الدعائي الذي تسلكه صحيفة الحزب القانونية... الخ.
أوضح عبد الخالق في وثيقته جذور هذه الاختلافات والتي ترجع الي ما قبل 25/مايو/1969م، وانها نتاج لصعوبات العمل في ظروف الثورة المضادة التي خلقت اهتزازات مختلفة بين كادر الحزب يطرح تارة يمينا وتارة أخري يسارا، وفي كلا الحالين كان هناك تراجع عن تكتيكات الحزب الشيوعي في تلك الفترة، والمتفق عليها في المؤتمر الرابع للحزب والقائمة علي الدفاع وتجميع قوى الثورة استعدادا للهجوم عندما تتهيأ الأسباب الموضوعية والذاتية لذلك. وضرب عبد الخالق مثلا بمقال الزميل احمد سليمان في جريدة(الأيام) بتاريخ:8/12/1969م والذي دعي فيها للمخرج بانقلاب عسكري يوفر الاستقرار لحكومة وحدة وطنية عريضة. ويري عبد الخالق أن هذا المقال اضر بموقف الحزب الشيوعي الموحد حيال القوات المسلحة وتكتيكات الحزب الشيوعي المقررة في المؤتمر الرابع من زاوية أنه:
1- لايري أن الشئ الجوهري هو أن تحشد الجماهير وتعد فكريا وتنظيميا حتي تصل الي مستوى استكمال الثورة الوطنية الديمقراطية ، بل أن الحل لأزمة الحكم والطبقات الحاكمة هو قيام حكومة للوحدة الوطنية تجمع بين القوى الرجعية وقوى التقدم.
2- يعارض تحليل المؤتمر للقوات المسلحة ذلك التحليل الذي لايري فيها جمعا طبقيا واحدا يدخل ضمن القوي الوطنية الديمقراطية، فالمقالة تقترح دخول القوات المسلحة كجسم واحد بأقسامها الوطنية والرجعية لحل أزمة الحكم.
3- يطرح دخول القوات المسلحة ككل في العمل السياسي لحماية حكومة الوحدة الوطنية، ولكن حمايتها ممن؟... الا يدل هذا علي أن القوات المسلحة مدعوة الي دعم حكم رجعي بع عناصر تقدمية شكلا؟. وايجاد صيغة للتصالح بين تلك القوى الرجعية حتي بين ابسط ميادين الديمقراطية واعنى الانتخابات؟.
هذا وقد رد عبد الخالق علي مقال احمد سليمان في صحيفة اخبار الاسبوع بتاريخ:16/يناير/1969م.أشار في هذا المقال الي أن الحديث عن القوات المسلحة بوصفها الأمل الوحيد للانقاذ في اجماله خطر ويتجاهل تجربة الشعب في بلادنا التي خبرت حكم الجنرالات في نظام 17/نوفمبر 1958م، وأن القوات المسلحة لاتخرج من اطار التحليل الطبقي وتشكل في مستواها العلي وبالتجربة جزءا من النادي الذي سقط طريقه الاقتصادي، واصبح لامفر من نظام سياسي جديد يعقب القوي الاجتماعية التي حكمت من قبل وتحكم فعليا علي تعدد الحكومات الحزبية منها والعسكرية).
يواصل الشهيد عبد الخالق ويقول في وثيقته التي قدمها للمؤتمر التداولي ( لقد واصل هذا التيار موقفه بعد انقلاب 25/مايو/1969م بصورة قد تبدو جديدة، ولكنها في حقيقة الأمر الصورة القديمة نفسها. قد يبدو غريبا أن الرفاق الداعين للتحالف تحت نفوذ الأجنحة الاصلاحية في الحزب الاتحادي الديمقراطي يؤيدون الانقلاب العسكري الذي اطاح بذلك الجناح ضمن ما اطاح، ولكن الخيط الذي يربط بين الموقفين هو الدعوة لكي يتخذ الحزب الشيوعي موقفا ذيليا في كلا الحلفين: هناك يتحالف بصورة ذيلية مع البورجوازية الاصلاحية، وهنا يتحول، عن سكوت، ذيلا للبورجوازية الصغيرة، ان عناصر من الحاملين لهذا الاتجاه اليميني واخص بالذكر محمد احمد سليمان انتقلوا عمليا وفكريا من الحزب الشيوعي الي السلطة الجديدة، ولم يكن تحللهم من نظام الحزب وقواعده امرا شكليا أو مجرد خرق لاجراءات اللائحة، ولكنه كان تعبيرا عمليا عن الفهم اليميني للتحالف القائم علي الحل الفعلي للحزب الشيوعي وتحول كادره الي موظفين)( ص 103، في كتاب فؤاد مطر: الحزب الشيوعي نحروه أم انتحر؟، 1971م).
يواصل عبد الخالق ويقول ( وكما عجز هذا التيار عن فهم اسس التحالف مع البورجوازية الوطنية وفقا لاستنتاجات المؤتمر الرابع فهو ايضا يعاني الآن من المشكلة نفسها: أسس التحالف مع البورجوازية الصغيرة. ولأن هذا التيار كان يائسا من العمل الثوري الشعبي وخط تجميع وتراكم القوى الثورية بالنضال في الجبهات الفكرية والسياسية والاقتصادية ويبحث عن المخارج الأخري، فقد كان من الطبيعي أن يكون له رأي في ما يخص القوات المسلحة والعمل الانقلابي يختلف عما اجمعنا عليه في المؤتمر الرابع للحزب)(ص 103-104).
وكان هناك الاختلاف في التصور حول دور القوات المسلحة، فكان هناك تحليل الحزب الشيوعي الذي لاينظر للجيش كطبقة او فئة واحدة، كما انه ليس جهازا معزولا عن عمليات الصراع الطبقي، فهناك حكم الجنرالات الرجعيين الذين برهن حكمهم الديكتاتوري في اعوام:1958-1964م علي انه جزء من البورجوازية المرتبطة بالاستعمار، كما أن غالبية جنود القوات المسلحة وضباطها جزء من الشعب لا من معسكر اعدائه.
وعكس ذلك تحليل الاتجاه اليميني والانقلابي في الحزب الذي يصور وضع الحزب الشيوعي للقوات المسلحة ككل في صف القوي المعادية، علما بأن الحزب الشيوعي حدد في مؤتمره الرابع القوى الاجتماعية صاحبة المصلحة في انجاز الثورة الوطنية الديمقراطية بأنها ( الجماهير العاملة، المزارعون، والمثقفون الثوريون، والرأسمالية الوطنية، وتكمن قيادة هذه القوى بين جماهير الطبقة العاملة)، وتدخل القوات المسلحة بين هذه القوى حسب فئاتها الاجتماعية وتوزيعاتها الطبقية، كما أشار عبد الخالق محجوب.
ولخص عبد الخالق الصراع الفكري حول هذه النقطة في الآتي:
( هناك تصور يري أن تحتل الفئات الوطنية والديمقراطية في القوات المسلحة المركز المقدم في نشاط الحزب الشيوعي بفضل وجود السلاح بين ايديها ولأنها بهذا أقدر من غيرها علي حسم قضية السلطة بسرعة وبايجاز، وهذا في رأي تصور خاطئ وغير ماركسي. فالثورة الديمقراطية هي ثورة الاصلاح الزراعي ولايمكن أن تصل الي نتيجتها المنطقية الا باستنهاض جماهير الكادحين من المزارعين علي نطاق واسع وادخالهم ميادين الصراع السياسي والاقتصادي والفكري!. فالثورة الاشتراكية هي ثورة غالبية الجماهير الكادحة تتم بوعيهم وبرضاهم وبمشاركتهم الفعالة في اعلي مستويات النشاط الثوري. والقوات المسلحة في بلادنا ننظر الي اقسامها من زاوية انتماءاتها الفئوية والطبقية ويحدد دورها كجزء من الفئات الفئوية أو الطبقية المتصارعة في هذه الفترة أو تلك من فترات التطور الثوري. وعندما يصل هذا التصور الخاطئ الي مراميه النظرية يتحول الي نظرية انقلابية كاملة تدعو الحزب الشيوعي الي التخلي عن النشاط بين الجماهير وعن مهمته الصعبة في توعيتها وتنظيمها وتدريبها خلال المعارك العملية والفكرية، اللجوء الي تنظيم ( انقلاب تقدمي)( ص 105-106).
ويلخص عبد الخالق الموضوع في أن الشيوعيين لايقبلون ايديولوجيا نظرية القلة التي تقبض علي السلطة ثم بعد ذلك ترجع لجماهير، وأن الشيوعيين يرفضون التكتيك الذي يهمل العمل الجماهيري ويتراجع أمام مشاقه ويتغاضي عن المفهوم الشيوعي للثورة بوصفها اعلي قمم النشاط الجماهيري ولايعترف بمبدأ الأزمة الثورية – شروطها وعوامل نجاحها، وأن التكتيك الانقلابي ايديولوجية غير شيوعية ( المصدر السابق).
2
هكذا كان هناك صراع فكري داخل الحزب الشيوعي حول طبيعة السلطة الجديدة: هل نسمي السلطة الجديدة ديمقراطية ثورية أم بورجوازية صغيرة؟(علما بأن الديمقراطيين الثوريين لايشكلون طبقة قائمة بذاتها، فمنها من يتخذ مواقف يمينية ومنها من يتخذ مواقف يسارية) ، لانركز علي التمايز بقدر ما نركز علي نقاط الاتفاق. ووصف عبد الخالق ذلك: أن ذلك تعبير عن مفهومين يتصارعان حول قضية التحالف في هذه الفترة مع السلطة الجديدة، احدهما مفهوم يميني والاخر مفهوم شيوعي.
فماهي القضايا العملية التي دار حولها الصراع؟.
يمكن أن نقسم القضايا التي دار حولها الصراع الي الآتي:-
1- الحقوق والحريات الديمقراطية.
2- التأميمات والمصادرة
3- السلم التعليمي.
4- احداث الجزيرة أبا
5- الأوضاع المعيشية ولاقتصادية.
6- ميثاق طرابلس (الاتحاد الثلاثي بين السودان ومصر وليبيا)
7- التنظيم السياسي (حزب واحد أم جبهة؟).
أولا: الحقوق والحريات الديمقراطية:
أشرنا من قبل الي الاوامر الجمهورية التي صدرت في بداية الانقلاب والتي تم بموجبها حل الاحزاب ومصادرة كل الحقوق والحريات الأساسية، أشار عبد الخالق في تقريره للمؤتمر التداولي( علينا أن نلحظ في الوقت نفسه مواقف واتجاهات سلبية عاقت تطور الثورة الديمقراطية في بلادنا، فالامران الجمهوريان الرقم(1) والرقم(2) ينصان علي حل جميع الأحزاب السياسية ، وأى تشكيل سياسي أو أى تنظيم يحتمل أن يستغل لأغراض سياسية وعلي تحريم الاضراب للجماهير العاملة، ويعتبر مجرما كل من ( يقوم بأى عمل من شأنه اثارة الكراهية بين طبقات الشعب بسبب اختلاف الدين أو الوضع الاجتماعي)، ومن يشهر بوزير أو عضو في مجلس الثورة)
يواصل عبد الخالق ويقول ( نحن نعتبر مرحلة الانتقال – انجاز مهام الثورة الوطنية الديمقراطية- غنية بالصراع الطبقي وتعتمد في نجاحها علي تمتع الجماهير الشعبية بمستوى عال من الديمقراطية في التنظيم وفي الرأي..الخ، ولهذا فكل قيد علي الجماهير يعوق تطور الثورة ويؤدي الي تقوية مراكز القوي الرجعية)( المصدر السابق:ص 131)
يواصل عبد الخالق ويقول ردا علي الانقساميين الذين يقللون من خطر مصادرة الحقوق والحريات : نحن كشيوعيين نري أن هذه الفترة تمتاز بطابع تغير الحياة علي أسس ديمقراطية ،ومن زاوية خصائص فترة الانتقال في بلادنا، فان هذا التغيير علي اسس الديمقراطية هو الذي يجعل العملية العسكرية التي غيرت السلطة تسير في طريق التحول الي ثورة شعبية حقيقية. ان مفهوم (حل جميع الأحزاب) هو في واقع الأمر تصور خاطئ، تصور انقلابي، وهو يعبر عن قصور حقيقي في فهم طبيعة المرحلة الانتقالية بوصفها مرحلة انطلاق وتعميق للصراع الطبقي الاجتماعي في بلادنا بما يكفل انجاز الثورة الديمقراطية، وحسم هذه المرحلة لصالح استقبال الثورة الاشتراكية، لهذا فالموقف من هذه القضية مبدئي، وعلينا أن نناضل بحزم من اجل حق الطبقة العاملة في الديمقراطية والتنظيم والنشاط المستقل).
النقطة الثانية التي اشار لها عبد الخالق( من زاوية فهمنا لدورنا كشيوعيين خلال انجاز مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية في بلادنا، أن واجبنا هو ايقاظ الملايين من جماهير المزارعين للعمل الثوري وخلق تحالف ثابت بينهم وبين الطبقة العاملة وحزبها الشيوعي. هو نشر الوعي الاجتماعي بين مختلف فئات الكادحين اعتمادا علي النظرية الماركسية اللينينية.الخ، هذه المهمة التاريخية تنهض بها الطبقة العاملة وطلائعها الشيوعيون بكل طاقاتها وكل قيد علي حرية الطبقة العاملة وكل سد يقام لحبس هذه الطاقات يعوق من تنفيذ هذا الواجب ومن احداث ثورة اجتماعية عميقة في البلاد).
النقطة الثالثة التي اشار لها عبد الخالق( من زاوية ما انجزت الحركة الثورية وحركة الطبقة العاملة من مكاسب خلال نضالها الشاق والطويل. فالتنظيمات المستقلة للطبقة العاملة والحقوق الديمقراطية للجماهير الثورية كانت مدار نضال عميق ضد القوي الرجعية والاستعمارية في بلادنا، وهذه الجماهير تدخل في فترة انجاز الثورة الديمقراطية من فوق هذه التقاليد والمكاسب لابتصفيتها، وعلينا نحن الشيوعيين قبل غيرنا الا نقلل من هذا الرصيد الضخم الذي يشكل عنصرا مهما لنجاح الثورة الديمقراطية في بلادنا ثم لنقلها صوب الاشتراكية).
النقطة الرابعة التي اشار اليها عبد الخالق (من زاوية المصالح الحقيقية للطبقة العاملة السودانية وهي التي مازالت تعيش تحت ظل الاستغلال. ان فترة الانتقال – الثورة الديمقراطية- لاتعني الغاء الاستغلال الرأسمالي، والسبيل الوحيد لذلك هو توفير الشروط المادية والسياسية للانتقال بمجتمعنا صوب الاشتراكية. ومن دون حق الطبقة العاملة في التنظيم والاضراب، فان الاستغلال الرأسمالي يتزايد ولاتتوفر شروط ملائمة لتراص صفوف هذه الطبقة كقوة يعتمد عليها في النضال من اجل انجاز الثورة الديمقراطية وحسم فترة الانتقال ومواجهة مهام الثورة الاشتراكية. ان الطبقة العاملة مازالت تتعرض بالالاف للعطالة، مازالت اجورها في القطاع الرأسمالي في مستوى لايليق بالبشر، ومازالت تنتظرها عشرات المعارك الطبقية، وحرمان الطبقة العاملة من حق الاضراب سلاح يوجه اليوم عمليا الي صدور هذه الطبقة).
كما أشار عبد الخالق الي قرار حل اللجان الثورية الشعبية ووصفه بأنه (ضربة ايضا لتطور الثورة الديمقراطية في بلادنا، كان من الناحية الايديولوجية يعبر عن تردد السلطة في تحويل الانقلاب الي ثورة ديمقراطية عميقة الجذور وفي تطوير الصراع الاجتماعي في بلادنا).
وانتقد عبد الخالق حل الاتحادات الطلابية، يقول: ( ان الغاء الاتحادات الطلابية ومصادرة العمل السياسي في المدارس الثانوية اضرا بالعمل الثوري لحركة الطلاب وتركا المجال فسيحا لليمين، في وقت كان ميزان القوي قبل الخامس والعشرين من مايو يسير لصالح الحركة الديمقراطية، وفتحا الباب لتزايد نشاط العناصر الرجعية تحت ستار الجمعيات الدينية).
كما انتقد عبد الخالق جهاز الرقابة الذي كونته السلطة باعتباره بعيد عن الرقابة الجماهيرية والذي سوف يتحول الي سلطة بوليسية ويدفع البلاد الي نظام بوليسي لامبرر له وسيشكل عقبة أمام تحول الأوضاع الراهنة الي ثورة شعبية عميقة الجذور)( ص 130).
وبعد احداث الجزيرة أبا اصدر مجلس قيادة الثورة المرسوم الجمهوري رقم(4) الذي وسع نطاق الجرائم والعقوبات الخانقة المعددة في الأمر الجمهوري رقم(2) الصادر في مايو 1969م، وقد شملت المخالفات الجديدة الأعمال التي تشكل تهديدا أو اخلالا بالثورة، سواء كانت مقصودة أو لا، وغالبا ما كانت العقوبة الاعدام أو السجن المؤبد مع مصادرة الممتلكات. كل من يتآمر أو يقوم بأعمال تحسس مع بلد اجنبي أو عملاء ذلك البلد، وكل من ينضم الي الخدمة المدنية أو العسكرية لبلد (معادي) أو حتي يتاجر مع مثل هذا البلد، سيحكم عليه بالاعدام أو السجن المؤبد علي كل من يدان بتهريب البضائع والعملات، ويقبل الرشوة أو يسئ استعمال الموال العامة، أو يعلن الاضراب عن العمل. كما فرض المرسوم حكم الاعدام علي كل من يقوم(باعمال حروب العصابات في المدن)، واصبح حمل السلاح وتسليح الناس واتلاف الممتلكات العامة وقبض الأموال لعرقلة الثورة، وطبع مواد تنتقد نظام الحكم أو ضباطه ونشرها واذاعتها اعمالا تعاقب بالاعدام ومصادرة الممتلكات، وبات نشر خبر كاذب في صحيفة ما يجعل رئيس التحرير مسئولا ومعاقبا بالسجن وبدفع غرامة لاتقل عن عشرة الاف جنية سوداني مع وقف الترخيص للصحيفة، ومصادرة موجوداتها. كما جاء في المرسوم، أنه في مثل جميع حالات الاعلام الكاذب كهذا( ستقع مسئولية اثبات صحة الأحداث والانباء البيانات علي المتهم). كما نص المرسوم الحكم بالسجن عشر سنوات علي كل شخص لايبلغ السلطة المخططات والمؤامرات التي تحاك لارتكاب المخالفات الآنف ذكرها)( المحجوب: الديمقراطية في الميزان، ص 243).
انتقد الحزب الشيوعي الطريقة الهمجية في ضرب الجزيرة، كما انتقد الأمر الجمهوري رقم(4)، باعتباره يصادر الحقوق والحريات الديمقراطية، بينما تغاضي الانقساميون عن هذه هذا الأمر وبرروا باعتباره موجه ضد الثورة المضادة وليس الحزب الشيوعي، وهاجموا انتقاد عبد الخالق لتصرف السلطة بعد احداث الجزيرة أبا، وباعتبار أن ذلك معادي لنظام مايو.
وتم اعتقال عبد الخالق محجوب بعد احداث الجزيرة ابا ومعه الصادق المهدي وتم نفيهما الي مصر، في عملية وصفها عبد الخالق بأنه خليفة الزبير باشا في النفي والذي اعتقلته الحكومة التركية ونفته الي مصر معتقلا!!.
وفي ابريل 1970م، قامت السلطة بحل اتحاد الشباب والاتحاد النسائي وهما تنظيمان ديمقراطيان مستقلان، وبدأت السلطة الإعداد لتكوين تنظيمات سلطوية بديلة لهما تمهيدا للإعلان لتكوين تنظيمات سلطوية بديلة لهما تمهيدا للإعلان الرسمي بتكوين الاتحاد الاشتراكي في الذكري الأولي للانقلاب في 25/مايو1969م.
هكذا بدأ النظام في مصادرة الحقوق والحريات الديمقراطية، وانشاء هياكل الدولة البوليسية ونظام الحزب الواحد ومصادرة حقوق التنظيم والتعبير.
وخلاصة الأمر، كان موقف العناصر المنقسمة ان حديث الحزب الشيوعي عن الديمقراطية هو حديث ليبرالي يتعارض مع ثورة مايو!!، وهكذا تنكر الانقساميون لكل الماضي النضالي الطويل الذي الذي تركته من خلفها القوي التقدمية السودانية حينما دافعت في جسارة ووضوح عن حقوق وحريات المواطن السوداني من اجل سيادة القانون.
جاء في قرار المؤتمر التداولي لكادر الحزب المنعقد في اغسطس 1970م ما يلي: ( اقتصرت اشاعة الديمقراطية في اجهزة الدولة الأساسية ( الجيش والبوليس) علي شكل التطهير. ولكن مازالت النظم واللوائح التي تتحكم في هذه الاجهزة بعيدة عن الديمقراطية، وما زلنا بعيدين عن اهداف اعادة تنظيمها علي اسس ديمقراطية.
خُلق جهازان رئيسيان للدولة في هذه الفترة وهما جهاز الأمن القومي والجهاز المركزي للرقابة العامة. ومن المهم أن يكون جهاز الأمن قوة في يد الدولة توجهه ضد أعداء الثورة الوطنية الديمقراطية ( المحليين والاستعماريين) وان يعمل في حدود الشرعية وأن يخضع للقيادة السياسية والرقابة الديمقراطية. ويجب أن يوجه جهاز الرقابة المركزي في طريق التخفيف من ثقل البيروقراطية، وان تصرف جهوده نحو المراقبة المتقدمة لانجاز الخطة الخمسية).
تواصل وثيقة المؤتمر التداولي وتقول: ( ومن اجل استكمال الثورة الديمقراطية لابد من إعادة بناء الحياة الاقتصادية والاجتماعية والثقافية في بلادنا علي اسس ديمقراطية ما زالت تنتظر الحل ونحن نناضل في سبيل: 1- ديمقراطية جهاز الدولة وهو شعار الثورة الديمقراطية خلافا لشعار الثورة الاشتراكية الذي يتلخص محتواه في: ( الجهاز الجديد لحكم الطبقة العاملة). 2- اشاعة الديمقراطية في حياة اغلبية الكادحين السودانيين وهم جماهير المزارعين في القطاعين الحيواني والزراعي وذلك بتغيير العلاقات الاجتماعية لما قبل الرأسمالية وباحداث اصلاح زراعي يدفع بعوامل التطور غير الرأسمالي خطوات الي الامام ويحسن من مستوي معيشة فقراء المزارعين والعمال الزراعيين. 3 – التطبيق الفعلي لنظام الحكم الذاتي الديمقراطي في جنوب البلاد. 4- تقنين الحرية السياسية للجماهير الثورية: من حقوق في التنظيم والتعبير وشرعية منظماتها الثورية وبينها الحزب الشيوعي السوداني .. الخ. 5- تطبيق الديمقراطية في مؤسسات الانتاج الحديث وذلك بالاشتراك الديمقراطي للجماهير العاملة في ادارتها).
هكذا كان التمايز واصحا في قضية الديمقراطية بين الحزب الشيوعي وسلطة البورجوازية الصغيرة، وبين الانقساميين الذين غضوا الطرف عن مصادرة الحقوق والحريات الديمقراطية وتنكروا لماضي الحزب النضالي في هذا الجانب، الي أن عصفت بهم الديكتاتورية العسكرية ولفظتهم بعد أن استفادت منهم في ضرب الحزب الشيوعي.
ثانيا: التأميمات والمصادرة:
في مايو 1970م، قامت الحكومة بمصادرة وتأميم عدد من الشركات الخاصة، ففي 14/مايو/1970م، تم الاستيلاء علي شركات رجل الأعمال الثري عثمان صالح وأولاده، وصودرت 16شركة أخري في الرابع من يونيو: مجموعة شركات بيطار، وشركة شاكروغلو وشركة كونتوميخالوس وشركة مرهج وشركة سركيس ازمرليان وشركة جوزيف قهواتي وشركة صادق ابوعاقلة واعمال حافظ البربري وشركة السجائر الوطنية (تيم نبلوك: صراع السلطة والثروة في السودان، ص 231).
اعلن جعفر نميري أولي قرارات التأميم في خطاب القاه في الذكري الأولي لاستيلائه علي السلطة وشملت جميع المصارف الي جانب أربع شركات بريطانية، وشملت البنوك 24 فرعا لبنك باركليز وستة فروع لبنك مصر واربعة فروع لناشونال اند جرند ليز وثلاثة فروع للبنك العربي والفرع الوحيد للبنك التجاري الاثيوبي والبنك التجاري السوداني وبنك النيلين والأخيرين تأسسا برأسمال سوداني.
أما الشركات البريطانية فقد كانت شركة كوتس وشركة جلاتي هانكي وشركة سودان ميركنتايل وشركة الصناعات الكيماوية الامبريالية. وفي الرابع من يونيو اممت شركة اسمنت بورتلاند علي أساس أن الاسمنت سلعة استراتيجية، واعقب ذلك تأميم عشرات الشركات الأخري، وبنهاية يونيو 1970م، كانت الدولة قد استولت علي كل الشركات العاملة في مجال التصدير والاستيراد وكل المؤسسات المالية، وغالبية مؤسسات التصنيع، كما امتد التأميم والمصادرة لتشمل مطاعم ومحلات صغيرة ودور سينما وبعض المساكن.
وقد تمثل التعويض في شكل صكوك بفائدة 4% وبنفس قيمة الممتلكات المؤممة يبدأ سدادها في عام 1980م ويستمر حتي 1985م، وقد وصفت صحيفة التايمز اللندنية التعويضات بأنها (غير عادلة ولا ناجزة وغير فعالة)( تيم نبلوك: المصدر السابق، ص 231).
وهكذا بدأت تتضخم مؤسسات القطاع العام، وقبل ذلك بدأت محاولات احكام سيطرة الدولة علي الاقتصاد والحد من حريات القطاع الخاص في وقت مبكر، ففي 16/اكتوبر/1969م، اعلن عن تأسيس شركتين حكوميتين للسيطرة علي قطاعات مفتاحية في التجارة الخارجية، واحدة لاحتكار حقوق استيراد الجوت والسكر والمواد الكيماوية والخري لاستيراد كل مشتريات الحكومة من الخارج كالسيارات والجرارات والادوية.
ولايمكن معالجة هذه الاجراءات بمعزل عن الصراع الداخلي في الحزب الشيوعي يومئذ، فتأميم البنوك وشركات التأمين والشركات الأجنبية كان من الشعارات التي رفعها الحزب الشيوعي في برنامجه المجاز في المؤتمر الرابع 1967م، بهدف تحقيق الآتي:
1- بالاستيلاء علي تلك المراكز يمكن وقف تدفق موارد البلاد الذي كان يتم في شكل أرباح البنوك وشركات التأمين وشركات التجارة الخارجية وفي شكل مرتبات وعلاوات وامتيازات للموظفين الأجانب، وفي شكل تهريب للعملة في اسعار الصادرات والواردات. ان استيلاء الدولة علي هذه الموارد يمكنها من استخدامها في عملية التنمية الاقتصادية.
2- باستيلاء الدولة علي المصارف وشركات التأمين تتمكن الدولة من التحكم في حجم المدخرات والعمل علي زيادتها باتخاذ كل القوانين المشجعة لذلك وتوجيه تلك الاستثمارات في مشاريع التنمية للقطاعين العام والخاص حسب الاسبقيات والاولويات التي تضعها الحكومة في خطط التنمية الاقتصادية.
3- وباستيلاء الدولة علي البنوك وتصدير واستيراد السلع الأساسية تتمكن من التحكم في التجارة الخارجية من حيث الجهات والدول التي تتعامل معها ومن حيث نوعية السلع المستوردة ومن ناحية الكميات ويصبح للدولة وضع احتكاري يمكنها من ايجاد احسن الاسعار للصادرات واقل الاسعار للواردات والتحكم في تموين البلاد باحتياجاتها الضرورية من السلع.
( أزمة طريق التطور الرأسمالي في السودان، اصدار الحزب الشيوعي السوداني، 1973م ، ص 30).
ولكن ما حقيقة التأميمات والمصادرة:
1- لقد اتخذت هذه الاجراءات بدون أن يصدر قرار بذلك لا من مجلس الثورة ولامن مجلس الوزراء، بل اتخذها عدد من اعضاء مجلس الثورة من وراء ظهر بقية الأعضاء.
2- كان هناك تفكير من جانب المنقسمين من الحزب الشيوعي السوداني وبعض أعضاء مجلس الثورة يقول: اذا ما قامت الحكومة بالتأميم والمصادرة، تكون قد نفذت شعارات الحركة الثورية وتكسب الحكومة القوي التقدمية الي جانبها وتسحب البساط من تحت أقدام الحزب الشيوعي ويسهل بذلك ضربه. ولهذا تمت هذه القرارات في عجل وفي وقت بدأ السخط يزداد بسبب نفي سكرتير الحزب الشيوعي وبداية الاضطهاد للقوي الثورية، وتمت كذلك دون مشاورة العناصر التقدمية في مجلس الوزراء أو في مجلس قيادة الثورة.
تواصل وثيقة ( أزمة التطور الرأسمالي ..)، وتقول: ( في مجال المصادرة كان رأي القوي التقدمية ولايزال أن هذه المرحلة من تطور الاقتصاد السوداني – مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية- تتطلب موضوعيا قيام القطاع الخاص بدور هام في التنمية الاقتصادية في اطار الخطة العامة التي ترسمها الحكومة، وأن أى انكار لدور القطاع الخاص في هذه المرحلة الانتقالية، ومحاولة القفز فوق المراحل أمر خطير وضار بالاقتصاد القومي، ولذا يجب عدم اتخاذ اجراءات يسارية عفوية تخيف القطاع الخاص وتجبره علي الانكماش. ان المصادرة لأى فرد أو جهة من الجهات يمكن أن تتم في ظل القانون والشرعية الثورية ويجب الا تتم دون تهم محددة ودون تقديم المتهم للمحاكمة واعطائه فرصة الدفاع عن نفسه. لقد تمت المصادرة بطريقة مستعجلة وبدون محاكمة الأمر الذي ادي الي كثير من الجرائم وعمليات الفساد والافساد واصبحت مجالا للتهديد والابتزاز. لقد ادت عمليات المصادرة الي نشر جو من الفزع والخوف عند جميع افراد القطاع الخاص والي اخفاء الأموال والاحجام عن الاستثمار، المر الذي أضر بعمليات التنمية الاقتصادية. بالاضافة الي ذلك اضرت كثيرا بالشعارات الاشتراكية وتشويهها، واصبحت كل الجرائم والفساد والسرقة يتم باسم الاشتراكية).
ويؤكد د. منصور خالد الذي كان وزيرا للشباب والرياضة يومئذ، في كتابه(السودان والنفق المظلم) ما جاء في وثيقة الحزب الشيوعي ويقول حول الجهة التي ايعزت لنميري للقيام بتلك التاميمات والمصادرة ، يقول د. منصور خالد( لقد وجد النميري سنا قويا في معركته مع الشيوعيين من داخل الحزب الشيوعي نفسه، خاصة من جانب المجموعة المنشقة بقيادة احمد سليمان وزير التجارة الخارجية ومعاوية ابراهيم وزير الدولة للشئون الخارجية ووزير العمل، وحاولت تلك المجموعة احراز نصر علي الحزب الشيوعي بالضغط من أجل التأميم الشامل والمصادرات والذي قام باعداد تفصيلاتها احمد سليمان بمعاونة المستشار الاقتصادي لمجلس قيادة الثورة احمد محمد سعيد الأسد ، وقد هزت تلك التأميمات الاختباطية الاقتصاد السوداني هزا عنيفا لسنوات).
ويخلص د. منصور خالد الي أن الحزب الشيوعي لاعلاقة له بالتأميمات والمصادرة، وقد كان صادقا في ذلك.
أما عبد الخالق محجوب فقد كتب مقالا في صحيفة( أخبار الاسبوع) بتاريخ يوليو 1970م، بعنوان ( حول المؤسسات المؤممة والمصادرة)، جاء فيه( ان المصادرة في هذه الفترة الوسيطة من الثورة الوطنية الديمقراطية تعتبر عقوبة اقتصادية علي اصحاب المال ( من الرأسماليين) الذين يخرجون علي قوانين واومر الدولة المالية والاقتصادية وبهذا يضعفون التخطيط المركزي ومؤشراته المختلفة التي رسمتها الدولة ، وبما ان هذا الاجراء السياسي الاقتصادي والاجتماعي احراء خطير في هذه المرحلة التي مازالت فيها العناصر الرأسمالية مدعوة للاسهام في ميدان التنمية وتنفيذ الخطة الخمسية. من المهم أ لا تقتصر المصادرة في اطار سيادة الدولة علي رعاياها. يجب أن تحاط المصادرة بالتالي:
1 – وضع تشريعات دقيقة ومفصلة ومحكمة تشمل الجرائم التي تستوجب توقيع عقوبة المصادرة.
2 – تعرض الأموال المختلفة علي دائرة قضائية لها القدرة علي الحسم السريع في القضايا وذات قدرات سياسية ايضا (برئاسة عضو من مجلس قيادة الثورة مثلا).
لماذا نقترح هذا؟.
أ – لأن في هذا ضمان لانتفاء الفساد وتفادي القرارات الذاتية التي ربما طوحت في كثير من الاحيان عن الموضوعية.
ب – لادخال الطمأنينة في قلوب اصحاب اصحاب المال الذين تحتاج اليهم البلاد الي استثماراتهم في هذه الفترة مدركين جيدا أن العلاقات الرأسمالية مازالت تمتد الي اعماق مجتمعنا، الي خلاياه الأساسية).
وخلاصة الأمر كانت قرارات التأميمات والمصادرة خاطئة حيث قامت زمرة المنقسمين من الحزب الشيوعي مع زين العابدين محمد احمد عبد القادر ومحمد عبد الحليم، بتعيين مجالس ادارات ومديري البنوك والمؤسسات دون التشاور مع مجلس الثورة أو مجلس الوزراء مما أدى الي تعيين عدد كبير من الأشخاص غير الاكفاء لهذه المناصب بسبب عدم معرفتهم وقلة تجربنهم بالمسائل الاقتصادية والمالية وعدم الامانة. الأمر الذي عرض النشاط الاقتصادي لهذه المؤسسات لكثير من الاضرار والخسائر ولعمليات الثارء الحرام، وبدلا من أن تكون مصدرا للارباح للقطاع العام ومساعدته في التنمية تحول الكثير من هذه المؤسسات من مؤسسات رابحة الي مؤسسات تشكل عبئا علي مالية الدولة مثل مؤسسة الزيوت الافريقية وغيرها. بالاضافة الي ذلك تزايد عدد المستخدمين في هذه المؤسسات لابسبب حوجة العمل، ولكن بهدف ارضاء الحكام بتعيين المحاسيب والاقرباء وغيرهم الأمر الذي ادى الي ارتفاع تكلفة الانتاج والي تقليل الأرباح وزيادة الخسائر.( أزمة طريق التطور الرأسمالي، ص 31).
اضافة الي أنه اثناء عملية استلام المؤسسات المصادرة والمؤممة تمت كثير من عمليات النهب لللاموال من الخزائن والبضائع والي سرقة الكثير من المعدات والاثاثات من المنازل. كما قام المسئولون عن الكثير من الشركات بعمليات فساد كبيرة مع رجال القطاع الخاص، وذلك بالتحكم في استيراد السلع لصالح مجموعات قليلة من التجار وتحويلها للسوق السوداء كما حدث في تجارة الاسبيرات ومواد البناء وبعض المنسوجات والتلاعب بحسابات هذه المؤسسات. لقد ورث الكثير من المديرين كل امتيازات اصحاب هذه المؤسسات من منازل وعربات وعلاوات. وكل ذلك تم تحت شعار الاشتراكية الأمر الذي أدي الي تشويه معنى تحرير الاقتصاد السوداني والمفاهيم الاشتراكية واضر بقضية التمية الاقتصادية وبتبديد موارد البلاد.
وبهذا الشكل بدأت تنشأ فئة الرأسمالية المايوية الطفيلية علي حساب جهاز الدولة عن طريق النهب والفساد،وفي عملية حراك طبقي شهدتها الفترة المايوية. مما يوضح أن الصراع الداخلي في الحزب الشيوعي كان له علاقة بالصراع الطبقي الدائر في المجتمع ومن خلال تطلع فئات من كادر الحزب الشيوعي للثراء السريع والانضمام الي نادي الرأسمالية السودانية .
3
ثالثا: السلم التعليمي:
أعلنت الحكومة السلم التعليمي الجديد بطريقة متعجلة، لم يتم فيها التشاور مع المعلمين والمختصين، وكانت هذه الطريقة مثار نقد عبد الخالق محجوب في وثيقته التي قدمها للمؤتمر التداولي، يقول عبد الخالق ( من زاوية السياسة التعليمية: ان نضال القوي التقدمية من طلاب ومعلمين لدفع وزارة التربية والتعليم في طريق المساهمة في النهضة الثقافية الوطنية في بلادنا، نضال قديم وله جذوره . ومنظمات المعلمين الديمقراطية لها نقد متعدد الجوانب للبرامج ولنظم التعليم في بلادنا، ولكننا نلحظ أن هذا المرفق المهم يسير علي طريق خاطئ:
- الكثير من الخطوات التي اتخذها الوزير ذات طابع دعائي ولم تستهدف تغييرا جوهريا في التعليم لخدمة الثورة الديمقراطية. مشروع الاستيعاب الذي يستهدف ديمقراطية التعليم لم يستفد منه الا ميسورو الحال من أبناء المدن التي فيها مدارس غير حكومية.( علي سبيل المثال: في 21 يونيو/1969م، اصدرت الحكومة قرارا برفع عدد التلاميذ المقبولين في المدارس المتوسطة من 24 الفا الي 38,500 وفي المدارس الثانوية من سبعة الآف اي 10,400 وذلك للعام الدراسي القادم)(تيم نبلوك،ص 232).
- لم يتم اشراك نقابات المعلمين في التخطيط التربوي، وفي تنفيذ برامج الديمقراطية التي ناضلت من قبل لتحقيقها. ان الاتجاه الرسمي للوزارة يتجاهل الطرق الديمقاطية في العمل ويعمل لفرض سياسة لا تتلاءم مع ظروف بلادنا واهداف ثورتنا الثقافية. انه يطبق ما يجري في ج.ع.م(مصر) تطبيقا اعمي.
يواصل عبد الخالق الي أن يقول: (ونستطيع القول أن هذه الوزارة التي تلعب دورا مهما في ميدان أساسي للثورة الديمقراطية- واعني البعث الوطني الثقافي – تعاني من سلبيات وأخطاء فاحشة، لابد من النضال ضدها. وأخطر هذه السلبيات هو الفهم القاصر والتصور الخاطئ للثورة الثقافية المنبعثة من خصائص شعبنا ومن حضارته العربية والزنجية، واللجوء الي النقل الاعمي بلا تمييز ولا نظرات ناقدة)( ص،133 – 134 ).
كما جاء في المؤتمر التداولي لكادر الحزب المنعقد في اغسطس 1970م حول هذه القضية مايلي:
(وفي مايختص بالثورة الثقافية النابعة من المرحلة الوطنية الديمقراطية فالتوجيهات الأساسية في هذه القضية خاطئة: 1- اقتصر المجهود في حيز التعليم المدرسي، ولم تطرح قضايا الثقافة الشعبية من محو للأمية ومن بعث ثقافي يعبر عن ثروات شعبنا الحضارية ويساهم في ازاحة المؤثرات المختلفة عن كاهل المواطنين. 2- المجهود التعليمي لا يستهدف ديمقراطية التعليم من حيث تحقيق الزاميته، من حيث توجيهه نحو ابناء الكادحين. اننا نحتاج بالوتائر الراهنة الي اكثر من 38 سنة لاستيعاب كل الاطفال من الذين هم في سن التعليم في المدارس الابتدائية. 3 – لايرتبط التعليم بحاجيات الخطة الخمسية وما ينتظر بلادنا من ثورة اقتصادية)( ص ، 159، في المصدر السابق).
جاء في خطاب للحزب الشيوعي للديمقراطيين 1971م حول السلم التعليمي مايلي: ( لقد استطاع الوزير الحالي( محي الدين صابر) أن يوهم الرأي العام وجمهور المعلمين بأن في ادخاله لنظام السلم التعليمي الجديد قد احدث ثورة في التعليم مستغلا في ذلك الاستجابة العظيمة التي قابل بها المواطنون المشاكل التي نتجت عن تطبيق السلم التعليمي الجديد ولكننا امام ادعاء يجب علي كل شيوعي وثوري ان يحدد موقفنا منه . الا وهو هل ما يجري الآن في بلادنا من تطبيق لسلم تعليمي جديد وتغيير في بعض المناهج هو الثورة الثقافية التي ننشدها جميعا؟ وكيف يمكن أن نتحدث عن ثورة تعليمية أو ثقافية اذا كانت هذه الثورة التعلمية المزعومة لاتمس جوهر الحقيقة التي تؤكد أن 82% من سكان بلادنا مازالوا يعانون من الأمية. كيف يمكننا أن نتحدث عن أية ثورة ونحن لانستطيع أن نتقدم بأى مشروع لمحاربة هذا التحدي العظيم؟ ان الثورة الثقافية نفسها لن يكتب لها الانتصار اذا بقيت غالبية شعبنا تعيش في امية وفي جهل مطبق. ثم كيف يجوز لنا أن نتحدث عن الثورة التعليمية بينما نحن لانستطيع ان نتقدم بأى مشروع يقدم من التعليم المهني في بلادنا ، ذلك التعليم الذي تعتمد علي وجوده تطوير كل مشاريع التنمية الصناعية والزراعية التي نصبوا الي انجازها في خططنا للتنمية الاقتصادية والاجتماعية؟
ثم كيف يجوز لنا ان نتحدث عن ثورة ثقافية بينما تراثنا الثقافي يرقد بين الاطلال يبحث عن من ينقب فيه ؟ اهي مشاريعنا لاحياء ذلك التراث ؟ ماهي مشاريعنا في ميادين الفنون والآداب ، في الغناء والموسيقي والرقص الشعبي ، في ميادين الشعر والتأليف والقصص ؟ ان الحديث عن الثورة الثقافية لايستقيم في نظر أى عاقل ما لم يعالج بصورة جادة قضية احياء التراث الثقافي للشعب السوداني)( ص، 11- 12).
هذا وقد اصدر د.محمد سعيد القدال كتابا ممتازا بعنوان ( التعليم في مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية)، 1971م، أوضح فيه التمايز بين الشيوعيين وسلطة البورجوازية الصغيرة حول مفهوم التعليم واهدافه في مرحلة الثورة الديمقراطية، والكتاب خلاصة لما توصلت اليه حركة المعلمين الديمقراطية ونقاباتها في مضمار اصلاح التعليم، ويمكن للقارئ الراغب في المزيد أن يرجع له.
رابعا: أحداث الجزيرة أبا:
في مارس 1970م، وقعت احداث الجزيرة أبا المشهورة، وكانت أول مواجهة مسلحة للنظام قام بها حزب الأمة بقيادة الامام الهادي المهدي، واتحادي الديمقراطي بقيادة الشريف الهندي، اضافة للإخوان المسلمين، وكانت معارضة ومطالب الامام الهادي المهدي تركز علي النقاط الستة التالية في مقابلته مع اللواء ابو الدهب:
1- وجوب ازالة الواجهة الشيوعية من السلطة فورا.
2- أن تكون مسودة الدستور الاسلامي التي اعدت قبيل حركة مايو هي الأساس لاقرار دستور دائم.
3- اجواء انتخابات حوة في البلاد.
4- اطلاق سراح السجناء السياسيين وعلي رأسهم الصادق المهدي.
5- ايقاف جميع الاتفاقات مع المعسكر الاشتراكي.
6- ايقاف التدخل الليبي المصري في شئون السودان، وكان ذلك في 25/3/1970م.
(طه ابراهيم المحامي :السودان الي أين؟، 1984م، ص 59-60 ).
ومعلوم أنه بعد انقلاب 25/مايو/1969م، توجه الوف الانصار الي الجزيرة أبا حتي بلغ مجموع المقيمين علي القطاع الضيق من الأرض بطول 30 ميلا في أوائل 1970م، حوالي 40 ألف شخص.
وقاوم الأنصار احدي زيارات نميري في منطقة النيل الأزرق مما اضطر لقطع زيارته والعودة الي الخرطوم ، وفي 27 /مارس، كان انتقام نظام مايو بطريقة وحشية، فقد أمر النميري بقصف الجزيرة بالصواريخ، وفي ذلك الوقت لم يكن السودان يملك طائرات ميغ- حسب رواية محمد احمد المحجوب رئيس الوزراء السابق – ولاطيارين يستطيعون قيادتها، مما جعل الكثيرين مقتنعين بأن القصف حري بطائرات مصرية وطيارين مصريين، وجاء بيان صادر عن وزارة الخارجية الليبية في وقت لاحق ليؤكد هذا الاقتناع( المحجوب: الديمقراطية في الميزان، ص 241).
ويواصل المحجوب ويقول ( ظلت المقاتلات طوال يومين" تنقض"علي الجزيرة وتضربها بالصواريخ وتغير علي السكان، لقد كانت مجزرة وحشية.. كانت اقسي تقتيل لا سابق له في تاريخنا وأوحشه ، كان يجري حصد الناس وتفجيرهم قطعا في الشوارع والحقول اثناء فرارهم للاحتماء، من دون أن يكون هناك دفاع أو حماية لهم ضد الغارات الجوية)
يواصل المحجوب ويقول( وبعد أن قضي القصف والضرب بالصواريخ علي قسم كبير من السكان، غزا الجزيرة حوالي اربعة الآف جندي بالدروع، غير أن المقاومة لم تكن انتهت، فخرج مقاتلوا الامام ذوو الاثواب من مخابئهم، فوقع قتال عنيف، وقال شهود عيان في وقت لاحق، أن الانصار المتعصبين كانوا خلال المعارك الأخيرة يخرجون بالرماح لمواجهة نيران الرشاشات في اماكن مكشوفة، وكان آخرون يخوضون معارك يائسة بالقاء انفسهم علي المدرعات، واستسلمت الجزيرة بعد أربعة أيام ( المحجوب: الديمقراطية في الميزان، ص 241).
أما الامام الهادي المهدي فقد اعلن رسميا في وقت لاحق أنه عثر علي جثته في منطقة الكرمك علي الحدود الاثيوبية. وقدر مجلس قيادة الثورة عدد القتلي 120 من الانصار و60 من الجرحي، وقد قتل جنديان ، ولكن مصدرا مستقلا قدر عدد الاصابات بالف شخص، وفي وقت لاحق وضعت التقديرات لعدد القتلي في الجزيرة ابا وحدها من 27/مارس الي 31/مارس 1970م منه بين خمسة الف قتيل واثنتي عشر الف قتيل ( المصدر السابق، ص 242).
كما وقع اشتباك في 29/مارس في الوقت الذي كانت فيه المعركة سجالا في أبا، في ام درمان بين الانصار المسلحين بالسيوف والرماح والاسلحة الصغيرة والجنود، فاريق مزيد من الدم ، وقتل أخرون في حادث وقع قرب الجامع في ود نوباوي ( نفسه،ص 242).
وبعد الأحداث اصدر مجلس قيادة الثورة المرسوم الجمهوري رقم(4) الذي وسع نطاق الجرائم والعقوبات الخانقة المعددة في الامر الدفاعي رقم(2) الصادر في مايو 1969م، والذي انتقده الحزب الشيوعي وغض الطرف عنه الانقساميون.
وبعد احداث الجزيرة أبا قرر مجلس قيادة الثورة نفي عبد الخالق محجوب سكرتير الحزب الشيوعي السوداني والصادق المهدي الي مصر، لقد كان ذلك اجراءا غريبا نوعا ما – ابعاد اثنين من مواطني بلد مستقل الي المنفي في بلد مجاور، وهو شبيه بنفي حكومة الاتراك للزبير باشا الي مصر وسجن قادة المهدية بعد معرك كرري وام دبيكرات في سجن رشيد بمصر.
والجدير بالذكر أن الحزب الشيوعي كان قد انتقد غفلة السلطة ، وكان من الممكن أن تقلل الخسائر والضرب الوحشي والعشوائي والانتقامي للجزيرة ابا، كما انتقد اعتقال عبد الخالق محجوب ، وكان ذلك موقفا معاديا للحزب الشيوعي، ولكن الانقساميون وصفوا هذا الاعتقال لاسباب شخصية، ولكن في واقع الامر قد حزموا امرهم مؤيدين للسلطة ومباركين كل مواقفها السليمة والخاطئة.ونتيجة لضغط الحركة الجماهيرية، عاد عبد الخالق من المنفي ليبقي في الحبس الانفرادي بالباقير وفي سجن مصنع الذخيرة الحربي حتي يونيو 1971م.
كما واصلت السلطة هجومها علي الحزب الشيوعي والتنظيمات الديمقراطية، وقامت السلطة في ابريل 1970 بحل اتحاد الشباب والاتحاد النسائي ، وبدأت السلطة الاعداد لتكوين تنظيمات سلطوية فوقية بديلة لهما تمهيدا للاعلان الرسمي بتكوين الاتحاد الاشتراكي، في عملية نقل اعمي ومسخ للتجربة المصرية.
4
خامسا: الأوضاع الاقتصادية والمعيشية:
في تلك الفترة تدهورت أوضاع الناس المعيشية، وصف عبد الخالق محجوب في وثيقته للمؤتمر التداولي الاجراءات المالية التي فرضت( تشكل اتجاها سلبيا، فهي تعبير عن اتجاه يميني وتقليدي في محاولة حل الأزمة المالية علي حساب الجماهير الكادحة، لقد حملت الطبقة العاملة، والعاملون من ذوي الدخول المنخفضة، من الاجراءات الضريبية الأخيرة 3,6 مليون جنية تقريبا من مجموع تقديرات تبلغ 5,9 مليون جنية تقريبا. أدت هذه الاجراءات الي انخفاض حقيقي في مستوي مداخيل الطبقة العاملة والعاملين الآخرين في القطاع العام في وقت حافظت الأسعار علي مستواها احيانا وارتفعت احيانا اخري).
يواصل عبد الخالق ويقول( الثبات علي أن الحزب الشيوعي لا يناضل فقط في الجبهة السياسية، بل عليه دائما وابدا أن يناضل من أجل ادخال تحسينات أساسية في حياة الجماهير الكادحة وفي مقدمتها الطبقة العاملة. ان التنازل عن هذا الموقف يؤدي الي انعزال الحزب الشيوعي عن جماهير طبقته وعن الكادحين، كما أنه يعتبر تخليا عن جبهة نضال هي من صميم جبهات العمل الشيوعي).
يواصل ويقول ( ان عدم توضيح موقفنا كاملا بطريقة موحدة وبصورة واسعة أمام جماهير الطبقة العاملة والاقسام الأخري من العاملين كان خطا اضر بعلاقة الحزب الشيوعي بطبقته وبالجماهير التي تناضل معه من اجل التقدم والاشتراكية)( ص 133).
يواصل عبد الخالق ويقول ان بقاء هذه السلطة يعتمد علي :
- أن تتخذ الاجراءات السريعة لتحسين مستوى معيشة الجماهير الكادحة، وهذا مهم لرفع النشاط الثوري لهذه الجماهير ولالتفافها الحقيقي حول السلطة الراهنة).
- النظر في أجور عمال المصانع والورش الرأسمالية وفي شروط خدمتهم بما يكفل ارتفاعا في مستوى معيشتهم واجورهم الحقيقية.
- مراجعة التخفيضات التي لحقت باجور الطبقة العاملة وذوي الدخول المنخفضة من العاملين في قطاع الدولة بالنسبة الي تكاليف المعيشة.
- وضع الاجراءات اللازمة لرفع عائد المزارعين في القطاعات التي سبقت الاشارة اليها.
وكان من قرارات المؤتمر التداولي لكادر الحزب في اغسطس 1970 ( رفع مستوى المداخيل الحقيقية للجماهير الكادحة مما يجذبها بالفعل للدخول في ميادين النشاط السياسي والاجتماعي ويفجر من طاقاتها ويوسع من دائرة النشاط الديمقراطي الثوري في بلادنا).
الخطة الخمسية:
في 20/مارس/ 1970م، اجاز مجلس قيادة الثورة خطة التنمية الخمسية باعتبارها وسيلة اخري من وسائل احكام سيطرة الدولة علي الاقتصاد وقد استهدفت الخطة أن يكون نصيب القطاع العام من جملة الاستثمارات العامة وحجمها 385 مليون جنية ، 215 مليونا من الجنيهات، وأن يرتفع الناتج القومي الاجمالي بنسبة 8,1 مقارنة ب 4,7 لفترة الخمس سنوات السابقة، ولم تشتمل الخطة علي أية مشاريع كبيرة وركزت علي اعادة تأهيل المشاريع الموجودة لتحقيق انتاجية اكبر وتم التركيز علي الاستثمار المنتج اكثر منه علي البنيات الاساسية( تيم نبلوك، ص 231).
أشار قرار المؤتمر التداولي لخطة الخمسية بقوله( وضعت خطة خمسية تستهدف البناء الاقتصادي للبلاد، ولكن هذه الخطة لايمكن عزلها عن الاوضاع الاقتصادية المنهارة التي ورثناها عن النظام القديم. ومن ثم فانها لا تستطيع احداث تغيير في تركيب الاقتصاد السوداني من ناحية النمو الجذري في الاستثمارات ومن ناحية وضع الأسس لتحقيق جوهر الثور الديمقراطية، اى الثورة الزراعية. فهي لاتؤدي الي تغيير في اسس العلاقات الانتاجية المتخلفة( علاقات ما قبل الرأسمالية)، كما انها لاتعالج قضيةالتطور غير الرأسمالي في الزراعة، وما زالت هذه العلاقات في القطاع الحديث تقوم علي اسس رأسمالية كاملة).
يواصل قرار المؤتمر التداولي ويقول( من الممكن أن تؤدي الخطة الخمسية الي رفع مستوي معيشة الجماهير نسبيا، وهذا أمر مهم بالنسبة الي الانتاج اذا توفرت التوجيهات السياسية والاقتصادية اللازمة من ناحية توزيع الدخل القومي ومن ناحية رفع المداخيل الحقيقية بالنسبة الي الجماهير العاملة. فالزيادة في دخل الفرد من العائد القومي تصل الي 5 في المائة في وقت ارتفعت فيه تكاليف المعيشة بين مايو 1969 ومايو 1970، بما يعادل 12 في المائة، وهذا يضر بانجاز الخطة الخمسية بنجاح).
يواصل ويقول ( اذا جرت التعديلات اللازمة للخطة الخمسية وفقا للمقترحات الايجابية التي تمت في المناقشة العامة، ووفقا للتوجيهات السياسية التي لابد منها لتحديد اهداف الخطة – فان الخطة الخمسية ستنجح في حدود بعينها وهي: 1- وقف تدهور الاقتصاد السوداني الناتج عن الظروف الماضية. 2- خلق الاجهزة اللازمة لقيادة بناء الاقتصاد الوطني بعد ذلك. 3- زيادة وزن قطاع الدولة في الاقتصاد السوداني المر الذي يسهل عملية بناء الاقتصاد الوطني عبر الطريق اللارأسمالي. 4- تحسين مستوى معيشة السكان الي قدر معين..... الخ.
ورغم ضجيج السلطة الجديدة حول التنمية وتحسين أحوال الناس المعيشية، الا أن الحصيلة كانت في الفترة: مايو 1969- 1973م، كالآتي:
1- سوء تصريف المؤسسات التي آلت ملكيتها للدولة بعد التأميم والمصادرة.
2- تفاقم نفقات جهاز الدولة الموجهة لغير الإنتاج بمعدل اكبر من معدل نمو الايرادات.
3- تدهور الإدارة في مؤسسات القطاع العام.
4- كل ذلك ادي الي انعدام الفوائض المتاحة للتنمية واللجؤ اكثر واكثر الي الاستدانة من النظام المصرفي لتمويل النفقات الجارية ومشاريع التنمية مما ادي الي التضخم المالي وارتفاع الأسعار وانعدام السلع وتدهور مستوى المعيشة بشكل خطير.
وتشير وثيقة ( أزمة طريق التطور الرأسمالي..) الي الأسباب الحقيقية لهذا التدهور، وترجعه للسياسات الخاطئة للنظام منذ ميزانية 1969/1970م، والتي انتقدها الحزب الشيوعي في مجلة أخبار الاسبوع وفي بيان الاستقلال 1970م، كما انتقدت النقابات العمالية ونقابات الموظفين الميزانية وخاصة ضريبة الطوارئ. كما بدأ النظام في وضع برنامج في زيادة الصرف علي القوات المسلحة مما أدي الي ارتفاع نفقات القوات المسلحة من 18مليون في عام 68/1969 الي حوالي 45 مليون في عام 72/73، اضافة للتكلفة الباهظة للسلم التعليمي المرتجل والذي كان يكلف الدولة اكثر من 10مليون جنية سنويا. كما دار صراع رهيب حول الخطة الخمسية للتنمية الاقتصادية وحول الميزانية العامة في مجلس الثورة ومجلس الوزراء ، فبينما كانت القوي التقدمية تنادي بضرورة وضع خطة للتنمية الاقتصادية والالتزام بتنفيذها، كانت القوى المحافظة والقوميون العرب بقيادة الوزير السابق احمد عبد الحليم تقاوم وضع الخطة الخمسية وتري أنه من الافضل القيام بمشروعات وعدم الالتزان بخطة، وحتي بعد صراع عنيف تمت اجازة الخطة الخمسية، ولكن عمل الوزير واعوانه لنسف الخطة بعدم توفير الموارد الماليةالضرورية لتنفيذها.
كما دار صراع حول الميزانية العامة للعام المالي 70/71 ، وكان من رأي الحزب الشيوعي أن حجم الانفاق مرتفع في هذه الميزانية ولابد من تخفيضه واشراك العاملين في عملية التخفيض ، وحتي يتم تنفيذ موارد حقيقية لتنفيذ مشاريع التنمية، وحتي يتم تفادي اللجوء للاستدانة من النظام المصرفي والذي يؤدي الي التضخم المالي والي ارتفاع الاسعار والي مصاعب في ميزان المدفوعات، وقد كان.واستمرت الميزانية كما هي عليه رغم نقد الحزب الشيوعي لها في صحيفة اخبار الاسبوع ونقد النقابات لها، ونتيجة لهذا الصراع في الجبهة الاقتصادية .
نتيجة للصراع في المواقف السياسية، نفذ القوميون العرب انقلاب 16/نوفمبر 1970م، وتبعته اجراءات 12/فبراير 1971م، و10/ابريل/1971م، والتي هاجم فيها النميري الشيوعيين، وبدأت السلطة شن حملة اعتقالات واسعة وسط الشيوعيين الديمقراطيين، وتشريد اعداد كبيرة من الجيش والخدمة المدنية، الي أن تم تتويج ذلك بانتصار التيار المحافظ الرجعي انقلاب 22/يوليو/1971م الدموي، ومنذ ذلك اليوم تدهورت الاوضاع الاقتصادية كما اشرنا سابقا، وادي ذلك الي ارتماء النظام في احضان رأس المال الاجنبي والاستعمار الحديث والسير في طريق التطور الراسمالي، وضرب كل القوي الداعية للاشتراكية والتقدم(46-47).
سادسا: السياسة الخارجية::
في 4/يونيو/1969، ووسط ضجة كبيرة اعترف السودان بالمانيا الديمقراطية وتبع ذلك زيارة وفد علي مستوي عال من المانيا الشرقية للخرطوم، وفي اكتوبر 1969م، أدلي بابكر عوض الله بتصريح في المانيا الديمقراطية اشاد فيه بالحزب الشيوعي، فانبري له مجلس قيادة الثورة ببيان عنيف وانتقده بحزم، ولم يخل البيان من هجوم علي الشيوعيين، وكان رأي عبد الخالق أن يستقيل الوزراء الشيوعيون من الحكومة احتجاجا علي ذلك البيان، اذ كيف يمكنهم التعاون في نظام يتعرض لهم في اجهزة الاعلام بتلك الحدة. ولكن الوزراء لم يستقيلوا، فالصراع داخل اللجنة المركزية كانت تحكمه توازنات القوى بين مجمل السلطة، وبين اجنحة الحزب المصطرعة: فبقي الوزراء في مناصبهم، وانهزم صوت عبد الخالق، فكانت تلك بداية تراجع وارتداد في علاقة الحزب بالسلطة( قدال: الحزب الشيوعي وانقلاب 25/مايو،1986، ص 44).
وفي 28/ديسمبر/1969م، وبعد سقوط النظام الملكي في ليبيا أول سبتمبر1969م، تم التوقيع علي ميثاق طرابلس بين الدول الثلاث ( مصر، السودان، ليبيا)، والذي شمل الي جانب التعاون الاقتصادي مجالات الدفاع والسياسة الخارجية، والاتفاق علي حتمية الوحدة وضرورة التدرج نحوها. وهنا ايضا انتقد الحزب الشيوعي ميثاق طرابلس، ودعا الي عدم التعجل الي الوحدة دون استكمال مقوماتها، وناقش عبد الخالق هذا الأمر في وثيقته التي قدمها للمؤتمر التداولي أشار فيها الي مقومات الوحدة في الآتي:
1- تستند هذه الوحدة بين البلدان العربية علي اسس موضوعية وهي تمثل حاجة تاريخية لشعوب هذه المنطقة، ومن هذه الزاوية فالحزب الشيوعي السوداني داعية لهذه الوحدة.
2- توضع الشروط اللازمة لهذه الوحدة خلال تحول المجتمعات صوب الاشتراكية – خلال فترة التقدم الاجتماعي حينما تصفي قواعد الطبقات الاجتماعية المستغلة وايديولوجيتها التي تستند علي التعصب الوطني الضيق ولاتري مصالح الحركة الثورية العامة في منطقتنا وعلي النطاق العالمي.
3- لابد من اعتبار الخصائص الاجتماعية والسياسية والثقافية لكل بلد عربي والا يفرض نمط واحد من الانماط أو من الخصائص لهذا الشعب أو ذاك علي بقية الشعوب.
4- الشرط الجوهري هو أن تجد الحركة الثورية في كل بلد عربي الصيغة الملائمة للاتحاد بينها في النضال من اجل التقدم والاشتراكية اعتمادا علي استنهاض الجماهير علي اسس ديمقراطية، وأن يكون هذا هو الأساس لاتحاد حركة التحرر الوطني في نطاق البلدان العربية بأسرها.
5- تتم الوحدة بالرعبة الشعبية لكل بلد عربي ولاتفرض فرضا.
ويرى عبد الخالق أن طرح الوحدة للتنفيذ الفوري (عمل غير ناجح وسيؤدي بالفعل الي عزل الحركة الثورية التي تنفذ هذا الطرح عن الجماهير)( ص 127).
وبعد اعلان الرؤساء انور السادات ومعمر القذافي وجعفر النميري في 8/نوفمبر/1970 الاتفاق علي قيام اتحاد ثلاثي يضم مصر وليبيا والسودان اصدر الحزب الشيوعي بيانا حدد فيه موقفه من هذا الاتحاد، أشار البيان الي أن هذا الاتحاد تم بدون استشارة أى من تلك الشعوب، ناهيك عن موافقتهان وهذا خطأ جسيم يؤدي الي بلبلة الجماهير، ويؤدي الي اقامة محورلايفيد السودان في شئ ولاسيما أن دور السودان كان مميزا في الدفاع عن قضايا البلدان العربية، وان هذا الاتحاد سوف تترتب عليه نتائج ضارة بتطور الثورة في بلادنا وبمستقبل الوحدة العربية فيها، واقترح الحزب الشيوعي السوداني طرح موضوع الاتحاد بين البلدان الثلاثة للاستفتاء الشعبي بعد مناقشة جماهيرية واسعة وحرة، كما دعا الي اليقظة في وجه كل محاولات الرجعية ولاالاستعمار لاثارة النعرات والتعصبات القومية الضيقة).
هكذا كان موقف الحزب واضحا ضد التعجل في فرض الوحدة بين البلدان الثلاثة، وهذا ايضا كان من قضايا الاختلاف مع سلطة 25/مايو/1969.
سابعا: التنظيم السياسي ( جزب واحد أم جبهة؟).
وكان هذا ايضا من قضايا الخلاف بين الحزب الشيوعي والسلطة، عندما اعلنت السلطة قيام التنظيم الشعبي( الحزب الواحد)، قاوم الحزب ذلك، وطرح البديل الجبهة الوطنية الديمقراطية، أشار قرار المؤتمر التداولي في اغسطس 1970م(ان الحزب الواحد، بما في ذلك الحزب الشيوعي، لايصلح اداة للتحالفات المطلوبة لانجاز مهام المرحلة الديمقراطية).
يواصل القرار ويقول(الحزب الواحد في مرحلة الثورة الوطنية الديمقراطية في بلادنا، وبخصائصها القومية والسياسية والقبلية والاجتماعية وبالانقسام الطبقي فيها، لايصلح اداة لتوحيد القوي الاجتماعية صاحبة المصلحة في انجاز المهام الراهنة للثورة، واتخاذه اداة لهذا الغرض يؤدي الي تشتت هذه القوي، ومن ثم الي الفشل في انجاز مهام المرحلة انجازا كاملا).
يواصل ويقول( الجبهة الوطنية الديمقراطية، اذن، هي التحالف السياسي والتنظيمي بين الطبقة العاملة وجماهير المزارعين والمثقفين الثوريين والرأسمالية الوطنية والجنود والضباط ووفق التزام واضح من قبلها باحترام هذا البرنامج والعمل لتنفيذه، ولكي يقوم التحالف علي اسس متينة، فلابد من ضمان استقلال اطرافه المختلفة).
يواصل قرار المؤتمر التداولي ويقول(ان انفراد اية قوة من قوى الجبهة الوطنية الديمقراطية بالسلطة يعوق تطور الثورة ويحمل في طياته عوامل انتكاسها، أو لابد علي احسن الفروض تجميدهافي نقطة معينة، وقد برهنت علي هذا تجارب حركة التحرر الوطني العالمية، ومن ضمنها التجارب العربية والافريفية)
ويخلص القرار الي أن( سلطة الجبهة الوطنية الديمقراطية، المنبثقة من صفوف هذه الجبهة، والمستندة اليها، هي التي تعطي اكبر دفع للنشاط الثوري ولاندفاع الجماهير) ( ص، 149-150-151، المصدر السابق).
وبالتالي، فان الحزب الشيوعي السوداني كان معارضا للحزب الواحد، باعتباره لايصلح، كأداة للتحالفات الطبقية
5
خاتمة:
واضح مما سبق، أن جذور الصراع داخل الحزب ترجع الي ما قبل 25/مايو/1969م، بل ترجع جذوره الي فترة تأسيس الحزب الأولي: هل يظل الحزب الشيوعي مستقلا ام يكون جناحا يساريا داخل الأحزاب الاتحادية، وبعد اكتوبر 1964م، ونتيجة لصعوبات الثورة المضادة وخاصة بعد حل الحزب الشيوعي، برز اتجاه لتصفية الحزب بأن يتخذ موقف ذيليا في التحالف مع الحزب الوطني الاتحادي باعتباره حزب الرأسمالية الوطنية، في حين كان تحليل المؤتمر الرابع ان الرأسمالية الوطنية مشتتة داخل حزب الامة والحزب الاتحادي وبقية الاحزاب ومن المهم، الصبر والفرز علي الدراسة في هذا الجانب، ثم كان هناك الانحراف اليميني الذي تم تصحيحه بتكوين الحزب الاشتراكي نتيجة لدمج الحزب الشيوعي مع التيارات الاشتراكية السودانية، اى حل الحزب الشيوعي ودمجه مع قوى اشتراكية اخري، بعد قرار مؤتمر الجريف التداولي عام 1966م.
وبعد انقلاب 25/مايو/1969م، اتخذ الصراع شكلا جديدا، هل يكون الحزب الشيوعي مستقلا أم يذوب داخل حزب ومؤسسات سلطة البوجوازية الصغيرة، ويتم تكرار تجربة الشيوعيين المصريين، وكل الصراع حول المواقف العملية التي سردناها في العرض السابق، كان يدور حول ذلك. وقررت اللجنة المركزية في اغسطس 1969 فتح مناقشة عامة ، تعرض فيها وجهات النظر المختلفة علي الفروع والأعضاء، ويتم حسم الصراع في مؤتمر تداولي، وبالفعل صدرت وثيقتان: وثيقة عبد الخالق محجوب ووثيقة معاوية ابراهيم وتمت المناقشة في الفروع واعداد مجلة الشيوعي 134، 135، 136،..الخ، وانعقد المؤتمر التداولي في اغسطس 1970م، أى بعد عام من فتح المناقشة العامة. وبعد المداولات كانت النتيجة أن الأغلبية الساحقة لأعضاء المؤتمر التداولي وقفت مع الوجود المستقل للحزب، ورفض ذوبانه داخل حزب السلطة ومؤسساتها، حسب ما جاء في الوثيقة التي صدرت عن المؤتمر التداولي التي اشرنا لها سابقا.
ولكن الجناح الآخر لم يقبل بقرارات المؤتمر ولم يقبل بالديمقراطية الحزبية، أي الالتزام برأي الاغلبية والتمسك بوحدة الحزب والصراع من داخله للدفاع عن رأيه، فالتجربة العملية هي الكفيلة في النهاية بتأكيد صواب أو خطا هذا الرأي أو ذاك.
سلك هذا الجناح مسلكا غير ديمقراطي ولجأ الي التآمر، اذ بعد نهاية المؤتمر مباشرة عقد 12 عضوا من اعضاء اللجنة المركزية(مجموع اعضائها 33) اجتماعا سريا عبروا فيه عن رفضهم لقرارات المؤتمر والتكتيكات التي خرج بها، ثم حضروا اجتماع اللجنة المركزية في 26/8/1970م، دون أن يكشفوا عن خططهم، وبعدها نشروا رسالة وقعوا عليها جميعا، وكان ذلك اعلانا رسميا بالانقسام. وتبع ذلك بيان آخر وقع عليه مايزيد عن الخمسين من بعض كوادر الحزب، وتم عقد اجتماعات في بورتسودان وعطبرة والجزيرة للوقوف ضد قرارات المؤتمر وتبعتها اجتماعات في العاصمة( قدال: المرجع السابق، ص،55).
وبذلت اللجنة المركزية جهدا كبيرا لتفادي الانقسام، وفي دورة في اكتوبر 1970، أعلنت اللجنة المركزية عن فشل كل المساعي التي بذلت لتفادي الانقسام، وتوصلت الي أن الجماعة التي وقع افرادها الخطاب خلقوا انقساما كامل الحدود والمعالم، وعليه قررت:
- فصل قادة الانقسام الموقعين علي خطاب الاثني عشر من عضوية الحزب.
- فصل العناصر التي اشتركت معهم في الانقسام بتوقيع الخطاب الآخر.
- أن تطبق كل منظمات الحزب ولجانه اللائحة علي المشتركين في اعمال التكتل.
- حل لجنة الحزب في الجزيرة والمناقل
(دورة ل.م اكتوبر 1970م).
من الواضح أن الانقسام كان كبيرا شمل حوالي ثلث أعضاء اللجنة المركزية وبعض الكوادر القيادية واغلب قيادة منطقة الجزيرة والتي تقرر حلها واعادة تسجيلها من جديد.
أشرنا سابقا الي أن السلطة كانت طرفا في هذا الصراع من خلال تسخير كل امكاناتها لدعم الانقساميين في مخططهم لتصفية الحزب الشيوعي الذي يقف عقبة كأداء أمام السلطة، من خلال كشف اخطائها للجماهير، وبالتالي فشلت مساعي السلطة لهدم القلعة من الداخل. وبعد ذلك ازدادت السلطة شراسة ولجأت لوسائلها الثقليدية التي خبرها الحزب الشيوعي وصرعها منذ ديكتاتورية عبود واأحزاب التقليدية، ونظمت السلطة انقلاب 16/نوفمبر/1970م، الذي اسفر عن الوجه اليميني الكالح للسلطة وعن ديكتاتوريتها التي طالما غلفتها بشعارات يسارية، وكانت النكتة الشائعة في الشارع يومها ( أن السلطة تؤشر يسارا وتتجه يمينا)، وكان من نتائج انقلاب 16/نوفمبر/1970م، ابعاد ثلاثة من أعضاء مجلس الثورة ( بابكر النور، فاروق حمد الله، هاشم العطا)، واعتقل عبد الخالق وعزالدين علي عامر، واختفي الكادر القيادي للحزب تحت الأرض، وهكذا انتقل الصراع من محيط الافكار الي ميدان المواجهة.
كما شهدت الفترة بين نوفمبر 1970 ومايو 1971م، هجوما مكثفا علي الحزب الشيوعي شنه النميري في عدة مناسبات، من بينهاالخطابات التي القاها في استاد الخرطوم في 23/نوفمبر/1970، ثم الخطاب الملتهب في 12/فبراير 1971/والذي حرض فيه علنا علي ضرب الشيوعيين وتمزيق الحزب الشيوعي، وفي ابريل 1971م، اقيم مهرجان في ميدان سباق الخيل بالخرطوم والتي شاركت فيه قوى سياسية رأت أن الوقت قد حان لتصعيد الحملة ضد الحزب الشيوعي الي ذروتها، وفي ذلك المهرجان استنفر الناس لضرب الشيوعيين معيدا للاذهان احداث 1965- 1966م، وبلغ ذلك الهجوم ذروته باعتقال اعداد من كوادر الحزب الشيوعي في مايو 1971، وتقديم اعداد منهم للمحاكمات في العاصمة والاقاليم، وكان ذلك بهدف تعطيل نشاط الحزب في المنظمات الجماهيرية، وقد اتهمت وثائق الحزب الانقساميين بتحريض السلطة علي تلك الاعتقالات (قدال: ص، 56).
واستمر الهجوم علي الحزب الشيوعي، ورد الحزب علي تلك الحملة ببيانات جماهيرية مثل بيان الحزب الشيوعي في نهاية مايو 1971م والذي عدد فيه جرائم النظام ومآسيه، هكذا تواصلت الحملة، وفي هذه الظروف وقع انقلاب يوليو1971م، وبعد فشل الانقلاب استكمل النميري حملته الصليبية ضد الشيوعيين، باعدام قادة الحزب الشيوعي من مدنيين وعسكريين وتم اعتقال وتشريد الالاف من الشيوعيين والديمقراطيين ، اضافة للمحاكمات غير العادلة، ولكن الحزب الشيوعي صمد أمام تلك العاصفة وبدأت فترة جديدة في مقاومة النظام مع قوى المعارضة الأخري، حتي تمت الاطاحة به في انتفاضة مارس ابريل 1985م.
هكذا أوضحت التجربة أن الصراع الداخلي في الحزب لم يكن معزولا عن الصراع الطبقي الدائر في المجتمع حول اى الطريق يسلك: طريق يميني يفضي للتنمية الرأسمالية ام طريق التحول الديمقراطي الذي يفضي لانجاز الثورة الوطنية الديمقراطية بافقها الاشتراكي.
ومهما اختلفت اشكال الصراع، فان المحتوي واحد: الغاء الوجود المستقل للحزب، والهجوم علي مرتكزاته الفكرية(الماركسية)، والهجوم علي منطلقاته الطبقية ( التعبير عن مصالح الطبقة العاملة والكادحين)، والهجوم علي كادره القيادي(نلاحظ أن جل وثائق انقسامي 1970، كانت هجوما شخصيا علي الشهيد عبد الخالق محجوب)..الخ.
كما اكدت التجربة أن كل الانقسامات السابقة لم تنجح في ادعائها ببناء حزب جديد ديمقراطي ومتطور، بل اصابها داء الانقسامات الاميبية، كما حدث في انقسام 1952، وانقسام 1970م، ومجموعة حق 1994م، فلا حافظ الانقساميون علي حزبهم ولا بنوا شيئا جديدا يفيد ويوسع من دائرة التقدم والاستنارة.
كما أن من اهم دروس الصراع الفكري الداخلي هو الا ينكفي الحزب علي نفسه وينشغل بصراعاته الداخلية، بل يجب الا ينعزل ذلك الصراع عن نشاط الحزب الجماهيري، والذي من خلاله تمتحن صحة الآراء المصطرعة داخل الحزب.
اهم المصادر والهوامش
أولا: وثائق الحزب.
1- الماركسية وقضايا الثورة السودانية ( التقرير السياسي المجاز في المؤتمر الرابع اكتوبر 1967).
2- برنامج ودستور الحزب المجازين في المؤتمر الرابع.
3- وثيقة عبد الخالق محجوب المقدمة للمؤتمر التداولي.
4- وثيقة معاوية ابراهيم.
5- بيانات الانقساميين (12 من اعضاء اللجنة المركزية، 50 من اعضاء وكوادر الحزب).
6- وثيقة المؤتمر التداولي لكادر الحزب الشيوعي، اغسطس 1970م.
7- ( 134 ، 135 ، 136 ) أعداد مجلة الشيوعي .
8- دورة اللجنة المركزية، اكتوبر 1970م.
9- أزمة طريق التطور غير الرأسمالي في السودان، 1973م.
10- عبد الخالق محجوب حول البرنامج (دار عزة 2002م)
11- بيان المكتب السياسي حول اعلان ميثاق طرابلس، نوفمبر1970م
12- تقييم اللجنة المركزية لانقلاب 25/مايو/1969م.
13- عبد الخالق محجوب: حول المؤسسات المؤممة والمصادرة، اخبار الاسبوع، يوليو 1970م.
ثانيا: الكتب:
1- تيم نبلوك: صراع السلطة والثروة في السودان، ترجمة محمد علي جادين والفاتح التجاني، 1990م.
2- تاج السرعثمان: تقويم نقدي لتجربة الحزب الشيوعي السوداني، دار عزة 2008م.
3- محمد سعيد القدال: الحزب الشيوعي وانقلاب 25/مايو 1969، 1986م
4- محمد احمد المحجوب: الديمقراطية في الميزان، بدون تاريخ.
5- منصور خالد: السودان والنفق المظلم
6- فؤاد مطر الحزب الشيوعي نحروه أم انتحر؟، 1971م (الكتاب يحتوي علي وثائق انقسام 1970م).
alsirbabo@yahoo.co.uk