الاسترقاق.. خطايا الماضي ودلالات الحاضر (2/3)

 


 

 

 

shurkiano@yahoo.co.uk


إذاً، ما هي المرجعيَّة الثقافيَّة لكونرد وأمثالهم، والتي منها نبعت أفكارهم وجاءت تعابيرهم؟ الجدير بالذكر أنَّ السيطرة الإمبرياليَّة احتاجت إلى لغة جديدة لوصف العالم الذي اختلقته، والشُّعوب التي سيطرت عليها. فليس من المدهش في الأمر بأن تكون هذه اللُّغة الجديدة محتقرة بالأقوام المغلوبة على أمرها، ولم تكن لترفعهم مكاناً عليَّاً في مصاف الأبطال. بالعكس تماماً، فقد اصطبغتهم هذه اللُّغة بصبغة رهيبة في أكثر ما تكون الرهبة. وإفريقيا اتي أمست هدفاً للسيطرة الإمبرياليَّة، حتى بالكاد لا تخلو مساحة مقدارها قدماً مربعاً من مصير الاحتلال الإمبريالي، وبالطبع باتت تتمرَّغ في المعايير اللَّعينة في هذه النعوت السلبيَّة. أضف إلى ذلك المحاولات الاحتقاريَّة الكثيرة التي جلبتها تجارة الرِّق عبر المحيط الأطلسي لمدة ثلاثة قرون لتغيير الإنسان الأسود، حيث يمكن أن نصل إلى بعض الفكرة عن حجم المشكل الذي نواجهه اليوم في إفريقيا، والسُّودان ليس باستثناء أبداً. بيد أنَّ في أمر السُّودان كان هناك ثمة عنصران فاعلان: الاستعمار الأجنبي (الأتراك والمصريُّون والبريطانيُّون)، ثمَّ الاستعمار الدَّاخلي (المستعربون وورثة الحكم وسدنة السُّلطة في الخرطوم).
وبرغم من انتهاء عصر الرِّوايات الاستلطافيَّة التي كانت مرغوبة شعبويَّاً في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، غير أنَّ هاجس التصفيحيَّة المتوهِّج الرَّهيب لإهانة إفريقيا وإذلالها، والذي ساد طوال قرون عديدة، قد ورثته دور السينما والصحافة وبعض أنماط علم الأجناس (الأنثروبولوجيا)؛ حتى معتنقي مذهب الإنسانويَّة وعملاء التبشير الكنسي لم يبرأ سقمهم في الآن نفسه.
على أيَّة حال، فالعالم اليوم يقوم بتقييم أعمال أدبائهم وشعرائهم ومؤرِّخيهم بين الحين والآخر، وفي ذلك انطلاقاً من مبدأ أنَّ هؤلاء الكتَّاب والأدباء والشعراء والمؤرِّخين ليسوا بمقدَّسين، حتى لا تُمَس أعمالهم بشيء من النقد كثير أو قليل. هكذا نرى ما تعرَّضت له أعمال شاعر بريطانيا المسرحي وليام شكسبير (1564-1616م) من بعض النقَّاد من أمثال الدكتور جونسون وكيتس وكولريدج وقويث وتي أس إيليوت ويان كوت وهارولد بُلُوم وإيما سميث. ففي القرنين السَّابع عشر والثامن عشر كان القرَّاء المعاصرون ينظرون إلى شكسبير بأنَّه كاتب قصص حب مليح، وإلى بعض أعماله التراجيديَّة بأنَّها عديمة الذوق، ويمكن تحسينها بإعادة كتابتها أو تجويد صياغتها. أما القرَّاء في القرن التَّاسع عشر فقد وجدوا في أعماله إلهاماً مستعظماً فيما حوته من الحميَّة الوطنيَّة والصداقة الوطنيَّة على حدٍّ سواء. بيد أنَّ النقَّاد الماركسيين في ذينك القرنين ارتأوا أنَّه ماركسي، ونحن لم نجد أيَّة مكامن الماركسيَّة في أعمال شكسبير فيما اطَّلعنا عليه من مسرحياته العديدة، وما قرأناه من الاستعراضات المختلفة! أما اليوم فإنَّ الكاتبة إيما سميث قد استنتجت أنَّ أعمال شكسبير مكتظة اكتظاظاً شديداً بمواد مثيرة عن التداخل المجتمعي، ولاحظت تعييب شكسبير للبدانة في شخصيَّة فولستاف، ثم العنصريَّة المؤسَّساتيَّة في مسرحيَّة "أوثيلو". ولا ريب في أنَّ الآنسة سميث قد نظرت إلى أعمال شكسبير منطلقة من مفهوم "الصواب السِّياسي" (Political correctness).
إزاء هذا كله كان لزاماً على النقَّاد السُّودانيين إعادة النَّظر في أعمال روَّاد الاستقلال، أو ما حسبناهم آباء التحرير ليس في شعاراتهم التحرُّريَّة وخطاباتهم السِّياسيَّة فحسب، بل حتى في أعمالهم الأدبيَّة والاجتماعيَّة، وبخاصة تلكم الأعمال التي لها الارتباط الوثيق بحيوات النَّاس في الحاضرة والبادية، أو في المدن والقرى، أو في العلاقة التي أخذت أخيراً مفهوم المركز والهامش، أو التعدُّديَّة التي ظلَّ أهل الهامش إيَّاهم وأصحاب الثقافات واللُّغات الوطنيَّة يتنادون بها، لأنَّها تصبُّ في قالب الإنسانويَّة. أفلم تروا أنَّ الأنهار والنهيرات، والبحار والبحيرات، والمحيطات كلها تحمل أسماءً مختلفة، إلا أنَّها كلها تحمل ماءً. هكذا تحمل الثقافات واللُّغات والأديان أسماءً مختلفة، لكنها تحمل قيمة الإنسانويَّة في المجتمعات التي تسود فيها، وتتَّصل بها.
على أيِّة حال، فبين الفينة والأخرى يصدر كتاب يهز مفهوم التأريخ الذي تعارف عليه النَّاس، وارتكنوا إليه في شيء من الارتكان شديد. وحين يتم استصدار هذه الكتب بواسطة الذين كان التأريخ غير منصف لهم، ولم يأبه بهم، كان يتمُّ دوماً تجاهل مثل هذه الكتب بواسطة الأكثريَّة الكاثرة. ولكن بمرِّ الزمان يمسي تحدِّيهم من مسلَّمات التأريخ، حيث يقضم هذا التحدِّي الصورة المألوفة من أطرافها، حتى تصبح الصورة غير متماسكة، وتصير هباءً تذروه الرِّياح من كل صوب وحدب. ومن هذه التأليفات ما ألَّفه وولتر رودني الموسوم ب"كيف قوَّضت أوروبا نماء إفريقيا" (1972م) (How Europe Underdeveloped Africa)، ثمَّ هناك ثمة تأليف آخر أكثر جدلاً للمؤلِّف تشينويزو إيبيكوي بعنوان "الغرب والأغيار: المفترسون البيض والأرقَّاء السود والنخبة الإفريقيَّة" (1975م) (The West and the Rest of Us: White Predators, Black Slaves and the African Elite)، ثمَّ كتاب تشانسيلور وليمامز المعنون ب"تدمير الحضارة السُّوداء: قضايا عظيمة في العرق منذ العام 4500 ق.م. إلى 2000م" (The Destruction of Black Civilisation: Great issues of a race from 4500 BC to 2000 AD) .
أما توبي قرين في كتابه "حفنة قشور" (2019م) (A Fistful of Shells) فقد استرشد في بحثه بتقاليد شعب قريوت الشفاهيَّة، وشعراء القبيل الذين نقلوا معارفهم شفاهة إلى ذراريهم، وفي نهاية الأمر تمَّ تدوينها. هذه السجلات، التي استعان بها قرين، وأخذ كثراً منها بمهارة فائقة، قد أضافت بعداً حقيقيَّاً إلى أدلته الوثائقيَّة، علاوة على الخطابات التي عثر عليها، ورموز السفن التجاريَّة الأوروبيَّة. ومن هنا وجدنا أنفسنا في خضم نمطين مختلفين في أسلوب تمرير التأريخ؛ إحداهما هو ذلك الذي لم يحظ قط بالاعتراف به، والآخر هو ما بات شائعاً بين النَّاس. لقد تمَّ تعضيد كتاب "حفنة قشور" بحقائق مذهلة. فبعد إجراء الحفريات في جمهوريَّة بنين في السبعينيَّات وجد أنَّ السبائك كانت تُستخدَم في السبك وبعض الأغراض بين الفينة والأخرى منذ القرن الثالث عشر الميلادي، أو بأسلوب آخر قبل 200عام من وصول البرتغاليين إلى سواحل إفريقيا. وفي الكتاب إيَّاه نجد أنَّ العولمة قد أتت إلى إفريقيا باكراً؛ إذ تتحدَّث إحدى السجلات الصِّينيَّة أنَّ السفراء الإثيوبيين كانوا قد حلوا في البلاط الصيني منذ حوالي 150 ق.م.، ثمَّ إنَّ الخزف الصيني، الذي عُثِر عليه من خلال الحفريات في كيلوا (في تنزانيا حاليَّاً)، يؤكِّد وجود التجارة البعيدة بين إفريقيا من جانب، والصين من جانب آخر. ومع جهله الكامل في ذاك المجال، كتب الفيلسوف الألماني فريديريك هيغيل (1770-1831م) قائلاً: "إنَّ إفريقيا لم تلعب دوراً تأريخيَّاً في العالم." هذا محض افتراء على الحق. إذ أنَّ إفريقيا أنجبت وأنتجت أدباءً وشعراءً وعلماء الكلام الجدليين ورسَّامين وفنَّانين، حتى بلغوا مراتب الحقيقة العالميَّة. وفوق ذلك كله، نجد أنَّ إفريقيا مليئة بتأريخ غزير وحضارات معقَّدة، وذلك منذ حقب سحيقة وقبل المواجهة مع أوروبا. ومن ثمَّ أمست تكتنفها قرون من التأكيدات العنصريَّة والدِّراسات الفقيرة، فيما باتت كل الآراء الأخرى نمطاً من فنتازيا تعويضيَّة.
لكن السؤال الذي يُطرح بإلحاح في الكتاب إيَّاه هو لماذا تضاءلت أهميَّة إفريقيا في الاقتصاد العالمي، برغم من أنَّها شهدت العولمة – أو الكوكبيَّة، وعهدة العبارة هنا تعود إلى السيِّد الصَّادق المهدي – باكراً جداً؟ وفي محاولة للإجابة على هذا السؤال، جمع قرين صنوفاً عظيمة من المعارف في مجالات علم الأجناس والحفريات والاقتصاد والأدب وعوالم اللغات. والنتائج التي توصَّل إليها، وعثر عليها قرين تجعل قراءتها مريحة بالنِّسبة للأفارقة والأوروبيين على حدٍ سواء. إذ توصَّل إلى نتيجة مفادها أنَّ القوى الغربيَّة كانت قد تعمَّدت هندسة اضمحلال الممالك الإفريقيَّة، وذلك في سبيل لهاثها وراء أسباب التحكُّم في مصادر الثروة، والذي بدأ في بواكير المواجهة بين إفريقيا والغرب. وفي الحين نفسه تآمرت إفريقيا مع نفسها بسبب استشراء مشكلاتها الداخليَّة، وذلك حين جلبت التجارة الخارجيَّة أموالاً طائلة، ومن ثمَّ ساهمت في الانقسامات الداخليَّة والحروب القبليَّة.
بيد أنَّ العامل الذي لعب الدور الرائس في تخلف إفريقيا تنمويَّاً هو تجارة الرِّق. إذ يقدِّر إرشيف المعلومات عن رحلات السفن التي كانت تنقل الرَّقيق من ديارهم وقراهم بغير حق بأنَّه في الفترة ما بين (1492-1866م) عبر حوالي 12.521.337 شخصاً المحيط الأطلسي إلى الأميريكتين كأرقاء. فعلاوة على المعاناة التي تعرَّض لها هؤلاء الأرقَّاء، نجد أنَّ تجارة الرِّق قد حوَّلت البشريَّة إلى شكل من أشكال العملة النقديَّة. ومن هنا يمكنك أن تتخيَّل أو تستدرك كيف أنَّه من الأهميَّة بمكان أن تفهم العلاقة بين العبوديَّة وتراكم رأس المال في الغرب. ولعلَّ من الحق أن نعلم أنَّ من أراد أن يفهم الحاضر فينبغي عليه أن يفهم الماضي، برغم من أنَّ الماضي يتكوَّن من عدة رؤوس، والتأريخ – كما يوضِّح الكتاب إيَّاه بشيء من التوضيح شديد – قد تبنَّى ذاكرة خياراتيَّة عبر السنين، أي إنَّ في الأمر "خيار وفقوس"، كما يقول السُّودانيُّون. وبرغم من أنَّ قريناً قد سرد سيرة تفصيليَّة عن دور البرتغال والأسبان والهولنديين الرائس في إعاقة نمو إفريقيا اقتصاديَّاً، غير أنَّه قد أبدى نوعاً من الملاطفة للبريطانيين، وذلك برغم مما كان لهذا الأخير من دور فعيل في هذه القصة المأساة.
ونحن إذ نورد هذه الأمثال للمتلهِّفين في سبيل العلم حتى يقفوا على شيء منه باللُّغة التي يفهمونها، ويحسنون إجادتها، وكذلك حتى تستفيد الأجيال الحالية والقادمة مما كتبه الرَّاسخون في العلم من كتَّاب وكتبة الأمم الإفريقيَّة، الذين تميَّزوا بالاعتدال، وجمعوا بين صحيح المنقول، وصريح المعقول، وذلك بعلم وثَّاب غير هيَّاب. هذا فقد وجد هؤلاء الباحثون المتجرِّدون أنفسهم مشدودين بين البيض العنصريين الذين أمسوا يسيئون قراءة تأريخهم، ويتجاهلون منجزاتهم، وبين الأفارقة المتغرِّبين الذين باتوا يتنكَّرون على ماضيهم وتقالديهم.


وللحديث بقيَّة،،،

 

آراء