في استراتيجية وتكتيك الحزب الشيوعي وما بينهما!!

 


 

 

 

المبتدأ: -

تحتاج القيادة الثورية على الدوام لفهم عميق لمسارات الصراع، وقدرة لا محدودة على طرح الشعارات المناسبة عند كل نقطة تحول مفاجئة في هذا الصراع.
والخبر: -

(1)
التعامل بحسن النوايا مع قضية التحالفات المرحلية التي ظل الحزب الشيوعي السوداني يجتهد في تكوينها في كل مرحلة من مراحل نضال شعبنا ضد الدكتاتوريات التي توالت على حكمه غير مجدي فمن خبرة التجارب السابقة قد اتضح أن هذا النهج غير عملي ولا يقابل بنفس حسن النوايا من قبل كثير من المكونات السياسية؛ التي تظل عادة طوال جولات النضال الشاق ضد النظم المستبدة قابعة هامدة في ظل التضحيات التي يقدمها الحزب الشيوعي وكوادره ومتى لاح فجر الخلاص تنشط بهمة لكن ليس لاستكمال مهام الحراك الثوري بل لقطع الطريق عليه ومحاولة اقصاء الحزب الشيوعي وعزله بافتعال معارك ثانوية.

(2)
واقع المشاكسة والقفز فوق برنامج الحد الادنى المتفق عليه في إطار تلك التحالفات ظل معضلة مزمنة تحول دون بلوغ مسارات الثورة السودانية لغاياتها واهدافها مؤثرة سلبا على مجمل محصلة الفعل الثوري. وقادت في الماضي القريب لانتكاس تجربتين ثوريتين كما هو معلوم وربما تقود تجربتنا الثالثة الحاضرة الى نفس المصير إن لم يحسن الحزب الشيوعي تدبر شأن التعامل مع هذه التحالفات والتي معظم قيادات مكوناتها السياسية تتبنى مشاريع اصلاحية بعيدة كل البعد عن النهج الثوري.

(3)
ولعل المراقب لتاريخ الثورة السودانية يلحظ انه وعلى الرغم من الاسهام الكبير والجهد المقدر الذي يبذله الحزب الشيوعي وطلائعه في كافة مراحل الإعداد لأي حراك ثوري شهده السودان إلا أن مكاسبه والمكاسب التي تتحقق للطبقات صاحبة المصلحة التي يمثلها كان ضعيفا ومحصلته كانت دون المأمول؛ وذلك بسبب الإفراط في حسن الظن في مكون هذه التحالفات والتقاضي عن أخطاء عدم التزامها بالمواثيق بل وبسبب الصفح حتى عن المؤامرات التي تحيكها لتشويه صورته تمهيدا لعزله سياسيا كما حدث من قبل في ظل نظام ديمقراطي عام 1965م.

(4)
لقد كان المأمول أن ترسخ تجارب هذه التحالفات مبدأ الممارسة السياسية المبدئية وتمد جسور الثقة بين مكوناتها المختلفة عوضا عن اثارة المعارك الجانبية التي استنفذت الوقت والجهد سدى وأدت لانشغال الحزب الشيوعي وإهماله لاهم قضايا نضاله المحورية آلا وهي قضية رفع الوعي الجماهيري.

(5)
انغماس الحزب الشيوعي مرغما في صراعات غير منتجة مع كثير من مكونات هذه التحالفات اصاب العلاقة بين التكتيك والاستراتيجية التي يطرحهما بالإرباك حيث نلحظ علو كعب التكتيك في الخط السياسي المطروح من قبل الحزب على حساب الاستراتيجية وهو ما يتطلب إجراء مراجعة نظرية سريعة تحسم ضجيج الرؤى البراغماتية داخله وترسم بوضوح معالم وحدود التعامل مع مسألة التحالفات المرحلية هذه المراجعة حيوية لإعادة الوحدة العضوية بين التكتيك والاستراتيجية.

(6)
من الخطأ الفادح أن تحصر القوى الثورية نفسها في إطار التكتيكات الضيق ، أي المهام اليومية للنضال وتهمل أسئلة الاستراتيجية بالغة التعقيد فإعداد الاستراتيجية عمل فكري شاق ومعقد واستنباط التكتيكات الملائمة من صلبها في كل مرحلة من مراحل النضال عملا ايضا لا يقل مشقة ويتطلب من القيادة الثورية التحلي بالواقعية والرؤية الاستشرافية الحالمة.

(7)
في أوقات النهوض الثوري المتلاحق الاحداث كالذي يعيشه السودان اليوم، عادة ما تطرح الكثير من الرؤى المنحرفة والتكتيكات غير الصائبة ويزج بها على عجل في اختبار الممارسة العملية بيد أن الجماهير التي يرتقي وعيها في مدرسة النضال اليومي تكتسب القدرة على فرز الغَثٌّ من السمين مما يتطلب من القوى الثورية أن تلتزم وتناضل في هذا التوقيت من أجل ضمان مناقشة قضايا الاستراتيجية والتكتيك المطروحة بكل حرية دون ان يؤثر ذلك سلبا على وحدة ونشاط الفعل الثوري. حيث لا يجب ولا ينبغي بأي حال من الاحوال أن يتأخر الحزب الثوري خلف القطاعات المتقدمة من الجماهير، كما ليس مطلوب منه أن يتقدمها بفراسخ تباعد بينه وبينها؛ والواجب عليه أن يقف في مقدمة الجماهير ومنغرسا في صفوفها.

(8)
طبيعة التحالفات المرحلية معقدة ومتقلبة بحكم تناقض مصالح مكوناتها الطبقية وتنافر وتباين مشاريعها ورؤاها الفكرية واهتمام الحزب الشيوعي بها وإهماله لقضية خلق تحالفات استراتيجية موازية مع القوى صاحبة المصلحة الحقيقية في تنفيذ برنامج الثورة الوطنية الديمقراطية جعل ظهر الحزب تاريخيا مكشوف لسهام غدر المكونات اليمينية؛ وإحسان الظن المجاني بمكونات سياسية تتناقض توجهاتها ومشاريعها مع مصالح الطبقة العاملة والشرائح الاجتماعية المستغلة قد كلف الحزب الشيوعي الكثير من الخسائر وقلص من حجم مكاسبه السياسية.

(9)
إقصاء تعقيدات الرؤى الفلسفية يسهل بناء التحالفات المرحلية ولكن يقود في لحظة انهيار النظام القديم لظهور تناقضات رؤى ومصالح مكوناته المختلفة بصورة حادة خاصة تلك اليمينية والتي لا يعني لها برنامج الحد الادنى المتفق عليه سوى سقوط رأس النظام اما سقوط ما تبقى من مؤسساته ورموز فساده فلا يعنيها في شئ حيث عادة ما تكون قيادات تلك المكونات مرتبطة بمصالح مع دوائر النظام القديم تريد المحافظة عليها وهي مفارقة بئيسة نكاد نراها ماثلة اليوم في الصراع الدائر بين الحزب الشيوعي السوداني من جهة وقيادات تلك المكونات السياسية من جهة أخرى.

(10)
أما المفارقة الشكسبيرية الاكثر بؤسا فنلمسها في موقف جزء من الجماهير صاحبة المصلحة في التغيير الجذري نفسها والتي بسبب ولائها لبعض الزعامات وضعف وعيها تصاب بالحيرة مع اندلاع الصراع الفوقي بين قيادات التحالف الذي قاد مسيرة نضالها وتعجز عن فهم طبيعته الطبقية فتنحاز بعصبية عمياء لطرح المكون اليميني الباحث عن مساومة مع قوى الثورة المضادة تحفظ له مصالحه وتقطع الطريق وتحول دون تولي القوى الثورية لمقاليد السلطة.

(11)
هذه الكتلة من الجماهير المغيبة تنحاز دون وعي ضد مصالحها تحت وطأة إرهاق ليالي المخاض الثوري وفرط المخاوف من فزاعات الانفلات وعدم الاستقرار التي تنشرها قوى الثورة المضادة ومن ثم تبدأ بالنظر شذرا لمواقف الحزب الشيوعي الذي يناضل من اجل نيلها لحقوقها وبلوغها لأهدافها وقد تعتبره في مرحلة متقدمة من الصراع (خميرة عكننة) يعكر صفو فرح انتصارها الزائف.

(12)
عادة ما ينسف ضعف الوعي الجماهيري جهد الحزب الشيوعي المبذول لبناء التحالفات المرحلية وتضعف تبعا لذلك حصيلة مكاسب ذات الجماهير صاحبة المصلحة عقب كل حلقة من حلقات الثورة السودانية عوضا عن تراكمها وزيادتها ولا أظن أن هناك من خيار امام الحزب الشيوعي لمعالجة هذه المعضلة سوى خيار بذل المزيد من الجهد للارتقاء بالوعي العام وفق إطار فلسفي والتخلي عن نهج التعامل مع قضية التحالفات المرحلية وفق منظور سياسي تكتيكي فقط.

(13)
قد اثبتت التجارب الماضية أن الرهان على امكانية تبني قطاعات من جماهير الاحزاب التقليدية والاصلاحية للنهج الثوري انحيازا تلقائيا لمصالحها رهانا خاسرا ما لم تصحبه برامج مدروسة ومكثفة لنشر الوعي والمعرفة خاصة أن معظم هذه الجماهير تحكمها ولاءات طائفية؛ اما البعض الآخر من عضوية الاحزاب الاصلاحية الحديثة فهي غير متجانسة الرؤى ومتأرجحة القناعة وتتبع قيادات براغماتية تحمل جلها مشاريع تتعارض مع مشروع التغيير الراديكالي.

(14)
اليسار السوداني والقوى التقدمية عامة هي احوج ما تكون في مرحلة النهوض الثوري الحالية لفهم عميق لطبيعة ومسارات الصراع الاجتماعي كما انها بحاجة ماسة لقدرات خاصة تعينها على استنباط وطرح الشعار المناسب في الوقت المناسب عند كل منعطف من منعطفات هذا الصراع وتجنب الوقوع في خطأ الشعارات المنقولة ميكانيكيا بتجريد من برامجها ومبادئها ما لم تكن متوافقة مع شروط الواقع الماثل ومنسجمة تماما مع المزاج العام للشارع السوداني.

(15)
كما أن الشعارات المطروحة يجب أن تراعي مستوى وعي الشارع وتكون متوافقة مع المسار العام لحراك التغيير وعلى كاهل قيادات القوى الثورية تقع مسؤولية تقييم جدوى هذه الشعارات في كل مرحلة وتعديلها متى لزم الأمر وصولا لجعل العلاقة بين الاستراتيجية والتكتيك في وحدة عضوية حقيقية تعزز وتدفع بالنشاط الثوري قدما للأمام ولا يوجد مقياس لقياس صلاحية الاستراتيجية والتكتيك المطروح في مرحلة تاريخية ما سوى الممارسة والتطبيق العملي على أرض الواقع.

(16)
من المعلوم أن التكتيك يستنبط من الاستراتيجية ويلتزم بإطارها العام ولكن بعض التجارب الثورية قد اشارت ايضا ولكي نتمكن من تنفيذ جملة من التكتيكات الضرورية في مرحلة بعينها لابد من إعادة النظر في بعض جوانب الاستراتيجية نفسها وهذا يتطلب أن تتحلى القيادة الثورية بقدرة فائقة على التفكير والتنظير الخلاق والتعامل الذكي مع المضامين الفلسفية لنظرية الثورة.

(17)
عموما من المهم التحقق دائما من صلاحية التكتيك على ضوء مجريات الاحداث السياسية؛ هذا التحقق ضروري من ناحية نظرية وعملية فهو من الناحية النظرية يساعد على التأكد من صحة او خطأ القرار المتخذ ويتيح الفرصة للقيام بالتعديلات التي قد تفرضها متغيرات الاحداث السياسية كما انه من الناحية العملية يراكم من خبرة ومهارات اتخاذ القرار السياسي السليم وتنفيذه في التوقيت السليم مما يعزز ثقة الجماهير في قيادتها ويخلص القيادات من التقاعس والتردد ومخاوف الوقوع في الاخطاء فما يجب أن تحذره القيادات الثورية ليس الوقوع في الخطأ بل الاصرار عليه وعدم الاعتراف به وتصحيحه.

(18)
انتقاد البعض لمواقف الحزب الشيوعي من قضيتي مشاركة العسكر والقصور الذي شابَ صياغة الوثيقتين السياسية والدستورية وإصراره على فضح ذلك وتمليك الجماهير الحقائق يجب أن يقرأ في سياق تفاوت الوعي داخل الطبقات الاجتماعية بما فيها الطبقة العاملة؛ لذا فقضية تقليص هذا التفاوت ومواصلة الجهد لرفع وعي الشرائح الاجتماعية الضعيفة يجب أن يظل محور نضال الحزب الشيوعي والقوى التقدمية لأن التماهي مع الوعي السائد سيلحق بالغ الضرر بعملية التغيير.

(19)
ومن المهم في ظل تصاعد حراك التغيير وتلاحق الاحداث السياسية ان تتمكن القيادة الثورية من تحديد الرابط الاساسي بين الاحداث بدقة والتمسك به من أجل التمكن من السيطرة على مجمل المشهد وتوجيه دفة الفعل الثوري في المسار الذي يضمن الوصول للأهداف والغايات التي تنشدها الجماهير ولن يتسنَّى ذلك ألا بالتزام خطا سياسيا مبدئيا يعبد الطريق بين الواقع والممكن.

(20)
السياسة المبدئية هي السياسة الوحيدة العملية مهما اختلفت الآراء وحول مواقف الحزب الشيوعي السوداني خلال مراحل الثورة فقد تعلم الحزب من التجارب السياسية السابقة ان التعامل الجزئي مع المشاكل العامة وعدم مواجهتها وحسمها يعقدها ويعيد انتاجها ولا يقدم حلولا جذرية. والمبدئية هنا لا تعني ابدا عدم الإحساس أو التفاعل الايجابي مع رؤى ومشاعر الجماهير.

(21)
تطور الحراك الثوري وعدم استقرار مساره صعودا وهبوطا يتطلب ان تتحلى القوى الثورية بالمرونة وطول النفس و تَنَاءَى عن التشبث الاعمى بتكتيكات قد تكون فقدت فاعليتها ولم تعد مناسبة لتوازنات القوى القائمة ؛ ولكن هذا التشبث غير المبصر يظل يحدث احيانا وهو من الاخطاء الواردة في ظل تلاحق وتسارع احداث الحراك الثوري الذي عادة ما يصيب كافة القوى السياسية بما فيها الثورية بالإرباك لدرجة أنها تظل لفترة عاجزة عن التكيف ومواكبة ايقاع الشارع.

(22)
وبصورة عامة فرسم استراتيجية وتكتيك صحيح يتطلب دراسة عميقة للأوضاع الماثلة على الأرض وفق منهجية علمية صارمة تحلل العلاقات الطبقية تلافيا للوقوع في خطأ أحلال النظري المجرد محل الواقعي الملموس فليست في الحياة حقيقة مجردة بل حقائق الحياة دوما ملموسة وقائمة على ساقين من هنا نخلص إلى عدم واقعية وجود تكتيك ثابت في واقع يضج كل يوم بالمتغيرات. صحيح أن الاستراتيجية تمتاز بثبات نسبي بيد أن التكتيك يتطلب منا الاستعداد الدائم لتغييره في التوقيت المناسب متى تغيرت شروط الواقع وموازيين القوى على الأرض.

8/12/2019م

tai2008idris@gmail.com

 

آراء