في الذكرى الأولى لثورة السودان

 


 

 

 

بالأمس خرج مئات الآلاف من أبناء وبنات الشعب السوداني مرة أخرى للشوارع، يحتفلون بالذكرى الأولى لثورة كانون الأول/ديسمبر المجيدة. وفي الحقيقة لم يكن الأمر مجرد إحتفال بقدر ما كان ردا على محاولات التخذيل والنيل من الثورة، وتأكيدا على استمراريتها حتى تحقق أهدافها في الحرية والسلام والعدالة، وتجديدا للثقة في الحكومة الانتقالية، أو مدا لحبال الصبر لها، حتى تنجز. وقبلها بعدة أيام شهدت العاصمة الخرطوم مظاهرات أنصار النظام البائد، تحت شعار الزحف الأخضر، ضد ما أسمته بالتوجه العلماني المعادي للإسلام الذي تسير فيه الثورة والحكومة الإنتقالية.

وبعيدا عن المحاججة بأن أنصار الثورة خرجوا بمئات الآلاف إلى الشوارع، بينما خرج الآخرون ببضع مئات فقط، إذ أن القناعات لا تخضع، ولا يمكن حسمها بالكامل، وفق قاعدة الأغلبية والأقلية، كان أول ما تبادر إلى ذهني السؤال التالي: ما هو الهم الرئيسي عند المواطن السوداني البسيط؟
هل هو شكل الحياة ونمط المعيشة اليومي والقضايا المجتمعية، والتي توفر له العيش الكريم وتحقق له آدميته وإنسانيته، أم مصدر التشريع في الدستور والجدل والصراع حول إسلامية أو مدنية أو علمانية الدولة ؟ وإذا كان هذا المواطن يعاني من المرض وشظف العيش وموات أطفاله والشعور بالظلم والقهر، وفي نفس الوقت يرى الآخرين يرفلون في نعيم لم يخطر بذهنه أبدا، هل سيكون راضيا مسلما بقدره لمجرد النص في الدستور على أن الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع، وأنه يعيش في كنف الدولة الإسلامية؟. أعتقد أنها أسئلة تحمل في طياتها إجاباتها الواضحة والبسيطة.
وفي نقطة أخرى، أراها هامة ولا تقبل التجاهل، أعتقد من حق الشعب السوداني أن يسمع أجوبة واضحة على أسئلة كثيرة تتعلق بعائد التجربة المريرة التي تجرعها خلال العقود الثلاثة الماضية من حكم الجماعة التي ظلت تحكم بإسم الإسلام، أسئلة من نوع: لماذا إتسمت هذه الفترة بتوطن الإرهاب والطغيان وانتهاك حقوق الإنسان في السودان بدرجة لم تشهدها بلادنا، حيث غاب العدل، وكممت الأفواه، وسخرت بيوت الأشباح لتعذيب الناس؟. ولماذا انفصل جنوب البلاد، التي ظلت موحدة منذ الاستقلال، بينما تعاملت الانقاذ مع هذا الزلزال التاريخي وكأنه حدث طبيعي وغير ذي بال؟. ولماذا اتسمت فترة الإنقاذ باستدامة الحرب الأهلية في هلال دام يمتد من غرب البلاد فجنوبها وحتى شرقها، والتي بسببها فقد السودان الآلاف من شبابه، وإنضم مثلهم إلى جحافل المعوقين والعجزة، وآلاف آخرين يفترشون المنافي في كل قارات العالم بحثا عن ملاذ آمن لأسرهم وأطفالهم؟

ولماذا اتسمت هذه الفترة بشظف العيش وبتدهور مريع في الخدمات الضرورية لحياة المواطن، وبنزع أراضي المواطنين بالقوة، وبانتشار الجوع والفقر والعطالة، وبإنهيار الطبقة الوسطى لدرجة التسول…!، بينما شهدنا في الضفة الأخرى صعود وتمكين شرائح الطفيلية الجديدة وأثرياء الحرب وسماسرة المجاعة وناهبي المال العام، موطنين وموطدين الفساد والإفساد والتدهور الأخلاقي في البلاد بدرجة غير مسبوقة، لا رادع لهم ولا مساءلة، ومن يجرؤ على رفع صوته محتجا سلميا، يقتل عمدا وفي الشارع المضيء بوضح النهار..!؟. ولماذا اتسمت فترة دعاة الحاكمية لله بتفشي جرائم إغتصاب الأطفال وإنتشار المخدرات، والإنحلال الأخلاقي؟. ولماذا اتسمت هذه الفترة بعلو نبرة الجهوية والقبلية العنصرية، مما يهدد بنسف النسيج الاجتماعي في البلد؟. وأخيرا، لماذا انهارت ثقة الناس، خلال هذه الفترة، في المؤسسات العدلية؟.
أعتقد أن تصوير الأزمة السودانية وكأنها صراع بين الإسلاميين ودعاة تحكيم الشريعة من جانب، والعلمانيين ودعاة فصل الدين عن السياسة من جانب آخر، هي محاولة لطمس وإخفاء الجوهر الحقيقي لهذه الأزمة، والمتمثل في كيفية تحقيق المشاركة العادلة في السلطة والتوزيع العادل للثروة وموارد البلاد المادية، وكيفية التأسيس لدولة المواطنة الديمقراطية، ودولة المؤسسات وحقوق الإنسان التي لا كبير فيها على القانون. ومن تجربة نظام الإنقاذ البائد، تجلى هذا الجوهر في الصراع بين قلة تدير البلاد وفق رؤاها ومصالحها، ولا تريد أن يشاركها الآخرون في صناعة المصير الوطني، مستخدمة الدين سلاحا لإخراس هولاء الآخرين ولإخضاع البشر والموارد المادية لصالح أجندتها، وبين مجموعة تريد تحقيق عدالة المشاركة في السلطة والثروة، في إطار دولة المؤسسات وحكم القانون، مستخدمة فصل الدين عن السياسة كأداة وصمام أمان حتى لا يتم إستغلال الدين في تمرير وتبرير الظلم والعسف. أيضا، أعتقد أن محاولة تصوير أزمة السودان وكأنها صراع بين الإسلاميين والعلمانيين، ستجد صعوبة بالغة في تفسير حرب المسلمين في دارفور، وفي تفسير مطالبات وإحتجاجات أهالي السدود وأصحاب الأراضي في مشروع الجزيرة، بل ستعجز تماما في تفسير المفاصلة الكبرى التي أدت إلى الإنقسام إلى المؤتمرين الشعبي والوطني! من حق أي جماعة أن تحدد منطلقاتها ومعتقداتها الفكرية والأيديولوجية، وتدافع عن تصوراتها حول كيف تريد أن تحكم السودان. وبالتالي، من حق أحزاب الخيار الإسلامي وجماعة الزحف الأخضر أن ترفع شعار «الإسلام هو الحل» وتدافع عن خيارها هذا. وشخصيا، لا أطالبها بالتخلي عن هذا الخيار، ولا أدعو إلى رميهم في البحر، بقدر ما أطالبهم بإحترام الآخر والنظر إليه على قدم المساواة في الحقوق والواجبات، دون توهمهم إكتساب أي سمات قدسية، هي أصلا غير موجودة وغير حقيقية، تشعرهم وكأنهم في موقع الأعلى بالنسبة للآخرين، وخاصة دعاة فصل الدين عن السياسة. وكما قال القيادي الإسلامي، الشيخ محمود عبد الجبار، إمام وخطيب مسجد العمارات شارع 31، في حوار منشور في جريدة الصحافة، عدد السبت 17 آذار/مارس 2012: فإن «الصراع في السودان ليس على أن هذا مسلم وهذا غير مسلم، إنما على كيفية إدارة البلاد وتحديد واجبات وحقوق كل إنسان في البلاد، وتوزيع الثروة…، وإذا لم يحدث تراض، ولو كان الناس جميعهم مسلمين فسيكون الصراع والاحتراب قائمين».

نقلا عن القدس العربي

 

آراء