السُّودان.. الجذور الفاجعة لوطن منكوب (3 من 3)
shurkiano@yahoo.co.uk
مهما يكن من شأن، فإنَّ معاناة شعب أي شعب أو طبقة أيَّما طبقة لا تحتمل، ولكن قبل أن يمتشق هذا الشَّعب السَّلاح ويعرِّض نفسه للخطر فإنَّ روحاً قوميَّة أو دينيَّة لهي التي تدفعه إلى ذلك. ففي الدُّول ذات التعليم والمعرفة الوفيرة، نجد أنَّ الدافع دوماً هو الفخر بالتقاليد العظيمة، أو في التعاطف المستغلظ مع المأساة المحيطة بهم والمطبقة عليهم. أما في المجتمعات التي يسود فيها الجهل، فإذ إنَّما هذا الجهل ليمثِّل حافظاً لقوَّة عاتية، وإذ يجرفهم هذا الجهل إلى تزمُّت عنيف. هذا التزمت قد يجعل قبائل الصحراء تزعم بأنَّها تحارب في سبيل عظمة الرَّب، لأنَّه يعطي الرِّجال شيئاً يعتقدون بأنَّ الحرب من أجل ذلك الشيء نوعاً من البطولة، ويكون ذلك مدعاة للحروب، ووقوداً لإدامتها، حتى لو استعرت هذه الحروب لأسباب مختلفة تماماً. فالتزمت الدِّيني ليس بالضرورة سبباً لإشعال الحروب، بل وسيلة لتحفيز النَّاس للاحتراب؛ إنَّه الرُّوح القدسيَّة التي تجعلهم يلتفون حول القضيَّة المشتركة الماثلة أمامهم، بحيث تمسي كل المشكلات الشخصيَّة والقبليَّة ليست بذي جدوى. يا تُرى ماذا يعني القرن بالنُّسبة لوحيد القرن (الخرتيت)، وماذا يعني اللسع بالنَّسبة للزنبور! فالعقيدة الإسلاميَّة ظلَّت بالنسبة للعرب – أو بالأحرى لنقل مستعربي السُّودان – عقليَّة الهجوم والدِّفاع على حدٍ سواء.
وكذلك من ورثة الاستعمار لعلَّك واجدٌ السيِّد عبد الرحمن المهدي زعيم طائقة الأنصار وراعي حزب الأمة في ظلال الأحاديث التي كانت تدور وتشاع يومئذٍ بأنَّه كان يرغب في أعظم ما تكون الرَّغبة في أن يُتوَّج ملكاً على السُّودان، وهو الأرستقراطي الذي كان يقيم في قصر منيف، ثمَّ كان دخله يبلغ حوالي مليون جنيهاً إسترلينيَّاً في العام. ففي زيارة إزمي وزوجها جرهام توماس إلى الجزيرة أبا، حيث كان يقيم أخوه السيِّد الهادي المهدي، وجدا داراً ضخمة، والتي كانت قد تمَّ تشييدها آنذاك لإيواء الصبية الذين كان يتمُّ إرسالهم من دارفور وكردفان لخدمة آل المهدي. وكان كل ما بوسع هؤلاء الصبية أن يتلقَّاه من آل المهدي مقابل هذه السخرة هو الإطعام والإسكان والكساء، ويظلُّون يخدمون السيِّد وآله كلهم أجمعين أبتعين سنيناً عدداً دون السَّماح لهم بالعودة إلى ديارهم وأهليهم. هذا بالطبع استغلال للدِّين والمكانة الاجتماعيَّة والإرث المهدوي التأريخي لاستعباد النَّاس وقد ولدتهم أمهاتم أحراراً؛ والأسوأ من ذلك من كانوا في عمر الصبا ومقتبل الشباب، ودون وعٍ أو علمٍ أو تعليم.
ففي العام 1933م منحت الإدارة الاستعماريَّة السيد عبد الرجمن المهدي ترخيصاً بقرار سياسي على سبيل المحاباة لزعيم طائفة الأنصار. إذ تطوَّرت هذه الطائفة لتمسي واحدة من التيارات السِّياسيَّة الهامة في السُّودان، أي حزب الأمَّة. كان الغرض الأساس من قرار النظام الاستعماري آنذاك هو محاولة احتواء السيد عبد الرحمن المهدي من خلال الوضع المستحبب الذي سوف يجنيه بانخراطه في أنشطة المال والأعمال. وقد أخذت الإدارة الاستعماريَّة في الاعتبار الدور الذي لعبه السيد عبد الرحمن المهدي في تهدئة الشعب السُّوداني بعد ثورة الملازم علي عبد اللطيف العام 1924م. إزاء ذلك بعث حاكم مديريَّة النيل الأبيض بخطاب إلى سكرتير التنمية الاقتصاديَّة في الخرطوم في 9 نيسان (أبريل) 1933م، حيث طلب الأوَّل من الأخير أن يمنح السيد عبد الرحمن المهدي تصريحاً، حتى يتسنَّى له الانخراط في العمل السِّياسي. وفي الحين الذي فيه تمَّ تشييد سد سنار في أوائل العشرينيَّات من القرن الماضي، كان السيد عبد الرحمن المهدي قد مُنِح عقداً في منطقة الجزيرة من خلال قرار سياسي آخر.
ومن بعد عبد الرحمن المهدي – وانطلاقاً من قرار سياسي ثالث – منحت الحكومة الاستعماريَّة رخصاً أخرى لقلة قليلة من السُّودانيين لإنشاء مشاريع زراعيَّة، وهم الشريف خليفة الحلو والشريف يوسف الهندي والسيد علي الميرغني؛ وهم كلهم أجمعون أبتعون صاروا زعماءً لأحزاب سياسيَّة رئيسة في البلاد، وهي حزب الأمَّة والحزب الوطني الاتحادي وحزب الشعب الديمقراطي. وبعد حقبة من الزمان تحصَّل بعض التجار المشاهير وزعماء الإدارة الأهليَّة على رخص مماثلة لإنشاء مشاريع زراعيَّة، وفي سبيل الأغراض المذكورة أعلاه. ومن تلك الأمثلة نورد ما يلي: محمد أحمد البرير، الذي كان مصدِّراً شهيراً للماشية، ومحمد أحمد سنهوري وهو ابن زعيم إدارة أهليَّة، وأبو العلا وعبد المنعم محمد، وهما كانا من المصريين المهاجرين اللذين اشتهرا بالتجارة. كل هذه المشاريع الزراعيَّة، التي كانت تستخدم الطلمبات في الري، والأنشطة التجاريَّة، كانت متمركزة في المركز والمديريات الشماليَّة، مما تسبَّب في مشكل التنمية غير المتوازية في السُّودان لاحقاً، وبات أحد العناصر الرئيسة في مشكل الحرب الأهليَّة في البلاد في سنوات لاحقة.
ومن أمثلة استغلال آل المهدي أيضاً للسُّودانيين البسطاء نورد ما يلي. كان هناك منجم لاستخراج الذهب، والذي أخذ يضخ المعدن النفيس خلال العهد الاستعماري، واستمرَّ في الإنتاج حتى العام 1963م، وكان ذلكم المنجم مملوكاً لعبد الله الفاضل المهدي وتاجر إيطالي. فإذا بهذا المنجم يتواجد في وداي حلفا في منطقة طويشة؛ ثمَّ إذا بالكاد لا أحداً بات يعرف متى بدأ العمل في هذا المنجم، والذي كان يستخدم 150 عاملاً قبل أن تغمره مياه النيل بعد إنشاء السد العالي في مصر العام 1963م. والجدير بالذكر أنَّه كان يتم استخراج الذهب من التلال في المنطقة باستخدام الطرق البدائيَّة، وبواسطة العمل اليدوي في الغالب الأعم. أما المراحل النهائيَّة لاستخلاص الذهب من التراب فكان يقوم بها الإيطاليُّون وحدهم لا شريك لهم، وذلك حتى لحظة اكتمال عمليَّة استخراج الذهب. إزاء ذلك لم يكد يستطيع أي عامل أن يعرف كميَّة الذهب المنتجة، ثمَّ كان لا يتم تسديد الأجور للعاملين نقداً، بل كان عليهم أن يشتروا احتياجاتم اليوميَّة بالدَّين من دكان تمَّ بناؤه بواسطة صاحبي المشروع، وفي نهاية كل شهر كان العمال يجدون أنفسهم مديونين لصاحب الدكان. وكذلك احتكر صاحبا المنجم الأنشطة التجاريَّة في القريَّة إيَّاها، علاوة على أنَّهما كانا يمثِّلان المستخدِم (بكسر الدَّال) الوحيد للقوى العاملة في القرية ذاتها.
مهما يكن من شأن، كذلك كانت إزمي وزوجها يختلفان – أي يتردَّدان – إلى بيت زعيم طائفة الختميَّة السيِّد علي الميرغني، والذي رفض مقابلتهما في بادئ الأمر، ولكنه قبل باستقبالهما في نهاية الأمر، ومن بعد أن أخذهما إليه في أولى زيارتهما إليه ميرغني حمزة. والجدير بالذكر أنَّ السيَّد علي الميرغني كان قد ترعرع في مصر. ففي العام 1883م حينما أخذت القوات المهديَّة تهدِّد كسلا هربت به مربِّيته السُّودانيَّة وهو ما زال يافعاً إلى مصر، حيث رعاه البريطانيُّون، ووضعوه في كفالة أو تحت رعاية الرائد (الفريق لاحقاً) ريغينالد وينغيت. كانت أسرة الميرغني وأشياعه من ألدَّ المعارضين للمهدي، ومن ثمَّ باتوا أصدقاءً مخلصين للبريطانيين. ثمَّ إنَّ المساعدة التي قدَّمها آل الميرغني وعملاؤهم للجيش الغازي قد جلعت أمر إعادة استعمار السُّودان ممكناً، بينما كان الرِّجال السُّودانيُّون الأشاوس يقاومون الغزو الاستعماري، ويموتون في ساحات الوغى في كسلا ودنقلا وعطبرة وكرري وأم دبيكرات.
مهما يكن من أمر، فقد كان السيِّد علي الميرغني رجل بريطانيا الأول حتى تشرين الأوَّل (أكتوبر) 1946م لحظة توقيع بروتوكول صدقي-بيفين، وبعدئذٍ قلبت بريطانيا ظهرها على السيِّد الميرغني، ومالت إلى السيِّد عبد الرحمن المهدي كرجل بريطانيا في السُّودان. ومن هنا نستطيع أن ندرك لِمَ أمسى الميرغني ساخطاً على البريطانيين، حتى كاد لا يستقبل إزمي وزوجها جراهام توماس في بادئ الأمر. بادئ ذي بدء، لم يكن الميرغني نصير المصريين، ولكن الأحداث السياسيَّة هي التي دفعته دفعاً إلى موالاة المصريين. ففي سبيل التودُّد إلى البريطانيين بعث الميرغني بابنيه محمد عثمان الميرغني (17 عاماً) وأخيه أحمد الميرغني (12 عاماً) لتناول طعام العشاء مع إزمي وزوجها، وأحضرهما إلى هذه المأدبة ميرغني حمزة ووكيل السيِّد علي الميرغني المدعو موسى. إذ علَّم الميرغني ابنيه تعليماً خاصاً بواسطة معلِّمين خاصين، ولم يسمح لهما بالاختلاط مع الأولاد الآخرين الذين هم في سنيهما، وكان هذا خطأً خطيراً، حيث تربَّى الولدان بعيدين كل البعد عن المجتمع السُّوداني. وما يؤلم حقاً أنَّه لم يكن يسمح لهما حتى بزيارة الأسر السُّودانيَّة أو البريطانيَّة، وقد سمح لهما بمغادرة المنزل مرَّة واحدة فقط، وذلك للسَّفر إلى مصر لإجراء فحوص طبيَّة والعلاج. وقد ذكرت إزمي في مذكِّراتها بأنَّ الولد الكبير – أي محمد عثمان – كان ذكيَّاً مولعاً بفن التَّصوير، ويتحدَّث الإنكليزيَّة بطلاقة، بينما كان أحمد خجولاً في أشد ما يكون الخجل، وأسعد نفسه بالجلوس مسروراً متبسِّماً أثناء تجاذب أطراف الحديث.
ثمَّ كانت أندية العاصمة ومجالسها تعج بالأفنديَّة الذين كان لهم شأن وشأو عظيمين في ذلكم الحين من الزمان؛ نذكر من أولئك الأفنديَّة عبد الرحمن عبدون، الذي كان يشغل منصب وزير بوزارة الرَّي، وداؤد الخليفة الذي كان يعمل مفوَّضاً بمنطقة سنَّار، وعبد الله بك خليل، ومحمد صالح الشنقيطي، ومحمد علي شوقي، وصديق عبد الرحمن المهدي.
ومن بعد، تمضي السيدة إزمي في وصفها لما رأت عيناها في زيارتها ورفيقاتها الخوَّاجيات إلى جنوب السُّودان وتقول بشيء من الازدراء شديد، وهي تصف النِّساء الجنوبيَّات اللائي حضرن لاستقبالهن، وطفقت تقول: "لقد شكلن صوراً غريبة متنافرة، وبالكاد لم يكن بشراً، وذلك بنظراتهن غير المحبَّبة، وكانت شفاهن السفلى مخرومة وبها قطع زجاجيَّة مغروسة في فجواتها، وكنَّ يلوِّحن بأذيال الخيل في وجوهنا. أما الفتية فكانوا يلوِّحون بحرابهم المخيفة تحت أنوفنا. كان الهيط والميط يكادان أن يفقدنا السَّمع في الحين الذي كانوا فيه يتغنون بأغاني الاستفبال، والتي كانت تتخلَّلها زغاريد ذات نبرات عالية شبيهة بصفارة الإنذار.
وما هي إلا لحظات حتى برز طفل صغير متجوِّلاً ليرى البنات "الخوَّاجيات"، وكان الطفل لا يملك أنفاً سوى حفرة غائرة في مكانها، حيث كان يمكن أن تكون الأنف باعتبار ما يكون. وقد قفزت إزمي رجماً بالغيب بأنَّ السَّبب وراء ذلك الأنف المفقودة قد يكون من جراء مرض تناسلي. علاوة على الرَّاقصات، كان هذا المشهد مرعباً، ولكن الفتيات الخوَّاجيات قبلن الوضع بهدوء، وأظهرنَّ اللُّعب. أخذت الرَّاقصات يغدن ويرحن مبتهجات وجريئات أكثر فأكثر، وشرعن يقتربن منَّا رويداً رويداً، حتى طغت علينا رائحتهن المنفرة. كانت هذه الرَّاقصات كلهن أجمعهن أكتعهن من الكهول، ومنفردات كنَّ، ثم لم يكن لديهن أي اجتذاب جسدي."
وتواصل إزمي في وصفها للجنوبيَّات بنفس الاستخفاف والاحتقار قائلة: "وبعد تناول وجبة الغذاء المكوَّنة من الجُبن والسجوك والموز والأناناس الطازج سرنا نحو القرية، وأخذ الذين لم تكن لهم الرَّغبة في إشباع رغباتهم بالنَّظر إلى العربة، التي تركناها تحت حراسة الشرطة، يمشون خلفنا. واستمرَّت الساحرات يرقصن رقصتهن الحلزونيَّة حولنا فيما كنا سائرين. إذ لم تكن هذه السويعة هي لحظة الرُّعب الأخير. فحين اقتربنا من القرية، ظهر رجل قزم ذو خصية واحدة، متدلِّية بالقرب من ركبته ومنتفخة ككرة القدم، وشرع يراوغ حولنا. كان هذا المنظر مقززاً في أشدَّ ما يكون التقزُّز أكثر من ذاك الطفل عديم الأنف."
كانت تلك المنطقة التي تقع في جنوب البلاد هي قرية ليريا، وهي التي كانت تتبع لسلطان قبيل لوكويا. فبينما كانت إزمي ورفقاؤها جالسين على الكراسي أمام بيت الضيافة في انتظار السلطان الذي كان قد مضى لقضاء بعض حوائجه إذا الأطفال يخرجون خجلاً، ويصعدون الصخور لمشاهدة الزوَّار البيض، ثمَّ إذا الرَّاقصات يشققن طريقهن بين تلكم الصخور. ومن هنا بدا التخمين وسوء الظن يعشعشان في مخيلة هذه الآنسة الويلزيَّة المتعجرفة، وتصف هذه الرَّاقصات بالسكارى فقط لأنَّهن كنَّ مرحات ويضحكن بهستيريا على كل شيء. ففيما تعوَّدت العذاري الجنوبيَّات أن يأتين باللَّعب والمرح في ذات اليوم، يسبقن حيناً، ويستصرخن حيناً آخر، ويرسلن أصواتهنَّ الحلوة بالأغاني العذاب من حين إلى حين، وما امتازن به من براءة النفوس وصفاء الضمائر ونقاء القلوب، إذا شخصيَّة إزمي تعتبر هذه الأصوات مرتاعة وملتاعة.
على أيٍّ، فإنَّ هذه التصاوير التي أقدمت عليها السيِّدة إزمي، وهي تعرض علينا من المناظر هذه الصُّور والأشكال بشيء من الاستهتار والاحتقار شديد، ثمَّ تسوء وتسرف في السوء، تفوح بريح عنصريَّة عاتية، لأنَّها تغضب الأتراب وتثير الاكتئاب، ومعبِّرة عن عقليَّة الرجل الأبيض الاستعماري المتعجرف في حينه، وفي كثرٍ من الأحايين، ولم تتوار إزمي في إخفائها، أو التواضع في قولها. فلا غرابة إذ أنَّ الأفعى كلما كانت ليِّنة وناعمة الملمس لا أمان لها، فهي تحمل السُّم الزعاف بين أنيابها، والحكمة تتطلَّب الحذر وأخذ الحيطة وعدم الاغترار بما ترى، لأنَّ بعض النَّاس يشبه الأفاعي حيث تلين ملامستهم، وعندما تنجلي حقيقتهم يصبحون أفاعي سامة، كما أنشد الشَّاعر عنترة بن شدَّاد في قصيدته "لا يعرف الحقد من تعلو به الرتب":
إنَّ الأفاعي وإن لانت ملامستها
عند التقلُّب في أنيابها العطبُ
مهما يكن من أمر، فمن خلال توتُّرات السيِّدة إزمي وعلائقها الاجتماعيَّة ندرك أنَّ الاستعماريين أورثوا نخبة الشمال النيلي السُّلطة في السُّودان، ويمكن عزو ذلك إلى ثلاثة أسباب: أولاً، إنَّهم نالوا قسطاً من العلم والتدريب المهني ليرثوا الحكم من بعدهم، وقد يسَّرت لهم السلطات الاستعماريَّة ما ابتغوا من السبل من أجل بلوغ هذا المرام. ثانياً، إنَّ شعوب السُّودان الأصلاء كانت لهم حميَّة وطنيَّة مستكثرة، وقاومت الاستعمار حتى في أعوامه الأخيرة، مما جعل البريطانيين يتوجَّسون منها خيفة، لأنَّها في حال استلامها السُّلطة لسوف تضيع مصالحهم الاقتصاديَّة والسِّياسيَّة في السُّودان المستقل. وقد تيقنوا من ذلك من خلال الشعارات الوطنيَّة التي رفعها قادة اللواء الأبيض بقيادة الملازم علي عبد الطيف العام 1924م، ومنها "السُّودان للسُّودانيين"، و"المطالب المشروعة للشعب السُّوداني الكريم" وغيرهما. ثالثاً، لقد كان هناك العامل العنصري حيث ارتأى البريطانيُّون أنَّ هؤلاء الشماليين المستعربين يمكن أن يديروا البلاد حسبما درَّبوهم على ذلك، ثمَّ إنَّهم لسوف يراعون ولا يمانعون في مصالح الاستعمار السِّياسيَّة والتجاريَّة وغيرها. وهناك ثمة أدلَّة على هذه الدواعي العنصريَّة، والتي تمظهرت في عدم دفع الأجر المتساوي للعمل المتساوي. إذ كان رجل الشرطة العربي في جبال النُّوبة يتلقى راتباً أعلى من ندِّه النُّوبوي، وكان الشيوخ في الشمال يتلقون رواتباً أعلى من أندادهم في الجنوب، مما دفع السلطان دينق مجوك أن يطالب بضم منطقة أبيي إلى كردفان حتى يحظى بمخصَّصات أهل الشمال من هذه الرواتب العالية والعلاوات وغيرها، ولم يدر بخلد السلطان مجوك بأنَّ المنطقة لسوف تكون شوكة في العلاقات السِّياسيَّة بين الشمال والجنوب في يومٍ ما.