عندما يفقد المناضل الثوري القدرة على الحلم، يفقد أعز ما يملك، ويضطر للنزوع نحو أفق الإصلاح المحدود. والخبر: -
(1) قد أدبر عام على انفجار بركان الثورة السودانية الثالثة، التي أطاحت بأحد أبشع نظم الاستبداد العقائدي في المنطقة، ولا تزال العديد من الصعوبات والعقبات تعترض طريق الوصول إلى الغايات التي ابتغاها الشعب السوداني من ثورته؛ ولكن رغم ضخامة التحديات، وعظم المعضلات التي تنتظر حلولاً ناجعةً وسريعة، إلاّ أن ما أحدثته الثورة من تحولات نوعية عميقة في الوعي العام سيسهم ايجابا في تسهيل هذه المهمة العسيرة بما لانتشار الوعي من أهمية بالغة وتأثير كبير على صياغة وتحديد مستقبل الصراع الاجتماعي والفكري والسياسي في السودان، بعد أن كشف الثورة وعرت أهداف القوى السياسية المختلفة، وحددت بوضوح نقاط قوتها، واوجه ضعفها، ووزن وأهمية كل منها؛ بما أحدثت من فرز عميق وسط طبقات المجتمع، وبما اعطت من تفسير للعلاقات المتغيرة بينها، في مجتمع كانت تسوده روح التكافل قبل أن تصيبه لعنة نظام الاستبداد والتمكين ، لقد أحدثت معارك المخاض الثوري العسير بحق فرزًا اجتماعيًّا وسياسيًّا وفكريا شاملاً غير مسبوق في المجتمع السوداني.
(2) كان للاعتصام أمام مباني القيادة العامة للجيش دورٌ مهمٌّ في توفير فرصة تاريخية أمام الجماهير؛ لجني معارف وخبرات نضالية عظيمة، والرقي بوعيها لمناسيب عالية، تؤهلها لتخطي عقبات وسلبيات التجارب الثورية السابقة، هذا الوعي المكتسب دعم قدرتها على تفكيك نظام التمكين المستبد، وسلطته الباغية التي اختلفت عن مثيلتها من سلطات انقلابية دكتاتورية، حيث أتت مدججة بالسلاح والعنف، ومحصنة بمشروع إقصائي تحرسه جماعات الهوس الديني التي تواثقت واتفقت بجميع تياراتها على أن سلطة الجبهة القومية الإسلامية تمثل قمة طموحاتها في بناء وإرساء دعائم إمارة (عربوبية-إسلاموية) في السودان، لا مكان فيها لمخالف بالرأي أو المعتقد، وبهذا أسست باكرا لجرم فصل جنوب السودان الزنجي متعدد الديانات، حتى وإن كان هذا الفصل الجائر على حساب مسلمي الجنوب، وأواصر الدم، والرحم التي ربطت بين إنسانه وبقية أهل السودان. ولم تكتف سلطة الاسلام السياسي بفداحة هذا الجرم وحده؛ بل سعت سعيا محموما بإشعالها الحروب في عدة أقاليم سودانية أخرى لتصفية العنصر الزنجي، وتوريث أرضه لقبائل الرحل العربية المستجلبة من صحاري دول الجوار، كل ذلك تنفيذٌ لأجندة مشروع باغٍ عُرف بـ: (المشروع الحضاري).
(3) سنوات نضال الشعب السوداني الطويلة ضد نظام الاستبداد، دفعت أوسع شريحة من الشباب لولوج معترك مقاومته والتصدي لعسفه، فشهد ربع القرن الأخير ظهور تنظيمات شبابية عدة تصدرت المشهد المعارض، كما برزت قيادات شابة في العديد من الأحزاب السياسية قادت النضال في الشارع، ومن حرمات الجامعات السودانية، وقد امتدت جولات الكفاح الجسور طوال ربع قرن دفعت فيه شريحة الشباب أكثر من غيرها أثمانًا باهظة من الدماء والأرواح. كشفت هذه السنواتُ العجاف للجماهير بجلاء طبيعةَ الصراع؛ مما ساعدها على دقّة تصنيف القوى السياسية في السلطة والمعارضة، واتّخاذ مواقف أكثر تحديدًا من قضية الثورة، كل هذه العوامل، بالإضافة لانتشار وسائل التعليم، وتوفر بنوك المعلومات الإلكترونية، أدَّى لاكْتِناز الوعي الشعبي الحقيقي، وضمور الوعي النخبوي الزائف، الذي استندت عليه جماعات الإسلام السياسي، ونخب تيارات اليمين الإصلاحية البرجوازية.
(4) استماتت قوى تزييف الوعي اليمينية في التصدي لمد الحراك الثوري محاولة اجهاضه عبر منصات ومنابر السلطة الإعلامية المختلفة، التي إطلاقة العقال لأوهام تنظيرات نخب اليمين المحشوة بفزاعات التخويف من التغيير الثوري، محاولة جهد قناعاتها تضخيم محاسن التغيير الناعم، إلّا أن هذا الجهد المدعوم من جهات أجنبية معروفة والمصروف عليه بسخاء غدا كسراب بقيعة مع اكتمال بدر الوعي الجماهيري الذي ظلت تبذله -رغم ضيق إمكانياتها- تيارات اليسار ؛ مما قاد في نهاية الشوط لنضوج الشروط الذاتية والموضوعية للثورة.
(5) لقد أسهمت تيارات اليمين التقليدي والحداثوي بترددها ومواقفها الرمادية من قضية الثورة في توسعة الطريق أمام قوى اليسار الثوري لتتمدد جماهيريا، وتحتل مواقع متقدمة في الضمير الجمعي للأجيال الجديدة، والقوى الشبابية، حتى أوساط غير المنتمية الرافضة بدواعي وطنية لنظام الاستبداد ، حيث لم تجد أمامها سوى تيار اليسار يتقدَّم الصفوف، ويقدِّم الوعي؛ ويقاسمها دون غيره وأوجاع مخاض التغيير، لتنهل من معينه، حتى غدت تنطق بلسانه، وتهتف بشعاراته، وتلهج بأشعاره، وقد اكتملت قناعاتها في حتمية التغيير الثوري الهادف إلى إرساء دعائم الدولة المدنية دون وصاية، أو غواية من أحد.
(6) قد كشفت جولات النضال العاصف ضد نظام الاستبداد الدور الرائد لتيار اليسار الثوري الذي استعاد ألقه التاريخي، وكسب ثقة الطلائع الشبابية، واحترام الشارع السوداني، الذي ظل يشهد جولات تصديه لنظام الاستبداد، ويذكر ضمن ما يذكر من مواقف جسورة موكب الحزب الشيوعي بالعاصمة القومية في يناير 2018م الرافض إيجاز الموازنة العامة التي لم تراعي ظروف معاش الشرائح الاجتماعية الضعيفة. لقد مثل هذا الموكب الرافض لميزانية عام 2018م في نظر العديد من المحللين نقطة فارقة في تاريخ الحراك الثوري، حيث كسر حاجز الخوف، وحرر المارد من قمقمه، وأشعل فتيل مرجل الثورة السودانية الثالثة، وبالفعل وصل قطار الثورة؛ بعد أقل من عام؛ من تاريخ هذا الحدث الفارق؛ محطته الأخيرة؛ مشيع نظام الحركة الاسلامية؛ لمثواه الأخير؛ بمزبلة التاريخ، هكذا استطاعت قوى الثورة الشبابية من كافة الاتجاهات والمشارب الفكرية، بمشاركة واسناد؛ قوى اليسار؛ إنجاز التكليف الوطني، وتخطي عتبة التغيير، فاتحة الباب على مصرعيه أمام كافة الأحزاب السياسية والقوى الوطنية لاستكمال مهام إعادة تأسيس الدولة السودانية وفق ما يشتهي الشعب السوداني، تلبية لأشواقه في التحرر والانعتاق من عهد الانحطاط ودولة التمكين الفاسدة.
(7) لم يتجلَّ نصرُ أطروحة اليسار الذي دعا باكرا لإسقاط النظام وتفكيكه في اندلاع الثورة، واستجابة الشارع الواسعة لها ومشاركته النشطة فيها فقط؛ بل تجلى النصر أيضًا في إجبار قيادات أحزاب اليمين المعارضة؛ الداعمة لمشروع الهبوط الناعم؛ لتخلي عن مشروعها وأوهام المساومات؛ - ولو مؤقتا – والالتحاق بقطار الثورة؛ فمزاج الشارع السوداني؛ الذي بات على قناعة تامة من ضرورة التغيير الثوري، كان عاملا ضاغطًا؛ لا يسمح بتعطيل مسيرة الخلاص؛ ولا يقبل بأي مشاريع إصلاحية ناعمة كانت او غيرها لتعيد إنتاج الأزمة الوطنية المتفاقمة من جديد.
(8) نتيجة لهذا المزاج الثوري الذي سيطر على الشارع السوداني والجهد الجبار الذي بذله اليسار لحشد الجماهير خلف مشروع التغيير الجذري شهدت الساحة السياسية تحولَ دراماتيكي في خطاب قيادات أحزاب اليمين، التي كانت حتى مطلع فجر الثورة؛ تدعو لخيار خوض الانتخابات في 2020م، لتثوب تحت وطأة هذه الضغوطات لرشدها؛ وقد رأت الجماهير الثائرة تزحم الساحات؛ وتتدفق كالسيل في الشوارع؛ فتتخذ قرارها وتلتحق بقطار الثورة؛ وما تلبث أن تحتل العديد من تلك القيادات، صدارة المشهد وتحتكر منابر إعلامية الثورة؛ دون اعتراض، من القوى الثورية الأصيلة، التي ظلت على إيمانها بأهمية وحدة فصائل المعارضة حتى يتمكن الحراك الثوري من إنجاز مراحله، وتحقيق أهدافه بنجاح؛ في ظل الأزمة الوطنية الشاملة التي يتطلب حلها مشاركة فاعلة من جميع المكونات الوطنية.
(9) يرى كثيرٌ من محللي ومراقبي الشأن السياسي السوداني أن انحياز كثير من قيادات التيارات اليمينية المعارضة لمشروع التغيير الجذري الذي ظلت قوى اليسار تنادي به لم يكن عن قناعة؛ بل كان محض تكتيك مرحلي تطلبه مزاج الشارع الثائر في تلك المرحلة، حيث لم تعلن أي منها صراحة أو ضمنا عن اعتذارها من محاولة دفع الناس لخوض انتخابات 2020م التي كان النظام البائد ينوي قيامها وفق قوانينه المستبدة ولا حتى عن ما طرحت من خطاب وأفكار تزيف الوعي، وتشكك في إمكانيات الشعب السوداني وقدرته على إنجاز ثورة شعبية سلمية ثالثة بوسائل وآليات نضاله المجربة قبيل اندلاع ثورة 19 ديسمبر بوقت وجيز.
(10) وللحقيقة فهناك شواهد عديدة تدعم صحة هذا التحليل تمثلت في العداء السافر المستمر من بعد انتصار الثورة لخط الحزب الشيوعي، ومواقفه المبدئية، والذي تخطي مرحلة العداوة بالتصريحات لمحاولة التآمر عليه فعليا وإبعاده من تحالف قوى الحرية والتغيير، الذي هو عضو مؤسس فيه، الدعوة غير الرشيدة؛ لإبعاد الحزب الشيوعي؛ عن تحالف قوى الحرية والتغيير؛ قد طرحت علنًا في وسائل الإعلام؛ على لسان قيادات حزبية، ظلت مواقفها المعلنة حتى الساعة 25 من توقيت الثورة، تشكك في جدوى الثورة وإمكانية انتصارها؛ بل وتتسأل ساخرة في همز ولمز لزج عن (أين هي الجماهير؟!!) ولم ينحصر الأمر فقط في العداء غير المبرر للحزب الشيوعي والقوى الثورية؛ بل مضى أبعد من ذلك إلى محاولات الالتفاف على ميثاق تحالف قوى الحرية والتغيير، وعدم الالتزام ببنوده، وما قضية المحاصصة على المناصب ومعاركها المحتدمة اليوم ببعيدة عن الأذهان.
(11) وفي اعتقادي أن معضلة قيادات احزاب اليمين تقليدية كانت أو حداثوية، لم تكمن فقط في خطأ تقديراتها السياسية، وعطب مناهج تحليلها للواقع؛ بل كمنت أيضا في عدم تقبلها لحقيقة هزيمة مشروعها القائم على مبدأ مساومة النظام البائد. فعوضا عن مواجهة هذه الهزيمة والاعتراف بخطأ التقديرات، والشروع في البحث ومراجعة المناهج التي أنتجتها عمدت بخطل وعدم روية إلى تحميل قوى اليسار ذنبها، ودخلت في حالة من الإنكار المرضي لحقائق الواقع مما قادها مرة أخرى للوقوع بعد انتصار الثورة ؛ في نفس الخطأ من جديد، وهي تحاول إرجاع عقارب الساعة، بالعودة لممارسة نهج المساومات الذي رفضه الشعب، مما يدل على أنها لم تستوعب الدرس بعد، ولا تزال تستخف بالجماهير وبوعيها الثوري؛ ولعل هذا واحد من الاسباب التي دفعت الحزب الشيوعي مؤخرا لمراجعة قراره السابق بعدم المشاركة في السلطة الانتقالية على المستويات الثالثة والمضي للمشاركة في السلطة التشريعية.
(12) انتشار الوعي المستمد من معارك النضال ضد نظام الحركة الاسلامية المستبد، ومن تراكم التجارب الثورية السودانية الماضية، قد قاد خطى الحراك الثوري للنصر ، وألجم ألسن النخب التي جزمت أطروحاتها المتعجلة باستحالة تكرار الثورة الشعبية بالأدوات السلمية المجربة، لقد كشف الوعي الذي بلورته الجماهير خلال تلك المعارك التي استمرت قرابة الثلاث عقود، حقيقة قصر نظر العديد من نخب اليمين التي تتصدر المشهد النخبوي السوداني، وابانت كذلك مدى عطب مناهج تحاليلها المثالية، هذا من جهة ومن جهة أخرى أعاد انتشار الوعي التأكيد على صحة منهج التحليل المادي التاريخي الذي التزمته قوى اليسار وأسست عليه مشروعها للتغيير؛ ليثبت هذه المنهج مرة أخرى، للتاريخ ولمن فارقوه قانطين، خطلَ التعجل، وبؤس قصر النفس النضالي واِنبهام الرؤية الفلسفية.