قبل الخروج البريطاني من الإتحاد الأوروبي بفترة ليست بالقصيرة، ظلت الحكومة البريطانية تعد العدة لإستراتيجية جديدة لمرحلة ما بعد الخروج بما يمكن أن يسهم في تعزيز علاقاتها الاقتصادية والتجارية مع العالم. ويبدو أن القارة الإفريقية، والتي وصفها رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون بـشريك الاستثمار المفضل، كانت في قلب هذه الإستراتيجية.
ويأتي توجه بريطانيا إلى أفريقيا بمثابة عودة ضرورية بعد تراجع الدور البريطاني في القارة عقب استقلال بلدانها. صحيح، بريطانيا أصلا لم تجفف تواجدها في القارة، لكنه ظل تواجدا محدودا، نسبيا، مقارنة بالتواجد المتزايد لفرنسا والصين والهند وروسيا. ولقد شهدنا خلال العقدين الأخيرين تنافسا محموما تجاه القارة الإفريقية من أجل الحصول على ميزة تفضيلية للوصول إلى أسواقها ومواردها، بما في ذلك الأرض، أو من أجل ترسيخ نفوذ سياسي، عن طريق توظيف الأدوات الاقتصادية والعسكرية والقوى الناعمة. ولعل هذا التنافس يفسر مبادرات كل من الصين والهند وروسيا، ومؤخرا بريطانيا، في استضافة لقاءات قمة مع زعماء القارة الإفريقية، وكذلك جولات قادة الولايات المتحدة في عدد كبير من البلدان الإفريقية، بهدف ترسيخ وتعزيز التواجد السياسي والاقتصادي لهذه الدول مع القارة. بالطبع، يمكن لبعضنا الارتياب في هذا التوجه من جهة أن التاريخ القديم، قبل خمسة قرون، يحدثنا عن تجارة تصدير العبيد إلى الغرب، والتاريخ الحديث يحدثنا عن سياسات فرض التبعية، وسياسات استنزاف القارة الأغنى في العالم، أي سرقة مواردها الطبيعية، وكذلك تفريغها من أفضل كفاءاتها وأكثرهم تعليما وموهبة، في علوم الطب والإلكترونيات والهندسة والفنون والإدارة والبحث، والأدب…الخ، يجذبهم الغرب بتوفير ظروف معيشية واعدة وفرص ذهبية لتطوير الذات، تاركين وراءهم فراغا يصعب تعويضه. ونحن كثيرا ما نشير إلى تعثر مشروع النهضة الإفريقية في ظل تمكن أنظمة التبعية في القارة عبر الاستبداد والطغيان وما أفرزته من صراعات عرقية دموية، وتجاهل لأولويات التنمية، وتفشي الفقر والجوع والمرض والفساد، والتواطؤ مع سارقي ثروات القارة، وتغذية البيئة الطاردة لشباب أفريقيا وأدمغتها.
وإذا كانت الذهنية الإفريقية لا تستبطن، تاريخيا، حالة الارتياب هذه تجاه الصين وروسيا والهند، فإنها حتما تراودها الحالة تجاه بريطانيا وفرنسا وأمريكا من واقع تعاملهم، التاريخي والآني، مع القارة. ولكن، وكما كتبت شيماء البكش، الباحثة في المركز المصري للدراسات بتاريخ 21 يناير/كانون الثاني في صحيفة المركز الإلكترونية، فإن «التدافع الحالي تجاه إفريقيا لا يُنظر إليه بذات عين الريبة التي كانت في السابق، أو بعبارة أخرى، لم يتم الحديث علنية عن أن القمم التي يتم عقدها مع القارة الإفريقية باعتبارها من أجل استغلال ونهب الموارد، وإن كانت تلك التخوفات لازالت حاضرة.
كما أن إضفاء صيغة الجامعية على شكل هذا التعاون، ربما ينزع عنه سوء النية فيما يخص عدم التوازن لصالح أحد الطرفين في العلاقات الثنائية. لكن الأهم من ذلك، هو أن أفريقيا اليوم أصبحت حاضرة في المشهد الدولي وفارضة نفسها على خارطة الاقتصاد العالمي، بطريقة تفرض على الأطراف الأخرى إعادة النظر في توجهاتها، وشكل تعاونها، بما يحقق مصلحة متكافئة للطرفين، دون استغلال موارد القارة كما كان يحدث في السابق». هذا الواقع الإفريقي الجديد جاء ثمرة لنضالات شعوب القارة ضد استغلالها، وجسدته خطة التنمية الإفريقية 2063، والتي هي أيضا من ثمرات هذه النضالات، بما يسمح بإزالة، أو على الأقل تخفيف حدة، الشكوك في نوايا الطرف الآخر، والتوجه نحو تبيان الفرص الحقيقية، التي تخدم أجندات التنمية الإفريقية والوطنية وتعود على شعوب القارة بالنفع.
البريكست سيوفر لبريطانيا مزيدا من حرية الحركة في التعامل مع إفريقيا بعيدا عن قيود الشروط والأجندات السياسية التي تحكم الاتفاقات الاقتصادية بين القارة والإتحاد الأوروبي، والتي أعاقت التعاون الثنائي بين الدول الأفريقية وكثير من دول أوربا. كما أنه سيشعل تنافسا بين بريطانيا والاتحاد الأوروبي، خاصة ألمانيا وفرنسا، للحصول على مقعد أكبر على الطاولة الإفريقية. وحاليا تتداول بروكسل حول انشاء اتفاقيات جديدة بين الإتحاد الأوروبي وأفريقيا تحقق مصالح الطرفين، لاسيما أن دور الاتحاد الأفريقي يتعاظم بوصفه قوة عولمية جديدة خاصة بعد انشائه «منطقة التجارة الحرة القارية.
وعلى خلفية التوجه البريطاني الجديد تجاه إفريقيا وتنافسها مع الإتحاد الأوروبي، ترتفع تكلفة عودتها إلى القارة، إذ أن عليها تقديم أفضل البدائل للشركاء الأفارقة على نحو يجعلها شريك موثوق فيه وأكثر جاذبيه من نظرائها، وعلى نحو يزيل أو يحسن من تلك الصورة الذهنية السالبة تجاهها والموروثة من التاريخ الاستعماري. مثلا، يتعين على بريطانيا رفع نسبة مشاركتها في عمليات حفظ وبناء السلام في إفريقيا، فضلاعن تقديم الدعم والاستثمار في المجالات التنموية والاقتصادية، خاصة مجالات البنية التحتية والتعاون التقني والتعليمي والثقافي، وأيضا تقديم التسهيلات في مجال الهجرة للأفارقة.
السودان، وهو يخطو على مهل مستظلا بظلال ثورة ديسمبر/كانون الأول المجيدة، يحتاج لرسم إستراتيجية جديدة لتحالفات ثنائية قوية، خارج الأطر التقليدية القديمة، تحقق جذب المزيد من الاستثمارات الأوروبية، مستفيدا من حالة التنافس بين الإتحاد الأوروبي وبريطانيا ما بعد البريكست، بتوجهها الجديد تجاه ىإفريقيا. وأعتقد أن الظروف الجديدة، سودان الثورة وبريطانيا البريكست، يمكن أن توفر فرصة ذهبية لبريطانيا للاستثمارات في السودان وإعادة بناء علاقات تجارية جديدة لصالح البلدين. وأعتقد أن بريطانيا يمكنها العمل بقوة على دفع عملية السلام الجارية الآن في السودان، خاصة وأن لديها علاقات متميزة مع بعض الفاعلين الخارجيين الذين لديهم صلات قوية مع بعض أطراف هذه العملية، كما يمكنها مضاعفة أنشطة وكالة التنمية الدولية البريطانية في السودان في دعم الحكومة الانتقالية، ودعم مشروعات المرحلة الانتقالية الحالية، في مجال الاستثمار ومجال بناء هياكل الحكم الانتقالي، مما سيمهد الطريق لشراكة ذكية بين البلدين في المستقبل القريب.
نقلا عن القدس العربي