المقاومة الوطنيَّة في الأمصار (1 من 4)
shurkiano@yahoo.co.uk
التأريخ الرِّيفي في السُّودان لم يجد حظه من التعبير والنَّشر في الصحافة القوميَّة، ولا في الكتاب المدرسي، بل قد احتمله البعض شفاهة بالازدراء والاستعلاء. ففي بريطانيا – على سبيل المثال – نجد صفوفاً وصنوفاً من المجلَّدات الضخمة المغلَّفة بالجلد، والتي جمعها وحصرها الآثاريُّون في العهد الفيكتوري (نسبة إلى الملكة فيكتوريا) مكتظة في رفوف المكتبات العامة، ودهاليز المتاحف والرواق، وصالات العروض الفنيَّة في المحافظات والمقاطعات. ففي حال الاعتناء بالتأريخ الرِّيفي، والتوغل فيه يمسي الأمر تأريخاً وطنيَّاً، وذلك لأنَّه سوف يفصح عن هُويَّات أهالي الأقاليم وقيمهم الوطنيَّة، وولاءاتهم في سبيل الدِّفاع عن العرض والأرض في وجه الغزاة الأجانب. وفي هذا المنحى من مناحي التأريخ نستطيع أن نهتدي إلى "النسبيَّة الثقافيَّة"، والتي تعني فهم معتقدات وقيم المجتمع في نصوص ثقافته، وذلك دون الحكم عليه من خلال بعض الرؤى الخارجيَّة. وفوق ذلك، نستطيع أن نقول أيضاً إنَّ "النسبيَّة الثقافيَّة" لقادرة على إقناع الأغيار لتقبُّل نماذج الحياة، التي ابتدعتها الإنسانيَّة، في سبيل التساكن والتعايش على قدم المساواة. ولعلَّ ما قد يراه الغزاة المحتلون بعيون خارجيَّة، ويعتبروه عملاً بربريَّاً، قد اعتاد عليه الأهالي باعتباره فعلاً توافقوا عليه، وأسلوباً اتَّخذوه منشطاً في حيواتهم الاجتماعيَّة والثقافيَّة التي يحييونها كالبسالة والزود عن الديار ضد أي كائن ما كان.
إزاء ذلك، قد لا يكون أحد قد سمع بمحمد الحاج سامبو لأنَّ التأريخ السُّوداني الرَّسمي المنقوص أو الشَّعبي الشفاهي قد سكت عنه، ولم يشر إليه في شيء. إذاً، من ذا الذي يكون سامبو هذا؟ محمد الحاج سامبو هو كان فقيراً (أو فقيهاً) من برنو، وهو الذي حاول الاستيلاء على كسلا في 28 كانون الأوَّل (ديسمبر) 1918م بمعاونة 30-40 رجلاً، كان جلّهم من إثنيَّة الهدندوة والفلاتة. كانت الثورة تختمر في نفس سامبو ضد الحكومة منذ أمد مديد، وقد وصفته السلطات الاستعماريَّة بأنَّه كان يتحدَّث بتطرُّف ضد الاستعمار، ثمَّ كان يحمل شعوراً عدائيَّاً ضد المسيحيَّة. وقد قيل إنَّه عانى من نوبات وهلوسة ردحاً من الزمان، إلا أنَّ السلطات الاستعماريَّة لم تعره انتباهاً، ولم تظن في أمره شيئاً، بل اعتبرته مخبولاً غير مؤذٍ. وفي تلك الأثناء فكَّر سامبو وقدَّر أن يستهل تمرُّده بالاستيلاء على كسلا لينطلق منها للاستيلاء على القضارف ثمَّ الخرطوم. ومن ثمَّ جمع عدداً من أتباعه، وأعدَّ العدة لذلك.
وحينما وصل جمعهم مدينة كسلا، وتجمَّعوا في خلوة إدريس داؤود، انقسموا إلى مجموعتين: تحركَّت المجموعة الأولى نحو ميدان المسجد استعداداً للهجوم على الظبطيَّة (مكاتب الحكومة). أما المجموعة الثَّانية، والتي كانت بنفس حجم الأولى، فكان عليها أن تغير على الحامية. إذ جرحت المجموعة الأولى ثلاثة من الشرطة، ونجا المفتش طومسون بأعجوبة، لأنَّه كان يرتدي جلباباً أبيض، وحسبه المهاجمون بأنَّه أحد الحرَّاس، وليس المفتش الإنكليزي الذي يرتدي دوماً أوجامة آناء الليل. أما المجموعة الثانية، والتي كانت تحت قيادة بلال محمد، وهو الذي كان يتحدَّر من كردفان، فقد أغارت على الحامية التي كان بها الجنود المصريُّون. وبرغم من أنَّ الغائرين كانوا مسلَّحين فقط بالحراب والسيوف، إلا أنَّهم استطاعوا أن يتغلَّبوا على الحرس، وأحدثوا ذعراً وسط الجنود المصريين. إذ تمَّ قتل 13 ضابط صف وجُرح عشرين آخرين قبل أن يلوذ المهاجمون بالفرار إلى الغابة. إثر هذا الانتصار قام الغائرون بمهاجمة قيادة العرب الشرقيَّة، ولكن تمَّ صدهم بخسائر بلغت ثمانية قتلى وأربعة جرحى.
وفي الصباح الباكر قامت تجريدة من عساكر القيادة الشرقيَّة والشرطة بتقفي أثر الغائرين حتى لحقت بسامبو واثنين من أتباعه، وحينما رفضوا الاستسلام، أُطلق عليهم النَّار. وبعدئذٍ تمَّ إنقاذ العسكر المصريين الذين فروا واختبوا في الغابة؛ إذ تمَّ تشكيل لجنة للتحقيق في تصرُّف الضباط والجنود الذين هجروا مواقعهم، وتمَّ إرسالهم إلى القيادة في الخرطوم لمعاقبتهم.
هكذا انتهت انتفاضة محمد الحاج سامبو، والذي لم يسمع بها أحد من أهل السُّودان من أجيال اليوم، مما بات الأمر يثير كثراً من التساؤلات. فهل بات العامل الإثني لقائد المحاولة أمراً لإهمال دوره في التأريخ السُّوداني عند هؤلاء الذين سطَّروا صفحات ذلكم التأريخ أم أنَّ هناك ثمة عوامل أخرى حالت دون الإقرار بالدور العسكري الذي قام به مع مجموعته؟ إذ لم يكن عصيانه أمراً سهلاً، وبخاصة قد نتج عن ذلك قتلى من الطرفين، وأحدث ارتباكاً وسط السلطات الاستعماريَّة في الأسلوب الذي كانت تنظر بها إلى سامبو، والكيفيَّة التي تمَّ التعاطي مع الحدث بعد تفجُّره.
بيد أنَّ العصيان الذي أخذ هيطاً ومرجاً شديدين حتى يومنا هذا، حيث أمسى مادة دراسيَّة، وظهر في الشِّعر الغنائي، والفلوكلور الشعبي، هو ذلكم العصيان المسلَّح الذي قام به عبد القادر ود حبوبة في منطقة الحلاوين بالجزيرة. كان عبد القادر من جنود المهديَّة، الذي تمَّ العفو عنه وبعض أفراد أسرته حسب العفو العام الذي أصدرته السلطات البريطانيَّة-المصريَّة بعد واقعة كرري في 2 أيلول (سبتمبر) 1898م. فمنذ عدة سنين كان عبد القادر يقوم سرَّاً ببذر بذور المعارضة ضد الحكومة الاستعماريَّة، وأمسى يترقَّب الفرصة السانحة لقيادة العصيان المسلَّح، برغم من أنَّ ذلك السَّعي لم يكن معلوماً لدي السلطات الحكوميَّة إلا أخيراً. وقد بدا له أنَّه قد حان الأوان حين عيَّنت الحكومة مفوَّضاً للتحقق من ملكيَّة الأراضي في منطقة الجزيرة. إذ كان عبد القادر في شجار دائم مع عمه الذي كان عمدة لمجموعة من القرى، وكان يعتقد بأنَّ عمه لسوف يستغل نفوذه مع السلطات الحكوميَّة للحصول على بعض الأراضي الذي كان هو يرغب في امتلاكها لنفسه.
وفي نهاية نيسان (أبريل) 1908م، وصلت إلى مسامع نائب مفتش رفاعة، كولِن سكوت-مونكريف، أخبار بأنَّ عبد القادر قد جمع أربعين شخصاً من الموالين له بالقرب من قرية ود شنينة، ورفض الحضور إلى الكاملين لتوضيح أسباب ما يقوم به. إذ ذهب سكوت-مونكريف والمأمور المصري، اليوزباشي (النقيب) محمد أفندي، وبرفقة اثنين من رجال الشرطة إلى مكان تجمع المتمرِّدين للتحقيق في أسباب المشكل. وحينما وصلوا إلى ود شنينة بعث برسائل إلى عبد القادر، حيث رد الأخير بأنَّه إذا جاء سكوت-مونكريف والمأمور غير حاملين السِّلاح ودون أن يصطحبهما أحد، فإنَّه لسوف يلقي بشكواه أمامهما. كذلك طلب عبد القادر من عمه وثلاثة من أصدقائه أن يشتركوا في النقاش، غير أنَّهم رفضوا وحاولوا ما وسعتهم المحاولة في إقناع سكوت-مونكريف والمأمور بعدم الذهاب لمقابلته، وذلك حينما أحسوا الغدر منه.
ومن هنا واجه سكوت-مونكريف وضعاً صعباً للغاية، أي مثل ذلك الوضع الذي بات الإداريُّون البريطانيُّون يواجهونه في أجزاء كثيرة في العالم. كان في إمكان سكوت-مونكريف أن يأمر عبد القادر أن يأتي إليه طوعاً، ولكنه كان يدرك تماماً بأنَّه سوف يرفض، ولسوف يعقب هذا الرَّفض الهجوم الذي ليس باستطاعته تحمُّله ومقاومته. غير أنَّ هذا الهجوم قد يكون إشارة إلى انتفاضة عامة. أو كما فعل الآخرون قبلئذٍ ومنذئذٍ كمحاولة شجاعة، ولسوف يدفع ثمنه إذا لم يستبن الأمر إلا ضحى الغد. إذ علينا أن نتذكَّر بأنَّ عبد القادر لم يفصح عن رغبته في قيادة عصيان مسلَّح ضد الحكومة، وأنَّ كل ما كان يعرفه سكوت-مونكريف هو أنَّ لدي عبد القادر قضيَّة تتلخَّص في نزاعات الأراضي العديدة التي كانت تمثل واجبات المفتش اليوميَّة للتحقيق فيها. لم يكن سكوت-مونكريف قد مكث في السُّودان وقتاً طويلاً، وبالكاد لم يصدق هو أو المأمور المصري بأنَّ عبد القادر لسوف يحرق تقاليد العرب في الكرم ويغدر بضيفيه. بيد أنَّ معرفته بكل هذه الأشياء في الدقائق القلائل قد ذهب بها إلى القبر، لأنَّه قرَّر أن يختار أسلوب الشجعان، ولا أحداً يدري هل كان بإمكان تضحيته الشخصيَّة أن تجنِّبه هذه الكارثة العظيمة.
مهما يكن من شيء، فقد ترك سكوت-مونكريف والمأمور محمد أفندي رجلي الشرطة خلفهما وسارا ميلاً حتى وصلا حوش (بيت) عبد القادر، وطفقا يسألانه عن تظلُّمه؟ وعلى التو ردَّ عبد القادر صارخاً بأنَّه ليس له تظلُّم ضد الحكومة، وما يقوم به إنَّما يفعله في سبيل الله، وسوف يموت من أجله. ومن ثمَّ ضرب أحد المسؤولين، وانطلق أتباعه وبقروا بطون الاثنين حتى الموت. وصلت أخبار الحادثة إلى الخرطوم في يوم 30 نيسان (أبريل)، وتمَّ أخذ التحوطات اللازمة للحد من انتشار رقعة التمرُّد. وعلى الفور تمَّ إرسال الجنود إلى الكاملين على النيل الأزرق، وكذلك جاءت شرطة الهجانة على ضفاف النيل الأزرق والأبيض لقطع الطريق أمام المتمرِّدين، وتحرَّكت تجريدة مكوَّنة من نصف سريَّة من الخرطوم تحت قيادة النَّقيب ريان في ليلة 30 نيسان (أبريل)، ووصل منطقة كتفيَّة في صباح يوم 2 أيار (مايو)، وذلك بعد أن قطعت مسافة مقدارها 90 ميلاً. وفي نفس اليوم الذي تحرَّكت فيه تجريدة الخرطوم، وفور سماع خبر اغتيال كل من سكوت-مونكريف والمأمور محمد أفندي، غادر الرَّائد ديكينسون – حاكم وقائد مديريَّة النيل الأزرق – مدينة ود مدني على رأس السريَّة العاشرة السُّودانيَّة تحت قيادة النَّقيب لوقان، وقليل من شرطة الهجانة، وكانوا يحملون معهم مدفع مكسيم.
على أيِّة حال، فقد سمع عبد القادر بوصول الجيوش. وفي تمام الساعة الثَّانية ونصف الساعة صباحاً اشتبك الجمعان في معركة في جنح الليل، وفي الظلام الدَّامس، وتحت سماء ذات سحب كثيفة مهيلة. إذ انطلق عبد القادر ومجموعة من أشياعه نحو ميز الضبَّاط مروراً بالشرطة الحرَّاس، والتحقت بهم مجموعتان أخريان، ومن ثمَّ دار قتال بالأيدي. وفي هذا الشجار في الظلام، لم تستطع جنود الحكومة إطلاق النَّار، واكتفت باستخدام السونكي في هذه المقاومة الضارية حتى الفجر، ومن ثمَّ انسحب عبد القادر وأنصاره، تاركين خلفهم خمسة وثلاثين قتيلاً على أرض المعركة. بيد أنَّ خسائر قوات الحكومة كانت كبيرة، حيث تمَّ قتل أربعة ضباط وستة عشر رجلاً، وجُرِح كل من الرَّائد ديكينسون وضابط بريطاني آخر، وضابط سوداني وخمسة وثلاثين رجلاً، وكذلك المستر بونهام كارتر – السكرتير القانوني – الذي كان في زيارته لإحدى مفوضيَّات توزيع الأراضي، وهو الذي تمَّ اصطحابه إلى المعسكر من أجل الحماية. ومع ذلك، ظلَّ جلُّ النَّاس في الجزيرة موالين للحكومة، وتعاونوا معها على إلقاء القبض على المتمرِّدين الفارين، إلا أنَّه ظلَّ هناك ثمة استياء بشكل عام في المنطقة لعدة أشهر.
إذاً، ما الذي دفع السلطات الاستعماريَّة إلى هذه الحشود العسكريَّة لمواجهة عصيان عبد القادر ود حبوبة وصحبه؟ أولاً، لقد حدث هذا العصيان بالقرب من الخرطوم، حيث كان يعسكر كثرٌ من الجنود البريطانيين والسُّودانيين والمصريين من أجل مواجهة أيَّة اضطرابات أمنيَّة من هذا النمط. ثانياً، جاء هذا العصيان في الأعوام الأولى من احتلال السُّودان، وفي الوقت الذي فيه كانت السلطات الاستعماريَّة قلقلة من ظهور مهدي ثانٍ، والتفاف السُودانيين حوله، والتشبُّع بفكره، والتعهُّد بأزره، مما قد يستعصي أمره، ويصعب إخماد نيرانه في نهاية الأمر. ثالثاً، كان تشبُّع عبد القادر ود حبوبة بالرُّوح الدِّينيَّة ذا أثراً خطيراً في أمن المنطقة خاصة، والسُّودان عامة، وذلك لما لهذا العامل الدِّيني من عاطفة سيكلوجيَّة (نفسيَّة) عند المتديِّنين السُّودانيين القانتين، والذين قد ينجرفوا وينساقوا وراء دعوات الجهاد في سبيل تحرير البلاد من النَّصارى والكفرة والملاحدة، واستخدام هذا العامل الدَّعوي لإلهاب مشاعر النَّاس في الحاضرة والبادية على حدٍ سواء. عليه، كانت هذه هي العلل التي استمرَّت لتشكِّل مصدراً من مستودع الهواجس المستديمة للسلطات الإداريَّة لسنوات عدداً منذ تأسيس الحكم الثنائي (البريطاني-المصري) العام 1898م.
برغم من أنَّه قد يبدو أنَّ الحريق العظيم الذن كان قد تمَّ إطفاؤه من تحت أقدام جنود كيتشنر المنتصرة، وتمَّ رويه بدماء العشرة آلاف من المقاتلين السُّودانيين الذين سقطوا استبسالاً في معركة كرري في 2 أيلول (سبتمبر) 1898م، إلا أنَّ النيران لم تزل مشتعلة تحت الأرض لتنفجر مبتعثة مقاومة عسكريَّة في الخرطوم في شكل تنظيم اللواء الأبيض بقيادة الملازم البطل علي عبد اللطيف العام 1924م، ومحاولة سلطات الحكم الثنائي احتوائها قبل أن تنتشر، وتهدِّد الوضع الأمني برمَّته. هذا ما كان من أمر إحدى التحدِّيات الذي واجه البريطانيين في السُّودان.
ومع ذلك، لا شك في أنَّ المصريين كانوا يقفون وراء حركة اللواء الأبيض، ولكن أي وقوف! إنَّ المصريين، الذين لم يستطيعوا مواجهة البريطانيين علانيَّة، حاولوا استخدام عليَّاً وحركة اللواء الأبيض كسند خفي لتحقيق مآربهم العسكريَّة، وأحلامهم السِّياسيَّة – وذلك دون دعم مادي أو لوجستي – وذلك من أجل التخلُّص من البريطانيين، حتى ينفردوا باستعمار السُّودان وإعادته إلى سيرته الأولى. مهما يكن من أمر، ففي الأعوام التي تلت إخماد حركة اللواء الأبيض شرعت مصر تنفق أموالاً هائلة في السُّودان لبناء المساجد، وفي العام 1943م تمَّ تشييد مدرسة سمِّيت مدرسة الملك فاروق (ملك مصر) في الخرطوم، وتمَّ دعمها بسخاء. كذلك أُعطِي الطلاب السُّودانيين منحاً للدراسة في مصر، وتعليماً مجاناً، ومصاريف دراسيَّة مقدارها خمسة جنيهات في الشهر، وتمَّ إشباعهم داخل السُّودان وفي مصر بدعاية سياسيَّة مستعظمة ومستديمة في سبيل مصر.
بقي لنا هنا أن نقول إنَّ في حكايات الشَّعب السُّوداني لنوادر أيضاً. ففي لحظات حفل وداع مدير حركة (شرطة) المرور البريطاني في منطقة الخرطوم أل بي بيلي إلى إحدى المدن السُّودانيَّة شرع أحد موظَّفي السكك الحديديَّة يمتدح شجاعة بيلي أثناء إطلاق النيران الكثيفة حين كان تمرُّد الجنود السُّودانيَّة في حركة اللواء الأبيض. وفي أثناء حديثه أخذه الحماس بعيداً، والتفت إلى رفاقه الحضور والمضيفين قائلاً بتعجُّب: "أثناء التمرَّد كان بيلينا يسير يسرة ويمنة، وفي وسط محطة الخرطوم، فيما كان الرصاص ينهمر حوله، ولم يكن يأبه به، وكأنَّه ناموس؛ أما أنتم، أيُّها الكلاب وأبناء الكلاب أين كنتم؟ لماذا؟ تحت أسرَّتكم بالطبع!" وبعد صمت قصير، استطرد مضيفاً: "وأنا، ماذا عني؟ والله إنِّي كنت تحت سريري كذلك!"
علاوة على ما ذكرناه عن حركة عبد القادر ود حبوبة، كانت هناك حركة عبد الله ود الحسن، وهو كان شيخاً من شيوخ قبيل كنانة التي كانت تسكن مدينة سنجة، والتي اختارها الإنكليز العام 1904م كعاصمة لمديريَّة الفونج إحدى المديريات الخمسة عشر التي قسَّموا عليها السُّودان. وقد تحالف مع رجل من قبيل الجعليين اسمه آدم أحمد عبد القادر الذي كان يسكن في قرية على الشاطئ الشرقي من النيل قرب مدينة سنجة، وقاد مقاومة مسلَّحة بالأسلحة البيضاء ضد السلطة الاستعماريَّة، أدَّت إلى مقتل نائب المأمور المصري القبطي اليوزباشي (النقيب) زكي أبو رفَّاس، الذي قاد هو الآخر حملة من جنود البوليس المسلَّحين لقمع الثورة. ونسبة لعدم تكافؤ التسليح انتصرت قوَّة الحكومة على الثوَّار.
ثمَّ هناك مقاومة أهالي البجة في شرق السُّودان تحت قيادة عثمان دقنة وانتصاراتهم ضد القوات التركيَّة والبريطانيَّة على حدٍ سواء، وكذلك نضالات النوير والدينكا والأزاندي وغيرهم من القوميات المختلفة ضد الاستعمار البريطاني-المصري في جنوب السُّودان، وقد واجهوا كلهم أجمعون أكتعون المستعمر الأجنبي بالحراب والدروع. إذ لا سبيل إلى الشك في أنَّ هؤلاء الثوَّار الذين قاوموا الاستعمار على ضعف الحيلة وبدائيَّة الأسلوب يعتبرون مثالاً حيَّاً لأصالة الشعب السُّوداني الأبي الذي يأبى الضيم والأغلال، ويفنى في سبيل الحريَّة. فلتجدنَّه لم يستكن للاستعمار منذ أن وطئت أقدامه أرض السُّودان، ومن ثمَّ شرع يواجهه بالعنف مستشهداً غير عابث بالفارق العظيم في القوَّة الماديَّة. وكما ذكرنا سلفاً فلعلَّ من الأمور الوطنيَّة العاجلة أن نعيد ذكرى هؤلاء الأبطال الذين لم يعد لهم ذكر في التأريخ السُّوداني، ولا في الكتاب المدرسي، أو في الفن الشعبي، أو المسرح القومي، أو أيَّة وسيلة من وسائل الإعلام المرئيَّة أو المسموعة أو المقروءة التي تتَّخذها الحكومات لإعلاء قيم الوحدة الوطنيَّة مهما يكن من أمرها، وتستغلها في نشر الشعبويَّة في الأوطان. ولإيفاء حقهم نقرُّ بأنَّهم جديرون بالخلود ليعرف أبناؤنا وأجيالنا الصاعدة أنَّ نضالهم – ولئن تنوَّعت أساليبه – كان متَّصلاً مستطرداً.
وللمقال بقيَّة،،،