المقاومة الوطنيَّة في الأمصار: جبال النُّوبة.. الوعور المشرئبَّة (2 من 4)
shurkiano@yahoo.co.uk
جبال النُّوبة.. الوعور المشرئبَّة
كان النُّوبة يفتخرون أيما فخر باستقلاليَّتهم وفحولتهم اللتان كانوا يتمتَّعون بهما في مناطقهم مثلما هي الحال عند أيَّة قبائل جبليَّة. إزاء تينك الاستقلاليَّة والفحولة قاوموا كل أشكال القوى الخارجيَّة لسنين عدداً، ومن ثمَّ لم يكد يتوقع المستعمرون بأنَّهم سوف يفلحون في إخضاع النُّوبة إلى سلطات الحكومة الجديدة دون أن يبدوا مقاومة شرسة ولفترة قد تطول. ولعلَّ السَّرد التفصيلي لسنوات النِّزاع المسلَّح في جبال النُّوبة سوف يكون أمراً عسيراً، ولسوف نكتفي هنا بإيراد تجريدتين، اللتان تعتبران أنموذجاً لتلك التجريدات المثيرة الكثيرة التي كانت ترسل في سبيل إخضاع جبال النُّوبة قبل السيطرة الكاملة على المنطقة.
على أيَّة حال، لم تكن كل التمرُّدات التي حدثت في جبال النُّوبة، والتي بلغ تعدادها 30 انتفاضة مسلَّحة في الفترة ما بين (1904-1945م) من اليسر يسراً القضاء عليها، وذلك نسبة لطبيعة الجبال الصعبة، والتي كانت الجنود تحارب فيها، فضلاً عن شراسة ومقاومة النُّوبة أنفسهم. كان النُّوبة يتقهقرون بأسرهم ومواشيهم إلى مغارات ضخمة، حيث يشعرون بالأمان ضد المدافع والبنادق والقرينيت الحكوميَّة. وحين يضطر الغائرون إلى الصعود زحفاً عبر ممرات ضيِّقة بين صخور ضخمة ووسط بعض الأشجار والشجيرات المتجذِّرة في هذه الجبال، كانوا يتعرَّضون إلى إطلاق النَّار ليس من النُّوبة المختبئين داخل الكهوف فحسب، بل في بعض الأحايين من الآخرين غير المرئيين على سقوف المغارات. إذ يقول محدثي إنَّه لحسن الحظ كان النُّوبة مزوَّدين ببنادق، إلا أنَّهم لم يستطيعوا أن يستخدموها الاستخدام الأمثل، لأنَّهم كانوا ينزعون دوماً جزء السِّلاح الخلفي، مما يؤدِّي إلى عطب هذا الجزء الذي يمثِّل أداة هامة في التصويب الدَّقيق. وحين تنفد ذخيرتهم فإنَّهم ليلجأون إلى قطع قطعة من الحديد أو أي معدن آخر، أو أي شيء آخر يمكن أن يضعوها في الماسورة. وفي حال إطلاق هذه المقذوفات في المدى القصير فإنَّها لتسبِّب جُرحاً رهيباً. لذلك – وفي الغالب الأعم – كان يتم إخضاع النُّوبة في أي جبل من الجبال بعد حصار طويل. بيد أنَّه بسبب قلة الماء في الجبل كان يضطر النُّوبة الاضطرار الشديد أن ينزلوا ليلاً من جبالهم ليأخذوا الماء من الحفائر في السهول. ومع ذلك، كانت تتم مراقبتهم وحمايتهم بواسطة الحرَّاس من ذويهم، وإنَّ الظمأ لهو الذي كان يجبر المتمرِّدين على الاستسلام.
حادثة تلودي
في يوم 25 أيار (مايو) 1906م هجم النُّوبة، الذين كانوا مستائين من إجراءات الحكومة، التي حظرت شن الإغارات على القبائل المجاورة، على حامية حكوميَّة كان أفرادها يحضرون حفلاً شعبيَّاً. إذ قتلوا المأمور وضابطاً وثلاثين جنديَّاً من عساكر الكتيبة الثَّانية عشر السُّودانيَّة، وتسعة تجار وخمسة من أفراد المعسكر، وجرحوا 5 رجال من الجيش، وكذلك ثلاثة من أفراد الشرطة وثلاثة من التجَّار الجلابة. وبعد سماع خبر المذبحة حشد بعض شيوخ النُّوبة والعرب الموالين للسلطة في الجبال المجاورة قوَّة قوامها 1.200 نوبويَّاً وعربيَّاً، وذهبوا إلى إنقاذ بقيَّة أفراد الحامية، ومن ثمَّ مهاجمة المتمرِّدين. إذ نشبت معركة ضاربة أسفرت عن خسائر عديدة في الأرواح من جانب المتمرِّدين، وتمَّ أسر 100 سجيناً منهم.
وحين وصلت أنباء النِّزاع مدينة الأُبيِّض، تحرَّك حاكم كرفان بقوَّة تعدادها 380 رجلاً من سلاح الهجانة و150 من الكتيبة الثَّانية عشر السُّودانيَّة، وبعد رحلة شاقة أيما شقاء وصلت القوَّة تلودي بعد عشرة أيَّام. وفي هذه الأثناء انسحب المتمرِّدون إلى جبل اللِّيري، حيث تعرَّضوا للهجوم من قبل القوات الحكوميَّة وأخرى صديقة. وبعد مناوشات استمرَّت لمدة يومين بين المتمرِّدين من ناحية، والقوات الحكوميَّة وأحلافها من ناحية أخرى، انهزمت الأولى، حيث قُتِل منهم 350 شخصاً وجُرِح آخرين، وتمَّ أسر 100 متمرِّداً بواسطة القوَّات الحكوميَّة. أما من جانب الحكومة، فكانت الخسائر قليلة، غير أنَّ القوَّات الصديقة كانت قد سقط منهم 15 رجلاً قتلى و50 آخرون جرحى.
الفكي علي الميراوي
في مستهل العام 1915م تمَّ إرسال تجريدة ضد الفكي علي الميراوي في جبل ميري، وذلك لتحدِّيه الحكومة وإعلان مقاومة مسلَّحة ضدها. هذا، فقد تمَّت مراقبته في موطنه لفترة طويلة حتى أيار (مايو) من العام نفسه، مما اضطرَّ الفكي علي أن يبدي مبادرة للاستسلام. كان بإمكان السلطات قبول طلبه باستلطاف، غير أنَّ الفكي علي كان قد طلب – كثمن لاستسلامه – العفو عنه وأتباعه، وإعادته كمك للقبيل، ولكن تمَّ رفض اقتراحه على التو، واستمرَّت العمليَّات العسكريَّة في سبيل إلقاء القبض عليه، حتى أفلحت السلطات الحكوميَّة في اعتقاله، ومحاكمته في تلودي، ومن ثمَّ تمَّ إرساله إلى مدينة كادقلي على بعد 58 ميلاً ليتم إعدامه فيها. إذ تمَّ اقتياده إلى كادقلي تحت حراسة مكوَّنة من خمسة من رجال الشرطة على الخيل و40 رجلاً من الكتيبة الحادية عشر السُّودانيَّة، وذلك تحت قيادة ضابط سوداني. وتمَّ صرف تعليمات صارمة لقوَّة الحراسة المرافقة له، وذلك للحيلولة دون هروب المتمرِّد السجين، وتمَّ التركيز على نقطتين: أولاً، على الجنود أن تسافر ليلاً؛ ثانياً، أما الفكي علي فبرغم من تقييد يديده بأغلال طُلِب من أفراد قوَّة الحراسة أن يتم ربطه مع رجل الشرطة آناء الليل.
علي أيَّة حال، ففي الليلة الأولى من سفرهم ذاك تمَّ تجاهل هذين الأمرين، ولم ينصاع لهما أحد. فبدلاً من ربط الفكي علي مع رجل الشرطة، تمَّ عقده مع عمود بواسطة حبل، حيث استطاع الفكي علي أن يقطعه ليلاً، علاوة على حبال رسخيهما. وكذلك بدلاً من انتظار فلق الصباح أمر اليوزباشي (النَّقيب) المسؤول عن اصطحاب الفكي علي إلى كادقلي بعزف صفارة الإيقاظ في تمام الساعة الرَّابعة صباحاً، حيث كان الوقت لا زال ليلاً مظلماً. وبعد نصف الساعة لاحقاً حين قرَّر العسكر التحرُّك قطع الفكي علي بقايا شرائط حباله، وقفز مروراً بحرَّاسه المندهشين هرباً كشعاع الضوء إلى الغابة وسط الحشائش الطويلة، وكأنَّه اختفى في الهواء الطلق، واتَّخذ طريقة في البر هرباً. ومن هنا شرع العسكر في البحث عنه طول النهار كله، وبخاصة على منحدرات الجبال، ولكن من غير جدوى. وفي هذه الأثناء التي كان فيها العسكر يبحثون هنا وهناك، ويتصبَّبون عرقاً، ويصطدمون بالحجارة الساخنة من حرارة الشمس، والصخور الضخمة، كان الفكي علي مختبئاً في حفير ماء بالقرب من المعسكر نفسه. لقد أفلح الفكي علي في مراوغة معتقليه للمرَّة الثَّانية. ففي سعيه الحثيث نحو الحريَّة جرى الفكي علي قاطعاً مسافة 500 ياردة قبل أن يعود إلى الوراء كالأرنب في مناورته ليجد ملجأً آمناً في نقطة البداية. كان هروبه مدهشاً، حتى لو كان قد ساعده في ذلكم الهروب ضابط سوداني، وعمل كل ما في وسعه لتسهيل هروبه.
هذا، فقد وصلت أخبار هروب الفكي علي إلى مسامع المفتش الإنكليزي فرانك بلفور في منتصف النهار، وعلى الفور جمع الشرطة والعرب على الخيل، وخرج للبحث عن المك المطلوب أمام القانون. وبعد 68 ساعة من البحث المضني في المستنقعات الممتدَّة، ووسط الحشائش الطويلة، وصعوداً على سفوح الجبال باصطحاب 250 نوبويَّاً ممن أسمَّتهم الحكومة "القوات الصديقة"، عاد بلفور وعسكره إلى المعسكر دون تحقيق الهدف المنشود.
على أيٍّ، فقد جاء التحرُّك الثَّاني من قبل الفكي علي، حيث بعث برسالة إلى الحكومة طالباً منها إجراء المحادثات معه. إذ ردَّت الحكومة بأنَّه في حال استسلامه طوعاً فإنَّه إما يُعدم شنقاً أو رمياً بالرصاص. ثمَّ تحرَّك بلفور إلى قاعدة الكتيبة الحادية عشر، وذلك بالقرب من جبل يتبع لشيخ موالٍ للحكومة، وقد قيل إنَّ الفكي علي لمتواجدٌ عنده. وفي الحق، فقد كان هذا الشيخ الذي ادَّعى موالاته للحكومة هو الذي أخباً الفكي علي، وذلك برغم مما قدَّمه من حفاوة وكرم لاستقبال المفتش بلفور، حيث علم بلفور بكل ذلك عند مقابلته لأخ الفكي علي الأعمى، حيث أفصح قائلاً لبلفور إنَّ الفكي علي لم يبرح مكان اختبائه، والذي كان يبعد حوالي مئات الياردات من المعسكر. وفي تلك الليلة كان الفكي علي قد فكَّر في سرقة حصان المفتش والهروب به بعيداً.
وفي خلال ستة أسابيع حدثت تطوُّرات جديدة في الساحة السِّياسيَّة السُّودانيَّة، مما اضطرَّت الحكومة أن تغض الطَّرف عن الوضع في جبال النُّوبة، وتغيِّر سلوكها تجاه الفكي علي. إذاً، ماذا جرى، وفي أي مكان في السُّودان؟ لقد أعلن السلطان علي دينار في دارفور عصيانه ضد الدَّولة، التي كان يدفع لها بعض الضرائب الرمزيَّة لتتركه هو وسلطنته لوحده. ففي هذه الأثناء أقدمت الحكومة على إعداد التجريدات لإخضاع السلطان علي دينار في دارفور، لذلك لم تكن هناك ثمة قوَّات كافية لخوض حملة عسكريَّة طويلة ضد الفكي علي في جبال النُّوبة، مما اضطرَّت الحكومة إلى أن تصل إلى تفاهم معه. وفي منتصف تشرين الأوَّل (أكتوبر) استطاع بلفور أن يجد وسيطاً استطاع أن يقنع الفكي علي أنَّ بلفوراً يريد مقابلته لمناقشة شروط استسلامه.
وفي اليوم الموعود ذهب بلفور بصحبة الرَّائد كونران التابع للكتيبة الحادية عشر السُّودانيَّة، وقوَّة من رجال الشرطة قوامها 10-20 رجلاً، حيث تحرَّكوا إلى مكان اللقاء رافعين علمي بريطانيا ومصر، وذلك لتأكيد رسميَّة الزيارة، وإظهار هيبة الدَّولة. كان مكان اللقاء في خور (مجرى مائي)، حيث جلس كل من بلفور وكونران على كرسيين في انتظار ما ستسفر عنه التطوُّرات. وفي نهاية الأمر، أخذ الشك يدبُّ في نفس الفكي علي وأتباعه، وراودهم خوف بأنَّ هناك ثمة خدعة ما تضمره المسؤولان الحكوميَّان في الأفق. لم يكد الفكي علي وأتباعه ينسون أنَّه في العهد التركي-المصري (1821-1885م) كان يتم استدراج الشيوخ إلى الحضور لمناقشة شأن من الشؤون السِّياسيَّة أو العسكريَّة مثل الدَّعوة إيَّاها، ولكن سرعان ما يتم اعتقالهم بواسطة جنود الحكومة التركيَّة-المصريَّة، ومن ثمَّ يغيرون على القرى في غياب قادتهم القبليَّة. لم يكد الفكي علي يصدِّق بأنَّ الضابط والموظَّف البريطانيين يمكنهما أن يتجرَّآن ويحضران بصحبة قلة قليلة من الحراسة إلى منطقة مليئة بقوَّة عدائيَّة. إذ لا بدَّ أن تكون هناك ثمة مكيدة ما للإيقاع بهم. ولطمأنة المتمرِّدين أمر المسؤولان البريطانيان قوَّات الشرطة بالانسحاب إلى مسافة ربع ميل، ومن ثمَّ تركت بلفور وكونران وحدهما فيما كانت البنادق مصوَّبة عليهما من خلف كل صخرة. ثمَّ نزع كونران مسدَّسه ووضعه على الأرض، وسار نحو الفكي علي، الذي كان على بعد نصف الميل، وفي انتظاره. أما بلفور، والذي كان حاكم المديريَّة بالإنابة في غياب العقيد ويلسون الذي كان في عطلة، فقد أبدى نوايا حسنة كذلك، وجلس في كرسيه أعزل من السِّلاح. كان مشهد الضابط البريطاني وهو يضع رأسه في فم الأسد، وموظف آخر يجلس بهدوء في كرسي، بمثابة نوع من السخريَّة عند النُّوبة.
مهما يكن من شيء، فقد وافق الفكي علي على التفاوض مع بلفور. ومن ثمَّ استسلم الفكي علي مع 50 من أقاربه. وفي الحال تمَّ تجميع كميَّة من الأسلحة أمام بلفور، وتمِّ إرسال الفكي علي إلى الخرطوم لمقابلة الحاكم-العام، حتى يتلقى العقوبة التي سوف يفرضها عليه القضاء. ثمَّ تبع استسلام الفكي علي استسلام أشياعه، وعلى التو كان هناك تجمُّع مؤلَّف من 250 امرأة وطفل، علاوة على المتمرِّدين الحقيقيين، في يد الحكومة. والمدهش في الأمر أنَّ هؤلاء النَّاس لم يرتابوا من تغيير موقفهم بهذه السرعة. على أيَّة حال، فقد شرع الرِّجال والنِّساء بكل سرور في مهمة إعادة تعريش مباني الحكومة، والمكاتب ومعسكرات الجنود، التي كانت حتى عهدٍ قريب تحاربهم، وربما تمَّ استدعاؤها في المستقبل لمحاربتهم مرَّة أخرى إذا دعا الأمر. وفيما كان العمل يسير على قُدمٍ وساق كان بلفور يذهب بين الحين والآخر ليتفقَّد العمل. وفيما كان يفعل ذلك كان ينظر باندهاش إلى نشاط أحد أبناء عم الفكي علي، وهو الذي كان أحد قادة التمرُّد، وها هو يجلس على سقف البيت، ويضغط على العمال ضغطاً يكاد يضاهي ذلكم الضغط الذي استخدمه فرعون مع بني إسرائيل لبناء الإهرامات.
حين نتمعَّن في أمر هذا التمرُّد فإنَّنا لنندهش كيف وضع الفكي علي الثقة كل الثقة في كلمة "الخواجة"، علماً بأنَّه كان قد صُدِر الحكم ضده سابقاً بالإعدام. ومع ذلك، لم يفارق موطنه في الجبال طيلة حياته، وها هو الآن يقبل أن يسافر مسافة 800 ميلاً إلى الأماكن الغريبة ليتلقَّى عقوبة لا يعلم نوعها، ولم يتبين أمرها، من السُّلطة التي سمع بها لماماً. صحيح أنَّه كان قد وُعِد بأنَّ حياته في مأمن، لكن أي ضمان استطاع أن يعتمد عليه، وكيف وثق بأنَّ الحكومة ستفي بوعدها. ففي عهد التركيَّة-المصريَّة استقدِم كثراً من الشيوخ إلى الخرطوم لئلا يعودوا إلى ديارهم وقراهم أبداً. على أيَّة حال، فبعد توقيف قصير في الخرطوم سمح للفكي علي بالعودة إلى أهليه يتمطَّى، حيث أمسى بعدئذٍ مواطناً مطيعاً للحكومة.
على أيَّة حال، فبرغم من الإعاقات التي كان النُّوبة يسبِّبوها في سبيل تعطيل سريان أوامر السلطات الاستعماريَّة، إلا أنَّ الموظَّفين البريطانيين كانوا معجبين بهم في أشدَّ ما يكون الإعجاب، وذلك بسبب بسالتهم وامتلاكهم روح المغامرة المفرطة، والتي ربما عبَّروا عنها بوسائل غريبة، ومن أجل هذا التحق كثرٌ منهم بقوَّة دفاع السُّودان (نواة القوَّات المسلَّحة السُّودانيَّة حاليَّاً)، حيث كانوا حتى وقتٍ قريب يحاربونها. هذا فقد نشر الدكتور عثمان صالح ورقتين هامتين عن السِّياسة البريطانيَّة في تجنيد أبناء النُّوبة في الجيش، حيث كان يتمُّ إلحاق أبناء القبائل المتحاربة – كالأما (النيمانج) والميري على سبيل المثال – بالجنديَّة، حتى تستفيد الدولة من أرواحهم القتاليَّة في تنفيذ أوامر الدولة، بدلاً من الاحتراب فيما بينهم.(17)
بيد أنَّه لا يخلو في أمر النُّوبة من طرائف وعجائب! إذ بينما كان ضابط المجلس الرِّيفي البريطاني زائراً إحدى جبال النُّوبة، استقبله أحد أبناء النُّوبة وحيَّاه بلغة إنكليزيَّة وبلهجة أميريكيَّة خالصة لا تشوبها شائبة. وفيما كان يتحدَّث بالإنكليزيَّة الأميريكيَّة كان عارياً تماماً من أي ملبس، وذلك باستثناء حزام عريض في الكتف كان محمَّلاً بالرصاص، ومستظلاً رأسه من الشمس الحارقة بطاقيَّة مصنوعة من القصب. إذ كان العري متوقَّعاً كزي قومي نوبوي يومئذٍ، ولم يكن ذا اندهاش عند "الخواجة"، أما الكلام بلهجة أميريكيَّة في هذه البيئة فكان أمراً عجباً. غير أنَّ هذا النُّوبوي كان يحمل تفسيراً مبسَّطاً ليجود به في هذا الأمر. فقد قال إنَّه منذ سنوات خلت شقَّ طريقه – والرَّب وهو هما اللذان كانا يعرفان كيف تمَّ ذلك – إلى الولايات المتَّحدة الأميريكيَّة، والتحق بفرقة الجاز الموسيقيَّة في مرقص ليلي في مدينة نيويورك، وما أن بدت بهرجة الحياة الأميريكيَّة تفقد سحرها عنده، وتصبح تافهاً له، حتى عاد إلى موطنه في جبال النُّوبة ليعتاش معيشتهم التي اعتاشها من قبل، ويعود إلى سيرته الأولى، ويرتدي زيَّهم القومي الذي كان يتزيَّن به قبلئذٍ، وذلك قبل أن يغترب عن أهله وعشيرته ردحاً من الزمان، وأمست لغة "اليانكي" أو "القرنقو" (الأميريكان) وطاقيته القصبيَّة هما ما بقيتا عنده لتربطانه بالحضارة الأميريكيَّة.
ومن هنا بدأنا نتأمَّل في ماضي هذا النُّوبوي! من أين له بالمال للسفر عبر المحيط الأطلسي إلى القارة الأميريكيَّة، ثمَّ إنَّه لم يكن بحَّاراً أو قبطاناً في سفينة كانت تمخر عُباب البحر يومئذٍ. إذ كل ما يمكن أن يقال في أمره هو أنَّه ربما كان من الأرقاء الذي استاقه قدر العبوديَّة إلى هذه القارة، وتمَّ تحريره، أو عتقه من قبل المنظَّمات الإنسانيَّة التي عملت على مكافحة الرِّق آنئذٍ، وقادت الدَّعوة إلى إلغائها، ثمَّ اختلط بالحياة الأميريكيَّة، فحبَّ الموسيقي كما يحب عموم النُّوبة الغناء والموسيقى والطَّرب والرَّقص.
المك كوكو كوبونقو في منطقة لافوفا
كذلك هناك قصَّة المك كوكو كوبونقو (أو كوبانقو) بجبل لفوفا بمنطقة الليري ومقاومته للاستعمار البريطاني-المصري التي بدأت العام 1916م، وقد قيل إنَّ الاسم الأصلي هو "كوكو بانقو"، وكان كجوراً بجبل لفوفا، ثمَّ كان في الحين نفسه يجمع بين السلطتين الرُّوحيَّة والسِّياسيَّة. إذ كتبت الصحافيَّة أمينة الفضل قائلة: "كنت دوماً أتساءل وأنا أمر عابرة من وإلى شرق النيل عبر حلة كوكو في الخرطوم بحري من هو كوكو الذي سُمِّيت هذه المنطقة باسمه، وما هي قصَّته؟ البعض قال إنَّه راعٍ، والبعض (الآخر) يجهل من هو، لكن الجميع يتَّفقون أنَّ كوكواً هذا لا بدَّ أن يكون شخصيَّة هامة، ولذا سُمِّيت هذه المنطقة المحوريَّة باسمه. ففي بحثي عن أصل التسمية والشخص الذي سُمِّيت باسمه عثرت على معلومات تأريخيَّة هامة، استمعت لبعضها، وقرأت بعضها، وهي معلومات تحتاج لجمع وتقييم وحفظ، لأنَّها تشكِّل جزءاً من تأريخ بلادنا." فلا ريب في أنَّ المك كوكو كوبونقو رجل نوبوي، وهو الذي نشأ وترعرع في منطقة الليري بجنوب كردفان، وقد قيل إنَّه منذ نعومة أظفاره نمت في قلبه كراهيَّة الاستعمار، وهو الذي كان قد قاد ثورة عظيمة ضد السلطات الاستعماريَّة، وتعتبر ثورته امتداداً للثورات العديدة التي كانت تعجُّ بها منطقة جبال النُّوبة.
غير أنَّ الصحافيَّة أمينة الفضل حاولت في مقالها أسلمة التأريخ بإطلاق عبارة المجاهد على المك كوبانقو، وادِّعائها بأنَّه رفض إقامة كنيسة تبشيريَّة على سفح الجبل الذي كان موطنه. إذ أنَّ مشكل السلطات الاستعماريَّة مع المك كوبانقو كان جزءاً لا يتجزأ من الصراع الإداري بالمنطقة، فضلاً عن بعض الظلم الذي وقع عليه وعلى أهله من قبيل اللافوفا بالمنطقة. فالجدير بالذكر أنَّ الصِّراع السِّياسي الداخلي في منطقة الليري كان قد امتاز بشجار قبلي، لكن التجمُّعات القبليَّة في المنطقة قد أجمعت على شيء واحد هو رفضها ضم إدارة الليري إلى عرب الكواهلة بكالوقي. ففي الحين الذي لم تتوافق القبائل فيما بينها في أمر اختيار الناظر اضطرَّ الإنكليز إلى إحضار شخص من خارج المنطقة، وهو شريف عثمان من كردفان وتعيينه ناظراً عليهم، ثمَّ كان أوَّل قرار أصدره الناظر الجديد هو فصل عمدة الكواهلة الذي عارض تعيينه، وعيَّن رجلاً أخر من الكواهلة عمدة بدلاً عن العمدة المفصول. وفي هذه الأثناء اشتدَّ الصِّراع بين الكواهلة الذين انضم إليهم نوبة لافوفا بواسطة المك كوبانقو من جهة، وبين الحوازمة من جهة أخرى، وكانت القضيَّة المحوريَّة في هذا النِّزاع هي السيطرة على الأراضي.
وفي ظل هذه الإدارة الجديدة تفجَّر صراع كبير بين الناظر شريف عثمان وبين المك كوبانقو في قريته الجبليَّة، وكان الدافع المباشر لهذا الصِّراع هو متأخِّرات ضريبة الدقنيَّة، علاوة على احتجاج المك كوبانقو ضد المفتش الإنكليزي الذي كان يقوم بأخذ أولاد العرب للالتحاق بالمدرسة الوحيدة بالمنطقة، ولم يكد يسمح بذلك لأولاد النُّوبة، وأصبح المك يكرِّر طلبه لمفتش المركز عدَّة مرات، ولكن لم يجد الاستجابة، حينها قرَّر الامتناع عن دفع الجزية السنويَّة (ضريبة الدقنيَّة). وقد حاولت السلطات الاستعماريَّة إقناعه بالعدول عن مواجهة الحكومة والانصياع لأوامرها وسداد الجزية في موعدها، ولكن باءت كل هذه الجهود بالفشل الذريع. وفي نهاية الأمر، اضطرَّت السلطات الاستعماريَّة إلى اللجوء إلى استخدام القوَّة العسكريَّة، وتمَّت مواجهة ثورته بقصف جوي كثيف من قبل سلاح الطيران الحربي البريطاني الذي أمطر الأبرياء العزل بوابل من القنابل المتفجِّرة، والتي ما زالت بقاياها موجودة حتى الآن على سفح جبل الكريس. إذ لم تستطع القوَّات الحكوميَّة من حسم المعركة إلا في 2 كانون الثاني (يناير) 1931م.
مهما يكن من شأن، فقد انتهت هذه المواجهة غير المتكافئة بالقبض على المك كوكو وبعض أتباعه من الرجال الأشاوس، وتمَّ اقتيادهم كأسرى حرب إلى مركز المأمور بتلودي، ومن ثمَّ تمَّ ترحيلهم إلى مدينة الأُبيِّض، حيث تمَّ إطلاق سراح بقيِّة الرجال، وتمَّ ترحيل المك كوكو كوبانقو إلى السجن المركزي بكوبر في الخركوم بحري، حيث حُكِم عليه بالسجن المؤبَّد، لكن بعد أن تقدَّم به العمر وهو داخل السجن أُطلِق سراحه، ونُفي إلى المنطقة التي تُسمَّى الآن باسمه (حلة كوكو)، فعمَّرها وهيَّأها للسكن، وظل بها إلى أن توفاه الله ودفن فيها. وبرغم من هذه السيرة المشرفة لبطل من أبطال السُّودان إلا أنَّ التأريخ السُّوداني قد ظلمه، كما ظلم كثراً مثله، وتمَّ تجاهل أحداث أساسيَّة أثَّرت وغيَّرت مجرى تاريخ السُّودان، الذي لا يزال يُدرَّس بمعايير تقليديَّة مذهبيَّة، أو سياسيَّة عرقيَّة، والتي تمثِّلها مجموعة من الاختيارات دون إدراك وظائفها التأريخيَّة المتباينة في صلب الصراع الإنساني الدائر في السُّودان. ففي حال إقرار النُّخبة السُّودانيَّة بمقاومة أهل الرِّيف واستبسالاتهم ضد الاستعمار، لاستطاعت تأسيس الهدف المشترك، وإعمال الحقوق والواجبات المشتركة. غير أنَّها اختارت أيديولوجيَّة عنصريَّة قامت على تبخيس النَّاس أشياءهم، وبذلك أخفقت في ابتكار البيئة الاجتماعيَّة للدولة التي أمست تتنافس في حكمها.
وللحديث بقيَّة،،،