فاروق عبد الرحمن: سَـــفيْــرٌ ضـدّ التمكيْـن
في سلسلة مقالاتي عن "سـفراء في هجير التمكـين"، أعيد نشر مقالي الذي نشرته في عام 2015 عن سفير من كبار سفرائنا ، اكتوى –ليس بالهجير – بل بنيران غدر "الإنقاذ". .
كتاب "السودان وسنوات التيه: نصف قرن لم يكتمل".. من إصدارات جزيرة الورد – القاهرة، هو الكتاب هو الأول للسفير فاروق عبدالرحمن عيسى، وكيل وزارة خارجية الانتفاضة عام 1985م. نظرتُ لأعرف سنة الإصدار فما كانت واضحة ، وبدون رقم ايداع أو رقم تسجيل دولي : (ردمك)، لكن سنفترض من السياق أن يكون تاريخ الإصدار في 2014. لكني عجبت كيف فات على السفير فاروق أن يُصدر كتابه بدون رقم تسجيل دولي يحفظ حقوقه كمؤلف ، في زمان التواصل المباح بلا قيود ولا حواجز. .؟
سيتعب صديقنا د.مصطفى الصاوي المتخصّص في كتب السيرة الذاتية والمذكرات، في تصنيف ذلك الكتاب ، فقد سمّى السفير فاروق كتابته : مذكرات، ثم ذكريات ، وأيضاً مشاهدات، وفيها استرجاع لأحداثٍ عاش تفاصيلها، وتضمّنت فوق ذلك خواطر عن أشخاصٍ وأماكن ، فلن تكون مهمّة صديقي د.الصاوي المتخصّص في السير الذاتية ، يسيرة هذه المرّة. .
يُحدّث الكتاب (720 صفحة من القطع الكبير) عن مسيرة دبلوماسيٍّ بدأ مهنته، لا قافزاً من فوق جدارٍ، ولا متسللاً عبر نوافذ التمكين، تسللَ الرجل الخفي الذي ابتدعه خيال هـ. ج. ويلز. كلا. . ! لقد ولج "سكرتيراً ثالثا" إلى وزارة الخارجية السودانية، بعد تخرّجه من جامعة الخرطوم، أواسط ستينات القرن الماضي، بعد اختبارات وتمحيص وممايزة، بعدها تدرّج دبلوماسياص حتى بلغ درجة السـفير، ثم اختير ليتولى منصب الوكيل لتلك الوزارة في الحكومة التي شُكلت في أعقاب سقوط نظام جعفر نميري في انتفاضة أبريل 1985م. صار فاروق وكيلاً لوزارة الخارجية في تلك الحقبة التي سعتْ فيها البلاد لاستعادة أنفاسها بعد طول عناءٍ، كما سعتْ خلالها الدبلوماسية السودانية لاسترجاع بعض ما تساقط من حسن أدائها، ومن صيتها، عربياً وأفريقياً.
(2)
بدءاً بالفصل الأول من الكتاب، وحتى الفصل 17 (من جملة سبعٍ وعشرين فصلا)، انتهت بالصفحة 365، يورد السفير فاروق قصة نشأته وتعليمه وجولاته في السودان مع والده المُعلّم ، فتحتلّ القولد عنده مكانة أثيرة، ولا تقلّ عنها "بخت الرضا"، أو ثانوية "خورطقّتْ"، أو جامعة الخرطوم. لفاروق نشاطٌ متعدّد، لاشكّ أكسب شخصيته ذلك البريق الذي لا تخطؤه عينٌ. لقد ظلّ إبان دراسته الجامعية ، مستقلاً وعلى مسافة واحدة من جميع التيارات السياسية السائدة في قيادة اتحاد طلاب جامعة الخرطوم وقتذاك. . نشط في الجمعيات الطلابية الطوعية، وشملتْ جولاته فيها، بلداناً أوروبية عديدة، فصقل شخصيته وقدراته في الاحتكاك والتكيّف مع ثقافات الآخر، فكأنه أعدّ نفسه تطلعاً للعمل دبلوماسياً في الخارج.
إلتحق فاروق بوزارة الخارجية في عام 1965، بعد اختبارات تحريرية ومقابلات شخصية كثيفة كما نوَّهنا ، وذلك دأب الوزارة في تعيين منسوبيها، ولم يكن للمحسوبية أو للمحاصصات القبلية أو العائلية من مكانٍ أو اعتبار، فيما أشاع زوراً بعض "سفراء التمكين" الذين ألحقوا بالوزارة بعد عام 1989م، مثل عبدالله الأزرق وبعض رصفائه. عمل فاروق في عدد من سفارات السودان بالخارج، واغتنى تجربة وخبرة. مسيرة لا تكاد تختلف عن مسيرة عددٍ من السفراء والدبلوماسيين الذين حذقوا المهنة ممّن زاملوه في تلك الحقبة، إلا بذلك البريق الذي حدثتك عنه. .
(3)
تناول السفير فاروق عبدالرحمن في كتابه تجربته المريرة بعد "الفصل للصالح العام"، (وهو يفضل كلمة "الطرد" ، نأياً عن ذلك التزويق اللفظي الذي يجمّل فعلاً شائناً!) من الخدمة الدبلوماسية. . وذلك في الفصول من 18 إلى 23، وهو ما يصل إلى مائة وخمس وخمسين صفحة. لكنك لن تملّ مطالعة ما كتب السفير فاروق، ولا تملك إلا أن يأسرك أسلوبه الممتع في سرد تجاربه الغنية في جانب، ومظلومياته ومعاناته في جانب آخر.
تجنّب الكاتب السفير أسلوب السّرد "الكرونولوجي" الرتيب، من يومٍ ليوم، ومن سنةٍ لسنة، ومن سفارةٍ للسفارة التي تليها، بل آثر طرح مذكراته عابراً من موضوعٍ إلى موضوع، ومتردّداً بين محطات عمله الدبلوماسية بما تمليه عليه الموضوعات وليس توالي السنوات، وما صادف خلالها من شخصيات وما شهد من وقائع وأحداث. ذلك أسلوب أضفى على كتابه عنصر تشويقٍ وجاذبية. .
كان لوزارة الخارجية، ومنذ تأسيسها أوّل عام الاستقلال، أسلوب راسخ وتقليد متبعٌ، تنظّم وفقه جولات لناشئة الدبلوماسيين للتمرّس على العمل في مختلف إدارات الوزارة. أتذكر أني قد مررتُ مروراً عابراً - وأنا سكرتير ثاني - على إدارة شؤؤن غرب أوروبا (في الطابق الذي يعلو المكتب الوزاري التنفيذي (مكتب وزير الخارجية) من مبتى "جلاتلي" بطوابقه الثماني، قبل أن ينجح فاروق نفسه، وبعد أن صار وكيلاً للوزارة في زمانٍ لاحق، من إجلاء وزارة الخارجية من تلك البناية التي لم تكن تعجبه، فانتقلت الوزارة في عهده وكيلاً، إلى المبنى ذي الميادين الواسعة والأشجار المتنوّعة الفارهة. . مباني الإتحاد الإشتراكي القديم، وذلك في حدود عام 1986. .
(4)
حين قدمتُ للعمل في إدارة شؤؤن غرب أوروبا في وزارة الخارجية في تلك الفترة الباكرة، كان فاروق عبدالرحمن في درجة الوزير المفوّض، نائباً لمدير الإدارة، وأنا دبلوماسي ناشيء مع بضعة دبلوماسيين آخرين، نتحسّس خطانا في الوزارة. ظللتُ أتهيّب ذلك الدبلوماسي الأنيق الذي أجالسه في مكتبه، فأحدّث نفسي سِراراً : ترى هل سأترسّـم خطى رجلٍ مثله. . ؟
كنتُ أطالع خطه الأنيق على المذكرات الداخلية وملفات الإدارة، فأعجب وأسأل نفسي: ترى هل سأسطيع يوماَ أن أجاري ذلك القلم السيال ، وهل ستكون ملاحظاتي بذات عمق ملاحظاته، على ما يعرض عليه من مذكرات. .؟
كنتُ أرى فاروقاً ذلك الدبلوماسي الفطن، الأنيق بحلته الأفريقانية البيضاء البهيّة، فيرحل خيالي بعيداً، متمنياً أن يتحقق حلماً من أحلامي، بأن أكون مثله ذات يوم، إذ كان دبلوماسياً جديراً بالاحتذاء من كلِّ ناحية. غير أن مكوثي في تلك الإدارة لم يطل، فانتقلتُ أنا- أو ربّما انتقل هو إلى سفارة خارجية- فلم يتح لي أن أتصل بفاروق بما يعرّفني إليه أكثر، كأحد الذين أخذت عنهم طرفاً من خبايا المهنة وخفاياها. على قصر المدة التي التقيته فيها، ما برح الرجل ذاكرتي، لحضوره القويّ، ولرقة حاشيته، ولروحه السمحة. .
(5)
ما التقينا إلا بعد أن صار وكيلاً للوزارة ، وجاء إلى الصين الشعبية في زيارة رسمية، مرافقاً للراحل الفريق توفيق خليل، عضو المجلس العسكري الحاكم آوانذاك. كنتُ حينها في سفارة السودان في بكين، أشغل وظيفة السكرتير الأول، مع سفيرٍ "ود بلـد" لكنه مسكون بهواجس وأوهام جمّة أزعجتنا. إذ برغم ما بذلنا من جهدٍ لاسترضائه بأداءٍ لا نخذله بعده- ومعي أيضاً زميلي المستشار ماريو أنطون، عليه الرحمة والمغفرة، وصديقي الوزير المفوض نائب السفير بشير محمد الحسن- فقد أسرته شكوكه وتردده وهواجسه، فلم نكن "ننزل له من زور" ، كما يقولون. . ! كثرتْ علينا المضايقات وتفاقمت وكاد الخلاف أن يشلّ عمل السفارة.
شكوتُ حالي بعيداً عن الأسماع، للوكيل الزائر السفير فاروق، وقد استشعر بؤس حالنا ، وما نحن فيه من عنتٍ مع سفيرٍ فشلنا في استرضائه من أيّ وجه. بعد أن استمع الوكيل فاروق لقصتي، فإنه طلب مِنّي أن ابعث إليه ببرقية لأذكّره بالموضوع الذي حدثته فيه. وما أن فعلت، إلا وقد وصلني بأوّل حقيبة دبلوماسية، إخطار بالنقل من بكين إلى سفارة السودان في الرياض. كنت موقناً أن رجلا في مثل فطنة فاروق وفي نبل خلقه، لن يخذلني، برغم مشاغله الجمّة. .
(6)
لقد سمعتُ وقرأتُ بعض قصص من أزاحتهم سياسات التمكين بعد يونيو 89’ ومن أذاقتهم سـياط "الانقاذ" الظالمة ، وبانت على ظهورهم آثارٌ لا تغيب عن العين، لكن رواية السفير النبيل فاروق عبد الرحمن ، حملت قدراً من الصدقية ، ومن الشفافية، بما يكاد يراها من يقرأها من غير أهل المهنة الدبلوماسية فيحسبها رواية بناها الخيال، وزاد عليها صاحبها بعض البهار، ليضفي على مائدته المكتوبة جاذبية وابهارا. ليس ذلك بحقٍّ، إذ ليسَ السفير الفاروق بروائي قصّاص، ولا هو ممّن طوّف بهم خيال الكتابة ، وإن كنت أشهد أن ملكاته في الكتابة هي ملكة من أمسك بأطراف اللغة، معانيها ومضامينها. إني لأشهد- وإن لا أملك حق النقد أو التقييم لمن سعيت يوماً للاقتداء به- أنه يمتلك من حسن التعبير ما يؤهله كاتباً مُجيداً ، له أن يلقي من على كتفه بعض تواضعه، ليرسل لنا من حبر قلمه، تلك الكتابة الإبداعية التي نتعلم منها صدق العبارة ورصانة المعنى، وجودة القصّ وتبيان الحقيقة، مجرّدة بأسلس لغة وبإرقَّ عبارة. لقد حوَتْ كتابته مرافعة قوية، افتضحت سياسات "التمكيـن" الجائرة، التي غيبت الخبرات ودفنت الكفاءات، وولتْ من دفعت بمن كان أكثرهم عاطلاً عن الخبرة والموهبة . .
(7)
تعتبر الفصول الأخيرة من كتاب السفير فاروق- وقد شكلتْ نصف صفحاته- شهادة صادقة لتجربة قاسية للغاية، لسفيرٍ يعدّ من بين أفضل سفراء وزارة الخارجية، وقد تدرّج في وظائفها دبلوماسياً ثمّ سفيراً مفوّهاً مقتدراً، حتى اختاره وزير الخارجية بعد انتفاضة أبريل1985، السفير "الزميل" ابراهيم طه أيوب، وكيلاً للوزارة، وقد شغل ذلك المنصب لعامين كاملين، أبلى خلالهما البلاء الحسن.
لك أن تسال: كيف إذاً ظلّ لأكثر من عقدين بعد ذلك، طريداً وقد أضاعه وطنه. . ؟
تحدثك سيرته أنه بعد انتهاء التكليف، عاد سفيراً وسط زملائه السفراء، وابتعث إذّاك سفيراً للسودان في بلجيكا. أما بعد انطواء صفحة الديمقراطية الثالثة في 30 يونيو 1989 ، فقد كان السفير فاروق من بين أول من جرى "طردهم" من وزارة الخارجية، وهو في سفارته يمثل بلاده في بروكسل، عاصمة بلجيكا. الطرد من الوظيفة في الخارج، له أثر مُركّب ومضاعف عند فاروق. جال بعدها وصال، طريداً من بلدٍ إلى بلد، ومن عاصمة إلى عاصمة ، وقد آثر أن يسمّي جولاته في تلك البريّة بعيداً عن وطنه ، طرقاً لـ"سبل كسب العيش" في مختلف بقاع العالم، مُستعيراً من إرث "بخت الرضا"، عنوان كتاب الجغرافيا لصبية المدارس في الخمسينات من القرن الماضي. .
(8)
قدّم الرجل شهادة صادقة وقصّة مؤثرة لمطرود من خدمة بلاده ، تلاحقه عيون راصدة، وهو يطرق أبواب الرزق شرقاً وغربا خارج بلاده، فتوصد دونه ، لسؤ الطالع في أحايين- ولكن في أغلب الأحوال- بفعل فاعلٍ مُمانع، وباستهدافٍ متعمّد، من بعض مَن حملوا عليه، بمبرّر وربما بغير مبرّر، فكان خروجه مطروداً ، قد انطوى على قدرٍ من التشفي والغدر، ممّن كان عوناً لهم ذات يوم، فأسأوا إليه. جعلوا منه قيصراً لخنجر "بروتوس" ومشايعيه . أما المذكرة الضافية التي وردتْ في آخر صفحات الكتاب، والتي سمّاها الفاروق مصيباً: "تقرير عن مذبحة الخدمة المدنية"، فهي أقوى وأصدق مرافعة عن بؤس سياسة "التمكيـن" التي استهدفـت حقّ الإنسان في كسب عيشه بكرامة، بل سلبتْ حقه في الحياة جميعها، وستأتي ساعة تكون فيها المراجعة والمحاسبة واجبة. .
جمعتنا الأيام بعد سنين طوال في لندن، والتي عملت فيها بين عام 2000 وعام 2004، وكنتُ في خواتيم مهمتي، نائباً لرئيس البعثة هناك. أما فاروق فقد جاءها ليلقي رحاله في رحلته الثانية إلى لندن للإقامة فيها، وطناً مؤقتاً. هذه المرّة جاءها ، ليس كدبلوماسيٍ يدير سفارة بلاده فيها، ولكن كلائذٍ من هجير "التمكين" فعمل مستشاراً سياسياً في سفارة دولة قطرهناك، لبضعة سنوات، ووزارة خارجية قطر في وفاء نادر- ولمن لا يعرف- قد حفظت للسودانيين سهمهم في تأسيسها.
رأيتُ أثر الأيام وقد بانت على ملامحه، كما توهّمتُ أول وهلة، ولكن أدركت الآن، وبعد اطلاعي على كتابه، أنها بسبب "رحلات كسب العيش" المهدرة بين شتى العواصم ، وأيضاً لسبب يمتّ لخذلان عظيم، لعب فيه من ترصّدوه وهو في سنوات تيههِ تلك، دوراً بالغ القسوة، على رجلٍ ملك القدرات، فناشته سهام الغدر وانقلابات المِجن. قرأت فصول كتابه، فعرفت الكثير. كسبَ بياض قلبه برغم سواد قلوب مطارديه، وراصدي خطواته من أبالسة الإنس، يكيدون له الكيد الأعظم فما انكسرتْ قناته، ولا انحني يوماً لعواصف جارحة، وإن اهتزت لها الرواسي، وارتجّت إزائها القلوب الضعيفة، إلا قلب فاروق. حاربوه وسدوا عليه السوانح ومنها وظيفة كان يستحقها في إدارة معهد العالم العربي التابع لمنظمة اليونسكو . رجلٌ مثل فاروق لا تهزّه العواصف ، لا بحزمها ولا بعزمها ، ولا بإصرار مطارديه من أهل "الإنقاذ" الظالمين على النيل منه، وقد ثبّتَ قلبه على احتمال الضيم، وعلى مقارعة الظالمين، من أجل وطنٍ بذل العمر في محبته والولاء له، وإن أبعدوه عن حياضه .
(9)
لم أبقَ طويلاً في لندن لأنعم بصحبة رجلٍ تمنيت يوماً أن أترسّم خطاه وأكون مثله، إذ سرعان ما لاحقوني بالنقل إلى رئاسة الوزارة، ولم يتذكّروا أني قضيتُ نحو سبعة أعوامٍ في ديوان الوزارة في الخرطوم، قبل مجيئي إلى لـنــدن . . !
أما السفير فاروق فقد تابعت أخباره ، وعلمتُ بزواجه الثاني في لندن وسعدت له، بمثل سعادتي بكتاب مسيرته الذي أتحفنا بنسخته السفيران العزيزان الفاتح عبدالله يوسف وصلاح محمد علي ، فلهُ ولهما محبتي وتقديري وكثير امتناني . .
إن الحياة تمضي بنا ، بين محطات تُشبعنا حزنا، ومحطات أخرى تعيد إلينا باقات الفرح ونسمات التفاؤل، ويقيني أن من بين أكثر المؤمنين بما كتبتُ هنا، سيكون السفير المُشعّ صدقاً ونبلا: فاروق عبدالرحمن عيسى. .
الخرطوم – يونيو 2015
Jamalim1@hotmail.com