حُـزنٌ رمضـاني على الفَـرِيق “نوراني”

 


 

 

 

(1)

من التفاصيل التي قد لا يعرفها الكثير من الناس عن الخدمة الدبلوماسية ، أن أهل الدبلوماسية المهنية الصرفة، هي التي يعهد إليها إدارة البعثة الدبلوماسية، وهي قد تضمّ أناساً ليسوا دبلوماسيينً بالمهنة. في بعضِ السـفارات يكون هنالك ممثلون لوزارات وأجهزة للدولة ، يُلحقون بهذه البعثات الدبلوماسية ، فتجد من يمثل القوات المسلحة كملحقٍ عسكري ، أو من يمثل وزارة التجارة كمستشارٍ تجاري ، أو من يمثل وزارة الإعلام كمستشارٍ إعلامي. إنّ الحرص على التنسيق وحفظ التناغم بين مختلف مكاتب هذه الملحقيات ، يشكّل تحدٍ للســفير رئيس البعثة . إنّ أكثر السفراء المقتدرون ينجحون في ذلك، ولكن قلة منهم قد يتقاصر جهدهم، فتجد السفارة في حالٍ من التفكك وعدم الانسجام ، على مستوى العمل الرسمي أو على مستوى التعامل الاجتماعي . .

(2)
حينما ابتعثتُ للعمل بسفارتنا في جمهورية الصين الشعبية ، أواسط ثمانينات القرن الماضي ، مررتُ بتجربة لمستُ فيها اضطراباً في العلاقة بين السفير وباقي أعضاء البعثة وفيهم الملحق العسكري. من حسن حظي أني عاصرتُ الأيام الأخيرة لمهمة الملحق العسكري في بيكين، الراحل اللواء طيّار (أ.ح.) وقتذاك خالد الزين على. شهدتُ خالداً وعرفتُ كيف كانت علاقته الشخصية مع رئيس البعثة ، يديرها بحصافة وحذق، كمثل حذقه في إدارة علاقاته مع رصفائه الملحقين العسكريين الأجانب ، والكثير من السفراء المعتمدين في الصين . بعد مغادرة اللواء خالد إلى الخرطوم ، وصل إلى بكين الملحق العسكري البديل لخالد، وهو اللواء طيّار (أ.ح.) محمد علي عربي. ما رأيتُ عند الإثنين إلا كلّ نُبلٍ محمود وكلَّ قدراتٍ مطواعة وكلّ حصافة سديدة، في إقامة علاقات تعاونٍ وتنسيقٍ لصيقٍ مع الطاقم الدبلوماسي الذي يساعد رئيس البعثة- ربّان سفارة. السودان في الصين
رحم الله الشهيد الفريق خالد الزين ، الذي شارك بجهد جبَّار ومؤثر - وهو قائد لسلاح الطيران في عام 1985- في انحياز القوات المسلحة لانتفاضة الشعب على نظام جعفر نميري، لكنه لم يكن عضواً في ذلك المجلس العسكري الذي تولى إدارة البلاد تحت قيادة المشير الرّاحل عبدالرحمن سوار الدهب.
أما صديقي اللواء طيار (أ.ح.) محمد علي عربي (لقبه المحبّب نوراني)، فقد تولّى بعد عودته من مهمته ملحقاً عسكرياً في الصين ، قيادة سلاح الطيران السوداني، ثم أحيل إلى التقاعد القسري إثر قيام الإنقاذيين الإسلامويين بإنقلابهم المشئوم عام 1989 . شهدَ صديقي الفريق "نوراني" أكثر سنوات النكبة الإسلاموية في السودان، وتوفي قبل سنوات قليلة . .

( 3)
لعلّ عليّ في ذكرى رحيل رجل نبيل مثله ، أن أستعيد أطيب ذكريات اقتسمناها ونحن في الصين ، حيث شهدنا بدايات التغيير الكبير الذي تولاه قائد إحداث العصرنة في الصين الشعبية: الزعيم الراحل دينغ تشياو بينغ. ذلك القائد الذي اذلوه خلال أعوام الثورة الثقافية أواخر ايام مؤسس الدولة "ماو زيتونغ"، فإذا هو بعد التصحيح ذلك الرجل القويّ الذي نقل الصين لتكون ذلك المارد الذي ولج إلى الألفية الثالثة بثقة وعزيمة .
على أيامنا في بيكين، لم نكن نفترق . بعد ساعات العمل الرسمية، نخرج سوءاً أنا و"نوراني" مع أسرتينا وأطفالنا إلى مختلف مناطق العاصمة ، نتعرّف على معالم المدينة من معابد ومسارح وحدائق وغابات وبحيرات وسور عظيم فوق جبال. أكثر ما جذبنا في العاصمة المكتظة بملايينها العديدة ، هى جولاتنا في "المدينة المُحرّمة"، ذلك الحي الإمبراطوري القديم في قلب العاصمة بيكين، ليسَ بعيداً من ميدان "تيان آن مين" الشهير. بيني وبين صديقي محمد عربي ودٌّ متبادل وصداقة متينة ، فتجدنا نترك أسرتينا مشغولين بالترويح عن أطفالنا ، ثمّ ننفرد معا إلى ما نخوض فيه من أحاديث وذكريات عن ما كسبنا في حيواتنا ، هو في تجاريبه العسكرية وأنا عن تجاريبي الدبلوماسية. ولكن تجدنا أحيانا نستغرق في الحديث عن خلافاتنا التي يفتعلها معنا رئيس البعثة ، وهو ذو شخصية موسوسة ، آثر أن ينعزل عن أعضاء بعثته فلا يخالطهم إلا لبضعة ساعات في عطلة نهاية الإسبوع. بروحه السمحة، ظل اللواء "نوراني" يطيّب الخواطر ، كما يقول السودانيون ، فينجح مرّات كثيرة في إذابة جليد تلك الخلافات. .

(4)
إفترقنا بعد أن أكملنا مهمّاتنا في الصين وعدنا إلى الخرطوم في العام الأخير من الثمانينات، صار هو قائداً لسلاح الطيران وأنا مستشاراً في ديوان وزارة الخارجية . بقيَ الودّ في استدامته بيننا ، وأيضاً مع صديقنا الملحق العسكري السابق في سفارتنا في بيكين الفريق(طيار) - حينذاك- خالد الزين علي.
ثم وقع انقلاب "الإنقـاذ" فانقلبتْ الدنيا علينا جميعاً رأساً على عقب.
حدّثني الفريق محمد علي عربي أنه وبعد سماعه المارشات العسكرية بما يشي بأن إنقلابا قد وقع، قاد سيارته من منزله بالخرطوم بحري، صباح تلك الجمعة الحزينة قاصداً سلاح الطيران وهو قائده حتى ساعات الصباح تلك. وبرغم تعريفه للجنود الذين يحرسون كبري النيل الأزرق ، فقد أوقفوه ولم يسمحوا له بالعبور، وأفهموه أنها تعليمات القيادة الجديدة. تمتْ إحالة صديقي الفريق عربي إلى التقاعد مباشرة بعد أن استولى "الإنقاذيون" على السلطة في البلاد.

(5)
. حدثني صديقي الفريق محمد علي عربي عن أيامه الأخيرة في سلاح الطيران قبل وقوع الانقلاب ، فأسرّ لي بلسانه قائلاً :
- كنتُ أعقد اجتماعاً صباحياً كلّ يومٍ بمكتبي في قيادة سلاح الطيران، نتداول فيه عن المهام والتكليفات والأحوال العامة في السلاح. قبل وقوعِ الانقلاب المشئوم بأيامٍ قليلة، إستبقى العقيد(مهندس) عبدالرحيم حسين نفسه في مكتبي بعد انفضاض الاجتماع الصباحي. .
سألته مستعجلاً :
- هل هي عادته . . ؟
- كلا . فقد ألمحتُ إليه أنّي مشغول بمهام عاجلة ذلك اليوم ، ليفهم إني أريده أن ينصرف ، لكنه ابتسم ولم يهبّ من كرسيه ، بل فاتحني بما استعجبت له . . قال لي: "يا سيادتك هل تتصوّر يوماً أن يقوم سلاح الطيران بإنقلاب عسكري..؟". . أذهلني ما قال لكني قلت له بحزم : لا تضيع وقتي فيما لا يجدي، هيا إمضِ إلى مكتبك. . ! بالطبع لم يخطر ببالي أن آخـذ حديثه معي محملاً جاداً. انقلاب عسكري ؟ عبدالرحيم حسين ؟ أخيراً حدجته بنظرة جادة، ولكن لم تغادر الابتسامة البلهاء ملامح الرجل . هبّ من كرسيه وخرج من مكتبي..
قلتُ للفريق طيار محمد علي عربي :
- طبعا تلكم الأيام كانت "مذكرة الجيش" في فبراير من عام 1989، هي حديثُ الشارع، فيما وزارة الإمام الصادق المهدي على ضعفٍ واضطراب.
قال لي الفريق عربي مواصلاً تداعي ذاكرته:
- بعد أيامٍ قليلة، وحين برزتْ الوجوه التي قامتْ بانقلاب "الإنقـاذ" ورأيتُ العقيد عبدالرحيم في قيادة تلك الحركة ، أيقنتُ أنّ في تلميحاته لي بمكتبي ذلك اليوم - وقد حسبتها بريئة- أنه كان يحاول اختبار إمكانية أن أشارك في أيّ انقلابٍ قادم ، غير أن صرامتي وتعاملي معه بحزم ، أقنعتاه أن الأمر ليس بالسهل عليه. .

(6)
شملنا انا وصديقي الفريق عربي حزن عميق، وقد قتلوا الفريق خالد الزين وأعدموه مع ثماني وعشرين ضابطا من خيرة رجال القولات المسلحة السودانية . سمعت بعد ذلك أنهم وجدوا بمنزله البيان الذي كان سيلقيه من الإذاعة القومية، حال نجاح الحركة التصحيحية التي أختاره ضباط الحركة أن يكون قائدها . حدثني صديقي الفريق طيار عن اللحظات الأخيرة لصديقه خالد فقال:
- جاءوا إلى منزله بعد أن عاد من صلاة التراويح وعشرية الشهر الفضيل في أواخرها. لم يكن يحمل سلاحا ولا قاد سيارة عسكرية، بل لم يخرج من داره كامل يوم الجمعة المشئومة إلا إلى المسجد لصلاة التراويح. فجر السبت بعد محكمة عسكرية مستعجلة في وادي سيدنا، لها سؤال واحد : مذنب أم غير مذنب؟ كيفما كانت الإجابة، فقد كان قرار المحكمة هو الإعدام رمياً بالرصاص. .

(7)
في ذكرى رحيل صديقي الفريق طيّار محمد علي عربي ، وقد دأهمته علة السرطان في24 مايو من عام 2009، بقيتْ صورة لحظاته الأخيرة عالقة بذاكرتي، كأنهُ فارقني البارحة. وقفتُ إلى جانبه ومن حوله رفيقة دربه سهام عبدالرحمن العاقب، وكريمته الدكتورة دينا عربي وإبنائه إيهاب وأمجد وأكرم ، بمستشفى السلاح الطبّي بأم درمان. علتْ وجههُ الابتسامة الودودة التي عرفتها عليه منذ أيامي الأولى معه، حين جمعتنا العاصمة الصينية بيكين. ذلك الوجه الودود لم ينكسر في ساعات الرحيل . لم تبرح ذاكرتي فيما هو بين إغماءة وإفاقة، علاماتُ النبلِ تلك التي عرفتها عليه، منذ أن كان يحدّثني عن حكايات وحكايات، وعن أيامنا في سفارتنا في الصين، وعن إنقلابٍ مشئومٍ في عام 1989 ، شارك فيه ضابطٌ هو آخِرُ من يُتوقع من ضباطه في سلاح الطيران . لا ولا بارحتْ ذاكرة صديقي "نوراني" ولا ذاكرتي أنا بعد كل هذه السنوات، نبل وشجاعة صديقنا المشترك الفريق طيّار الشهيد خالد الزين علي. .
صديقاي الراحلان خالد و"نوراني": أدعو الله لكما بالرّحمة والمغفرة. . ما زلتُ- إذا ما تذكَّرتُ أيّامي معكما- تدمع عيناي من حُزنٍ مقيـمٍ. .

الخرطوم- 18 مايو 2020

 

آراء