كرونا: فرصة لاجتراح أفق تنموي جديد
لم تعد التنمية تتوقف على الجهود والقرارات الوطنية الديمقراطية فحسب، ولذا فلابد من ميثاق واقعي يعالج الخلل الوظيفي للدولة، وينشد الربط بين ماهية العولمة وشروط الاسهام فيها بفاعلية. إذا لم يكن بدافع الاخلاق فبدافع حب البقاء او الحرص علي الخلود. كما إن تجاوز حدود معينة من السلب الإنساني سيؤدي وظيفة الانتقاء الدراوينية التي تعرض الجميع للخسارة وتؤدي اضطرابا يستحيل التكهن بعواقبه الكونية. إن الربط العضوي والتدريجي بين الاقتصادات المصدرة للمواد الخام والاقتصادات الصناعية لا يقصد منه تعميم "خلق المجتمع الاستهلاكي للبلدان الغنية" أو اللهث وراء التقدم المادي، إنما تجنب انخفاض استهلاك الفرد للطاقة، وهنا تكمن معضلة البشرية والتي لا يمكن تجاوزها إلا باعتماد الدبلوماسية وسيلة للتفاوض لأن سباق التسلح قد صرف الموارد في غير موضعها ولم يفض إلى سلم (أو يحقق ازدهارا للحس العدلي)، إنما قد تستحيل معه سياسة توازن الرعب إلى رعب حقيقي اذا لم تتحذ الخطوات التي تراعي، أولاً، أهمية التوافق بين قادة الامم لمواجهة التحديات التي سيمثلها السوق والثورة العالمية؛ ثانياً، منح الارستقراطية الجديدة تمثيلا دولياً مع عضوية كاملة في المنظمات الاقتصادية والمالية والبيئية؛ ثالثاً، تطوير نظرية فيزيقية واجتماعية من اجل فهم افضل لما سيحدث اجتماعيا وسياسيا في العالم؛ رابعاً، إيجاد لغة مشتركة تجدد قواعد الاخلاق المقبولة كونيا وتحقق أخوية كونية اعتمادنا لمبدأ الحوارية؛ خامساً، لابد من تفعيل حزم الانقاذ مع وجود نية اصلاح حقيقية للنظام الكوكبي المالي.
السؤال: هل نشهد انتصاراً للطموح على العقلية الخرائطية الجامدة التي جعلت شعارها (لا تترك أي هدف وراءك!)، حال التفحص لأهداف الألفية الثالثة، أو ما يسمى تجوزاً (أهداف التنمية المستدامة 2030)؟ دعنا نراجع الملفات. شهدت أهداف التنمية المستدامة الجديدة تحركات في أهداف الإنمائية للألفية وحصلت على 9 أهداف إضافية. تنقسم أهداف التنمية المستدامة السبعة عشر إلى 169 هدفاً محدداً التزم كل بلد بمحاولة تحقيق أساس طوعي خلال السنوات الخمس عشرة القادمة. على عكس الأهداف الإنمائية للألفية، يجادل المدافعون عن أهداف التنمية المستدامة أن هذه الأهداف قد نشأت من عملية شاملة حقا أتاحت المجال لأصوات من البلدان النامية، التي أصدرها التكنوقراط مجالاتهم العليا.
ومع ذلك، فإن الكم الهائل من أهداف التنمية المستدامة يمثل مشكلة، وبعض الأهداف لها صياغات غامضة إلى جانب الافتقار إلى آليات المساءلة المستقلة لقياس ما إذا كانت الدول الأعضاء الفردية قد حققت المعايير الحادة هي وصفة لتقويض هذا البرنامج الجديد. بالنظر إلى التكلفة الباهظة التي لا يمكن تحملها والتي تتراوح بين 2-3 تريليونات دولار في السنة، والتي وصفتها مجلة الإيكونومست في وقت واحد بأنها " خيانة " لأفقر الناس في العالم". يجادل واضعو أهداف التنمية المستدامة بأن القضاء على الفقر على سبيل المثال – سيتطلب أكثر من الصدقة – ستطلب الحد من عدم المساواة ومكافحة تغير المناخ، وتعزيز حقوق العمال، والقضاء على الإعانات الزراعية الغربية، وما إلى ذلك والأهم من ذلك، الاعتراف بأن الفقر مشكلة هيكلية معقدة.
تضع أهداف التنمية المستدامة وعياً بحقيقة أن شيئاً ما نظامنا الاقتصادي قد ذهب على نحو رهيب – أن السعي الإلزامي للنمو الصناعي الذي لا نهاية له يمضغ من خلال كوكبنا الحي، وينتج الفقر بمعدل سريع، ويهدد أساس وجودنا. ومع ذلك، على الرغم من هذا الإدراك المتنامي، فإن جوهر برنامج SDG للتنمية والحد من الفقر يعتمد بشكل محدد على النموذج القديم للنمو الصناعي إلي – مستويات متزايدة من الاستخراج والإنتاج والاستهلاك، الهدف 8، مكرس للنمو، وتحديدا النمو الموجه نحو التصدير، تمشياً مع النماذج الليبرالية الحالية. يشجع التقرير النمو باعتباره الحل الرئيسي لمشكلة الفقر، ولكن هذه العلاقة ضعيفة للغاية من بين جميع الدخل الناتج عن نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي بين عامي 1999-2008، حصل أفقر 60% من البشر على 5 في المائة فقط منه. بالنظر إلى النسبة الحالية بين نمو الناتج المحلي الإجمالي ونمو الدخل لأفقر الناس، فإن الأمر سيستغرق 207 سنة للقضاء على الفقر من خلال هذه الإستراتيجية، وللوصول إلى ذلك سيتعين علينا تنمية الاقتصاد العالمي بمقدار 175 ضعف حجمه الحالي.
لمعالجة عدم منطقية النمو اللانهائي بصورة حاسمة، نحتاج إلى الإشارة إلى أن النمو الرأسمالي كما يقاس الناتج المحلي الإجمالي – ليس هو الحل للفقر والأزمة الإيكولوجية، بل هو السبب الرئيسي. ونحن بحاجة إلى قدر من التقدم الإنساني لا يوجهنا نحو مزيد من الاستخراج والاستهلاك من جانب النخبة في العالم، ولكن المزيد من الإنصاف، والمزيد من المساواة، والمزيد من الرفاهية، والمزيد من المشاركة، لصالح الغالبية العظمى من البشرية.
تحدد أهداف التنمية المستدامة التعليم، مثلاً، على أنه جزء من تعريف التنمية أكثر من كونه وسيلة لتحقيقه، وتفشل في دفع النقاش حول نوع التعليم الذي يجب تقييمه لأي غرض؟ يؤكد كيث لوين أن الفرضية قد ضاعت للتفكير أكثر في تلك التي تحول العقول واليدين والقلوب وتقديم نظره ثاقبة لما قد يكون التعليم المصمم لتعزيز التنمية الصديقة للمناخ واحترام حقوق الإنسان والمفيد اقتصادياً. إن إستراتيجية بناء المواطن المستنير مع قدرات العمل الجماعي هي أساس التنمية المستدامة على الرغم من أنه لا يوجد في النص ما يفسر حقا كيف ترتبط الأهداف والغايات الجديدة للتعليم (الهدف 4) بجميع أهداف التنمية المستدامة الأخرى التي يكون لمعظمها أبعاد تعليمية، أو لماذا الوصول إلى أبعد من ذلك أولاً يعتبره أمر منطقياً لتقديم الخدمات هو نظامي، وليس على هامش النظم التعليمية السليمة في الأساس.
لقد أدت العملية الأكثر شمولاً التي ولدت أهداف التنمية المستدامة إلى تركيز أقل وأهداف وغايات أكثر تناقضاً، ونقص في تحديد الأولويات أو الصدق حول التكاليف والمفاضلات لتحقيق التطلعات. إن سد الفجوة بين خطاب تطلعات وواقع الإجراءات يتطلب اهتمام الأطراف الملتزمة من حيث المبدأ بجدول أعمال 2030، فكلما حاولت دولة ما التمسك عمياء بقائمة الأهداف ال 17 والأهداف " المحددة" كلما كان من السهل عليها تجاهل الأجزاء غير المريحة، وكلما زادت فرصة الوصول إلى نوع الشلل عن طريق التحليل الذي يركز على القياس في حساب المعنى. قد توفر خطة عام 2030 إطاراً لتنسيق الجهود بشكل أكبر لإنهاء الفقر والأمراض بدعم مالي من الدول الغنية. ومع ذلك هناك خوف من أن يحبس برنامج التنمية العالمي للأعوام الخمسة عشر القادمة نموذج اقتصادي يتطلب تغييرات هيكلية عاجلة وعميقة، لا سيما أن جدول أعمال أهداف التنمية المستدامة غير كاف لدعم وسائل التنفيذ التشغيلية (MoI) على المستوى المحلي ( الدول الأعضاء الفردية) على سبيل المثال، الشركات والمستثمرين من القطاع الخاص.
في غياب الارادة السياسية للإصلاح وضعف السياسية الإدارية، قد تستحيل الرؤية الاستراتيجية للتنمية المستدامة 2030 إلى مثيلتها من "أهداف الالفية" التي أضحت بمثابة وثائق أدبية دست في اضابير الخبراء العالميين والوطنيين. وقد كانت الشراكة (الغائبة حينها) كفيلة بتفعيل قنوات الشفافية والمحاسبية وتقنين سبل التواصلية/التداولية بين الدولة والقطاع الخاص والمجتمع المدني. بيد أن محاولة النظام الاقتصادي العالمي لاستمالة النخب الاقتصادية المحلية مستخدمة أساليب ناعمة وأخري خشنة قد حرم كثيرا من البلدان النامية من فرصة استشراف وضع اجتماعي وسياسي ينتج اقصي حد من الانبثاقات والابداعات ويفرض ادني حد من الضغوطات. وإذ ظلت مجهودات المجتمع الدولي تسترشد – بوعي أو دون وعي – بهدي الفلسفة الوضعية المادية فقد أفتقرت المؤسسات الدولية إلى النوازع الأخلاقية الرامية للنظر للكون كوحدة جمالية ستتهتك ويستحيل نوارها إلى هباء متما أفتقرت إلى إحدي مكوناتها. لا يهم إن كانت الكرونا من صنع الإنسان (الأمبريالي) الذي أزعجه اكتظاظ الكون "بكائنات بائسة" و"غير منتجة" فقرر التخلص منهم، أو من صنع الطبيعة التي أغضبها سوء افراط البشر (الأغنياء منهم خاصة) في استهلاكهم للموارد فعمدت إلى تلقينهم درساً قاسياً؛ المهم أننا أدركنا جميعاً، فقراء وأغنياء، ضعفنا وقلة حيلتنا، بل وهواننا إذا ما عبثنا بقانون الكون. لطالما عولت كل العقائد الكونية والفلسفات الأخلاقية على التكافل في احداث التماسك بين المجتمعات، وبينت خطورة استئثار فئة بالموارد دون الأخرين. لو أنّ دول العالم المقتدر صرفت واحد في الألف ممّا تصرفه في التسليح على التنمية لاكتفي كل مواطن على الظهر البسيطة من كافة الاحتياجات، يشمل ذلك الصرف الصحي، مياه الشرب، المأكل، المأوى والملبس. لكن هيهات، فقد ظلت الدول الغنية تفكر بطريقة اتسمت بالاستعلاء واستمرئت التعامل بصورة شابها الانتقاء، حتى استحوزت أقلية لا تتكاد تتجاوز 2 في المئة على ثروات 98 في المئة من البشرية، الأمر الذي فاقم من حجم المعاناة وضاعف الهوة بين المتخمين والمحرومين. وإذ قاربت العولمة بسحرها بين المسافات وباعدت النظم بين الأفئدة، فإن المعول يبقي علي الضمير الذي قد يستحث نخبة كوزموبوليتينة مدركة، واعية، الأهم متخلقة وعازمة علي خوض المعترك السياسي التنموي مدنيا وسلميا وذلك من خلال الاعتماد علي التدافع الحيوي الذي لا يتجاوز المؤسسات الأقليمية والدولية، لكنه يعمل على إعادة النظر في صياغة دساتيرها ومراجعة هياكلها كي تؤدي دورها في جبر وحدة المصير الانساني وتسعى على تحقيق غايته من الازدهار والنماء. قد لا نحتاج لجائحة آخرى كي تنذرنا، فإن الإفلاس الأخلاقي قد تهددنا بالهلاك ومسنا بالضنك، وذلك قبل مجيئ كرونا!
auwaab@gmail.com