أردتُ أن أحدّثك يا صديقي هذه المرّة، عن شاعرٍ أعتبره من أصدقائي الأقربين، هو "المتنبي" !
أجل.. ستجدني أحدثكِ عنهُ حديث الصديق المُحبّ ، لا حديث شخصٍ بينه وعصر "أبي الطيب" ألف عام ونيـّف. . كثيرون ممّن تعاطوا مع شعره، إيجاباً أوسلبا، إطناباً أو نفوراً، ما استكفوا ببلوغهم كلَّ ما عنّ لهم أنْ يقال في حقِّ شاعرٍ شغل الناس ولم يزل. كثيرون طالعوا قصائده، فأحبّوا بعضها وأنكروا بعضها الآخر. كثيرون أعماهم حبُّهم وولعُهُـم بـ"أبي الطيب"، فعشتْ أعينُهُـم عمّا ظلّ بعض من تناولوا تجربته الشعرية الغنية بالإنكار، غير عابئين بسواها. . لكنّي أعلن أنّي من مُحبّي شِعر "أبي الطيب"، وممّن أغرموا بتجربته الحياتية، وليسَ أشعاره فحسب. تلك الحياة هي التي استهجنها الأديب الفحل طه حسين، وقد مضى في غير الطريق الذي سلكه "أبوالعلاء المعرّيّ" ، ذلك الذي انقطع محبّاً لأبي الطيب ، يكاد يجلّهُ الإجلال كلّه . أما "طه حسين"- الذي درسونا كتابه "مع المتنبي"، ونحن طلاب في الثانوية قبل الدراسة الجامعية، - فما كان رحيماً بـ"أبي الطيب"، ولا كان مُغرماً به . وإني أستلف تعبيراً وصف به الراحل "الطيب صالح" حال "الإنقاذيين" الذين حكموا السودان ثلاثة عقود حسوما، بين 1990 وعام 2020 الميلادي، فقال إنهم أحبّوا بلادهم وكأنهم يكرهونها ، أو كأنهم عقدوا العزم وشدّوا الأحزمة شـدّا لخرابها. للراحل "الطيب صالح" ، إسمٌ يوحي بتسامح خلّاقٍ وبطيبة كريمة وصلاح ، ذلك تراه في كتاباته الروائية وفي مقالاته وخواطره. ذلك سرّ محبته للشاعر "أبي الطيب المتنبي" ، شعره وتجربته الحياتية. . أقول إن "طه حسين" وهو يقدم لنا "المتنبي" على مائدة النقد الناعم، فإنّا رأيناهُ - أو لعلنا قرأناه- يكتب عن حبٍّ ولكنه حبٌّ خالطه كُرهٌ واستهجان. كتب "طه حسين" كتابة أبعد من النقد وأقرب إلى الخواطر ، لكنه خطه بقلمٍ حبره أحمر جارح. . قد تتوقع يا صديقي وبحكم هويتي وسودانيتي ، أن أقف متعاطفاً مع عبد أسود مشقوق القدمين والمشفر، فأستنكر هذا الإفك الشعري الذي نظمه فيه هجاءاً مرّاً، "أبو الطيب". لقد رسم لنا "أبوالطيب" بقصائد بانت أكثر حذقاً شعرياً، وأمتن لغة وأوضحها تماسكاً، صوَراً بلغتْ في الثناء والمدح، بمثلما بلغت في الهجاء والقدح، درجات عالية في السمو، فكانت تلك جماع تجربته في مصر الإخشيديين. امتدح "كافوراً" فأحسن وأجاد، ثم لمّا لم يظفر بإمارة منه ، هجاه فأقذع. حاكمٌ جبّارٌ هو ولكنه في نظر "المتنبي" أميرٌ مُخادع. عبدٌ جاءتْ به الأقدار من أهله "السودان" فحكم مصر ، فكأنّ مكتوباً لمصر أن تُحكم من مختلف الملل والألوان والسحنات والأعراق : فراعنة وروم وإغريق . فلمه لا يملك فيها الأمر أميرٌ ليس من "البيضان" بل من "السودان". .؟ وإنّي لأعجب أنْ أرى أكثرَ السودانيين مأخوذين شعر "المتنـبي"، لكنهم كارهون شعره في "كافور الأخشيدي" كلّ الكراهية. غيرَ أني أرى شعره في "كافور" ، أمتن وأحكم نظماً من أكثر شعره ومدائحه السابقات. . نظري لـ"أبي الطيّـب" يدفعني لتجاوز مثل هذه الأحكام ، والنظر بعمقٍ، ليسَ للتجربة الشعرية فحسب، بل للتجربة الحياتية بتفاصيلها، وما انطوتْ عليه من حسنات ومن مساويء، فأنا لا أفصل بين التجربتين جزافا. لربّما سعى "أبو الطيب" حثيثاً وراء إمارة يطلبها فيطلق لسانه يمدح حاكماً شجاعاً، أو أميراً فحلاً، أو قائداً مقتدرا، ثمّ يرسل لسانه في هجاءِ من خذله منهم، هجاءاً مرّا أو حلوا. يكتب شعراً في الرّثاء، وفي أدب الإعتذار ، أو في المعاتبة والشكوى ، فتصير أبياته حِكَماً بين الناس، وإن كانت تتصل بتجربة علقتْ بشخصه وبطموحاته ، خسارة في حين وربحاً في حينٍ آخر. رؤيتي أنَّ الشاعر في حاجة لصقل قدراته في النظم ، وإنه لن يألو جهداً في أن يجد موضوعات يتناولها ، مدحاً أو هجاءاً ، رثاءاً أو عتابا ، فتمنح تلك الأقدار، سوانح لتطويع القوافي وإجادة نظم القصيد، فيسمو به من تفصيل التجربة تأتي من ضيق الخذلان والتردّي في الفشل، إنطلاقاً إلى فضاء الفكر والحكمة والفلسفة. يتقد جمرُ الموهبة الإبداعية بثراءِ التجربة الحياتية، تعلو من مرحلةٍ إلى مرحلة ، فتزيد موهبة الشاعر عمقاً واتساعا ، بتراكم تجاربه الحياتية واتساع فضاءاتها . لكأنّي أرى انتقال "أبي الطيّـب" من أميرٍ إلى أمير، ومن حاكم إلى زعيم ، ثمّ من مكانٍ إلى مكان ، كتجواله الطويل سفراً من العراق والشام عبوراً طويلا إلى مصر وبلاد فارس، هي تجوّلات في المكان مثلما هي تحوّلات في الزمان، سمَتْ بشعرِ "أبي الطيّـب" سموّاً بلغ عبره وفي أخريات سنواته، مستوىً من إجادة النظم وصقل صوره الشعرية وامتلاك ناصية الحكمة والفكر، بما لم يتوفر لهُ في أوائل سنواته، شاباً في أوسط عمره. كما أنّي أرى في انقطاع المتنبي سعياً وراء طموحاته الجامحة ، ما خصم من تجربته الحياتية جانباً مهمّاً يتصل بعلاقة "الشاعر" بالمرأة. إنك تطرب للنسيب في قصائده وفي ابتداءات أماديحه أو حتى معاتباته، فكأنّ الرّجل بالحقِّ، هو ذلك العاشق الذي لا يصدر شعره في الحبِّ، إلا عن تجربة. لكنك في واقع الحقيقة لا ترى عند "المتنبي" شغلاً بالمرأة. نعلم أنه متزوج من امرأة وأنّ له منها بنين ، ولكنك لا ترى شيئاً من ذلك في شعره. إنَّ طموحه الجامح نحو تحقيق الذات بتولي إمارة، تجعل منه أميراً على ذات مستوى مَن يمتدح من الحكام والأمراء، سدتْ عليه أفق العلاقات العاطفية السوية مع الآخر المكمل للتجربة الحياتية. لست ميالا للتفسير النفسي باختراع عقدة نقص عند الشاعر ، ولكن هي فطرة البشر إذا تسامَى الطموح فإنه بسطع كالشمس أما العين فتعشى عمّا عداها. . . . لكن يبقى لنا أن نجد إجابة على سؤالٍ يلحٍّ عليَّ أيها الصديق : ماذا لو تقاصر طموحُ "أبي الطيّـب" عن بلوغ درجة الأنبياءِ التي قيلَ أنهُ سعى إليها في شبابه، أو فشله في نيل إمارة من أميرٍ من الأمراء أو ملك من الملوك الذين أشبعهم مدحاً وثناءاً، ثمّ قرِّر عوضاً عن كلّ ذلك، أن ينكفيءَ على ذاته، ملتزماً بزوجةٍ ربّة بيت، فلا يخرج من الكوفة شبرا ، هل كنا سنلتقي بشاعرٍ ضخم إسمه "أحمد بن الحسين الكوفي، أبي الطيّـب المُتنبي" ؟ هل لو أتيح له خيارٌ يأخذه إلى ضالته ليكون أميراً على إمارة واحدة ، ترى هل سيكون لنا حظٌّ في شعرٍ بديعٍ مُحتشدٍ بالحكمة والنسيب والفخر والشكوى والتعاتب ، فيملأ صاحبه الدنيا ويشغل الناس، بمثلما نظـم "أبو الطيـّـــب" في الأمير الحمداني . . ؟ لعلّي أقول مطمئناً يا صديق، أنّ مرحلة شعر "أبي الطيــب" مدحاً أو هجاءاً في الأخشيدي، أو مرحلة نظمه الشعر في بلاد فارس عند "ابن العميــد" ، هو الشعر الأسمى لغة ونظماً وحكمة. هو الشعر الذي بلغ فيه قدراً من الإجادة غير مسبوق. بل لعله الأعلى من مرحلة نظمه في كلٍّ من العراق والشام، وأسمَى صوراً ولغة وحكمة.. وإني أميل إلى الزّعم أن رحلته الجغرافية من العراق وإلى الشام، ثم إلى مصر وفارس من بعد، هي التي حققت ذلك السموِّ في النظمِ: مبتدأه في العراق وتدرّجه أعلى رفعة ، في الشام، ثم هو يبلغ الدرجة الأسمى في مصر والعراق وفارس أخيراً. تكتمل دورة التجربة الحياتية عند "أبي الطيب" بخروجه بدءا من العراق شاباً، ثم جولاته في الشام ومصر وفارس . ثم يكون اختتام التجربة الشعرية والحياتية . بسبب ممّا نظم من قصيد كان هو نهاية الأرب الشعري عنده، فانتهت تلك التجربة الحياتية بالاغتيال، ثم يكون ختام تلك التجربة الشعرية العظمة والخلود. إني لا أحدثك هنا عن تجربة "أبي الطيّـب" وحده ، بل عن تجربتي الشخصية في النظم ، وتحوّلات نظمي للشِعر خفيضاً خجولاً في بداياته ، ثم وسطاً في التجربة الحياتية ، وهاهيَ ما بلغتْ جذوتها اشتعالاً، إلا في السنوات الأخيرة. . أراني الآن في مرحلة الشعر التي تعادل مرحلة "المتنبي" في سنواته الأخيرة، وقد بلغ شأواً عالياً في النظم ، ليتني أبلغ مجده برغم تواضع قدرأتي في نظم الشعر. . لكن يظلّ سؤال يلحّ عليّ يا صديق: لقد صوّر "أبوالطيب" أمراءهُ وأغرقهم بأماديحه وجميل أشعاره ، فجوّد نظمه وارتفع به عبرهـم، إلى آفاقٍ لم يَعلُ إليها شاعرٌ قبله. لم تبلغه أمارة من أيّ ممّن امتدح. بلغ المجد آخر أيامه بالشاعر فالتقاه أهل ضبّة بن يزيد فاغتالوه وهم يسألونه ساخرين : أين قلمك وقرطاسك وسيفك. . ؟ أما أنا فلست أطمع في خاتمة مثل هذي يا صديق . .