لم يدهشني الذين نظروا إلى مؤتمر برلين من زاوية العائد (الدولاري) وطبقاً لذلك طفقوا يُبخِسون الإنجاز تارة، ويختزلون أهدافه تارة أخرى. ولأن عيونهم دأبت على نكران ضُوء الشمس من رمدٍ، لن يروا الصورة الحقيقية لحدث يعد الأضخم في تاريخ السودان المعاصر، وتحديداً منذ أن رمينا بحثالات نظامهم البائد في مزبلة التاريخ. أما إخضاع القيم والمبادئ والأخلاق للمعايير (الدولارية) فتلك منغصة جُبل عليها الزنادقة الملتحون، وذلك ما اعتدناه أصلاً منهم. فلا غرو من أنه هو ذات الدولار الذي أزهقوا بسببه أرواح شباب غض (مجدي محجوب محمد أحمد، وجرجس القس يسطُس وأركانجلو داقاو) قتلوهم وبعد أن قبروهم أصبح الدولار نفسه هو دينهم الذي يعبدون، وكعبتهم التي يطوفون حولها آناء الليل وأطراف النهار! يظُنون أن نفوسنا أصابها الوهن وذاكرتنا نال منها الخرف. وكأنهم لا يعلمون أن تاريخهم المخزي ما يزال ماثلاً بين أيدينا، يحدق فينا بعيون فاض منها الدمع السخين وانبجس منها الشرر. لكنهم ينسون أن سنينهم تلك لم تكن نزهة عبرناها ونحن نتلمظ طعمها، ولم تكن كابوساً داهمنا في ليلة صيف وانجلى عندما أسفر الصباح عن وجهه. كانت تلك أعوام ترادف فيها البؤس طبقاً عن طبق، واختلط فيها الدم بالماء، وامتزج فيها الألم بالأمل، وتمطى فيها الفقر حتى شرب الحفاة العراة صديده، إذ التصق الجلد بالمسغبة، والتف الساق بالساق، أما ما تبقى من عقولنا فلم يسلم من جائحة الجنون! فالذين يظنون أن ما حدث مجرد تغيير سياسي من نظام أيديولوجي ديكتاتوري إلى نظام انتقالي مرحلي.. هم واهمون. والذين يختزلون الثورة في بضع صفوف من أجل الخبز.. هم السدنة البُطينيون، والذين يلهثون وراء إرجاع عقارب الساعة للوراء.. أولئك هم البائسون. والذين يعتقدون أن الوطن سلعة تُباع وتُشترى.. هم الخانعون. ليتهم جميعاً يعلمون أن التاريخ لا يكتبه الأنبياء الكذبة والذين في قلوبهم مرض، وأن الصابرين يمهلون ولا يهملون. وما على المتقاعسين سوى أن يخلعوا نعلهم في محراب الثورة ليتأدبوا بأدبها، فتلك رحلة قطعناها من الجحيم إلى النعيم، من الانحطاط إلى الرُقي، ومن التخلف إلى التحضر. رحلة نعلم أن بنيانها لن يكتمل بين ليلة وضحاها، ولكننا نعرف أين منتهاها، وندرك أيان مرساها.. ولو طال السفر! لأن الوقر قد أصاب آذانهم جراء الضلال في التكبير والتضليل في التهليل، ولأن الخرس قد تمكن من ألسنتهم من كثرة النفاق والارتزاق وازدراد السُحت، فلم يكن غريباً أن يتعاموا عن رؤية الأشياء كما هي الأشياء. فعندما شرع أكبر مسؤول أممي، أي رئيس حكومات العالم، في التغزل في الوطن الذي نحب، ظننا أن خليل فرح نهض من مرقده، وعندما نَطق اسم السودان، قلنا في سِرِنا رضي الله عنه وأرضاه، وعندما أثنى على شبابه الثوار، قلنا في جهرِنا سمعاً وطاعة. وعندما توالى المُقرظون بعده يرددون اسم الوطن باللغات كافة، ضارعنا جبال مرة طولاً، وتمددنا على أرض المليون ميل مربع غير آبهين بما اقترفت أيديهم من جريرة الانفصال، وشعرنا حينها أن الأرض بدأت تترسخ تحت أقدامنا، وأن تهراقا ارتدى زي الملوك وراح يتجول في عرصات الوطن من أقصاه إلى أقصاه. وأن ثمة سيدة بين الجالسين خلعنا عليها لقب (كنداكة) حباً وكرامة وذلك ليس عليها بكثير! أما أنتم يا أيها الضالون الساقطون الآمرون بالمنكر والناهون عن المعروف، فسوف تظلون في غيكم تعمهون، وسوف تلهثون إلى أن تخرج أرواحكم إلى بارئها، كلما سألتومونا من أين لكم هذا؟ أجبناكم بإنجاز آخر. فقد انزاح الغطاء وما لفضائحكم من ساتر، وتوالت كوارثكم وما لها من آخر. غداً سوف تُفتح الصحائف، وسيرى المُبلسون أي جرم اُرتُكب في حق هذا الوطن، كنتم تنهشونه نهاراً جهاراً وليس في وجوهكم مُزعة لحم تتقون بها بطشه يوم الحساب. لم تبق موبقة في هذه الدنيا إلا وكان لكم منها نصيب. القتل كان هوايتكم الأيسر من جرعة ماء، والتعذيب في قاموسكم وسيلة تتقربون بها لله، أما الفساد فهو رِجسٌ أنتم محبوه وصانعوه ومدمنوه، تظنون أنكم تخادعون به الوطن وهو خادعكم! لم يكن مؤتمر برلين كسائر المؤتمرات، مظهراً وجوهراً. ولعل تعبير (الشراكة) قد جبَّ كل اجتهاد يسعى لتوصيف هذا المؤتمر بالنسبة للقضية السودانية، فهو توصيف يمنح الموصوف ثقة في النفس، ويعيد إليه أمجاد عهود سادت ثم بادت عندما دكتها سنابك خيول المغول. جاءوا من كل حدب وصوب للمؤتمر والذي كان عُرساً عالمياً خالصاً احتفاءً بثورة السودان المجيدة. ما يناهز الخمسين منظمة ووكالة وممثلي دول، تقدمهم أنطونيو غوتيريش الأمين العام للأمم المتحدة، وهي ذات الهيئة الأممية التي أصدرت ما يناهز الستين قراراً ضد نظام الأبالسة لو تذكرون. كان في صدارة الحضور أيضاً الاتحاد الأوروبي، وجاءت رئيسة البنك الدولي تحمل أثقاله، وبنك التنمية الأفريقي يجرجر أذياله، ومنظمات إقليمية ودولية تبسط خبراتها وخيراتها، ووزراء خارجية دول لا يُنطق اسمها دون أن يُلحق بصفة العظمى أو الكبرى، وفيهم الولايات المتحدة الأمريكية نفسها والتي كانت الأكثر عطاءً، ومن المفارقات هي ذات أمريكا التي أدرجت نظام الكهانيت في قائمة الدول الراعية للإرهاب. كذلك تبارى آخرون يدعُون البلد الذي كان موصوماً بالإرهاب إلى شراكة علنية كعروس يخطبون ودها. فيا من كنتم تطأطئون رؤوسكم في المطارات خشية أن تُتهموا بما ليس فيكم، آن لكم أن ترفعوا القبعات! لقد أعادت لنا أجواء مؤتمر برلين ذكرى حقب عزيزة علينا، كان فيها الوطن قبلة الثوار ومحط أنظار المحيطين العربي والأفريقي. لم يكن جسراً جغرافياً فحسب، وإنما واسطة العقد بين عالمين مختلفين في كل شيء عدا الآمال والأحلام. كتمت أنظمة السوء أنفاس ذلك المارد وخشينا أن تطلع روحه إلى بارئها، ولكنه كطائر الفينيق ظلَّ يوالي النهوض من خضم نثار الرماد. فباغتته على حين غفلة عُصبة نظام سماسرة الدين، وأرادوا تدجينه وإلباسه جُلباباً مرقعاً يؤذي الناظرين، وهو الذي كان منذ الأزل (يُغني بلسان ويُصلي بلسان) فتطاولت سنواتهم تلك المَرة حتى بلغت الروح الحُلقوم. فجاءت ثورة الخلاص تنشد آمالها، وكذا ينشد بها المقهورون الانعتاق من ربقة الظلم، والتحلحل من مخالب من نافس نفسه في سوء الظن العريض، كما قال ناصحنا وهو يفتدينا بروحه، ولم نستبن نُصحه إلا ضحى الغد! خسئتم أيها الحاقدون... لقد عاد النهر إلى منبعه! آخر الكلام: لابد من المحاسبة والديمقراطية ولو طال السفر!!