ومضات من حقيبة الذكريات (1) شخصيات في الخاطر

 


 

 

 


ـــ الشهيد محمود محمد طه
شاهدت الأستاذ محمود محمد طه، لأول مرة في منتصف الخمسينيات من القرن السابق، كنت وقتها في المرحلة الثانوية، عندما كنت أحضر الندوة، التي كان يقيمها الأستاذ في دار بالقرب من مكتب البوسطة (البريد) بأم درمان وبالقرب من سينما برامبل أيضاً. كنا نستمع اليه بشغف شديد وحب استطلاع، وهو يقدم محاضرته بصوت هادئ مع بسمة تضيء وجهه الصبوح. كان الوحيد الذي يطرح سؤالا، او يجادل الأستاذ، هو مدثر عبد الرحيم وقتها كان طالبا في جامعة الخرطوم. انقطعت علاقتي بالأستاذ محمود محمد طه بعد مغادرتي السودان الى القاهرة ثم الى المانيا، لتعود الى ذهني تلك الذكرى الحميمة، مقترنة بذكرى أخرى أليمة، فقد عشت ذلك اليوم المشؤوم (18 يناير 1985 )، يوم إعدام محمود محمد طه بأمر من الطاغية جعفر نميري، وقتها كنت في زيارة خاطفة للخرطوم. قمنا في برلين بالتعريف بالأستاذ وباجتهاداته وبأفكاره التنويرية وبالحزب الجمهوري. واقمنا في يناير 1995، بدار ثقافات العالم بمناسبة مرور عشر سنوات على استشهاده، بمجهود ضخم ومساعدة قيمة من توماس هارتمان، رئيس التحرير المناوب لصحيفة دي تاتس، القريبة من حزب الخضر، ندوة تحدث فيها الجمهوري د. عبدالله النعيم
قادماً من القاهرة وبمشاركة اوتو شيلي Otto Schily وزير الداخلية الألماني الأسبق وأدار الحوار البروفيسور فرتز شتبارتFritz Steppat أستاذ كرسي الدراسات الإسلامية بجامعة برلين الحرة وكانت ندوة رائعة، مع حضور كبير ومتميز. وعادت الكتابة عنه من جديد في الصحافة والمجلات العلمية الألمانية. تكررت بعد ذلك زيارات عبدالله النعيم إلى برلين محاضراً في قضايا الإسلام السياسي.
كان استشهاد الأستاذ خسارة فادحة وضربة موجعة للحزب الجمهوري، انعكس في توقف نشاطه واصداراته
الفكرية التنويرية، الا ما ندر. ماعدا ما قام ويقوم به د. محمد محمود بأبحاثه الأكاديمية المحكمة عن الشهيد وإصدار كتاب باللغة الإنجليزية:
Quest for Divinity: A Critical Examination of the Thought of Mahmud Muhammad Taha (السعي للألوهية: دراسة نقدية لفكر محمود محمد طه) (دار جامعة سيراكيوز، 2007). (ترجمة المؤلف للعنوان).
وكذلك الأبحاث القيمة و المتواصلة للدكتور عبد الله الفكي البشير، بجانب تنظيم الندوات الفكرية، لإحياء فكر هذا الرائد الكبير، وكتابه الضخم والفخم والمهم بعنوان " صاحب الفهم الجديد للإسلام، محمود محمد طه والمثقفون: قراءة في المواقف وتزوير التاريخ".
كما نشير الى كتابه الجديد، الذي صدر حديثا بعنوان: "الذكرى الخمسون للحكم بردة محمود محمد طه: الوقائع والمؤامرات والمواقف".. وهو كتاب يدرس مواقف المثقفين والأحزاب ورجال الدين والصحافة من محكمة 1968.

حاشية:
حضر الى عيادتي، أثناء الدوام وبدون ميعاد سابق ودخل مكتبي تتقدمه الممرضة، وضع جهاز الحاسوب الصغير وأوراق على الطاولة، ومبرزا بطاقته الشخصية، ومقدما نفسه كضابط في جهاز المخابرات الألمانية، رحبت به، بالرغم من دهشتي لهذه الزيارة.
قال لي" أنك تتابع بالتأكيد العنف الذي تقوم به الآن المنظمات الاِسلامية المتطرفة وجماعة السلفيين، وبحكم اشتراكك في منظمات المجتمع المدني العديدة، ووجودك منذ فترة طويلة في برلين، يمكن أن تساعدنا في هذا الأمر، فنحن نبحث عن دور ونشاط الحزب الجمهوري وعدد الأعضاء ولو أمكن بعض الأسماء".
قلت له:
أولاً، لا يوجد نشاط للحزب الجمهوري في برلين، ولا اعضاء له.
ثانياً، لا تضيعوا وقتكم، فهذا حزب فكري، يدعو الى تجديد الاِسلام، ليتماشى مع العصر، وقائده الراحل ينحدر من أسرة صوفية، وهو يدعو الى أفكاره بالإقناع، عن طريق الجدل والحوار السلمي.
ثالثاً، لماذا لا تسال وزير الداخلية عن هذا الحزب؟ نظر الى بدهشة، وأردف، بأنه لا يفهم هذا السؤال.
قلت له: لقد شارك قبل سنوات، وزير الداخلية الأسبق أتو شيلي مع عضو الحزب الجمهوري عبد الله النعيم في ندوة كبيرة مفتوحة، عن الفكر الجمهوري، وبعدها بسنوات شارك النعيم مع وزير الداخلية الحالي فولفجانج شيبله، في ندوة علمية في معهد الدراسات العليا، بعنوان "الشريعة والدولة العلمانية في الشرق الأوسط وأوروبا، وقام بالتعقيب ديتر جرم القاضي السابق في المحكمة الدستورية الألمانية.
نظر الىّ باسماً وجمع أوراقه وغادر العيادة بهدوء.
ــــ جورج ومكي ود عروسة
ــ ذهبت مع الصديق جورج، ذي الخلفية القبطية لحضور الندوة الكبيرة ــ مع الحضور الكثيف ــ التي اقيمت عام 1955، بمناسبة زيارة سعيد رمضان الداعية الاِسلامي البارز في جماعة الاخوان المصرية للخرطوم. كان جورج يسكن في حي مكي ود عروسة ويزورنا كثيرا في بيت المال و ودارو. كان يدهشني بسعة معرفته، بالرغم من أن فارق السن بيننا لم يتجاوز العامين، مع بساطة في السلوك وطيبة في الخلق. لقد أقيمت الندوة في حوش واسع أشبه بميدان كورة في حي مكي ود عروسة، بالقرب من طاحونة كلبس، المجاورة لدار الجبهة المعادية للاستعمار.
كنت اتابع محاضرة سعيد رمضان بصوته الجهوري وبلاغة مفرداته، مع تلوين نبرات صوته، والكل في صمت رهيب وقد أصابهم الخدر من سحر كلماته. كان جورج بجانبي يدخن بشراهة وينفث الدخان بقوة فيتطاير سحبا، وكان وجهه محتقناٌ. سالته هامساً: ما بك؟ فرد بانفعال: "الزول جند نصفهم". كان جورج رغم حداثة سنه، ناشطا في الحزب الشيوعي السوداني وقديرا في التمويه والاِفلات من قبضة ود الكتيابي، رجل البوليس السري في حينا.
تعرفت في برلين بعد سنوات طويلة على ــ طارق رمضان*، قادما من فرنسا كمحاضر في دار ثقافات العالم.
* طارق رمضان من مواليد جنيف بسويسرا، وهو أبن سعيد رمضان، ووفاء البنا أبنة حسن البنا مؤسس جماعة الاِخوان المسلمين في مصر. درس الفلسفة والأدب الفرنسي واللغة العربية والدراسات الاِسلامية. يتركز اهتمامه في التجديد الاِسلامي وبحث قضايا المسلمين في الغرب، أي ما يسمى "بالإسلام الأوروبي"، ويعتبر أحد القيادات الاِسلامية في أوروبا وله تأثير كبير، خاصة وسط الشباب المسلم. وهو شخصية مثيرة للجدل، فهناك من يعتبره مصلحاً ومجدداً للإسلام وهناك من يعتبره متعصبا، بل ومنافقاً. تلاحقه الآن قضايا قانونية أخلاقية تقدح في مصداقيته.
برلين 28 يوليو 2020


hamidfadlalla1936@gmail.com

///////////////////

 

آراء