القنوات الفضائية وحتى التلفزيون القومي تكاد تختلق ضيوفها اختلاقاً وتقول إن هذا له تجربة في (العزف المنفرد) وأن هذا له تجربة في الزواج المبكر أو (الطلاق المتأخر)..وثالث أو ثالثة تجيد صناعة (مكرونة الباشميلا) خارج الفرن..الخ ولكنها لا تستيضف لنا شخصاً واحداً من شهود محرقة دارفور أو احد الناجين من تجربة (بيوت الأشباح) أو كيف كان يتم تخبئة الأطفال تحت الأرض خلال القصف الجوي في جنوب كردفان..! طبعاً هذا لا يعني ألا تهتم القنوات بالمبدعين والفنون والثقافة والابتكار ومبادرات الشباب ولكن نقصد هذا (التقصير المريع) في فضح جرائم الإنقاذ مع أننا نملك كل هذا الفيض من قنوات الدولة ووكالاتها ومراكزها الإخبارية.. وكل العالم يعرف أهمية التوثيق الحي للأهوال التي مرّت بها الشعوب حتى يكون في ذلك ذكرى وعبرة مستمرة تلهم الأجيال وتقفل الطريق حتى لا تتكرّر المظالم الجسيمة والتجارب السيئة المُسيئة في حياة الشعوب والأمم.. وهذا مما يلزم بفتح الجروح وتنظيفها لكيلا تلتئم على صديد.... فالأهوال التي مرت بها الوطن في عهد الإنقاذ هي من أعنف الزلازل التي قوّضت جدران الإنسانية وانتهكت أعظم ما في دنيا البشر من قيم ونواميس وخلّفت جروحاً غائرة لا يمكن شفاؤها إلا بتجسيد العبرة أمام الأعين إقراراً وتذكيراً بهول ما جرى حتى يرتاح الضمير الوطني وتطمئن أرواح الضحايا ونفوس الأهالي والذين شاهدوا تلك البشاعة وعايشوا تداعياتها.. فهي لا تزال تطبق بكوابيسها على الذين كانوا أطفالاً وصبايا وشاهدوا أهلهم يُقتلون وقراهم تُحرق كما شاهدوا مليشيات الإنقاذ تقتل الناس في الشوارع وتطلق الرصاص من الخلف على الرؤوس والأعناق..والأمم الحية حتى رواندا القريبة أدركت معنى تجسيد ما جرى فيها من هول عبر المتاحف والنُصب التذكارية التي تجسّد وقائع المذبحة البشرية الهائلة ..فهل يمكن الاستخفاف بما شهده السودان من قتل الآلاف وسحق الأرواح وإمطار الأطفال بالرصاص وإغراقهم أحياء..؟!.. وماذا يمنع من إقامة متاحف الاعتبار ليقف الناس على فظاعة ما تم في البلاد من جائحة دموية غير مسبوقة استمرت ثلاثين عاماً وتركت آثار الدماء والأشلاء والنفوس الممزقة والقرى المحروقة شاخصة حتى الآن..! هل نحن بدعاً من الأمم الحية التي أرادت أن تُبقي ماضيها الأليم حياً مجسّداً.. وهكذا فعلت ألمانيا بذكرى عهد النازية حتى لا تكرّر المأساة المروّعة.. وهذا ما فعله اليهود من اجل إبقاء ما يعتقدون أنه محرقة إبادة وكذلك يفعل الأمريكان بذكرى الحرب الأهلية وباغتيال (مارتن لوثر كنغ) الذي جعلوا له متحفاً بين أثمن معالم البلاد ولا تزال السيارة التي هبط منها قبل الاغتيال باقية كما هي في مدخل المتحف تذكيراً بالجريمة..فهل ما فعله الإنقاذيون بأهل السودان اقل جُرماً ومأساوية عن تلك الجرائم..؟! أمران اثنان إذا لم نجعلهما ذكرى وعبرة فإننا لا نضمن ألا يتكرّرا.. جرائم الإنقاذ الدموية في القتل والحرق والتعذيب؛ وجرائمها في سرقة خزائن وموارد البلاد وتحويلها إلى جيوب حفنة صغيرة من الأوباش.. ألا ترى أن هناك مَنْ لا يزال يدافع عن الإنقاذ ويهتف بحياتها.. وكل هذا بسبب الصمت عن جرائمهم ولصوصيتهم.. فهم لا يزالون يتشدقون ويبتسمون أمام الكاميرات..! وبينما تتوالى الكوابيس على ساكني المعسكرات والمشردين عن ديارهم ومن مات ذووهم في المذابح وفي بيوت الأشباح يتضاحك قادة الإنقاذ الآن في المحاكم.. ويساعدهم على ذلك موت الضمير وبلادة الحِس...الله لا كسّب الإنقاذ..! murtadamore@gmail.com