ahmadalkhamisi2012@gmail.com
وصلتني رسالة من أديب صديق يقول فيها:"أتعلم .. تأتيني دعوات للكتابة من منابر مصرية وعربية لكنها في معظمها دعوة للكتابة مجانا. لا أحد يدفع، فكيف يعيش الكاتب؟ أريد نصيحتك، الي متى أكتب مجانا وقد اوشكت على اتمام نصف قرن من دون أن تكفل لي حرفتي أقل القليل؟". كانت الرسالة مشبعة بالأسى فأعادتني بالكامل إلى موقفي من تلك القضية الذي تبلور على مدى زمني طويل، منذ أن بدأت علاقتي بالكتابة. كنت أرى منذ البداية وأدرك أن الابداع الفني عامة لا يمكن أن يكون رهنا بالمكافآت أو الأجور، رغم أهمية المقابل المادي، لأن الكاتب إذا ربط بين الأدب والعائد المادي فسوف يتوقف ولن يقدم شيئا. وهذه باختصار قصة الفرق بين كاتب لامع الموهبة مثل عادل كامل وبين نجيب محفوظ. فقد بدأ الاثنان معا، لكن كامل حين وجد أن روايتيه" ملك من شعاع" ، و" مليم الأكبر" لم تعودا عليه بشيء، توقف نهائيا، بينما واصل نجيب محفوظ مشروعه الأدبي في ظروف مادية غير مبهجة أرغمته على كتابة سيناريوهات للأفلام. قلت لصديقي ردا على رسالته : " إذا توقفت بسبب العائد المادي ستخسر ليس فقط العائد المحتمل مستقبلا، لكنك ستخسر – قبل الفلوس - قدرتك الأدبية، لأن الاستمرار في العمل يجعلك تراجع وتدقق يوميا كلمات ما أو تعبيرات في اللغة، ويجعلك تطالع كل ما ينشر، وفي كل مرة يكتب فيها الأديب أو ينشر مجانا يكسب في المقابل معرفة جديدة ساقته إليها المادة التي يكتب عنها، أما إذا ربط الأديب الكتابة بالمال الذي لا يأتي عادة بسهولة، فإن الأديب يخسر القدرة، والموهبة، والدربة، وكل ما تفيض به الكتابة من دون انقطاع. أيضا فإن تاريخ الفن والأدب قلما عرف فنانا عاش واغتنى من أعماله. كان الأديب الروسي العملاق دوستيوفسكي يكتب يوميا ليسدد ديونه، أما الرسام العالمي فان جوخ الذي عاش ستة وثلاثين عاما رسم خلالها نحو ألف لوحة فنية، لم يبع منها واحدة في حياته! لماذا كانوا يستمرون إذن لو أن الإبداع طريق إلى المال أو حتى المجد والشهرة؟. المبدع استمر ويواصل لأنه يحصل على مكافأة أخرى من نوع مختلف تماما، لا علاقة لها بالأوراق النقدية، هي أن يعيش لما خلق له، متوافقا مع طبيعته التي خلق بها كما تتفق طبيعة العندليب مع التغريد، وطبيعة الشجر مع النماء والشمس، فالرغبة في التعبير، ومتعة التعبير باتقان، جزء أصيل في كل مبدع يجعله لا يرى مكافأة أهم من ممارسة دوره، ووجوده، ليس الآن فقط بل ومستقبلا، لأن الفن إحدى أقوى الوسائل السحرية التي تحمي قلب وعقل الفنان، وهو بهذا المعنى، حياة يقظة وقدرة وطاقة متجددة على التفكير والتخيل والحلم. لذلك يتحمل المبدعون كل مشقة من أجل أن تظل زهرة الابداع مورقة بين أياديهم. ليست القضية في الفلوس ولم تكن كذلك قط، ولذلك يقول مارك توين عن كتابه " ما الانسان؟" الذي نشره عام 1906 إنه بدأ الدراسة من أجل إعداد هذا الكتاب قبل خمس وعشرين سنة، وكتبه قبل تاريخ نشره بسبع سنوات وراجعه بعد ذلك مرة مرة أو مرتين كل عام! ولا يمكن أن تكون الفلوس هي الدافع وراء كل ذلك الجهد، فقد تلقى مارك توين أجره عن الكتاب منذ صدوره، لكن هاجسا داخليا يظل يلح عليه، كما يلح الغناء على العندليب بمزيد من الاتقان والجمال. وفي ذلك الصدد يقول ديفيد بالداتشي الروائي الأمريكي الذي ترجمت رواياته إلى 45 لغة : " ليس الأمر أنني اعتقدت أنني سأكسب عيشي من الكتابة، فحتى حين تقوم بنشر قصة قصيرة فإن أكثر ما يعطونه لك هو نسخ مجانية من المجلة وهذا لا يساعد حسابي البنكي كثيرا"! وختمت رسالتي لصديقي بقولي : " نحن نكتب ليس لأن أحدا سيدفع لنا، بل لأننا محكومون بالكتابة، كما أن الأشجار محكومة بأن تورق، والقلب محكوم بأن ينبض، وما من قلب يسأل : كم ستدفعون لي إن أنا واصلت الخفق بانتظام؟".
د. أحمد الخميسي. قاص وكاتب صحفي مصري