فتــاة عــصــبـيـــة: قصة قصيرة
ahmadalkhamisi2012@gmail.com
لمحتها واقفة على رصيف العمارة. شابة خمرية ملفوفة القوام تحرك رقبتها بحدة من اليمين إلى اليسار بحثا عن سيارة. لمحتني في اللحظة التي شاهدتها فيها فلوحت لي بيدها. توقفت بالسيارة بمحاذاة الرصيف. هرولت نحوي. فتحت الباب المجاور لي. دخلت وراحت ترفع جذعها وتهبط به على المقعد الجلدي عدة مرات لتفسح لنفسها جلسة مريحة. صفقت الباب بقوة. تطلعت أمامها كأنني لست هنا، وما لبثت صبية صغيرة بجلباب وشبشب أن فتحت باب السيارة الخلفي وجلست بحذر وهي تدفع ركبتيها للأمام. قلت للشابة :"إلى أين؟". تنهدت وأرسلت بصرها إلى مدخل العمارة حيث وقفت امرأة بدينة وكفها فوق رأسها، وتمتمت بنبرة خافتة كأنما تخاطب نفسها: " أنا عزلت وتركتم لك العمارة آهه. ارتاحوا بقى. سبع سنين قافلة على روحي. وكل يوم أحاول أفهمكم إن الحياة محبة، وإنه مفيش أجمل من الابتسامة الحلوة. وإن الدنيا لاتساوي شيء من غير احساسنا ببعض، لكن مفيش فايدة، ولأني وحدي تهيأ لكم إني لقمة طرية. ليه بقى تهيأ لكم إني لقمة طرية؟ لأنكم زبالة. تفو عليكم وعلى أبوكم جزم". أنه ت خطابها المهموس وقد أدركت أنه موجه إلى السكان الذين لا أراهم، فأعدت عليها سؤالي: " إلى أين؟". التفتت نحوي بتكشيرة كأن صوتي أزعجها:" درب الغزال". وضعت يدي على ناقل السرعات وفي تلك اللحظة سمعت رنة من المحمول إشعارا بوصول رسالة لي. أجلت النظر فيها ورحت أمرق بين عربات الخضروات في زحام شارع الفيومي. اختلست نظرة خاطفة إلى جانب وجهها. كانت تتنهد سارحة وملامحها تتقلب ما بين ابتسام وغضب. بلغنا أول الشارع الرئيسي، حينذاك تناهى إلي سمعي زن خفيف من الكنبة الخلفية. استدارت الشابة بكتفها إلى البنت الصغيرة في الخلف تخاطبها بحنان:" أنت بتغني يا بت؟".هزت الصبية رأسها بالنفي كأنها ضبطت متلبسة بجريمة. حدقت بها الشابة بعطف. قالت تطمئنها: "وماله لما تغني؟ عاوزة تغني..غني.. ما تخافيش من حد. مفيش حاجة تخوف. اللي في الشارع دول كلهم بني آدمين عاديين. ما تخافيش من حاجة ياحبيبتي". ومدت كفها تربت بها على ركبتي البنت برفق ثم اعتدلت ناظرة أمامها. شفطت بطنها. ضبطت حزامها على خصرها وسرحت من جديد. كنت أقود السيارة وقد شغلني التكهن بمحتوى الرسالة التي وصلتني فسهوت عن الملف المؤدي إلى وسط البلد وتجاوزته. زعقت الفتاة في بحدة :" إيه ده بقى ياأستاذ؟ سبت الملف ليه؟". زعقت ووجهها ملبد بالانفعال يرتجف. واصلت بصوت حاد:" لا.. أنا تركيبة دماغي مختلفة. أنا لعلمك أقول للأعور أنت أعور في عينه، وأنت عملت اللفة دي عشان المشوار يطول والعداد يحسب فلوس علي". وضحت لها معتذرا:" لا والله.. أنا بس كنت بأفكر في حاجة". شعرت بأنها انفعلت بأكثر مما يستحق الموضوع فأضفت: " لو تحبي اخصمي أي مبلغ من أجرة المشوار". رقت ملامحها مرة واحدة وقالت: " لاء . مش الفكرة. المسألة احنا ليه ما ننقلش لبعض مشاعر حلوة بدل ما نؤذي بعض؟. أنا شخصيا بأحب الناس زي عنيه، لكن معظمهم مبدؤهم الوحيد السفالة. جزم". لزمت الصمت وأنا أعود إلى الملف تحت الكوبري. أردفت تقول : " عندك مثلا الأسبوع اللي فات أنا تعرضت فيه لمؤامرتين في الشغل، اثنين، وطلعت سليمة. اللي عمل في كده زملاء عمل، من يوم ما استلمت الشغل وأنا بأوضح لهم إن الحب أساس الحياة وان الحب الطاقة اللي بنتغلب بيها على أي شيء. لكن مفيش فايدة. ليه مفيش فايدة؟ لأن الواطي ح يفضل طول عمره واطي مهما عملت معاه". ولوهلة شف وجهها عن هدوء وطمأنينة. استرسلت تقول:" وبعدين أنا قاعدة وقافلة علي باب شقتي. بس أروح الشغل وأرجع أنام شوية، أقوم أتفرج على التلفزيون، أشتغل مفارش كروشيه للعرايس أروح بها لمعرض يبيعها، لا حد بيزورني ولا بأزور حد. قصدي مش عاملة قلق لأي انسان". وأطلقت ضحكة قصيرة خاطفة كانفتاح جرح وأضافت:" بس عشان أنا في حالي اتهيأ لهم إني بأخاف. ح أخاف من إيه؟ الناس هم الناس في كل مكان" . تطلعت في بنظرة قلقة كأنها تستقريء عيني وسألت: " صح ولا أنا غلطانة؟". قلت لها:" صح .. طبعا". كنت أغمغم تعقيبا على كلامها وأهز رأسي لتشعر أنني أتابع حديثها، وأنا موزع بين الانصات وقيادة السيارة. صمت لحظات، وضحكت ضحكة عالية بدون سبب، ثم عادت إلى الكلام وهي تتلفت برقبتها بحدة إلى أن دخلنا منطقة الناصرية. سرنا قليلا ببطء إلى أن أشارت إلى عطفة على اليمين وقالت:" بس هنا. درب الغزال. أيوه هنا. آهي العمارة اللي أخدت فيها سكن جديد". وأشارت بذقنها إلى بيت قديم متهالك من ثلاثة طوابق، وقف عند مدخله رجلان يدخنان وأربعة أطفال على ظهورهم حقائب مدرسية. أوقفت السيارة. ظلت جالسة لحظات وقد أرسلت بصرها إلى الواقفين عند مدخل البيت وقالت:" ودول ح أعمل فيهم إيه دول؟ تلاقيهم سمعوا إن فيه واحدة سكنت جديد وجايين يتفرجوا عليها. يا ترى دول بني آدمين ح يقدروا يفهموا إن الدنيا حب ومشاركة ولا بهايم؟ عموما أنا جئت لكم وح أعلمكم تبقوا بني آدمين غصب عن عين أبوكم ياجزم". أحنت رأسها على حقيبتها. فتحتها بأصابع مرتعشة. نظرت إلى وهي تناولني الأجرة وفي عينيها استغاثة خوف ووحدة ضارية، حتى أنني ارتبكت، فالتفتت إلى البنت وقالت لها:: " ياللا يا صباح"، ثم خرجت ببطء، كأنما لا تريد الخروج، ولبثت واقفة بمحاذاة السيارة وهي ممسكة بيد الصبية بجوارها. تتطلعت إلى مدخل البيت لحظات. شددت قبضتها على معصم البنت الصغيرة التي تلوت متألمة. تقدمت نحو البيت تجر معها البنت، فتحني الصغيرة عودها وتحاول أن تملص كفها من القبضة. تجرها وتخطو متشنجة وغبار خفيف يرتفع من بين قدميها. سمعتها تقول للصبية بصوت رفيع يحترق مثل عود ثقاب:" ما تخافيش من حاجة. خايفة ليه؟". وراحت تدفع جسمها إلى الأمام بأمل وخوف هشة من شدة التوهج.
***
أحمد الخميسي. قاص وكاتب صحفي مصري