السودان من الفقر إلى التبعية.. الإخفاق الوطني في التنمية والاقتصاد

 


 

 

 

 

شغلتنا في سبعينيات القرن الماضي خلال الدراسة قضية التبعية وكانت المقررات والسيمنارات تسيطر عليها دروس التبعية، خاصة في دول أمريكا اللاتينية لأنها كانت بمثابة الحديقة الخلفية للولايات المتحدة الأمريكية وبالتالي للشركات متعددة الجنسيات. ثم راج مفهوم التبعية في العالم العربي من خلال سمير أمين ومنتدى العالم الثالث ثم أخذ حضوره في الجامعات العربية والمؤسسات الأكاديمية المهتمة بالاقتصاد والتنمية. وظل المفهوم نظرياً في ذهني حتى شاهدت أخيراً نموذجاً للتبعية الملموسة بمثله سودان اليوم المعتمد كلياً على الخارج من أجل الخروج من أزمته الاقتصادية الطاحنة. وصار القطر الذي يحتوي على أكبر الأراضي الصالحة للزراعة بالإضافة لتدفق الأنهار والمياه الجوفية والأمطار، ينتظر شحنات القمح في ميناء بور تسودان، وتبشر الحكومة بلا خجل الشعب الصبور بوصول 400 ألف طن مثلاً. كما تتجول الوفود الرسمية للتسول والعودة بالقروض والمنح من الخارج.

وسيعقد خلال أيام مؤتمر باريس ورغم أن لقاء أصدقاء السودان قد ركّز في المرة الماضية على ضرورة الشراكة، إلا أن السودان بنظامه المصرفي الضيق وقوانين الاستثمار المتخلفة والمعوقة لحركة الأموال والعمل في السودان وقطاعه الخاص الجبان، لن يقدم مشروعات شراكات اقتصادية، بل سيذهب السودان منتظراً القروض والمنح والهبات، وكأن العرب هو أكرم الطائي الذي يساعد السودانيين من أجل سواد عيونهم.

كنا نبرر الخيبة والفشل بالعقوبات، وتم رفع العقوبات منذ شهور ولكن لم نلاحظ أي إرهاصات تنبئ بتحسن الحالة الاقتصادية والمعيشية. ثم حررنا العملة وما زال الجنيه السوداني يترنح، وفشلت المصارف السودانية الأثرية في جذب مدخرات المغتربين وتقديم خدمات مهنية راقية للمتلقين في الداخل.

تحول السودانيون أو أغلبهم من الهتاف بسقوط أمريكا المدوي في الشوارع down down U.S.A إلى الارتماء الكامل في أحضان ماما أمريكا بدون مراجعة أو نقد للمواقف السابقة ولماذا وكيف تبنوا الموقف الجديد الحالي.

وللمفارقة هي أن اليسار السوداني هو الأكثر حماسة لليبرالية الجديدة واقتصاد السوق مع الاحتفاظ بالتسميات التي تبشر بمشروع آخر تختلف جذرياً.

ليس أمام السودان إذا أراد تحقيق التنمية والنهضة والتقدم إلا الطريق الوحيد القائم على الاستقلالية والاعتماد على الذات (self reliance) وهذا يعني العمل والإنتاج واحترام الوقت والنظام والانظباط ورفض العقلية الاستهلاكية والسلوك البزخي والتفاخري.

عاصمة السودان أقرب إلى مكب نفايات أو (كوشة) تحيط بها عمارات شوامخ لا نجدها في أروبا وتتجول فيها سيارات فخمة آخر موديلات، وشكراً للقدر أنها هذه الأيام معطلة في محطات البنزين والوقود تنتظر الساعات الطوال.

تبدأ الثورة الحقيقية في السودان ليس باستبدال دكتاتور والإطاحة بنظام ديني فاشي، ولكن الثورة تبدأ بميلاد الإنسان السودان المنتج النشط المنظم ولتذهب مؤتمرات باريس ومنح وقروض الدول الغنية إلى الجحيم، لكي يبقى السودان مرفوع الرأس ولا يمثل اليد السفلى، ويمثل الآخرون اليد العليا حتى لو كانوا أشقاء أو أصدقاء.

 

آراء