أعلن الرئيس الأمريكي بايدن عزم بلاده على سحب أو خروج قواتها العسكرية من أفغانستان في سبتمبر من هذا العام، وتذكرت على الفور" أشرفي صدر الدين" الطالب الأفغاني الوحيد الذي كان يدرس معنا بكلية الآداب بموسكو عام 1973. كان من أطيب الناس، يضحك لكل شيء، ولم تكن لديه سوى بدلة واحدة دخل بها الكلية، وبها أنهى تعليمه، وفيها عاد إلى بلاده. قلت له ذات يوم:" المتعلمون عندكم قلة، ولاشك أنك بعد انهاء التعليم سوف تتقلد منصبا كبيرا في كابول، وتتلقى راتبا ضخما؟". قال مبتسما: " نعم. لا أقل من خمسة آلاف أفغاني". دهشت من ضخامة الرقم، فسألته: " وكم يكون هذا بالدولار؟". أغرق في الضحك وهو يداري فمه بكفه قائلا: " حوالي ثلاثة دولارات"! تاريخيا كانت أفغانستان إحدى أفقر البلاد، لكن الغزو الأمريكي الذي بدأ في أكتوبر 2001 أجهز على كل شيء فيها، ودمرها، وحسب تقرير لبعثة الأمم المتحدة ( أوناما) فقد قتل وجرح ما يزيد عن مئة ألف مواطن أفغاني مدني، وذلك فقط منذ أن بدأ تسجيل الخسائر بين المدنيين عام 2009، علاوة على تدمير كل المؤسسات الأفغانية التي تقدم الخدمات الصحية والتعليمية والثقافية. والآن بعد عشرين عاما من الغزو والوجود العسكري يعلن الرئيس بايدن أنه " حان الوقت لإنهاء أطول حرب خاضتها أمريكا". والقراءة الدقيقة لذلك التصريح تعري الحقيقة وهي أن أمريكا تعتزم الخروج من الحرب ، لكن ليس من أفغانستان، وأن سحب القوات لا يعني أن أمريكا ستنسحب، لأن السبب الذي خاضت لأجله الحرب مازال قائما وهو الهيمنة على ثروات ذلك البلد. وتؤكد هذا الدراسة التي أجرتها وزارة الطاقة الأميركية عام 2007 ورصدت فيها وهي تتلمظ ثروات أفغانستان من المعادن الثمينة، وخصوصاً الذهب والنحاس والكوبالت والليثيوم. وقد أكد رئيس هيئة الأركان المشتركة مارك ميللي في 2 ديسمبر العام الماضي أن سحب القوات ليس انسحابا أمريكيا بقوله: " ستحتفظ أمريكا بقاعدتين عسكريتين بعد الانسحاب الرسمي، وعدد من القواعد المنتشرة داخل الأراضى الأفغانية". وقد عاشت أفغانستان عبر تاريخها معتمدة على الزراعة والرعي، فقيرة، رغم ثرواتها، إلا أن الغزو الأمريكي جعلها إحدى أشد البلدان تعاسة، فمن بين نحو 35 مليون نسمة يعيش 55 % من السكان تحت خط الفقر، ويعاني 35% من البطالة، أما المدارس فتعمل في خيام وتحت الأشجار والمطر، ولا يجد 15 % من السكان القوت اليومي بالمعنى المباشر. وقد كانت الحرب الامريكية الاجرامية الطويلة استجابة لمتطلبات الاقتصاد الأمريكي ومساعيه للهيمنة على أسواق وموارد شعوب لم تكن بالنسبة لأمريكا سوى: " مخزن ضخم للموارد والعمالة والأسواق" على حد قول المحامي الكندي الشهير كريستوفر بلاك. في ما مضى خرجت أمريكا تجرجر قتلاها وجرحاها بعد حرب على فيتنام استمرت نحو عشر سنوات ما بين 1965 حتى 1973، والآن مع اعلان بايدن عن انسحاب جزئي من أفغانستان فإنه يجرجر مرة أخرى خسائره وجراحه، ويكفي في ذلك الصدد أن نعلم أنه وفقا لأرقام الحكومة الأمريكية فإن غزو أفغانستان والوجود العسكري هناك لمدة عشرين عاما تكلف نحو تريليون دولار من خبز وعرق المواطن الأمريكي، كما لقى مصرعه أكثر من ثلاثة آلاف جندي أمريكي، وأصيب أكثر من عشرين ألف آخرين. وبذلك يثبت النظام الأمريكي مجددا أن الرأسمالية العالمية خطر ليس فقط على شعوب العالم بل وعلى شعوبها أيضا. وفي سنوات الصراع السوفيتي الأمريكي على أفغانستان، لجأت المخابرات الأمريكية الى صناعة التنظيمات الدينية مثل القاعدة وطالبان لمواجهة وتقليص الوجود الروسي، وأمدت عناصر تلك التنظيمات بالمال ودربتها في باكستان وغيرها. وعندما انسحب الاتحاد السوفيتي من الساحة عام 1989 لم تعد أمريكا بحاجة إلى أولئك المجاهدين، لكن طالبان التي سيطرت على أقسام واسعة من البلاد شرعت تطالب بنصيبها في الكعكة، ومضت لتنتزع وجودها من يدي الأمريكيين هذه المرة وليس السوفيت، وأصبح على أمريكا أن تواجه العفريت الذي أطلقته لترده إلى حجمه الطبيعي، ثم تعلن عن انسحاب جزئي وليس الانسحاب من الهيمنة على ثروات ذلك الشعب الفقير، التعس، الطيب، الذي لم يرتد على مدى ثلاثين عاما سوى بدلة واحدة للحرب، ملأتها الثقوب، عاجز عن أن يغيرها. د. أحمد الخميسي. قاص وكاتب صحفي مصري