الأفندي – الثورجي.. نخبة الوقوف بين “لا” و”نعم”
يثير أفندية الثورة هذه الأيام كثيراً من الضوضاء والتشويش في المشهد السياسي من خلال الحديث عن مصالحة وطنية تعيد الإخوان المسلمين للعمل السياسي وتعفيهم من المسؤولية عن خراب وفساد ثلاثين عاماً، مستغلين الحرية التي داسوها تحت أقدام دبابات الجيش في 30 يونيو 1989.
ومن وسائلهم إفشال وتخذيل لجنة التمكين لأنها الأداة الثورية الوحيدة التي تقوم بواجبها في ملاحقة الفلول والفاسدين.
ومن ابتكارات الأفندية العمل على بناء سودان جديد بوسائل وأدوات قديمة وتقليدية، نلاحظ كل محاولات بعث القبلية والإدارة الأهلية، وتمتلئ نشرات الأخبار بمقابلات كبار المسؤولين خاصة في مجلس السيادة “لناظر عموم قبيلة قحطان أو عدنان”، وبعدها مباشرة يبث تقريرعن مؤتمر الحكم المحلي وكيف يحكم السودان مستقبلاً؟ فهل سيعود السودان لحكم المشائخ والعمد الذي وضعه المستعمر لإحكام سيطرته بطريقة لا مركزية في بلد شاسع المساحة ومترامي الأطراف.
لقد فشلت تجربة النميري في تصفية الإدارة الأهلية لأن جعفر بخيت اخترع نظرية القفز بالعمود، ولم يحاول النظام الدكتاتوري تشجيع قوى حديثة ديمقراطية قادرة على ملء الفراغ الإداري والسياسي في الريف.
نحن الآن أمام تجربة فريدة إذ تريد النخبة السودانية بناء سودان جديد بقوى تقليدية “محافظة تستند على الولاءات الأولية: الوراثة والأسرة الممتدة وتعود للبحث عن شجرة النسب وتأكيد الأصل النبوي العباسي للتمايز عن مجهولي النسب وإثبات عدم وجود عرق دساس.
ومن الخطأ القول بأن القبيلة كانت عاملاً في رتق النسيج الاجتماعي، بل العكس تماماً، فكل النزاعات القبلية الحالية دليل قاطع على الخلافات، وللمفارقة تقوم المملكة العربية السعودية هذه الأيام بمحاولات صلح بين قبيلتين في شرق السودان وهي القائمة على النظام القبلي الضيق.
القبلية والنظام القبلي واقع سوداني ولكنه ليس نتيجة تطور اجتماعي طبيعي بل بسبب فشل التنمية المستقلة في التهميش وهيمنة المركز، ولكن التنمية القاصرة والتابعة التي فرضتها فئة الأفندي والتي تسمى النخبة وأحياناً التكنوقراط أهملت الريف والهامش في سعيها وراء الامتيازات والمصالح الذاتية ،على حساب المشروع الوطني الحديث والذي تحول لدى النخبة لما تسميه “الدائرة الشيطانية” أي انقلاب – انتفاضة -نظام برلماني – انقلاب، وهي لا تدري أنها هي التي أوجدت هذه الدائرة بسبب قصورها وانتهازيتها وخضوعها للطائفية تارة وللعسكر تارة أخرى، ولأنها تخشى المواجهة ولا تثير القضايا الحيوية، لأن الأفندي الثورجي لا يريد إغضاب أي شخص، وأن يحبه الجميع ولا يريد أعداءً ولا خصوماً، فهو الأفندي السحلية نظيف وملمع يستعرض نفسه جارياً فوق الحيطان “لا يضر ولا ينفع” أحسن منه الضب على الأقل يسمم طعاماً مثلاً.
وهناك مشكلة كبرى تبرز هذه الأيام دون مواجهة أو نقد موضوعي من قبل الأندية رغم تكاثر منظمات المجتمع المدني والكيانات غير الرسمية، نشاهد هرولة من المسؤولين نحو شيوخ الطرق الصوفية ومحاولة كسبهم إلى جانب الحكومة الانتقالية في معركتها مع الإخوان المسلمين الذين استغلوا تهاون الملون المدني وإخفاق لجنة إزالة التمكين واسترداد الأموال المنهوبة. هرع المسؤولون نحو خلاوي الشيوخ مظهرين تمجيدهم للدور السياسي للطرق الصوفية، وهذه لعبة خطرة يستطيعون فيها منافسة الإسلامويين لأنه أقرب للوجدان الديني لرجال الصوفية، أكثر من الذين اتفقوا على فصل الدين عن الدولة أو إبعاد الدين عن السياسة.
هذه قضايا ساخنة ومصيرية لابد أن تجيب عليها النخبة السودانية: هل يمكن بناء سودان جديد بوسائل قديمة محافظة مثل الإدارة الأهلية والطرق الصوفية؟ أم لا بد من العمل على تنظيم قوى حديثة تحمل أفكاراً حديثة تبني سودان المستقبل؟ وفي هذه الحالة لا نحتاج إلى أي عودة لأي منصة بل نحتاج إلى التقدم إلى الأمام عوضاً عن العودة، لأن الثورة طريقها دائماً إلى الأمام وليس إلى الخلف حتى لو أرادت مراجعة الأخطاء فهي تبدأ بفهم وتحليل الحاضر ثم دفعه إلى الأمام.
حيدر إبراهيم علي
مدير مركز الدراسات السودانية
www.ssc-sudan.org