الصحابي بلال بن رباح نوبي وليس حبشياً
د. مبارك مجذوب الشريف
27 June, 2021
27 June, 2021
هذا المقال محاولة لتصحيح الفهم السائد أن الصحابي الجليل بلال بن رباح حبشي، ويتبنى المقال فكرة أن (بلال) نوبي، باعتباره من رعايا مملكة مروي والتي ضمت اراضيها معظم السودان الحالي ومن ضمنها بلاد النوبة، فقد امتد نفوذها من شمال اسوان الى كوستي جنوباً وشملت اجزاء كثيرة في غرب البلاد وشرقها.
القول بأن بلالاً نوبي مروي يجيء استناداً لتفكيك جذور اسمه والحصول على معناها من اللغة المروية القديمة، وهي لغة اندثرت، ولكن لا تزال مفردات غير قليلة في اللسان العامي السوداني مستمدة منها. وسنستعين في هذا بقاموس صغير قام بأعداده كلايد وينترز رتب فيه عدداً من جذور كلمات اللغة المروية التي جمعت من مصادر آثاريه شتى، واهمها نقش كلابشة والذي يعود تاريخه للعام 580 ميلادية، ومن هذه الجذور يمكن الوصول إلى معنى اسم بلال.
قرية كلابشة تقع الآن داخل الحدود المصرية على بعد 50 كيلومتراً جنوب اسوان، وكانت في الماضي تشكل التخوم الشمالية لمملكة مروي؛ ولغة سكانها كانت المروية بدليل وجود هذا النقش فيها. تم بناء معبد كلابشة فى عهد الامبراطور أغسطس، وخصص لعبادة الإله ماندوليس إله الشمس عند النوبيين، ويمتاز المعبد بوجود ظاهرة التعامد على حجرة قدس الأقداس فيه مرتين في العام وتحدث في الرابع عشر من شهر فبراير والتاسع والعشرين من شهر أكتوبر، كما يضم المعبد النقش الذي يوضح انتصارات الملك النوبى سيلكو على البليميين وهو مكتوب باللغة المروية.
النوبة المشار لكون بلال منهم قد يكونون الجماعات النوبية الحالية في شمال البلاد والتي تضم في الوقت الحالي المحس والسكوت والدناقلة والكنوز، ويمكن ان يكونوا نوبة غيرهم بالمعنى الواسع لكمة نوبة، فقد كان المؤرخون العرب حين يذكرون اسم النوبة يشيرون بصفة عامة للبلاد جنوب مصر، وكانت تشمل مملكتي المقرة وعاصمتها دنقلة؛ ومملكة علوة وعاصمتها سوبة وتقع جنوب شرق الخرطوم الحالية وامتد نفوذها شرقاً الى الحدود مع الحبشة، وذكر ابن حوقل: (وملوك النوبة اثنان: ملك المقرة، وهو ملك دنقلة، وملك علوة؛ وملك المقرة تحت ملك علوة).
ويذكر الادريسي: (ومن بلاد النوبة مدينة علوة وهي على ضفة النيل أسفل من مدينة دنقلة وبينهما مسير خمسة أيام في النيل وماؤهم من النيل وشربهم منه وبه يزرعون الشعير والذرة وسائر بقولهم من السلجم والبصل والفجل والقثاء والبطيخ)().
ويمكن القول في ظل تمدد مملكة مروي والتي كانت تضم قوميات مختلفة؛ ان كل النوبة مرويون ولكن ليس كل المرويين نوبة، وبالتالي سيكون بلال مروياً بالصفة العامة ونوبياً بالصفة الخاصة.
سنقدم اولا مكانة بلال في التراث الاسلامي، وسننظر لاسم بلال في المراجع القديمة لنرى مدى انتشاره كاسم علم في الجزيرة العربية رغم كون الاسم مروياً. ثم سنمر على العديد من الاشارات في التراث الاسلامي التي اشارت لبلال بكونه نوبياً. ولن تقف محاولات التأصيل على اسم بلال فقط بل تتعداه لاسم ابيه (رباح) وايراد الإشارات التي تشير لكونه نوبيا أيضاً.
بعدها سنقدم الدليل اللغوي الذي يفيد ان اسم بلال مروي و ونقوم بشرح معناه. واخيرا سنصطحب البعد المحلي للاسم، ووجوده في الوجدان الشعبي السوداني ضمن الاغاني والاشعار والتي تعتبر تراثاً شفهياً لا يمكن تجاهله؛ ومدى انسجام المعني الذي يشير له الاسم في التراث مع المعنى المستخرج من قاموس اللغة المروية.
مكانة بلال في التراث الاسلامي.
لمحات من سيرة بلال:
كان مولده بعد عام الفيل بثلاث سنوات على الارجح، في حدود خمسين عاماً قبل الهجرة، وكان من الممكن ان يكون بلال عبداً لأمية بن خلف يرعي غنمه ويسوق ابله ولكن همة نفسه وطموحه العالي نقلته من قاع السلم الاجتماعي إلى قمته، وكان سبباً لشهرة سيده؛ ولولاه ربما ما سمع احد باسم امية بن خلف ولما ذكرته كتب السير ولا خلده التاريخ. وقد احترمت الثقافة العربية الاسلامية بلالاً ومنحته مكانة كبيرة فرددت الاجيال اسمه وانتشر الاسم من اندونيسيا شرقا إلى المغرب غرباً. ورد في صحيح البخاري: (حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ المُنْكَدِرِ ، أَخْبَرَنَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، قَالَ : كَانَ عُمَرُ يَقُولُ : أَبُو بَكْرٍ سَيِّدُنَا ، وَأَعْتَقَ سَيِّدَنَا يَعْنِي بِلاَلًا).
واورد ابن الأثير في الكامل في التاريخ: (بلال بن رباح الحبشي مولى أبي بكر، وكان أبوه من سبي الحبشة، وأمه حمامة سبية أيضاً، وهو من مولدي السراة، وكنيته أبو عبد الله، فصار بلال لأمية بن خلف الجمحي، فكان إذا حميت الشمس وقت الظهيرة يلقيه في الرمضاء على وجهه وظهره ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتلقى على صدره، ويقول: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى، فكان ورقة بن نوفل يمر به وهو يعذب وهو يقول: أحد أحد. فيقول: أحد أحد والله يا بلال. ثم يقول لأمية: أحلف بالله لئن قتلتموه على هذا لأتخذنه حناناً. فرآه أبو بكر يعذب فقال لأمية بن خلف الجمحي: ألا تتقي الله في هذا المسكين ? فقال: أنت أفسدته فأبعدته. فقال: عندي غلام على دينك أسود أجلد من هذا أعطيكه به. قال: قبلت. فأعطاه أبو بكر غلامه وأخذ بلالاً فأعتقه، فهاجر وشهد المشاهد كلها مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم)( ).
وورد في كتاب اسباب نزول القرآن للامام الواحدي:
(قال مقاتل: لما كان يوم فتح مكة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً حتى أذن على ظهر الكعبة فقال عتاب بن أسيد بن أبي العيص: الحمد لله الذي قبض أبي حتى لا يرى هذا اليوم. وقال الحارث بن هشام: أما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذناً، وقال سهيل بن عمرو: إن يرد الله شيئاً يغيره وقال أبو سفيان: إني لا أقول شيئاً أخاف أن يخبر به رب السماء فأتى جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بما قالوا فدعاهم وسألهم عما قالوا فأقروا فأنزل الله تعالى هذه الآية وزجرهم عن التفاخر بالأنساب والتكاثر بالأموال)( ).
وورد في الدر المنثور لجلال لدين السيوطي:
(أخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، والبَيْهَقِيُّ في ”الدَّلائِلِ“ عَنِ ابْنِ أبِي مُلَيْكَةَ قالَ: لَمّا كانَ يَوْمُ الفَتْحِ رَقِيَ بِلالٌ فَأذَّنَ عَلى الكَعْبَةِ، فَقالَ بَعْضُ النّاسِ: هَذا العَبْدُ الأسْوَدُ يُؤَذِّنُ عَلى ظَهْرِ الكَعْبَةِ. وقالَ بَعْضُهم: إنْ يَسْخَطِ اللَّهُ هَذا يُغَيِّرْهُ. فَنَزَلَتْ: ﴿يا أيُّها النّاسُ إنّا خَلَقْناكم مِن ذَكَرٍ وأُنْثى﴾( ) .
وجاء في الكامل في التاريخ:
لما جاء وقت الظهر أمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بلالاً أن يؤذن على ظهر الكعبة وقريش فوق الجبال، فمنهم من يطلب الأمان ومنهم من قد أمن، فلما أذن وقال: أشهد أن محمداً رسول الله، قالت جويرية بنت أبي جهل: لقد أكرم الله أبي حين لم يشهد نهيق بلال فوق الكعبة.
قال ابن قدامة: ويروى عن الحسن قال: حضر الناس باب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وفيهم سهيل بن عمرو، وأبو سفيان بن الحارث، وأولئك الشيوخ، فخرج آذنه فجعل يأذن لأهل بدر لصهيب وبلال وأهل بدر، وكان يحبهم، وكان قد أوصى بهم . فقال أبو سفيان:
ما رأيت كاليوم! إنه ليؤذن لهولاء العبيد ونحن جلوس لا يلتفت إلينا! فقال سهيل: - (قال الحسن: ويا له من رجل ! ما كان أعقله): أيها القوم! قد أرى الذي في وجوهكم، فإن كنتم غضابا فاغضبوا على أنفسكم، دعي القوم ودعيتم، فأسرعوا وأبطأتم، أما- والله – لما سبقوكم به من الفضل أشد عليكم فوتا من بابكم هذا الذي تتنافسون عليه.
بلال يضيف كلمات لصيغة الأذان:
واورد ابن سعد في الطبقات الكبرى: (أخبرنا أحمد بن محمد بن الوليد الأزرقي أخبرنا مسلم بن خالد حدثني عبد الرحيم بن عمر عن بن شهاب عن سالم بن عبد الله بن عمر عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يجعل شيئا يجمع به الناس للصلاة فذكر عنده البوق وأهله فكرهه؛ وذكر الناقوس وأهله فكرهه، حتى أُري رجل من الأنصار يقال له عبد الله بن زيد الأذان وأُريه عمر بن الخطاب تلك الليلة؛ فأما عمر فقال إذا أصبحت أخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وأما الأنصاري فطرق رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل فأخبره؛ وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا فأذن بالصلاة وذكر أذان الناس اليوم؛ قال فزاد بلال في الصبح الصلاة خير من النوم فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وليست فيما أُري الأنصاري)( ).
محبة الرسول (ص) لبلال:
جاء في اسد الغابة: (أخبرنا أبو جعفر بن أحمد بن علي، وإسماعيل بن عبيد الله بن علي، وإبراهيم بن محمد بن مهران، قالوا: بإسنادهم عن أبي عيسى الترمذي قال: حدثنا الحسين بن حريث، أخبرنا علي بن الحسين بن واقد، حدثني أبي، أخبرنا عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: "أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا بلالاً فقال: "يا بلال، بم سبقتني إلى الجنة؟ ما دخلت الجنة قط إلا سمعت خشختك أمامي")( ).
كان رضي الله عنه خازن رسول الله الأمين: أخرج أبو نعيم في الحلية بسنده عن عبدالله الهوزني قال: لقيت بلالاً، فقلت: يا بلال، حدِّثني كيف كانت نفقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما كان له شيء، كنت أنا الذي ألي له ذاك منذ بعثه الله عز وجل، حتى توفي، وكان إذا أتاه الإنسان المسلم، فرآه عاريًا، يأمرني به، فأنطلق، فأستقرض، وأشتري البردة، فأكسوه وأطعمه.
وأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ بِإِسْنَادِهِ قَالَ حَدَّثَنَا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَقَدْ أُخِفْتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ، وَلَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ، وَلَقَدْ أَتَتْ عَلَيَّ ثَلَاثُونَ مِنْ بَيْنِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَمَا لِي وَلِبِلَالٍ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلَّا شَىْءٌ يُوَارِيهِ إِبْطُ بِلَالٍ) قَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وروى البخاري بسنده، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه قال: سرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة، فقال بعض القوم: لو عَرَّسْتَ بنا يا رسول الله. قال: "أخاف أن تناموا عن الصلاة". قال بلال: أنا أوقظكم، فاضطجعوا. وأسند بلال ظهره إلى راحلته فغلبته عيناه فنام، فاستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم وقد طلع حاجب الشمس، فقال: "يا بلال، أين ما قلت؟" قال: ما ألقيت عليَّ نومة مثلها قطُّ. قال: "إن الله قبض أرواحكم حين شاء، وردها عليكم حين شاء، يا بلال، قُمْ فأذن بالناس بالصلاة".
بلال واخوه يصاهران اشراف العرب
تزوج بلال ثلاث مرات، وقيل خمس، ومن زوجاته هالة بنت عوف وهي شقيقة عبدالرحمن بن عوف الزهري القرشي، احد العشرة المبشرين بالجنة، وقد توفي بلال بن رباح دون أن ينجب منها. وروى الدَّارَ قُطْنِيُّ «من طريق حنظلة بن أبي سفيان الجُمَحي، عن أمه، قالت: رأيْتُ أخْتَ عبد الرحمن بن عوف تحت بلال».
ومن زوجاته جمانة ابنـة الزحاف، وزوجته الثالثة هي هند الخولانية التي يعود نسبها لقبيلة خولان اليمنية، وخولان حسب ما يورده النسابون هو خولان بن عمرو بن مالك بن الحارث بن مرة بن أدد بن يشجب بن عريب بن زيـد بـن كهلان بـن سبأ.
وهناك روايات أخرى تشير إلى أن خولان بسورية وأن هند الخولانية زوج بلال بن رباح، سماها سعيد بن عبد الملك، عن الاوزاعي، عن عمير بن هانئ . قيل: إن لها صحبة، وهي من أهل داريا، من أرض دمشق.
أما خالد اخ بلال فقد كان يريد الزواج من امرأة من قبيلة مخزوم، (وهي قبيلة عريقة في حسبها ونسبها ، ولم تكن ترضى بمثل بلال صهرا لها ، فلما أصر أخوه على أن يخطب هذه المرأة رضخ بلال لقوله، وتوجه معه إلى أشراف مخزوم، وعرض عليهم رغبة أخيه في مصاهرتهم، وقال لهم: يا قوم، نحن من قد عرفتم، كنا عبيدا فأعتقنا الله، وكنا ضالين فهدانا الله، وكنا فقراء فأغنانا الله، وإني أخطب منكم ابنتكم لأخي، فإن تنكحوها له فالحمد الله، وإن تردونا عن قصدنا، فسوف يغنينا الله. فرحب به القوم، وأكرموا وفادته، وقبلوا شفاعته، وقالوا: مرحباً بمؤذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم زوجوه ابنتهم، فلما خرجا من عندهم أقبل عليه أخوه يلومه ويعنفه، ويقول: يابلال، هلا ذكرت لهم مواقفنا في الإسلام، فقد أبلينا مع رسول الله بلاء حسنا ، فقال له بلال: اسكت يا هذا، فقد أنكحك الصدق)( ).
الاشارات في التراث الاسلامي التي تقدم بلال باعتباره نوبياً:
يمكن النظر الى العديد من الإشارات التي ذكرت الأصل النوبي لبلال، فمن ذلك:
قول سعد بن طريف، يهجو بلال بن رباح مولى أبي بكر وكان سعد هذا من المشركين:
وذاك أسودُ نوبيٌّ لـه ذفـرٌ كأنَّه جُعلٌ يمشي بِقِرْواحِ.
ذفر فاح؛ ظهرت له رائحةٌ حادّة طيِّبة كانت أم خبيثة، ثم غلب إطلاقه على الرائحة الخبيثة وحدها.
الجعل: دويبة سوداء
قرواح: البارز الذي لا يستره شيء من السماء: الأرض البارزة للشمس: الفضاء من الأرض ليس به شجر ولم يخالطه بها شيء، وهو القرياح والقرحياء.
وفي لسان العرب وكذلك هَضْبَةٌ قِرْواح، يعني ملساء جرداء طويلة
قال ابن عساكر : أخبرنا أبو الفتح يوسف بن عبد الواحد ، أنبأنا شجاع ابن علي ، أنبأنا أبو عبد الله بن مندة قال : بلال بن رباح مولى أبي بكر ... من مولدي السراة ، من أهل مصر )( ).
وقال أبو بكر البغدادي: قال عبد الباقي بن قانع في تاريخ الوفيات من جمعه، بلال بن رباح النوبي مولى أبي بكر - رضي الله عنه - قلت - أي أبو بكر -: وغيره يقول في نسبته الحبشي ( ).
وقال ابن ناصر الدين : النوبي إلى النُّوبة : بلاد واسعة للسودان في جنوب الصعيد ، قيل : منها بلال - رضي الله عنه - قلت: نسبه إليها ابن قانع فقال: بلال النوبي
قال ابن حجر عنه : وذكر ابن سعد أنه كان من مولدي السراة، واسم أمه حمامة، وكانت لبعض بني جمح، وجاء عن أنس عند الطبراني وغيره أنه حبشي وهو المشهور، وقيل نوبي ( ) .
وقال المرتضي الزبيدي: النوبة بلاد واسعة للسودان بجنُوِب الَّصِعيد، وتقدم عن الجوهري: النوبة جيل من السودان، وفي المعجم وقد مدحهم النبي صلي الله عليه وسلم بقوله من لم يكن له اخ فليتخذ له اخا من النوبة، وقال : (خير سبيكم النوبة)، ومدينة النوبة اسمها دنقلة، وهي منزل الملك على ساحل النيل وبلدهم اشبه باليمن، منها على ما يقال سيدنا بلال بن رباح الحبشي القرشي التيمي، أبو عبد الله، ويقال: أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو عبد الكريم، ويقال أبو عمرو المؤذن، مولى أبي بكر، رضي الله عنهما. وأمه حمامة: كانت مولاة لبعض بني جمح، قديم الإسلام والهجرة، شهد المشاهد كلها، وكان شديد الأدمة، نحيفاً، طويلاً ( ).
وقال أبو الفداء : ومن أمم السودان النوبة ، وهم يجاورون الحبشة من جهة الشمال والغرب ، والنوبة في جنوب حدود مصر، وكثيرا ما ِ يغزوهم عسكر مصر، ويقال أن لقمان الحكيم الذي كان مع داود النبي عليه السلام من النوبة، وأنه ولده بأيلة. ومنه ذو النون المصري، وبلال بن حمامة، وفي القاموس المحيط للفيروزأبادي أن دنقلة عاصمة بلاد النوبة وأن سيدنا بلال أصله من ناحيتها، ولعله أخذ هذا من الجاحظ إذ ذكر في البيان أو الحيوان أن أصل سيدنا بلال من النوبة.
وجود الاسم النوبي (بلال) لدى العرب قبل الاسلام:
وجود هذا الاسم وسط العرب قبل الاسلام قد يسند حجة من يقول انه عربي، ولكن يجب ملاحظة أن بلال بن رباح له قصب السبق في الاسم، فهو من ناحية العمر يبدو أكبر منهم:
1- بلال بن الحارث بن عصم بن سعيد بن قرة بن خلاوة بن ثعلبة بن ثور بن هدمة بن لاطم بن عثمان بن عمرو بن أد بن طابخة أبو عبد الرحمن المزني وولد عثمان يقال لهم : مزينة نسبوا إلى أمه مزينة وهو مدني قدم على النبي صلى الله عليه و سلم في وفد مزينة في رجب سنة خمس وكان ينزل الأشعر والأجرد وراء المدينة وكان يأتي المدينة وأقطعه النبي صلى الله عليه و سلم العقيق وكان يحمل لواء مزينة يوم فتح مكة ثم سكن البصرة، روى عنه ابنه الحارث وعلقمة بن وقاص، وبعض المراجع تشير إلى وجود خلط بين ما ورد عنه وما ورد عن بلال بن مالك المزني .
2- بلال بن مالك المزني بعثه رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى بني كنانة في سرية فأشعروا به ففارقوا مكانهم فلم يصب منهم إلا فرساً واحداً وذلك في سنة خمس من الهجرة أخرجه أبو عمر مختصراً
وفي الإصابة 1/169 برقم 738 بعد أن ذكر عبارة الاستيعاب قال : قلت ينبغي أن يحرز لئلا يكون هو بلال بن الحارث الذي تقدم. مات سنة ستين في خلافة معاوية وله ثمانون سنة، أي انه مولود قبل الهجرة بعشرين عاماً بينما بلال ولد قبل الهجرة بخمسين عاماً.
3- بلال بن يحيى ذكره الحسن بن سفيان في الوحدان، وهو راوي الحديث:
أخبرنا محمد بن عمر بن أبي عيسى كتابة أخبرنا الحسن بن أحمد أبو علي أخبرنا الحافظ أبو نعيم أخبرنا أبو عمرو بن حمدان حدثنا الحسن بن سفيان أخبرنا المقدمي محمد بن أبي بكر أخبرنا محمد بن عثمان القرشي أخبرنا حبيب بن سليم عن بلال بن يحيى عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : " إن معافاة الله العبد في الدنيا أن يستر عليه سيئاته في الدنيا وإن أول خزي الله تعالى العبد أن يظهر عليه سيئاته "
قال أبو نعيم : أراه العبسي الكوفي (يقصد بلال بن يحي) وهو صاحب حذيفة لا صحبة له، أخرجه أبو نعيم وأبو موسى، وفي طبقات ابن سعد أن بلال بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله التيمي، وأمه أم ولد. فولد بلال بن يحيى: يحيى. وإسحاق. وعيسى. وأمهم ربيعة أم ولد، فهو على هذا الاساس ربما كان نوبياً ايضاً.
4- بلال رجل من الأنصار ولاه عمر بن الخطاب عمان ثم عزله وضمها إلى
عثمان بن أبي العاص أخرجه أبو عمر وقال : لا أقف على نسبه وخبره هذا
مشهور.
وبعد الاسلام انتشر اسم بلال وسمى بعض كبار الصحابة أو ذريتهم ابناءهم او غلمانهم تيمناً به، فهناك بلال بن عبد الله بن عمر، وبلال بن ابي بردة بن ابي موسى الاشعري، وبلال بن ابي هريرة الدوسي، وبلال بن يحي بن طلحة بن عبيد الله، وبلال بن عويمر ابي الدرداء، ومن الغلمان بلال غلام الامام علي رضي الله عنه.
رباح اسم نوبي
جُل من اُطلق عليهم اسم (رباح) نجد اشارات واضحة لكونهم من النوبة؛ أو قد تأتي الاشارة لكونهم (موالى) والتي تفيد أن اصلهم غير عربي، ومنهم:
1- رباح النوبي أبو محمَّد مولى آل الزبير، ورد اسمه في سنن الدارقطني في الحديث: (محمد بن حميد حدثنا علي بن مجاهد حدثنا رباح النوبي أبو محمد مولى آل الزبير عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها : أنها ذكرت قصة شرب عبد الله بن الزبير ابنها دم النبي صلى الله عليه وسلم أمام الحجاج، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم له: لا تمسك النار) .
والحديث ضعيف قال الحافظ بن حجر في (تلخيص الحبير) : " وفيه علي بن مجاهد وهو ضعيف " وفيه أيضا رباح النوبي ، قال الحافظ : " لينه بعضهم ، ولا يُدْرَى من هو "، وذكره ابن زريق في كتابه (من تكلم فيه الدارقطني في كتاب السنن من الضعفاء والمتروكين والمجهولين)( ).
2- رباح الأسود
رباح الأسود مولى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان أسود، وكان يأذن عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحيانًا، وهو الذي استأذن لعمر بْن الخطاب رضي اللَّه عنه، عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما اعتزل نساءه في المشربة، قال بلال، وسلمة بْن الأكوع: كان للنبي غلام اسمه رباح( ).
3- رباح مولى أم سلمة
روى النسائي من طريق كُريب، عن أم سلمة، قالت: مرّ النبيُّ صلّى الله عليه وآله وسلم بغلام لنا يقال له ربَاح، وهو يصلّي فنفخ، فقال: "تَرِّبْ وَجْهَكَ"( ).
4- رباح مولى بني جحجبى.
شهد أحدًا، قال عروة، وابن شهاب، وابن إِسْحَاق: إنه قتل يَوْم اليمامة شهيدًا ( . (
5- رباح مولى الحارث بْن مالك الأنصاري. قتل يَوْم اليمامة شهيدًا.
6- رباح بن زيد مولى آل مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ( ).
وجاء في تاريخ ابن يونس المصري بعض من كان اسمه رباح ومنهم:( ).
7- رباح: مولى أم عثمان بنت سفيان بن عبد العزيز بن مروان. يروى عن عقبة ابن مسلم. متروك الحديث. يقال: اسمه مقدّم، ويكنى أبا رباح، وهو- عندى- أصح. روى عنه حيوة بن شريح «5» .
8- رباح بن طيبان بن عبد الرحمن الأصفر: مولى الأزد. يكنى أبا نافع .
مصرى، حدّث عن موسى بن عبد الرحمن بن القاسم، وفهد بن سليمان ، وسلمة ابن شبيب. توفى فى رمضان سنة ثلاثمائة، وكان فاضلا، أسود اللون.
9- ابو رباح والد الامام عطاء بن ابي رباح:
قال عثمان بن عطاء الخراساني: انطلقت مع أبي وهو يريد هشام بن عبد الملك، فلما قربنا إذا شيخ أسود على حمار، عليه قميص دريس وجبة دنسة وقلنسوة لاطية دنسة، وركاباه من خشب، فضحكت، وقلت لأبي: من هذا الأعرابي؟ قال: اسكت! هذا سيّد فقهاء أهل الحجاز، هذا عطاء بن أبي رباح. فلما قربت نزل أبي عن بغلته، ونزل هو عن حماره، فاعتنقا وتساءلا، ثم ركبا فانطلقا إلى باب هشام. فلما رجع أبي قلت: حدثني ما كان منكما. قال: لما قيل لهشام: عطاء بن أبي رباح أذن له، وما دخلت إلا بسببه. فلما رآه هشام قال: مرحباً مرحباً: هاهنا، هاهنا، فرفعه حتى مسّت ركبته ركبته، وعنده أشراف الناس يتحدثون فسكتوا( ).
وورد في تهذيب الكمال في اسماء الرجال (وقال ابو عبيد الآجري، عن ابي داؤود كان عطاء بن ابي رباح ابوه نوبي، وكان يعمل المكاتل (الزنابيل) ( ).
الخلط بين الحبشة والنوبة
رغم أن مفهوم الحبش في المصادر العربية يصدق على سكان مناطق الصومال وارتريا واثيوبيا الحالية، إلا أن تلك المصادر تتوسع أحيانا في إطلاق اسم الحبش حتى يشمل النوبة والكانم (سكان دولة تشاد الحالية) ( ).
ويمكن الإشارة هنا لبعض هذه المصادر، ومن ذلك: (وقد عاد ابن أبي السرح إلى أفريقية مرة أخرى ووطد فيها الإسلام وذلك في سنة 33هـ، كما كان من أهم أعمال عبد الله بن سعد بن أبي السرح غزوه لبلاد النوبة وتسمى غزوة الأساودة، أو غزوة الحبشة عند بعض المؤرخين، وقد وقعت هذه الغزوة سنة إحدى وثلاثين للهجرة، وقد دار قتال شديد بين أجناد المسلمين وجنود النوبة، وأصيب مجموعة من المسلمين نظرا لإجادة أهالي النوبة للرمي، وقد انتهت تلك الغزوة بصلح وقعه عبد الله بن سعد مع أهالي النوبة بوضع جزية محددة عليهم.( ).
ويقول بن خلدون: وانتشروا "أي جهينة " ما بين صعيد مصر والحبشة، وكاثروا هنالك سائر الأمم، وغلبوا على بلاد النوبة، وفرقوا كلمتهم وأزالوا ملكهم. وحاربوا الحبشة فأرهقوهم إلى هذا العهد " ( ).
ويورد احمد الياس جملة من المصادر: ((وقد تردد في بعض المصادر العربية استخدام اسم الحبش للدلالة على النوبة. فالمسعودي (مروج الذهب، موقع الوراق، ج 1 ص 37) يقول عند حديثه عن مناطق جنوب أسوان:. ” وعلى أميال من أسوان جبال وأحجار يجري النيل في وسطها، ولا سبيل إلى جريان السفن فيه هناك، وهذه الجبال والمواضع فارقة بين مواضع سفن الحبشة في النيل وبين سفن المسلمين.”
ويقول المسعودي في مكان آخر (نفسه ص 161): ” وقد ذكرنا النتاج الذي كان بصعيد مصر مما يلي الحبشة” وذكر القلقشندي عن خط حدود مصر الغربية:” ويمتد جنوباً، وأرض إفريقية غربيه، على ظاهر الفيوم والواحات حتى يقع على صحراء الحبشة على ثمان مراحل من أسوان.”ومن الواضح أن المسعودي والقلقشندي يستخدمان لفظ الحبشة للحديث عن النوبة).
وابن المقفع (تاريخ بطاركة الكنيسة المصرية، ص 83) أشار إلى ملك مقرة بملك الحبشة حين قال: ” وكان ملك المقرة الحبشي ارتدكس وهو الملك العظيم” وفي سيرة الأنبا ميخائيل (أو خايال كما يكتبه ابن المقفع) تحدث أبو صالح الأرمني (ص 139) عن ” ملك النوبة وملك الحبش” عندما قاد ملك النوبة كرياكوس جيشاً كبيراً لغزو مصر عام 132 هـ / 750 م ليخلص البطرك الذي سجنه والي مصر)) ( ).
(وبينما لا يوجد واحد من الشخصيات الاثيوبية الشهيرة في الانجيل يمكن التصديق بصورة معقولة انه عاش على كتلة الارض التي تسمى اليوم اثيوبيا، لكنهم اثيوبيون بالمعىنى الواسع والذي كان سائدا وقتها للناس الذين كانوا يعيشون في لمنطقة جنوب مصر وتمتد حدودهم للبحر الاحمر).
اسم بلال من وجهة نظر اللغة المروية.
اللغة المروية ثنائية الجذور، بمعنى ان جذر الكلمة فيها يتكون من حرفين واحياناً من حرف واحد، بينما نجد أن اللغة العربية واخواتها العبرية والحبشية تقع ضمن عائلة اللغات السامية والتي يتكون الجذر فيها من ثلاثة حروف مثل ضرب ولعب وذهب وغيرها. وفي اللغة المروية يمكن الوصول للاسم بتجميع جذرين او ثلاثة، وعموما فالمعروف من نحو اللغة المروية لا يزال قليلاً.
اسم بلال يتكون من ثلاثة جذور هي (بَ) و(لَ) و(ال)
Ba : 1- (aspect of man) ب - شيء يتعلق بالرجل
2, plural element, 'many, much , abundant كثير وفير متعدد
L: 1- Meroitic ending particle.
2- Verb "to be" ; lne 'living, existence'ل – فعل يكون.
Al: Nobel. نبيل، عظيم . شريف، بارز، ال - ماجد، كريم، عند تجميع هذه الجذور بصورة حرفية سيكون مجمل معنى الاسم: الرجل الذي يكون وافر النبل أو وافر الكرم، أو يكون صاحب الشرف الكبير أو النبل، أو العظيم جداً، وغير ذلك من المعاني التي تنسجم مع المفردات المذكورة اعلاه، ويمكن القول أن اسم بلال المروي هو دعاء او تمنى على نسق الاسماء العربية (يزيد)، و(يعيش)، و(يحى)، و(يسلم)، و(يعمر)، و(يعلى)، وهي اسماء مشتقة من صيغة الفعل المضارع وتعكس نوعاً من التفاؤل، وهذا الاسم المروي يماثلها في الفكرة وفيه تمني بان يكون الشخص المسمى وافر النبل أو شديد العظمة أو كريم جدا أو فاضل. ومن الممكن مقابلته بالأسماء الحديثة الواردة في صيغة افعل مثل اشرف واكرم وامجد.
وجود الاسم في الوجدان الشعبي السودان وهو يحمل المعاني المروية القديمة.
تحتفظ ذاكرة التراث الشعبي؛ والتي هي خزانة المحفوظات القديمة؛ بالصيغة المروية للاسم، ففيها (بَلَّال)، بفتح الباء وتشديد اللام، بينما نجد الاسم في النسخة العربية ينطق بكسر الباء (بِلال)، وفتح الباء يجعله اقرب للصيغة المروية او الاصلية، وتتناثر كلمة (بَلَّال) في العديد من الاغاني التراثية السودانية سواء كانت باللغة العربية او باللغات النوبية الحالية، وقد ظن الكثيرون ان مفردة (بلال) تشير للمحبوب، ومن هؤلاء الدكتور عون الشريف قاسم في كتابه (قاموس اللهجة العامية في السودان)، ومرد هذا التوهم أن خطاب (البلال) تكتبه امرأة وتضعه في بريد رجل ما، فذهبت الأذهان إلى أن المرأة تقصد المحبوب، وقد سارت كلمات بعض الاغاني المؤلفة حديثاً على هذا النحو ووجهت الرسالة للمحبوب، وفي اغنية عائشة الفلاتية (يا بلال تزورنى مرة) ما يوثق لتغير دلالة المعني وجعل الحالة البلالية محصورة في المحبوب فقط ، لكن مجرد وجود كلمة (البلال) يعني أن ظلال المعاني السابقة من كرم وشهامة وعظمة ستفرض نفسها وستسير جنباً إلى جنب مع حديث المحبة والعشق.
الأصل في (البلال) أنها حالة تصف الرجل البارز وتكيل له المدح، وهو الشخص البطل الكريم الشجاع المتسامح؛ وقد تكون هذه الشخصية ابناً أو أخاً أو اباً او ربما شخصية عامة مثل شيخ القبيلة. وفي بعض المجتمعات يحدث خلط بين (البلال) و(البنينة)؛ والفرق بينهما أن أنشودة البنينة في الغالب مخصصة لمدح العريس وتقال ضمن طقس محدد من طقوس الزواج هو طقس الجرتق. أما (البلال) فهي حالة مفتوحة اساسها وجود الشخصية المتسمة بالنبل والكرم حسب الاسم المروي التي يراد توجيه المدح لها، والنقطة المهمة المشتركة في الحالتين هو تضمنهما رسائل اجتماعية وحث على مكارم الاخلاق والكرم والشجاعة.
سنلقي نظرة على بعض النماذج التي تصف حالة (البلال) وسنجد تطابقاً بين ما تقدمه هذه النماذج من صفات وبين المعاني التي اشار لها الاسم المروي، وقد تتغير اللغة والكلمات بتغير الزمن، لكن القالب البلالي يبقى كما هو؛ أي أنه مدح تقدمه امرأة لرجل فاضل او لأبن أو قريب ترجو أن يكون فاضلاً وتستبشر أن تحمل الأيام له في طياتها مستقبلاً مرموقاً في الشجاعة والكرم والشهامة وهذه الأمنيات هي ما يشير لها الجذر L)) في الاسم المروي ومعناه (يكون).
ونقدم من الاغنيات الشعبية التي غناها عبد الرحمن بلاص:
البلال بلال يا بلالي انا
دخري الحوبه سار يا بلالي انا
يا تمساح راس بروس يا بلالي انا
ما بيمرق يكوس يا بلالي انا
ما قايم بروس يا بلالي انا
ما بياكل المكوس يا بلالي انا
بالصالحين محروس يا بلالي انا
التام ومو منقوص يا بلالي انا
تصف المنشدة الرجل بانه دخري الحوبة أي الكريم المدخر لاوقات الشدة، وتصفه بالتمساح، وأنه لا يشحذ ولا يتسول، كما أنه من منبت حسن وليس (بروس) وهو الزرع الطفيلي الذي يظهر من تلقاء نفسه، والمكوس هي الضرائب او (الأتاوات) التي تفرضها السلطة وقد تمنح جزءاً منحها للمتحصلين من شيوخ ونظار وعمد او أي مساعد للسلطة، والقصد ان هذا (البلال) - الرجل النبيل - يترفع عن اخذ المال من السلطة باعتبار ان السلطة تأخذه من الضعاف والبسطاء.
وصورة اخرى لمنشدة ثانية تقول فيها:
بلال انا وين انا يا بلالا
وهو البفك شِبكي وحلَالا..
بلالي يسمعني ان صحت وندهت
وهو البشيلني كان في الهم حتلت
الليلة وين مقنع كاشفتي
امانة في وانا ما هملت.
فهنا انثى توجه نداء استغاثة لرجل لديها ثقة تامة بأنه سيكون اهلاً لنجدتها، ويستطيع ان يفك (الشبك) بكسر الشين وفتح الباء ويحل عقدها، ويسمعها متى ما استغاثت وندهت، ونده كما في لسان العرب: (نَدَهَ الرجلُ يَنْدَهُ نَدْهاً إِذَا صَوَّتَ). ومقنع الكاشفات أي القناع الذي تستر به المرأة وجهها، و(مقنع) تنطق بضم الميم وسكون القاف وفتح النون. والمنشدة مع رجل بهذه الصفات على يقين بانها لن تكون (هاملة).
وفي مشهد ثالث ومن اغاني عبد الرحمن بلاص ايضاً، نرى:
بلالي متين يجي
الله ان جابك يا عشاي
جيب لي راس سكر ثم شاي
نصه للبنوت المعاي
ونصه لحبيبة قساي
فهنا في هذا المشهد نجد أن الحالة البلالية تتحدث عن الكرم. لكن (عشاي) تشير لمعاني اوسع، فهي ليست العشاء باللفظ العربي المعروف وانما تعني في بعض اللغات النوبية الحالية (الأهل) او العشيرة، فهنا البلال يمثل الاهل والعشيرة.
وفي مشهد رابع:
البلال بلال
دخري الحوبة سار
اياك عز الرجال
البيك لسانا طال.
وفي مشهد خامس:
بلال يا بلال الخير عشا امو
المنفل خالو بين الناس وعمو
اشوفو وانا حية ياخد بت اعمو
يبكر بالوليد وانا اشيلو اشمو.
بعد استعراض هذه المشاهد ومقارنتها بمعاني الاسم المروي (الرجل الذي يكون وافر النبل أو وافر الكرم، أو صاحب الشرف الكبير، أو العظيم جداً)، يتأكد مروية الاسم واستمرار التراث المرتبط به، وانه يحمل في مجمله مفهوم التفاؤل بان يكون الممدوح (بلالاً)، نبيلاً عظيماً ماجداً، فاضلاً، فاذا ما نظرنا للصحابي الجليل (بلال) والإشارات العديدة التي تشير لكونه من أصل نوبي. وان اسم ابيه رباح نوبي ايضاً، واصطحبنا هذا التراث السوداني القديم فسيتأكد لنا نوبية بلال ونطمح ان يكون التفسير المقدم لاسمه من خلال هذه الدراسة لم يجانب الصواب، والله اعلم.
قائمة المراجع
1- الشريف الادريسي، نزهة المشتاق في اختراق الآفاق - ج ١ .
2- الكامل في التاريخ - ابن الأثير - ج ٢ .
3- الواحدي، اسباب نزول القرآن،.
4- جلال لدين السيوطي، الدر المنثور.
5- ابن سعد، الطبقات الكبرى، دار صادر الجزء : 1 .
6- محمود بن سعيد بن محمود الشيخ، بلال بن رباح الحبشي في الحديث والآثار، مكة المكرمة –1434هـ.
7- ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق، ج ١٠ .
8- ابن حجر فتح الباري -- ج ٧ .
9- المرتضى الزبيدي تاج العروس الجزء الثاني.
10- محمد بن عبد الرحمن بن محمد ابن زريق، من تكلم فيه الدارقطني في كتاب السنن من الضعفاء والمتروكين والمجهولين.، ط اوقاف قطر. 2007.
11- ابن الاثير اسد الغابة في معرفة الصحابة، دار ابن حزم - بيروت-ط 1( 2012), ج1 .
12- ابن يونس: تاريخ ابن يونس المصري.
13- تاريخ مدينة دمشق - ابن عساكر - ج ٤٠ .
14- جمال الدين يوسف بن عبد الرحمن المزي، تهذيب الكمال في اسماء الرجال، ، دار الكتب العلمية، 2018.
15- احمد الياس حسين، لقواسم المشتركة بين الحبشة والسودان عبر التاريخ، موقع سودانيز اون لاين 1/1/2015.
16- عَلي محمد محمد الصَّلاَّبي، تيسير الكريم المنان في سيرة عثمان بن عفان رضي الله عنه - شخصيته وعصره، دار التوزيع والنشر الإسلامية، القاهرة، الطبعة: الأولى، 2002 م.
17- ابن خلدون، مقدمة ابن خلدون.
18- احمد الياس حسين، أخطاء ومسلمات في تاريخ السودان تتطلب ضرورة المراجعة، موقع الراكوبة، 4/10/2015 .
nakhla@hotmail.com
/////////////////
القول بأن بلالاً نوبي مروي يجيء استناداً لتفكيك جذور اسمه والحصول على معناها من اللغة المروية القديمة، وهي لغة اندثرت، ولكن لا تزال مفردات غير قليلة في اللسان العامي السوداني مستمدة منها. وسنستعين في هذا بقاموس صغير قام بأعداده كلايد وينترز رتب فيه عدداً من جذور كلمات اللغة المروية التي جمعت من مصادر آثاريه شتى، واهمها نقش كلابشة والذي يعود تاريخه للعام 580 ميلادية، ومن هذه الجذور يمكن الوصول إلى معنى اسم بلال.
قرية كلابشة تقع الآن داخل الحدود المصرية على بعد 50 كيلومتراً جنوب اسوان، وكانت في الماضي تشكل التخوم الشمالية لمملكة مروي؛ ولغة سكانها كانت المروية بدليل وجود هذا النقش فيها. تم بناء معبد كلابشة فى عهد الامبراطور أغسطس، وخصص لعبادة الإله ماندوليس إله الشمس عند النوبيين، ويمتاز المعبد بوجود ظاهرة التعامد على حجرة قدس الأقداس فيه مرتين في العام وتحدث في الرابع عشر من شهر فبراير والتاسع والعشرين من شهر أكتوبر، كما يضم المعبد النقش الذي يوضح انتصارات الملك النوبى سيلكو على البليميين وهو مكتوب باللغة المروية.
النوبة المشار لكون بلال منهم قد يكونون الجماعات النوبية الحالية في شمال البلاد والتي تضم في الوقت الحالي المحس والسكوت والدناقلة والكنوز، ويمكن ان يكونوا نوبة غيرهم بالمعنى الواسع لكمة نوبة، فقد كان المؤرخون العرب حين يذكرون اسم النوبة يشيرون بصفة عامة للبلاد جنوب مصر، وكانت تشمل مملكتي المقرة وعاصمتها دنقلة؛ ومملكة علوة وعاصمتها سوبة وتقع جنوب شرق الخرطوم الحالية وامتد نفوذها شرقاً الى الحدود مع الحبشة، وذكر ابن حوقل: (وملوك النوبة اثنان: ملك المقرة، وهو ملك دنقلة، وملك علوة؛ وملك المقرة تحت ملك علوة).
ويذكر الادريسي: (ومن بلاد النوبة مدينة علوة وهي على ضفة النيل أسفل من مدينة دنقلة وبينهما مسير خمسة أيام في النيل وماؤهم من النيل وشربهم منه وبه يزرعون الشعير والذرة وسائر بقولهم من السلجم والبصل والفجل والقثاء والبطيخ)().
ويمكن القول في ظل تمدد مملكة مروي والتي كانت تضم قوميات مختلفة؛ ان كل النوبة مرويون ولكن ليس كل المرويين نوبة، وبالتالي سيكون بلال مروياً بالصفة العامة ونوبياً بالصفة الخاصة.
سنقدم اولا مكانة بلال في التراث الاسلامي، وسننظر لاسم بلال في المراجع القديمة لنرى مدى انتشاره كاسم علم في الجزيرة العربية رغم كون الاسم مروياً. ثم سنمر على العديد من الاشارات في التراث الاسلامي التي اشارت لبلال بكونه نوبياً. ولن تقف محاولات التأصيل على اسم بلال فقط بل تتعداه لاسم ابيه (رباح) وايراد الإشارات التي تشير لكونه نوبيا أيضاً.
بعدها سنقدم الدليل اللغوي الذي يفيد ان اسم بلال مروي و ونقوم بشرح معناه. واخيرا سنصطحب البعد المحلي للاسم، ووجوده في الوجدان الشعبي السوداني ضمن الاغاني والاشعار والتي تعتبر تراثاً شفهياً لا يمكن تجاهله؛ ومدى انسجام المعني الذي يشير له الاسم في التراث مع المعنى المستخرج من قاموس اللغة المروية.
مكانة بلال في التراث الاسلامي.
لمحات من سيرة بلال:
كان مولده بعد عام الفيل بثلاث سنوات على الارجح، في حدود خمسين عاماً قبل الهجرة، وكان من الممكن ان يكون بلال عبداً لأمية بن خلف يرعي غنمه ويسوق ابله ولكن همة نفسه وطموحه العالي نقلته من قاع السلم الاجتماعي إلى قمته، وكان سبباً لشهرة سيده؛ ولولاه ربما ما سمع احد باسم امية بن خلف ولما ذكرته كتب السير ولا خلده التاريخ. وقد احترمت الثقافة العربية الاسلامية بلالاً ومنحته مكانة كبيرة فرددت الاجيال اسمه وانتشر الاسم من اندونيسيا شرقا إلى المغرب غرباً. ورد في صحيح البخاري: (حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ ، حَدَّثَنَا عَبْدُ العَزِيزِ بْنُ أَبِي سَلَمَةَ ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ المُنْكَدِرِ ، أَخْبَرَنَا جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا ، قَالَ : كَانَ عُمَرُ يَقُولُ : أَبُو بَكْرٍ سَيِّدُنَا ، وَأَعْتَقَ سَيِّدَنَا يَعْنِي بِلاَلًا).
واورد ابن الأثير في الكامل في التاريخ: (بلال بن رباح الحبشي مولى أبي بكر، وكان أبوه من سبي الحبشة، وأمه حمامة سبية أيضاً، وهو من مولدي السراة، وكنيته أبو عبد الله، فصار بلال لأمية بن خلف الجمحي، فكان إذا حميت الشمس وقت الظهيرة يلقيه في الرمضاء على وجهه وظهره ثم يأمر بالصخرة العظيمة فتلقى على صدره، ويقول: لا تزال هكذا حتى تموت أو تكفر بمحمد وتعبد اللات والعزى، فكان ورقة بن نوفل يمر به وهو يعذب وهو يقول: أحد أحد. فيقول: أحد أحد والله يا بلال. ثم يقول لأمية: أحلف بالله لئن قتلتموه على هذا لأتخذنه حناناً. فرآه أبو بكر يعذب فقال لأمية بن خلف الجمحي: ألا تتقي الله في هذا المسكين ? فقال: أنت أفسدته فأبعدته. فقال: عندي غلام على دينك أسود أجلد من هذا أعطيكه به. قال: قبلت. فأعطاه أبو بكر غلامه وأخذ بلالاً فأعتقه، فهاجر وشهد المشاهد كلها مع رسول الله، صلى الله عليه وسلم)( ).
وورد في كتاب اسباب نزول القرآن للامام الواحدي:
(قال مقاتل: لما كان يوم فتح مكة أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالاً حتى أذن على ظهر الكعبة فقال عتاب بن أسيد بن أبي العيص: الحمد لله الذي قبض أبي حتى لا يرى هذا اليوم. وقال الحارث بن هشام: أما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذناً، وقال سهيل بن عمرو: إن يرد الله شيئاً يغيره وقال أبو سفيان: إني لا أقول شيئاً أخاف أن يخبر به رب السماء فأتى جبريل عليه السلام النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بما قالوا فدعاهم وسألهم عما قالوا فأقروا فأنزل الله تعالى هذه الآية وزجرهم عن التفاخر بالأنساب والتكاثر بالأموال)( ).
وورد في الدر المنثور لجلال لدين السيوطي:
(أخْرَجَ ابْنُ المُنْذِرِ، وابْنُ أبِي حاتِمٍ، والبَيْهَقِيُّ في ”الدَّلائِلِ“ عَنِ ابْنِ أبِي مُلَيْكَةَ قالَ: لَمّا كانَ يَوْمُ الفَتْحِ رَقِيَ بِلالٌ فَأذَّنَ عَلى الكَعْبَةِ، فَقالَ بَعْضُ النّاسِ: هَذا العَبْدُ الأسْوَدُ يُؤَذِّنُ عَلى ظَهْرِ الكَعْبَةِ. وقالَ بَعْضُهم: إنْ يَسْخَطِ اللَّهُ هَذا يُغَيِّرْهُ. فَنَزَلَتْ: ﴿يا أيُّها النّاسُ إنّا خَلَقْناكم مِن ذَكَرٍ وأُنْثى﴾( ) .
وجاء في الكامل في التاريخ:
لما جاء وقت الظهر أمر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بلالاً أن يؤذن على ظهر الكعبة وقريش فوق الجبال، فمنهم من يطلب الأمان ومنهم من قد أمن، فلما أذن وقال: أشهد أن محمداً رسول الله، قالت جويرية بنت أبي جهل: لقد أكرم الله أبي حين لم يشهد نهيق بلال فوق الكعبة.
قال ابن قدامة: ويروى عن الحسن قال: حضر الناس باب عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - وفيهم سهيل بن عمرو، وأبو سفيان بن الحارث، وأولئك الشيوخ، فخرج آذنه فجعل يأذن لأهل بدر لصهيب وبلال وأهل بدر، وكان يحبهم، وكان قد أوصى بهم . فقال أبو سفيان:
ما رأيت كاليوم! إنه ليؤذن لهولاء العبيد ونحن جلوس لا يلتفت إلينا! فقال سهيل: - (قال الحسن: ويا له من رجل ! ما كان أعقله): أيها القوم! قد أرى الذي في وجوهكم، فإن كنتم غضابا فاغضبوا على أنفسكم، دعي القوم ودعيتم، فأسرعوا وأبطأتم، أما- والله – لما سبقوكم به من الفضل أشد عليكم فوتا من بابكم هذا الذي تتنافسون عليه.
بلال يضيف كلمات لصيغة الأذان:
واورد ابن سعد في الطبقات الكبرى: (أخبرنا أحمد بن محمد بن الوليد الأزرقي أخبرنا مسلم بن خالد حدثني عبد الرحيم بن عمر عن بن شهاب عن سالم بن عبد الله بن عمر عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أراد أن يجعل شيئا يجمع به الناس للصلاة فذكر عنده البوق وأهله فكرهه؛ وذكر الناقوس وأهله فكرهه، حتى أُري رجل من الأنصار يقال له عبد الله بن زيد الأذان وأُريه عمر بن الخطاب تلك الليلة؛ فأما عمر فقال إذا أصبحت أخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ وأما الأنصاري فطرق رسول الله صلى الله عليه وسلم من الليل فأخبره؛ وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بلالا فأذن بالصلاة وذكر أذان الناس اليوم؛ قال فزاد بلال في الصبح الصلاة خير من النوم فأقرها رسول الله صلى الله عليه وسلم وليست فيما أُري الأنصاري)( ).
محبة الرسول (ص) لبلال:
جاء في اسد الغابة: (أخبرنا أبو جعفر بن أحمد بن علي، وإسماعيل بن عبيد الله بن علي، وإبراهيم بن محمد بن مهران، قالوا: بإسنادهم عن أبي عيسى الترمذي قال: حدثنا الحسين بن حريث، أخبرنا علي بن الحسين بن واقد، حدثني أبي، أخبرنا عبد الله بن بريدة عن أبيه قال: "أصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعا بلالاً فقال: "يا بلال، بم سبقتني إلى الجنة؟ ما دخلت الجنة قط إلا سمعت خشختك أمامي")( ).
كان رضي الله عنه خازن رسول الله الأمين: أخرج أبو نعيم في الحلية بسنده عن عبدالله الهوزني قال: لقيت بلالاً، فقلت: يا بلال، حدِّثني كيف كانت نفقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ما كان له شيء، كنت أنا الذي ألي له ذاك منذ بعثه الله عز وجل، حتى توفي، وكان إذا أتاه الإنسان المسلم، فرآه عاريًا، يأمرني به، فأنطلق، فأستقرض، وأشتري البردة، فأكسوه وأطعمه.
وأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ فِي جَامِعِهِ بِإِسْنَادِهِ قَالَ حَدَّثَنَا ثَابِتٌ عَنْ أَنَسٍ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَقَدْ أُخِفْتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُخَافُ أَحَدٌ، وَلَقَدْ أُوذِيتُ فِي اللَّهِ وَمَا يُؤْذَى أَحَدٌ، وَلَقَدْ أَتَتْ عَلَيَّ ثَلَاثُونَ مِنْ بَيْنِ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ وَمَا لِي وَلِبِلَالٍ طَعَامٌ يَأْكُلُهُ ذُو كَبِدٍ إِلَّا شَىْءٌ يُوَارِيهِ إِبْطُ بِلَالٍ) قَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.
وروى البخاري بسنده، عن عبد الله بن أبي قتادة، عن أبيه قال: سرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة، فقال بعض القوم: لو عَرَّسْتَ بنا يا رسول الله. قال: "أخاف أن تناموا عن الصلاة". قال بلال: أنا أوقظكم، فاضطجعوا. وأسند بلال ظهره إلى راحلته فغلبته عيناه فنام، فاستيقظ النبي صلى الله عليه وسلم وقد طلع حاجب الشمس، فقال: "يا بلال، أين ما قلت؟" قال: ما ألقيت عليَّ نومة مثلها قطُّ. قال: "إن الله قبض أرواحكم حين شاء، وردها عليكم حين شاء، يا بلال، قُمْ فأذن بالناس بالصلاة".
بلال واخوه يصاهران اشراف العرب
تزوج بلال ثلاث مرات، وقيل خمس، ومن زوجاته هالة بنت عوف وهي شقيقة عبدالرحمن بن عوف الزهري القرشي، احد العشرة المبشرين بالجنة، وقد توفي بلال بن رباح دون أن ينجب منها. وروى الدَّارَ قُطْنِيُّ «من طريق حنظلة بن أبي سفيان الجُمَحي، عن أمه، قالت: رأيْتُ أخْتَ عبد الرحمن بن عوف تحت بلال».
ومن زوجاته جمانة ابنـة الزحاف، وزوجته الثالثة هي هند الخولانية التي يعود نسبها لقبيلة خولان اليمنية، وخولان حسب ما يورده النسابون هو خولان بن عمرو بن مالك بن الحارث بن مرة بن أدد بن يشجب بن عريب بن زيـد بـن كهلان بـن سبأ.
وهناك روايات أخرى تشير إلى أن خولان بسورية وأن هند الخولانية زوج بلال بن رباح، سماها سعيد بن عبد الملك، عن الاوزاعي، عن عمير بن هانئ . قيل: إن لها صحبة، وهي من أهل داريا، من أرض دمشق.
أما خالد اخ بلال فقد كان يريد الزواج من امرأة من قبيلة مخزوم، (وهي قبيلة عريقة في حسبها ونسبها ، ولم تكن ترضى بمثل بلال صهرا لها ، فلما أصر أخوه على أن يخطب هذه المرأة رضخ بلال لقوله، وتوجه معه إلى أشراف مخزوم، وعرض عليهم رغبة أخيه في مصاهرتهم، وقال لهم: يا قوم، نحن من قد عرفتم، كنا عبيدا فأعتقنا الله، وكنا ضالين فهدانا الله، وكنا فقراء فأغنانا الله، وإني أخطب منكم ابنتكم لأخي، فإن تنكحوها له فالحمد الله، وإن تردونا عن قصدنا، فسوف يغنينا الله. فرحب به القوم، وأكرموا وفادته، وقبلوا شفاعته، وقالوا: مرحباً بمؤذن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ثم زوجوه ابنتهم، فلما خرجا من عندهم أقبل عليه أخوه يلومه ويعنفه، ويقول: يابلال، هلا ذكرت لهم مواقفنا في الإسلام، فقد أبلينا مع رسول الله بلاء حسنا ، فقال له بلال: اسكت يا هذا، فقد أنكحك الصدق)( ).
الاشارات في التراث الاسلامي التي تقدم بلال باعتباره نوبياً:
يمكن النظر الى العديد من الإشارات التي ذكرت الأصل النوبي لبلال، فمن ذلك:
قول سعد بن طريف، يهجو بلال بن رباح مولى أبي بكر وكان سعد هذا من المشركين:
وذاك أسودُ نوبيٌّ لـه ذفـرٌ كأنَّه جُعلٌ يمشي بِقِرْواحِ.
ذفر فاح؛ ظهرت له رائحةٌ حادّة طيِّبة كانت أم خبيثة، ثم غلب إطلاقه على الرائحة الخبيثة وحدها.
الجعل: دويبة سوداء
قرواح: البارز الذي لا يستره شيء من السماء: الأرض البارزة للشمس: الفضاء من الأرض ليس به شجر ولم يخالطه بها شيء، وهو القرياح والقرحياء.
وفي لسان العرب وكذلك هَضْبَةٌ قِرْواح، يعني ملساء جرداء طويلة
قال ابن عساكر : أخبرنا أبو الفتح يوسف بن عبد الواحد ، أنبأنا شجاع ابن علي ، أنبأنا أبو عبد الله بن مندة قال : بلال بن رباح مولى أبي بكر ... من مولدي السراة ، من أهل مصر )( ).
وقال أبو بكر البغدادي: قال عبد الباقي بن قانع في تاريخ الوفيات من جمعه، بلال بن رباح النوبي مولى أبي بكر - رضي الله عنه - قلت - أي أبو بكر -: وغيره يقول في نسبته الحبشي ( ).
وقال ابن ناصر الدين : النوبي إلى النُّوبة : بلاد واسعة للسودان في جنوب الصعيد ، قيل : منها بلال - رضي الله عنه - قلت: نسبه إليها ابن قانع فقال: بلال النوبي
قال ابن حجر عنه : وذكر ابن سعد أنه كان من مولدي السراة، واسم أمه حمامة، وكانت لبعض بني جمح، وجاء عن أنس عند الطبراني وغيره أنه حبشي وهو المشهور، وقيل نوبي ( ) .
وقال المرتضي الزبيدي: النوبة بلاد واسعة للسودان بجنُوِب الَّصِعيد، وتقدم عن الجوهري: النوبة جيل من السودان، وفي المعجم وقد مدحهم النبي صلي الله عليه وسلم بقوله من لم يكن له اخ فليتخذ له اخا من النوبة، وقال : (خير سبيكم النوبة)، ومدينة النوبة اسمها دنقلة، وهي منزل الملك على ساحل النيل وبلدهم اشبه باليمن، منها على ما يقال سيدنا بلال بن رباح الحبشي القرشي التيمي، أبو عبد الله، ويقال: أبو عبد الرحمن، ويقال: أبو عبد الكريم، ويقال أبو عمرو المؤذن، مولى أبي بكر، رضي الله عنهما. وأمه حمامة: كانت مولاة لبعض بني جمح، قديم الإسلام والهجرة، شهد المشاهد كلها، وكان شديد الأدمة، نحيفاً، طويلاً ( ).
وقال أبو الفداء : ومن أمم السودان النوبة ، وهم يجاورون الحبشة من جهة الشمال والغرب ، والنوبة في جنوب حدود مصر، وكثيرا ما ِ يغزوهم عسكر مصر، ويقال أن لقمان الحكيم الذي كان مع داود النبي عليه السلام من النوبة، وأنه ولده بأيلة. ومنه ذو النون المصري، وبلال بن حمامة، وفي القاموس المحيط للفيروزأبادي أن دنقلة عاصمة بلاد النوبة وأن سيدنا بلال أصله من ناحيتها، ولعله أخذ هذا من الجاحظ إذ ذكر في البيان أو الحيوان أن أصل سيدنا بلال من النوبة.
وجود الاسم النوبي (بلال) لدى العرب قبل الاسلام:
وجود هذا الاسم وسط العرب قبل الاسلام قد يسند حجة من يقول انه عربي، ولكن يجب ملاحظة أن بلال بن رباح له قصب السبق في الاسم، فهو من ناحية العمر يبدو أكبر منهم:
1- بلال بن الحارث بن عصم بن سعيد بن قرة بن خلاوة بن ثعلبة بن ثور بن هدمة بن لاطم بن عثمان بن عمرو بن أد بن طابخة أبو عبد الرحمن المزني وولد عثمان يقال لهم : مزينة نسبوا إلى أمه مزينة وهو مدني قدم على النبي صلى الله عليه و سلم في وفد مزينة في رجب سنة خمس وكان ينزل الأشعر والأجرد وراء المدينة وكان يأتي المدينة وأقطعه النبي صلى الله عليه و سلم العقيق وكان يحمل لواء مزينة يوم فتح مكة ثم سكن البصرة، روى عنه ابنه الحارث وعلقمة بن وقاص، وبعض المراجع تشير إلى وجود خلط بين ما ورد عنه وما ورد عن بلال بن مالك المزني .
2- بلال بن مالك المزني بعثه رسول الله صلى الله عليه و سلم إلى بني كنانة في سرية فأشعروا به ففارقوا مكانهم فلم يصب منهم إلا فرساً واحداً وذلك في سنة خمس من الهجرة أخرجه أبو عمر مختصراً
وفي الإصابة 1/169 برقم 738 بعد أن ذكر عبارة الاستيعاب قال : قلت ينبغي أن يحرز لئلا يكون هو بلال بن الحارث الذي تقدم. مات سنة ستين في خلافة معاوية وله ثمانون سنة، أي انه مولود قبل الهجرة بعشرين عاماً بينما بلال ولد قبل الهجرة بخمسين عاماً.
3- بلال بن يحيى ذكره الحسن بن سفيان في الوحدان، وهو راوي الحديث:
أخبرنا محمد بن عمر بن أبي عيسى كتابة أخبرنا الحسن بن أحمد أبو علي أخبرنا الحافظ أبو نعيم أخبرنا أبو عمرو بن حمدان حدثنا الحسن بن سفيان أخبرنا المقدمي محمد بن أبي بكر أخبرنا محمد بن عثمان القرشي أخبرنا حبيب بن سليم عن بلال بن يحيى عن النبي صلى الله عليه و سلم قال : " إن معافاة الله العبد في الدنيا أن يستر عليه سيئاته في الدنيا وإن أول خزي الله تعالى العبد أن يظهر عليه سيئاته "
قال أبو نعيم : أراه العبسي الكوفي (يقصد بلال بن يحي) وهو صاحب حذيفة لا صحبة له، أخرجه أبو نعيم وأبو موسى، وفي طبقات ابن سعد أن بلال بن يحيى بن طلحة بن عبيد الله التيمي، وأمه أم ولد. فولد بلال بن يحيى: يحيى. وإسحاق. وعيسى. وأمهم ربيعة أم ولد، فهو على هذا الاساس ربما كان نوبياً ايضاً.
4- بلال رجل من الأنصار ولاه عمر بن الخطاب عمان ثم عزله وضمها إلى
عثمان بن أبي العاص أخرجه أبو عمر وقال : لا أقف على نسبه وخبره هذا
مشهور.
وبعد الاسلام انتشر اسم بلال وسمى بعض كبار الصحابة أو ذريتهم ابناءهم او غلمانهم تيمناً به، فهناك بلال بن عبد الله بن عمر، وبلال بن ابي بردة بن ابي موسى الاشعري، وبلال بن ابي هريرة الدوسي، وبلال بن يحي بن طلحة بن عبيد الله، وبلال بن عويمر ابي الدرداء، ومن الغلمان بلال غلام الامام علي رضي الله عنه.
رباح اسم نوبي
جُل من اُطلق عليهم اسم (رباح) نجد اشارات واضحة لكونهم من النوبة؛ أو قد تأتي الاشارة لكونهم (موالى) والتي تفيد أن اصلهم غير عربي، ومنهم:
1- رباح النوبي أبو محمَّد مولى آل الزبير، ورد اسمه في سنن الدارقطني في الحديث: (محمد بن حميد حدثنا علي بن مجاهد حدثنا رباح النوبي أبو محمد مولى آل الزبير عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها : أنها ذكرت قصة شرب عبد الله بن الزبير ابنها دم النبي صلى الله عليه وسلم أمام الحجاج، وفيه قول النبي صلى الله عليه وسلم له: لا تمسك النار) .
والحديث ضعيف قال الحافظ بن حجر في (تلخيص الحبير) : " وفيه علي بن مجاهد وهو ضعيف " وفيه أيضا رباح النوبي ، قال الحافظ : " لينه بعضهم ، ولا يُدْرَى من هو "، وذكره ابن زريق في كتابه (من تكلم فيه الدارقطني في كتاب السنن من الضعفاء والمتروكين والمجهولين)( ).
2- رباح الأسود
رباح الأسود مولى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان أسود، وكان يأذن عَلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أحيانًا، وهو الذي استأذن لعمر بْن الخطاب رضي اللَّه عنه، عَلَى النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لما اعتزل نساءه في المشربة، قال بلال، وسلمة بْن الأكوع: كان للنبي غلام اسمه رباح( ).
3- رباح مولى أم سلمة
روى النسائي من طريق كُريب، عن أم سلمة، قالت: مرّ النبيُّ صلّى الله عليه وآله وسلم بغلام لنا يقال له ربَاح، وهو يصلّي فنفخ، فقال: "تَرِّبْ وَجْهَكَ"( ).
4- رباح مولى بني جحجبى.
شهد أحدًا، قال عروة، وابن شهاب، وابن إِسْحَاق: إنه قتل يَوْم اليمامة شهيدًا ( . (
5- رباح مولى الحارث بْن مالك الأنصاري. قتل يَوْم اليمامة شهيدًا.
6- رباح بن زيد مولى آل مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ( ).
وجاء في تاريخ ابن يونس المصري بعض من كان اسمه رباح ومنهم:( ).
7- رباح: مولى أم عثمان بنت سفيان بن عبد العزيز بن مروان. يروى عن عقبة ابن مسلم. متروك الحديث. يقال: اسمه مقدّم، ويكنى أبا رباح، وهو- عندى- أصح. روى عنه حيوة بن شريح «5» .
8- رباح بن طيبان بن عبد الرحمن الأصفر: مولى الأزد. يكنى أبا نافع .
مصرى، حدّث عن موسى بن عبد الرحمن بن القاسم، وفهد بن سليمان ، وسلمة ابن شبيب. توفى فى رمضان سنة ثلاثمائة، وكان فاضلا، أسود اللون.
9- ابو رباح والد الامام عطاء بن ابي رباح:
قال عثمان بن عطاء الخراساني: انطلقت مع أبي وهو يريد هشام بن عبد الملك، فلما قربنا إذا شيخ أسود على حمار، عليه قميص دريس وجبة دنسة وقلنسوة لاطية دنسة، وركاباه من خشب، فضحكت، وقلت لأبي: من هذا الأعرابي؟ قال: اسكت! هذا سيّد فقهاء أهل الحجاز، هذا عطاء بن أبي رباح. فلما قربت نزل أبي عن بغلته، ونزل هو عن حماره، فاعتنقا وتساءلا، ثم ركبا فانطلقا إلى باب هشام. فلما رجع أبي قلت: حدثني ما كان منكما. قال: لما قيل لهشام: عطاء بن أبي رباح أذن له، وما دخلت إلا بسببه. فلما رآه هشام قال: مرحباً مرحباً: هاهنا، هاهنا، فرفعه حتى مسّت ركبته ركبته، وعنده أشراف الناس يتحدثون فسكتوا( ).
وورد في تهذيب الكمال في اسماء الرجال (وقال ابو عبيد الآجري، عن ابي داؤود كان عطاء بن ابي رباح ابوه نوبي، وكان يعمل المكاتل (الزنابيل) ( ).
الخلط بين الحبشة والنوبة
رغم أن مفهوم الحبش في المصادر العربية يصدق على سكان مناطق الصومال وارتريا واثيوبيا الحالية، إلا أن تلك المصادر تتوسع أحيانا في إطلاق اسم الحبش حتى يشمل النوبة والكانم (سكان دولة تشاد الحالية) ( ).
ويمكن الإشارة هنا لبعض هذه المصادر، ومن ذلك: (وقد عاد ابن أبي السرح إلى أفريقية مرة أخرى ووطد فيها الإسلام وذلك في سنة 33هـ، كما كان من أهم أعمال عبد الله بن سعد بن أبي السرح غزوه لبلاد النوبة وتسمى غزوة الأساودة، أو غزوة الحبشة عند بعض المؤرخين، وقد وقعت هذه الغزوة سنة إحدى وثلاثين للهجرة، وقد دار قتال شديد بين أجناد المسلمين وجنود النوبة، وأصيب مجموعة من المسلمين نظرا لإجادة أهالي النوبة للرمي، وقد انتهت تلك الغزوة بصلح وقعه عبد الله بن سعد مع أهالي النوبة بوضع جزية محددة عليهم.( ).
ويقول بن خلدون: وانتشروا "أي جهينة " ما بين صعيد مصر والحبشة، وكاثروا هنالك سائر الأمم، وغلبوا على بلاد النوبة، وفرقوا كلمتهم وأزالوا ملكهم. وحاربوا الحبشة فأرهقوهم إلى هذا العهد " ( ).
ويورد احمد الياس جملة من المصادر: ((وقد تردد في بعض المصادر العربية استخدام اسم الحبش للدلالة على النوبة. فالمسعودي (مروج الذهب، موقع الوراق، ج 1 ص 37) يقول عند حديثه عن مناطق جنوب أسوان:. ” وعلى أميال من أسوان جبال وأحجار يجري النيل في وسطها، ولا سبيل إلى جريان السفن فيه هناك، وهذه الجبال والمواضع فارقة بين مواضع سفن الحبشة في النيل وبين سفن المسلمين.”
ويقول المسعودي في مكان آخر (نفسه ص 161): ” وقد ذكرنا النتاج الذي كان بصعيد مصر مما يلي الحبشة” وذكر القلقشندي عن خط حدود مصر الغربية:” ويمتد جنوباً، وأرض إفريقية غربيه، على ظاهر الفيوم والواحات حتى يقع على صحراء الحبشة على ثمان مراحل من أسوان.”ومن الواضح أن المسعودي والقلقشندي يستخدمان لفظ الحبشة للحديث عن النوبة).
وابن المقفع (تاريخ بطاركة الكنيسة المصرية، ص 83) أشار إلى ملك مقرة بملك الحبشة حين قال: ” وكان ملك المقرة الحبشي ارتدكس وهو الملك العظيم” وفي سيرة الأنبا ميخائيل (أو خايال كما يكتبه ابن المقفع) تحدث أبو صالح الأرمني (ص 139) عن ” ملك النوبة وملك الحبش” عندما قاد ملك النوبة كرياكوس جيشاً كبيراً لغزو مصر عام 132 هـ / 750 م ليخلص البطرك الذي سجنه والي مصر)) ( ).
(وبينما لا يوجد واحد من الشخصيات الاثيوبية الشهيرة في الانجيل يمكن التصديق بصورة معقولة انه عاش على كتلة الارض التي تسمى اليوم اثيوبيا، لكنهم اثيوبيون بالمعىنى الواسع والذي كان سائدا وقتها للناس الذين كانوا يعيشون في لمنطقة جنوب مصر وتمتد حدودهم للبحر الاحمر).
اسم بلال من وجهة نظر اللغة المروية.
اللغة المروية ثنائية الجذور، بمعنى ان جذر الكلمة فيها يتكون من حرفين واحياناً من حرف واحد، بينما نجد أن اللغة العربية واخواتها العبرية والحبشية تقع ضمن عائلة اللغات السامية والتي يتكون الجذر فيها من ثلاثة حروف مثل ضرب ولعب وذهب وغيرها. وفي اللغة المروية يمكن الوصول للاسم بتجميع جذرين او ثلاثة، وعموما فالمعروف من نحو اللغة المروية لا يزال قليلاً.
اسم بلال يتكون من ثلاثة جذور هي (بَ) و(لَ) و(ال)
Ba : 1- (aspect of man) ب - شيء يتعلق بالرجل
2, plural element, 'many, much , abundant كثير وفير متعدد
L: 1- Meroitic ending particle.
2- Verb "to be" ; lne 'living, existence'ل – فعل يكون.
Al: Nobel. نبيل، عظيم . شريف، بارز، ال - ماجد، كريم، عند تجميع هذه الجذور بصورة حرفية سيكون مجمل معنى الاسم: الرجل الذي يكون وافر النبل أو وافر الكرم، أو يكون صاحب الشرف الكبير أو النبل، أو العظيم جداً، وغير ذلك من المعاني التي تنسجم مع المفردات المذكورة اعلاه، ويمكن القول أن اسم بلال المروي هو دعاء او تمنى على نسق الاسماء العربية (يزيد)، و(يعيش)، و(يحى)، و(يسلم)، و(يعمر)، و(يعلى)، وهي اسماء مشتقة من صيغة الفعل المضارع وتعكس نوعاً من التفاؤل، وهذا الاسم المروي يماثلها في الفكرة وفيه تمني بان يكون الشخص المسمى وافر النبل أو شديد العظمة أو كريم جدا أو فاضل. ومن الممكن مقابلته بالأسماء الحديثة الواردة في صيغة افعل مثل اشرف واكرم وامجد.
وجود الاسم في الوجدان الشعبي السودان وهو يحمل المعاني المروية القديمة.
تحتفظ ذاكرة التراث الشعبي؛ والتي هي خزانة المحفوظات القديمة؛ بالصيغة المروية للاسم، ففيها (بَلَّال)، بفتح الباء وتشديد اللام، بينما نجد الاسم في النسخة العربية ينطق بكسر الباء (بِلال)، وفتح الباء يجعله اقرب للصيغة المروية او الاصلية، وتتناثر كلمة (بَلَّال) في العديد من الاغاني التراثية السودانية سواء كانت باللغة العربية او باللغات النوبية الحالية، وقد ظن الكثيرون ان مفردة (بلال) تشير للمحبوب، ومن هؤلاء الدكتور عون الشريف قاسم في كتابه (قاموس اللهجة العامية في السودان)، ومرد هذا التوهم أن خطاب (البلال) تكتبه امرأة وتضعه في بريد رجل ما، فذهبت الأذهان إلى أن المرأة تقصد المحبوب، وقد سارت كلمات بعض الاغاني المؤلفة حديثاً على هذا النحو ووجهت الرسالة للمحبوب، وفي اغنية عائشة الفلاتية (يا بلال تزورنى مرة) ما يوثق لتغير دلالة المعني وجعل الحالة البلالية محصورة في المحبوب فقط ، لكن مجرد وجود كلمة (البلال) يعني أن ظلال المعاني السابقة من كرم وشهامة وعظمة ستفرض نفسها وستسير جنباً إلى جنب مع حديث المحبة والعشق.
الأصل في (البلال) أنها حالة تصف الرجل البارز وتكيل له المدح، وهو الشخص البطل الكريم الشجاع المتسامح؛ وقد تكون هذه الشخصية ابناً أو أخاً أو اباً او ربما شخصية عامة مثل شيخ القبيلة. وفي بعض المجتمعات يحدث خلط بين (البلال) و(البنينة)؛ والفرق بينهما أن أنشودة البنينة في الغالب مخصصة لمدح العريس وتقال ضمن طقس محدد من طقوس الزواج هو طقس الجرتق. أما (البلال) فهي حالة مفتوحة اساسها وجود الشخصية المتسمة بالنبل والكرم حسب الاسم المروي التي يراد توجيه المدح لها، والنقطة المهمة المشتركة في الحالتين هو تضمنهما رسائل اجتماعية وحث على مكارم الاخلاق والكرم والشجاعة.
سنلقي نظرة على بعض النماذج التي تصف حالة (البلال) وسنجد تطابقاً بين ما تقدمه هذه النماذج من صفات وبين المعاني التي اشار لها الاسم المروي، وقد تتغير اللغة والكلمات بتغير الزمن، لكن القالب البلالي يبقى كما هو؛ أي أنه مدح تقدمه امرأة لرجل فاضل او لأبن أو قريب ترجو أن يكون فاضلاً وتستبشر أن تحمل الأيام له في طياتها مستقبلاً مرموقاً في الشجاعة والكرم والشهامة وهذه الأمنيات هي ما يشير لها الجذر L)) في الاسم المروي ومعناه (يكون).
ونقدم من الاغنيات الشعبية التي غناها عبد الرحمن بلاص:
البلال بلال يا بلالي انا
دخري الحوبه سار يا بلالي انا
يا تمساح راس بروس يا بلالي انا
ما بيمرق يكوس يا بلالي انا
ما قايم بروس يا بلالي انا
ما بياكل المكوس يا بلالي انا
بالصالحين محروس يا بلالي انا
التام ومو منقوص يا بلالي انا
تصف المنشدة الرجل بانه دخري الحوبة أي الكريم المدخر لاوقات الشدة، وتصفه بالتمساح، وأنه لا يشحذ ولا يتسول، كما أنه من منبت حسن وليس (بروس) وهو الزرع الطفيلي الذي يظهر من تلقاء نفسه، والمكوس هي الضرائب او (الأتاوات) التي تفرضها السلطة وقد تمنح جزءاً منحها للمتحصلين من شيوخ ونظار وعمد او أي مساعد للسلطة، والقصد ان هذا (البلال) - الرجل النبيل - يترفع عن اخذ المال من السلطة باعتبار ان السلطة تأخذه من الضعاف والبسطاء.
وصورة اخرى لمنشدة ثانية تقول فيها:
بلال انا وين انا يا بلالا
وهو البفك شِبكي وحلَالا..
بلالي يسمعني ان صحت وندهت
وهو البشيلني كان في الهم حتلت
الليلة وين مقنع كاشفتي
امانة في وانا ما هملت.
فهنا انثى توجه نداء استغاثة لرجل لديها ثقة تامة بأنه سيكون اهلاً لنجدتها، ويستطيع ان يفك (الشبك) بكسر الشين وفتح الباء ويحل عقدها، ويسمعها متى ما استغاثت وندهت، ونده كما في لسان العرب: (نَدَهَ الرجلُ يَنْدَهُ نَدْهاً إِذَا صَوَّتَ). ومقنع الكاشفات أي القناع الذي تستر به المرأة وجهها، و(مقنع) تنطق بضم الميم وسكون القاف وفتح النون. والمنشدة مع رجل بهذه الصفات على يقين بانها لن تكون (هاملة).
وفي مشهد ثالث ومن اغاني عبد الرحمن بلاص ايضاً، نرى:
بلالي متين يجي
الله ان جابك يا عشاي
جيب لي راس سكر ثم شاي
نصه للبنوت المعاي
ونصه لحبيبة قساي
فهنا في هذا المشهد نجد أن الحالة البلالية تتحدث عن الكرم. لكن (عشاي) تشير لمعاني اوسع، فهي ليست العشاء باللفظ العربي المعروف وانما تعني في بعض اللغات النوبية الحالية (الأهل) او العشيرة، فهنا البلال يمثل الاهل والعشيرة.
وفي مشهد رابع:
البلال بلال
دخري الحوبة سار
اياك عز الرجال
البيك لسانا طال.
وفي مشهد خامس:
بلال يا بلال الخير عشا امو
المنفل خالو بين الناس وعمو
اشوفو وانا حية ياخد بت اعمو
يبكر بالوليد وانا اشيلو اشمو.
بعد استعراض هذه المشاهد ومقارنتها بمعاني الاسم المروي (الرجل الذي يكون وافر النبل أو وافر الكرم، أو صاحب الشرف الكبير، أو العظيم جداً)، يتأكد مروية الاسم واستمرار التراث المرتبط به، وانه يحمل في مجمله مفهوم التفاؤل بان يكون الممدوح (بلالاً)، نبيلاً عظيماً ماجداً، فاضلاً، فاذا ما نظرنا للصحابي الجليل (بلال) والإشارات العديدة التي تشير لكونه من أصل نوبي. وان اسم ابيه رباح نوبي ايضاً، واصطحبنا هذا التراث السوداني القديم فسيتأكد لنا نوبية بلال ونطمح ان يكون التفسير المقدم لاسمه من خلال هذه الدراسة لم يجانب الصواب، والله اعلم.
قائمة المراجع
1- الشريف الادريسي، نزهة المشتاق في اختراق الآفاق - ج ١ .
2- الكامل في التاريخ - ابن الأثير - ج ٢ .
3- الواحدي، اسباب نزول القرآن،.
4- جلال لدين السيوطي، الدر المنثور.
5- ابن سعد، الطبقات الكبرى، دار صادر الجزء : 1 .
6- محمود بن سعيد بن محمود الشيخ، بلال بن رباح الحبشي في الحديث والآثار، مكة المكرمة –1434هـ.
7- ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق، ج ١٠ .
8- ابن حجر فتح الباري -- ج ٧ .
9- المرتضى الزبيدي تاج العروس الجزء الثاني.
10- محمد بن عبد الرحمن بن محمد ابن زريق، من تكلم فيه الدارقطني في كتاب السنن من الضعفاء والمتروكين والمجهولين.، ط اوقاف قطر. 2007.
11- ابن الاثير اسد الغابة في معرفة الصحابة، دار ابن حزم - بيروت-ط 1( 2012), ج1 .
12- ابن يونس: تاريخ ابن يونس المصري.
13- تاريخ مدينة دمشق - ابن عساكر - ج ٤٠ .
14- جمال الدين يوسف بن عبد الرحمن المزي، تهذيب الكمال في اسماء الرجال، ، دار الكتب العلمية، 2018.
15- احمد الياس حسين، لقواسم المشتركة بين الحبشة والسودان عبر التاريخ، موقع سودانيز اون لاين 1/1/2015.
16- عَلي محمد محمد الصَّلاَّبي، تيسير الكريم المنان في سيرة عثمان بن عفان رضي الله عنه - شخصيته وعصره، دار التوزيع والنشر الإسلامية، القاهرة، الطبعة: الأولى، 2002 م.
17- ابن خلدون، مقدمة ابن خلدون.
18- احمد الياس حسين، أخطاء ومسلمات في تاريخ السودان تتطلب ضرورة المراجعة، موقع الراكوبة، 4/10/2015 .
nakhla@hotmail.com
/////////////////