حول سيرة الإدارة الأهلية !!
محمد موسى حريكة
8 July, 2021
8 July, 2021
تعود نشأة الإدارة الأهلية الي عهد السلطنات السودانية القديمة ،وارتبطت بتاريخ نشأة مملكة الفونج ومملكة التنجر ومملكة الفور كما يري بعض المؤرخين، وحينما جاءت المهدية استصحبت التكوين القبلي الذي يمثل روح الإدارة الأهلية ، وعملت علي تكريس ذلك النظام واسبغت علي زعماء الإدارات الأهلية الألقاب والرتب وأصبحوا أمراء عززوا من قدرات و انتصارات الثورة المهدية في مقاومتها للمستعمرين ،لم يستطع الإنجليز تجاوز ذلك النمط الإداري في حكمهم للسودان بل عملوا علي تهجينه وتطويره مع ما يتماشى ورغبتهم في احكام قبضتهم علي البلاد ، فعززوا من دور قادة الإدارات الأهلية وشكلوا عاملا مشاركا في إدارة البلاد .
بعد رحيل المستعمر في ١٩٥٦ دخلت الإدارة الأهلية مرحلة جديدة في نموها اذ انقسمت كياناتها بين القوي الحزبية الطائفية وشكلت ذلك النسيج الضارب الجذور في خلايا الدولة السودانية ، وتنامي نفوذها وبدأت الأحزاب الطائفية تتمترس بذلك المكون القبلي الذي تشكله الإدارة الأهلية ، وأصبح رهن إشارتها في حالات الصراع الديمقراطي الذي تمثله الانتخابات أو حتي في الصراعات الحزبية التي أخذت طابع العنف في تواريخ متناثرة في تطور أزمات الحكم في السودان .
وأصبحت الإدارة الأهلية تشكل كابحا قويا في الانتقال الي الدولة الحديثة مما قاد الي خروج جماعات مقدرة من المثقفين والذين تلقوا تعليما حديثا بالتمرد علي ذلك القمقم الإداري الذي يشل من قدرة الدولة في الانطلاق نحو الحداثة وشكل هؤلاء التنظيمات والأحزاب التي تسعي لبناء دولة تستجيب لمتطلبات العصر وتحطيم ذلك القمقم الإداري المسنود بالقوي القبلية والانحياز الاعمي لرغبة (القطيع) الذي هو رهن إشارة الزعيم والقائد الأوحد .
لم تكن الإدارات الأهلية تري الدعوة للديمقراطية والحداثة سوي (الكفر الصريح) والذي سيفقدها تلك الامتيازات التاريخية المادية والمعنوية الموروثة وبالتالي أصبحت ذلك الحليف الطبيعي لأنظمة الاستبداد، فهي لا تتنفس الا في أجواء القمع الذي يكمم الأفواه وتلك الاحادية التي تجعل من الساحة السياسية والاجتماعية حقلا خصبا لنمو تلك القبيلة ومفاهيمها المرتبطة بالماضي ،وبالتالي فقد باتت تخاف كل نزعة نحو المستقبل والتغيير ، وليس ادل علي ذلك مما نشهده اليوم من ذلك الرعب الذي أخذ بخناق الإدارات الأهلية ومخاوفها المتصاعدة من دعوات التغيير والتحديث في هيكل الدولة القديمة المتوارث .
لقد شكلت الثلاثون عاما الماضية العصر الذهبي لإحياء الإدارة الأهلية وتمدد نسيجها في جهاز الدولة حيث أصبحت القبيلة هي الدولة والدولة هي القبيلة في ذلك التكوين الذي لم يستثن حتي الخدمة المدنية والقضاء والقوات النظامية والاقتصاد والاجتماع كل تلك الفضاءات باتت تدور في فلك القبيلة الذي اكتسب شرعيته في المراسيم التي أعلت من الانتماء للقبيلة وأصبحت هناك مدارس فقهية ومعرفية تستدعي النظام القبلي من كهوفه التاريخية وتلحقه بالحزب الواحد (الحزب القبيلة الدولة). حتي بتنا ندور في هيكل دولة قديمة وأصبح الناس يؤون
لتلك الكهوف التاريخية لحظة الخوف من الفقر او البطالة او الوجود نفسه المستمد من روح القبيلة.
ثم ان الحروب الأهلية التي خاضها النظام المباد ضد شعبه كانت القبيلة تمثل فيها شعلة ذلك الجهاد التي لا تنطفئ ،اذ ان مقاولو القبائل ووكلاء تجار الحروب ظلوا يعملون بشكل راتب لتزويد عجلة الحرب بأبناء القبائل و ازدهرت صناعة الحرب المعنوية التي تم تغذيتها بالإسلام السياسي ونظرياته الكئيبة التي عملت علي تفكيك النسيج الاجتماعي المتآكل أصلا وباتت النصوص الدينية المزورة الفطيرة تأخذ طريقها الي العامة .وعليك ان تتصور ان (الحكامة ) القبلية التي تستنفر قبيلتها للجهاد
أصبحت ذات نفوذ في ذلك الهرم التراتبي كيف لا وهي تمثل آلة الحماسة التي تدفع بالشباب نحو الحروب .
ففي منتصف التسعينيات أعدت الحكومة (فيلقا) من الحكامات للذهاب الي الأراضي المقدسة لآداء فريضة الحج علي نفقة الدولة عرفانا بدورهن في الجهاد .وهكذا يتم التزاوج بين الدين والعبادات والقبيلة في اكثر عصور الدولة السودانية ظلمة .
يبدو المشهد الان وبعد انتصار ثورة ديسمبر المجيدة فقد أصبحت الإدارة الأهلية محجا للسياسيين الباحثين عن الحشود وعن الرصيد الشعبي ، ويمنحون قبلة الحياة لتلك الهياكل المتحجرة وإقحامها في الفضاء السياسي بكل إرثها السالب الذي أعاق الانطلاق نحو التغيير .
وإذا كان حزب المؤتمر الوطني المحلول قد تم حرمانه من ممارسة العمل السياسي الا ان بعض الإدارات الأهلية تشكل خلايا نائمة لذلك الحزب ويتم استخدامها لاثارة العنف والاضطرابات في اكثر من مكان .ولعل مايحدث في جنوب كردفان من فتنة قبلية وفي غرب كردفان وما يجري من زعزعة للأمن في الخطوط الناقلة للبترول ،وما يجري في كسلا من صراعات قبلية وفي بورتسودان والتهديد المتواصل باغلاق الطرق القومية وشل حركة الموانئ، وما تشهده دارفور من نزاعات قبلية واحراق للقري وتصفيات ،كل ذلك يجعل من سيرة (الإدارة الأهلية) عائقا حقيقيا لعملية التغيير ،ومع ذلك يتسارع السياسيون فاقدي السند الجماهيري في خطب ود تلك الإدارات القبلية.
وستظل الإدارة الأهلية بوضعها الحالي دون قوانين تحدد دورها في الحياة العامة كما يقول البعض انها واقع اجتماعي لا يمكن القفز عليه وتلك بالطبع مقولة مخاتلة الغرض منها تكريس نمط قبلي تجاوزته العديد من الشعوب في سعيها نحو بناء الأمة الدولة .
وستظل الحاجة ماسة لاستحداث مواعين آمنة من منظمات مجتمع مدني ونقابات وأوعية سياسية آمنة يأوي لديها الانسان لحفظ أمنه وكرامته محمية بنظم ادارية حديثة وقوانين تجنبه اللجؤ لتلك الكهوف القبلية .
musahak@hotmail.com
بعد رحيل المستعمر في ١٩٥٦ دخلت الإدارة الأهلية مرحلة جديدة في نموها اذ انقسمت كياناتها بين القوي الحزبية الطائفية وشكلت ذلك النسيج الضارب الجذور في خلايا الدولة السودانية ، وتنامي نفوذها وبدأت الأحزاب الطائفية تتمترس بذلك المكون القبلي الذي تشكله الإدارة الأهلية ، وأصبح رهن إشارتها في حالات الصراع الديمقراطي الذي تمثله الانتخابات أو حتي في الصراعات الحزبية التي أخذت طابع العنف في تواريخ متناثرة في تطور أزمات الحكم في السودان .
وأصبحت الإدارة الأهلية تشكل كابحا قويا في الانتقال الي الدولة الحديثة مما قاد الي خروج جماعات مقدرة من المثقفين والذين تلقوا تعليما حديثا بالتمرد علي ذلك القمقم الإداري الذي يشل من قدرة الدولة في الانطلاق نحو الحداثة وشكل هؤلاء التنظيمات والأحزاب التي تسعي لبناء دولة تستجيب لمتطلبات العصر وتحطيم ذلك القمقم الإداري المسنود بالقوي القبلية والانحياز الاعمي لرغبة (القطيع) الذي هو رهن إشارة الزعيم والقائد الأوحد .
لم تكن الإدارات الأهلية تري الدعوة للديمقراطية والحداثة سوي (الكفر الصريح) والذي سيفقدها تلك الامتيازات التاريخية المادية والمعنوية الموروثة وبالتالي أصبحت ذلك الحليف الطبيعي لأنظمة الاستبداد، فهي لا تتنفس الا في أجواء القمع الذي يكمم الأفواه وتلك الاحادية التي تجعل من الساحة السياسية والاجتماعية حقلا خصبا لنمو تلك القبيلة ومفاهيمها المرتبطة بالماضي ،وبالتالي فقد باتت تخاف كل نزعة نحو المستقبل والتغيير ، وليس ادل علي ذلك مما نشهده اليوم من ذلك الرعب الذي أخذ بخناق الإدارات الأهلية ومخاوفها المتصاعدة من دعوات التغيير والتحديث في هيكل الدولة القديمة المتوارث .
لقد شكلت الثلاثون عاما الماضية العصر الذهبي لإحياء الإدارة الأهلية وتمدد نسيجها في جهاز الدولة حيث أصبحت القبيلة هي الدولة والدولة هي القبيلة في ذلك التكوين الذي لم يستثن حتي الخدمة المدنية والقضاء والقوات النظامية والاقتصاد والاجتماع كل تلك الفضاءات باتت تدور في فلك القبيلة الذي اكتسب شرعيته في المراسيم التي أعلت من الانتماء للقبيلة وأصبحت هناك مدارس فقهية ومعرفية تستدعي النظام القبلي من كهوفه التاريخية وتلحقه بالحزب الواحد (الحزب القبيلة الدولة). حتي بتنا ندور في هيكل دولة قديمة وأصبح الناس يؤون
لتلك الكهوف التاريخية لحظة الخوف من الفقر او البطالة او الوجود نفسه المستمد من روح القبيلة.
ثم ان الحروب الأهلية التي خاضها النظام المباد ضد شعبه كانت القبيلة تمثل فيها شعلة ذلك الجهاد التي لا تنطفئ ،اذ ان مقاولو القبائل ووكلاء تجار الحروب ظلوا يعملون بشكل راتب لتزويد عجلة الحرب بأبناء القبائل و ازدهرت صناعة الحرب المعنوية التي تم تغذيتها بالإسلام السياسي ونظرياته الكئيبة التي عملت علي تفكيك النسيج الاجتماعي المتآكل أصلا وباتت النصوص الدينية المزورة الفطيرة تأخذ طريقها الي العامة .وعليك ان تتصور ان (الحكامة ) القبلية التي تستنفر قبيلتها للجهاد
أصبحت ذات نفوذ في ذلك الهرم التراتبي كيف لا وهي تمثل آلة الحماسة التي تدفع بالشباب نحو الحروب .
ففي منتصف التسعينيات أعدت الحكومة (فيلقا) من الحكامات للذهاب الي الأراضي المقدسة لآداء فريضة الحج علي نفقة الدولة عرفانا بدورهن في الجهاد .وهكذا يتم التزاوج بين الدين والعبادات والقبيلة في اكثر عصور الدولة السودانية ظلمة .
يبدو المشهد الان وبعد انتصار ثورة ديسمبر المجيدة فقد أصبحت الإدارة الأهلية محجا للسياسيين الباحثين عن الحشود وعن الرصيد الشعبي ، ويمنحون قبلة الحياة لتلك الهياكل المتحجرة وإقحامها في الفضاء السياسي بكل إرثها السالب الذي أعاق الانطلاق نحو التغيير .
وإذا كان حزب المؤتمر الوطني المحلول قد تم حرمانه من ممارسة العمل السياسي الا ان بعض الإدارات الأهلية تشكل خلايا نائمة لذلك الحزب ويتم استخدامها لاثارة العنف والاضطرابات في اكثر من مكان .ولعل مايحدث في جنوب كردفان من فتنة قبلية وفي غرب كردفان وما يجري من زعزعة للأمن في الخطوط الناقلة للبترول ،وما يجري في كسلا من صراعات قبلية وفي بورتسودان والتهديد المتواصل باغلاق الطرق القومية وشل حركة الموانئ، وما تشهده دارفور من نزاعات قبلية واحراق للقري وتصفيات ،كل ذلك يجعل من سيرة (الإدارة الأهلية) عائقا حقيقيا لعملية التغيير ،ومع ذلك يتسارع السياسيون فاقدي السند الجماهيري في خطب ود تلك الإدارات القبلية.
وستظل الإدارة الأهلية بوضعها الحالي دون قوانين تحدد دورها في الحياة العامة كما يقول البعض انها واقع اجتماعي لا يمكن القفز عليه وتلك بالطبع مقولة مخاتلة الغرض منها تكريس نمط قبلي تجاوزته العديد من الشعوب في سعيها نحو بناء الأمة الدولة .
وستظل الحاجة ماسة لاستحداث مواعين آمنة من منظمات مجتمع مدني ونقابات وأوعية سياسية آمنة يأوي لديها الانسان لحفظ أمنه وكرامته محمية بنظم ادارية حديثة وقوانين تجنبه اللجؤ لتلك الكهوف القبلية .
musahak@hotmail.com