محمد أحمد محجوب: مفكراً وناقداً أدبياً وشاعراً
عبد المنعم عجب الفيا
26 July, 2021
26 July, 2021
محمد أحمد محجوب شاعرٌ وأديب ومفكر كبير سرقته السياسة وظلمته في ذات الوقت. ظلمته السياسة كونها حجبت دوره التأسيسي في النهضة الثقافية والأدبية والنقدية والفكرية في السودان. فقد كان المحجوب من أوائل مؤسسي الوعي القومي والنقدي والرؤية التعددية المتنوعة للثقافة السودانية ومن الذين جاهدوا بالكلمة لبناء الشعور القومي (السودانوي)، ومن المفارقات أن يصنفه من يجهل دوره التأسيسي، كأحد سدنة النزعة "العروبية" المتجاهلة لخصوصية الثقافة السودانية وتنوعها.
النهضة الأدبية والفكرية في السودان:
هناك شبه اجماع بين الباحثين والمؤرخين بأن هناك نهضة فكرية وأدبية شهدتها بلدان المشرق العربي بلغت أوج ازدهارها في السنوات الثلاثين الأولى من القرن الماضي. هذه النهضة الفكرية والأدبية بدأت في السودان في أواخر العشرية الثانية وأوائل العشرية الثالثة من القرن العشرين. وتحديدا في أعقاب فشل ثورة 1924 التي كانت ترفع شعار وحدة وداي النيل أي الاتحاد مع مصر تحت التاج المصري.
وكان دافع هذه النهضة السودانية هو استقلال السودان التام أمة ودولة وثقافة وأدبا وشعوراً قومياً عن مصر وذلك تنفيذا لشعار (السودان للسودانيين) والعمل في سبيل ذلك على بناء الأمة السودانية من خلال غرس الروح القومي وبث الوعي بخصوصية الثقافة السودانية والأدب السوداني مع الانفتاح على كل الثقافات والتيارات الفكرية والأدبية في العالم بلا تحيزات إقليمية ضيقة.
مجلتي النهضة والفجر:
بدأت بوادر النهضة الأدبية والفكرية في السودان في شكل ملتقيات ومنتديات وجمعيات بمدنية أم درمان أشهرها كونتها جماعة الموردة والهاشماب وهي تتألف من أولاد حي الموردة من حي الموردة (أولاد عشري الصديق: محمد وعبد الله) أولاد حي الهاشماب (محمد أحمد محجوب وعبد الحليم محمد وأحمد يوسف هاشم وعرفات محمد عبد الله). والجمعية الثانية نشأت في حي أبي روف وعرفت بجماعة أبي روف.
وجدت جماعة الموردة والهاشماب في دعوة طمبل إلى (الأدب السوداني) التي تأثر بها معاوية محمد نور حيث اطلق من مصر دعوته إلى (الأدب القومي) الوطني المحلي، وجدت إطاراً نظريأ ليس للتأسيس للأدب السوداني وحسب، بل لبناء القومية السودانية والأمة السودانية المستقلة أدباً وثقافةً وسياسةً. فبدأ التفكير في ضرورة إنشاء منبر صحفي للبدء بالتبشير بهذا المشروع النهضوي الطموح. فكان ميلاد مجلة النهضة أولا ومن بعدها مجلة الفجر. من هنا جاء اسم، جماعة مجلتي النهضة والفجر، بعد أن كانوا يعرفون بجماعة الموردة والهاشماب أو الهاشماب والموردة.
أنشئت مجلة (النهضة) باسم مالك الترخيص ورئيس التحرير محمد عباس أبو الريش، أحد خريجي كلية غردون. وقد صدر أول عدد من النهضة يوم الأحد 4 اكتوبر 1931 وكانت تصدر اسبوعياً. غير أن مجلة (النهضة) لم تستمر لأكثر من نحو عام، إذ توقفت عن الصدور إثر وفاة صاحبها أبو الريش المفاجئة في 1932.
أصرت المجموعة على مواصلة المسيرة، فقامت بتأسيس مجلة (الفجر) واشتركوا كلهم في المساهمة في دفع قيمة الرخصة التجارية، "وكان كل ما نملكه جنيهاً مصرياً دفعناه لاستصدار الرخصة وليس لنا غيره رأس مال سوى أقلامنا، وإيماننا الأكيد برسالتنا، وثقتنا في مواطنينا"(3). ولأغراض القانون صدر الترخيص باسم عرفات محمد عبد الله وبهذه الصفة صار عرفات رئيسا لتحرير المجلة. وكان عرفات قد اشترك في ثورة 1924 "وقد أصيب بخيبة أمل من موقف الحركة الوطنية المصرية من الثورة مما دفعه إلى الانضمام إلى جماعة الهاشماب والموردة وتبني شعار السودان للسودانيين".
صدر العدد الأول من الفجر في 2 يونيو 1934 ولكن ما لبثت الحركة الفكرية والأدبية، أن نكبت في رحيل عرفات هو الآخر في 1935 وهو في ريعان الشباب، فكان أن توقفت مجلة الفجر لفترة قصيرة، ثم استأنفت الصدور برئاسة أحمد يوسف هاشم ثم توقفت نهائيا في 1937.
يقول الدكتور خالد حسين الكد في كتابه (الأفندية ومفاهيم القومية في السودان) عن الخط الفكري والتحريري، أصبحت مصطلحات مثل (الثقافة السودانية) و(الأدب القومي) هي محور مقالات مجلتي النهضة والفجر. وإن "شعار الأدب القومي، والهوية السودانية، هي المواضيع الأثيرة لكلمة تحرير مجلة الفجر"(1).
ومثالاً على ذلك يورد الكد، مقتطفاً من كلمة تحرير عدد مجلة الفجر، الصادر في يوم 1 مارس 1937 وهو قولها: "الهوية السودانية هي مثال يجب أن نعمل لتحقيقه. يجب أن تنعكس في سياستنا، تعليمنا، أدبنا وثقافتنا. هي الخطوة الضرورية التي يجب أن نتخذها قبل أن نتطلع للتحالف مع أي أمة، أو أن نمضي في طريقنا مع الأمم الأخرى للوصول للأممية"(2).
هذا خطاب واضح جداً وصريح في إعطاء هذه الجماعة الأولوية لتأسيس الهوية السودانية والدولة الوطنية المستقلة قبل التفكير في أي اتحاد أو وحدة أو تحالف مع أي دولة أو دول. لكن هذا لا يعني أن كتابات هؤلاء النفر انحصرت في هذا المجال وحده، بل شملت كتاباتهم وبحوثهم مختلف فروع المعرفة من الفلسفة وعلم النفس والاجتماع والتاريخ إلى فلسفة التعليم وقضايا التحول المجتمعي، والأدب والنقد والشعر والقصة. وبمناسبة القصة تعد مجلة النهضة أول صحيفة سودانية تفتح صفحاتها لنشر بدايات فن القصة في السودان.
وأبرز كتّاب مجلتي النهضة والفجر: محمد أحمد محجوب، محمد عشري الصديق، عبد الله عشري الصديق، عرفات محمد عبد الله، عبد الحليم محمد، السيد الفيل، التجاني يوسف بشير، يوسف مصطفى التني، صالح عبد القادر، جمال توفيق بدوي، مرضي محمد خير (ميمان)، مكي شبيكة والهادي العمرابي وآخرين.
والمتأمل في كتابات هؤلاء الرواد، تلفت نظره، المعرفة الموسوعية، والنهج العلمي في تناول الموضوعات، والوضوح والمباشرة في الطرح والرؤى، وذلك دون تنطع أو إدعاء أجوف. كذلك يلفت نظرك رصانة اللغة وسلاسة الأسلوب والاقتصاد في التعبير والايجاز، والبعد عن الزخارف اللفظية والاطناب والثرثرة والتعابير الإنشائية الفضفاضة. ولا شك أنهم تأثروا في كل ذلك بالمدرسة الإنجليزية التي تمتاز بكل هذه الخصائص.
على أن أهم ما يميزهم الاطلاع المباشر على تيارات ونظريات الفكر والادب والعلوم حديثها وقديمها، في مصادرها الأصلية وبلغتها فقد كانوا يجيدون الإنجليزية ولا يعتمدون في تحصيلهم المعرفي على الكتب والمنشورات المصرية التي كانت تصل بانتظام. وقد ولّد ذلك الثقة في نفوسهم والاعتداد بمحصولهم المعرفي، فجعل نظرتهم إلى رصفائهم في شمال الوادي تقوم على الندية بل والإحساس بالتفوق، إذ كانوا يتناولون أعمال كبار الأدباء والمفكرين المصريين بالنقد والتحليل بكل سعة أفق وبلا انبهار أو رهبة أو تبعية، ولكن بكل تواضع وتهذيب.
كذلك يلاحظ القارىء أن هؤلاء الكتّاب رغم صغر سنهم (دون الثلاثين) يتصفون بالنضج الفكري والاتزان العقلي والتحلي بالهدوء وضبط النفس والبعد عن التهاتر وإصدار الأحكام واطلاق الاتهامات، فيما يطرحون ويناقشون.
وكان من الطبيعي والحال هذه، أن تحقق مجلة الفجر برصانتها التحريرية والفكرية، نجاحا كبيرا حتى وجدت القبول والاستحسان من القراء العرب خارج السودان. ومن علامات ذلك المقال الذي نشره الأستاذ، عبد القادر باشا حمزة، رئيس تحرير "البلاغ الاسبوعي" بالمجلة والتي تعد أحد أهم المجلات المصرية الثقافية آنذاك، وذلك في 5 نوفمبر 1934 والذي جاء فيه:
"تصل إلىَّ في أوائل كل شهر، مجلة سودانية تصدر باللغة العربية في الخرطوم اسمها (الفجر) وهي من المجلات العربية القليلة التي أقبل على مطالعتها بعناية زائدة، وبشغف غير قليل لأسباب عديدة منها، طرافة ما يعالجه كتابها من موضوعات، وجودة اللغة التي يكتبون بها وجزالة الأساليب، وغير ذلك مما لا تجده في مجلات كثيرة تصدر في بعض بلاد الشرق العربي، ممن تدعي التفوق والتزعم في الأدب الحديث.." (3).
ومن دلائل تفوق مجلة (الفجر) وتميزها، أن بعض كبريات الصحف والمجلات المصرية مثل (البلاغ الاسبوعي) و(السياسة الاسبوعية)، قد درجت على النقل عنها، مع تعمد إغفال ذكرها مصدراً منقولاً عنه. ولما تكرر ذلك اضطرت أسرة مجلة الفجر أن تنشر عتابا، بمنتهى اللطف والأدب، لمجلة (السياسة الاسبوعية) أكبر المجلات الثقافية في مصر والتي كان يرأس تحريرها الأديب الدكتور محمد حسين هيكل، حيث جاء في كلمة للفجر، ما يلي:
"ذكرنا في عدد سابق أن جريدة (السياسة) نقلت غير مرة قصصاً ومقالات وسواها مما ننشر في مجلتنا هذه، وقلنا إننا جد مغتبطين بهذا التقدير وأننا جد فخورين بأن نحظى بمثله من قوم ما زلنا نعتبرهم أساتذتنا في الآداب الرفيعة وفي الصحافة جميعها ولم نأخذ على (السياسة) إلا أنها أغفلت التنويه، سوى مرة واحدة، بالمصدر الذي نقلت منه تلك البحوث وسواها، وقد رأينا أنها عادت، وفعلت مثل ذلك في أعدادها الأخيرة، ولم تذكر (الفجر) بكلمة واحدة"(4).
في مؤلفهما (موت دنيا) يصف محمد أحمد محجوب وعبد الحليم محمد فكرة مجلة الفجر وتجربة إصدارها بالقول: "ونجمع رأينا على إصدار مجلة نصف شهرية تخدم الآداب والفنون، واخترنا لها اسم الفجر، ذلك لأننا مؤمنون بأنه فجر صادق سرعان ما يتلوه الصبح.. ومضينا لا يفل النقد عزمنا ولا يغرينا الثناء، وأخذت كبريات الصحف المصرية تنقل عن مجلتنا المقالات الأدبية والقصص.. لقد كانت حرباً عاتية بين الرجعية الفكرية والفكر الحر.. وما صدر عدد من أعداد الفجر إلا وأعقبته ضجة في دور الحكومة وفي المجتمع، فالحكومة غير راضية عن اتجاهاتنا، ضائقة ذرعاً بما نوجهه من نقد سياساتها، والمجتمع شاك في أمرنا لأنه لم يتعود مثل تلك الصراحة في النقد ومجابهة الحاكمين".
"ولهذا أصبحنا في حال لا نحسد عليها، لأن الحكومة تعتبرنا معادين لها، والمجتمع يحسبنا ممالئين للحكومة وإلا لما سكتت عنا.. وكثيراً ما فكر بعضنا أن يحطم القلم ويهجر القرطاس، فإنها لا تورث صاحبها في ذلك الجو البغيض إلا الاتهام والحسرة والألم، ولكن عرفات الرائد كان أكثرنا احتمالا للأذى، وكان يشجعنا على المضي مؤكداً لنا أن من يعمل لصالح المجموعة ينبغي ألا يهتم بما يوجه إليه من سهام مسمومة، كما أنه ينبغي ألا يحفل بالثناء ولا ينتظر التقدير، وشهرة الرواد لا تظهر إلا بعد موتهم"(5). انتهى.
وعبد الحليم محمد الذي اشترك مع محمد أحمد محجوب في إصدار كتاب (موت دنيا) هو ابن خال المحجوب، والطبيب والإداري الرياضي المعروف، وأحد كتّاب ومؤسسي مجلتي النهضة والفجر، وأبرز رواد القصة القصيرة في السودان.
جماعة أبي روف:
هذا، وبالتزامن مع ظهور مدرسة الفجر، ظهرت جماعة أدبية أخرى هي جماعة أبي روف (أحد أحياء ام درمان) وكان ذلك على الأرجح ما بين 1928 و1929 وكانت القراءة هي الفكرة من وراء تكوين جماعة أبي روف ولم يكن التأليف والنشر من أولويات هذه الجماعة كما كان لدى جماعة الفجر.
ومن أعضاء الجماعة: حسن عثمان الكِد، حسين عثمان الكِد، أحمد خير، خضر حمد، إبراهيم يوسف، حماد توفيق، اسماعيل العتباني، الهادي أبو بكر وغيرهم. وكان خالد الكد قد أورد بمؤلفه (الأفندية والقومية السودانية) اسماء لأفراد بصفتهم أعضاء مؤسسين للجماعة وهم لم يكونوا أعضاء بالجماعة أصلا، منهم محمد أحمد أبو رنّات (أول رئيس قضاء سوداني بعد الاستقلال).
ويوضح خضر حمد، بمذكراته، حقيقة علاقة أبورنات وغيره بالجماعة بقوله: "وكانت اجتماعات القراءة هذه تجذب إلينا كثيرا من الأخوان الذين تستهويم القراءة والبحث، وكثراً ما زارنا الأستاذ محمد أحمد أبورنات والدكتور إبراهيم أحمد حسين وغيرهما ممن لم يكونوا من الأبروفيين ولكنهم يعجبون بنشاطهم الأدبي والفكري وإن كانوا لا يتفقون معهم في السياسية"(6).
وقد وجدنا بمقال نشره محمد أحمد محجوب بمجلة الفجر في 1 يناير 1935 ما يشير إلى ان القراءة هي الهدف الأول من إنشاء جماعة أبي روف غير ان المحجوب لم يذكر الجماعة بالاسم. يقول في مستهل المقال: "في جماعة أدبية مؤلفة من رهط من الأصدقاء تساجل اثنان من الاصدقاء.. ولأن شعار تلك الجماعة أن تقرأ دون أن تكتب.. سأبرهن على أن تلك الجماعة في مقدورها أن تكتب كما أنه في مقدورها أن تقرأ"(7).
ويؤكد خضر حمد (1910-1970) أحد أبرز أعضاء الجماعة، في مذكراته، إن القراءة هي الهدف من إنشاء التجمع بقوله: "جمعية القراءة reading society أنشأها الأبروفيون فيما بينهم لأغراض سياسية وأدبية متعددة، كانوا يختارون كتاباً عربياً أو إنجليزاً ويجتمعون في الاسبوع مرتين كل مرة في منزل واحد منهم. يبدأ القراءة أحدنا بعد أن يتولى آخر تلخيص ما قرأناه في المرة الماضية وبعد القراءة تدور مناقشة فيما قرئ. وقد قرأنا بهذه الطريقة كثيراً من كتب الأدب القديم والحديث وكثيرا من كتب السياسة باللغتين العربية والإنجليزية"(8).
وقد قادتهم قراءة أدب برنارد شو واوسكار وايلد وكتابات سدني ويب إلى اكتشاف الأفكار الاشتراكية الاصلاحية وتحديداً الاشتراكية الفابية التي يعد أولئك الكتاب المذكورين أبرز رموزها. وعن تأثر جماعته بالاشتراكية، يقول خضر حمد في مذكراته:
"وكان بعض الأخوان يسمي جمعية الأبروفيين هذه بالفابيين Fabian لنزعتهم الأدبية وأفكارهم الاشتراكية. وأفراد هذه الجمعية أول من بدأ قراءة الشيوعية قراءة صحيحة واتصلوا بالمكتبات الخاصة والتحقوا أعضاءً في نادي left book club الذي كان يزودنا شهرياً بالمجلات التي يصدرها والكتب أيضا. ولم نفكر في أن نكون شيوعيين ولكننا أخذنا منها ما رأيناه مناسباً لبلادنا وأوضاعها وتقاليدها. استفدنا مما قرأنا ولم نكن أواني تصب فيها الآراء والأفكار المستودة ثم نحفظها في أمانة وحذر. نعم قرأنا الشيوعية قبل أكثر من ثلاثين عاماً ولكننا ما زلنا أصيلين..، لا مفتونين بالجديد متنكرين للأسس القويمة التي قامت عليها هذه الأمة العربية المسلمة ذات التراث الخالد والتاريخ المجيد"(9).
غير أن الأبروفيين ليس وحدهم من تأثر بالأفكار الاشتراكية في تلك الفترة المبكرة. فجماعة الفجر أيضاً كانت متأثرة بالاشتراكية وتظهر التوجهات الاشتراكية في كتابات معاوية محمد نور ومحمد أحمد المحجوب ومواقف عبد الحيلم محمد.
يقول المحجوب في كتاب (موت دنيا) مخاطبا عبد الحليم محمد، شريكه في تأليف الكتاب: "ولكنك يا أخي رجل إنساني تؤمن بحقوق الانسان وبالمساواة وصاحب نزعة اشتراكية أوسع من أصحب المذاهب الاشتراكية ومن الروس، تدعو إلى العالمية ورفع الحواجز الجمركية وفتح الهجرة من بلد إلى بلد بلا قيد ولا شرط وتحتقر من يفرقون بين الأجناس والألوان ويحلو لك أن تتصور العالم وطناً واحداً يسكنه بنو البشر متساوين في الحقوق والواجبات"(10).
وفي مقال له في الرد على المفاضلة بين الأممية والوطنية جاء تحت عنوان (الوطنية والدولية) ونشر بمجلة الفجر في 1 يناير 1935 يرفض محمد أحمد محجوب فكرة الحكومة العالمية والأممية التي كان يناصرها في حماس جماعة أبي روف (أشار إلى ذلك في المقال) وصديقه عبد الحيلم محمد، ويرى أن الوقت غير مناسب للحكومة العالمية ولا بد أولاً من القضاء على ظاهرة الاستعمار، وينتقد في المقال عصبة الأمم بسبب هيمنة القوى الاستعمارية عليها ولكنه يثمّن جهود الأنظمة الاشتراكية ويصفها بأنها يمكن تشكل أساسا لاتحاد دولي اختياري عام، يقول:
"هناك بعض جهود اختيارية لتحقيق السلام العالمي والاتصال بين الشعوب وتعميم المساوة بين الأفراد، فما الاشتراكية القائمة في روسيا وألمانيا وبعض فرنسا وجمعيات العمال في إنجلترا وإيطاليا سوى مراكز تجريبية لتحقيق إتحاد نظام الدولية، ولو كان هنالك اتصال حثيث بين تلك الجماعات لنتج عن ذلك الاتصال اتحاد دولي بسيط يكون بلا شك مقدمة للاتحاد الدولي العام"(11).
وهكذا يتضح أن أعضاء جماعة الفجر وأبي روف انفتحوا على مدارس الفكر الاشتراكي والماركسية قبل نشأة الحزب الشيوعي السوداني لأول مرة تحت اسم الحركة السودانية للتحرر الوطني (حستو) في 1946.
لكن إذا كانت الجماعتان تلتقيان عند بعض الاتجاهات الفكرية والأدبية العالمية مثل الاشتراكية الاصلاحية والتعاونية، فإنهما على الصعيد المحلي فيما يخص الشأن السوداني يقفان على طرفي نقيض، سياسياً وثقافياً.
فإذا كان الأساس الذي تنطلق منه جماعة الفجر هو الدعوة إلى استقلال السودان السياسي والثقافي عن مصر، والعمل على التأسيس للقومية السودانية بكافة مكوناتها الإثنية والثقافية المتنوعة، فإن جماعة أبي روف ترفض مجرد التلويح بالحديث عن استقلال السودان عن مصر وتعده "خيانة" وطنية و"عمالة" للإنجليز، وتدعو دون هوادة إلى الاتحاد التام مع مصر سياسياً وثقافياً تحت التاج المصري. وكثيرا ما وصل الصراع بين الرؤيتين حول المسألة السودانية، إلى درجة العنف اللفظي واليدوي.
المحجوب المفكِّر:
كنا قد أشرنا إلى موقف المحجوب من الدعوات إلى الأممية والحكومة العالمية التي ذاعت في الثلاثينيات. وكانت جماعة أبي روف تناصر هذه الدعوة نتيجة تأثرها بالحركات الاشتراكية الاصلاحية في أوربا آنذاك. كما كان يناصرها بشدة، رفيق المحجوب، الأديب والطبيب عبد الحليم محمد وهو أحد مؤسسي جماعة الهاشماب ومجلتي النهضة والفجر.
غير أنه كان للمحجوب موقفاً مختلفاً إذ كان يرى أن الدعوة إلى الحكومة العالمية سابقة لآوانها، وقد عبر عن هذا الموقف بمقال له جاء تحت عنوان (الوطنية والدولية)(5) ونشر بمجلة الفجر في 1 يناير 1935 وهو يقصد بـ(الدولية) هنا الأممية أو العالمية. وهذا المقال من المقالات التي تكشف عن بعد نظر المحجوب وعمق تفكيره في ذلك الوقت المبكر وهو تقديمه لوجهة نظر ثاقبة لما يجب أن تكون عليه العلاقة بين مفهوم الدولة الوطنية والدعوة إلى الأممية.
وملخص كلامه هو أن الوقت غير مناسب للحكومة العالمية ولا بد أولاً من القضاء على ظاهرة الاستعمار، والقضاء على هيمنة القوى الاستعمارية على عصبة الأمم. وأن الحديث عن الأممية سابق لأوانه، فالأولوية يجب أن تكون لبناء الدولة الوطنية القومية. كما أنه لا يمكن الحديث عن اتحاد دولى أو حكومة عالمية أممية، قبل القضاء على ظاهرة الاستعمار، ونزع السلاح، وتخلي الدول القوية عن أطماعها في استغلال موارد الدول الضعيفة، وقبل القضاء على عنصرية الرجل الأبيض، على حد تعبيره، ويرى أن عصبة الأمم غير قادرة على إقامة العدل بين الأمم وتحقيق السلام العالمي المنشود، إذ تسيطر عليها الدول القوية ذات الجبروت. غير أنه أقرّ بضرورة التعاون بين الدول في مجالات التجارة والاقتصاد وتبادل العلم والمعرفة وأكد على أن الإرث الحضاري والفكري والفلسفي ملك للإنسانية جمعاء. ولكنه ثمّن في نفس الوقت الجهود الحثيثة التي تقوم بها الأنظمة والتيارات الاشتراكية في روسيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا وجمعيات العمال (الفابية) في إنجلترا من أجل "تحقيق السلام العالمي والاتصال بين الشعوب وتعميم المساواة".
ومن مواقف المحجوب التي تكشف عن حسه الفكري الناضج، مطالبته صراحة بانفصال الثقافة والأدب السوداني عن الثقافة والأدب المصري. جاء ذلك بمقال نشره بمجلة الفجر في 16 يونيو 1935 تحت عنوان (الأدب المصري والأدب السوداني) استهله بالقول: "كانت المساجلة بين الأستاذ حسن صبحي، وكاتب هذه السطور، حول موضوع الثقافة السودانية، ووجوب قيامها بذاتها منفصلة عن الثقافة المصرية، بدء سلسلة من المناقشات على صفحات الجرائد والمجلات. ولقد ذهب الناس مذاهب عديدة فمنهم من يقول إن الثقافتين لا يمكن انفصالهما، لما بين القطرين من صلات في الدم واللغة والدين، ومن قائل إن اندماجهما غير ميسور لاختلاف طبيعة البلدين، وتباين عادات السكان إلى غير ذلك من الظواهر التي تحتم قيام ثقافتين منفصلتين"(12).
وحسن صبحي، المشار إليه، هو أول رئيس تحرير لجريدة (النيل) السودانية (أنشئت بعد الفجر في منتصف الثلاثينيات) وهو مصري، يقف ضد فكرة انفصال الثقافتين. ويعزز المحجوب حجته في المقال بالقول: "والغريب أن ينفر الناس من فكرة انفصال الأدبين المصري والسوداني، أو الثقافتين المصرية والسودانية، وهذا أمر طبيعي لا بد منه، وليس معناه قطع الصلات ولا التفريق بين الشقيقين، بل معناه زيادة عناصر الحياة في وادي النيل"(13).
بل يذهب المحجوب في الدفاع عن وجهة نظره إلى حد القول: "حديث الأدب القومي، في مصر ذاتها جديد، لم تمض عليه سنوات، وحتى الآن لم نر نتاجاً مصرياً جديراً بأن يسمى قومياً. فشوقي وحافظ وأحمد محرم، كانوا يقرضون الشعر على طريقة العرب ويسوقون الحديث عن النوق والخيام والهوادج، ويتغزلون في سعاد ودعد وهند، ولا يحفلون بزينب وفاطمة وبثينة.. والعقاد والمازني لا فرق بين شعريهما في المعاني والتخيلات وبين شعر توماس هاردي، أو شلي أو بيرنز، فهو شعر إنجليزي في لغة عربية. وأما النثر فحتى بداية هذا القرن كان سجعاً مقفى، وما (حديث عيسى بن هشام) للمويلحي، عنا ببعيد"(14).
ثم يدعم وجهة نظره، بإبراز بعض الخصائص المميزة للثقافة السودانية التي تجعله يطالب باستقلالها عن الثقافة المصرية بالقول: "لا يا أخواننا المصريين، نحن إذا نادينا بقيام الأدب القومي ذي الطبيعة المحلية، فإنما ندعو إلى خلق شعب شاعر بكيانه، يعبر عن مرئياته من سماء زرقاء، أو ملبدة بالغيوم، ومن غابات كثيفة، وصحراوات قاحلة ومروج خضر، ومن حياة بدوية هادئة، إلى حياة عصرية صاخبة، ومن إيمان بالكجور والسحرة، إلى إيمان بالله وحده لا شريك له"(15).
لكل ذلك يصر المحجوب على انفصال تام بين الأدبين والثقافتين السودانية والمصرية ويختم مقاله بالقول: "فاعذرونا يا أخواننا المصريين، وساعدونا على ما نريد لأن في انفصال الأدبين وقيام كل منهما بذاته خيراً للبلدين، وثقوا أننا لا نرضى بكم بديلاً، ولكننا لا نستطيع أن نقول لكم إننا نفضلكم على أنفسنا، فهذا منطق لا يقبله العقل. وحسب مصر والسودان أن يتبادلا العطف، وأن يتعاونا ما وجدا إلى ذلك التعاون سبيلا، وليكن التعاون قائماً على المساواة بين الطرفين، وعلى الاحترام المتبادل حتى ينتج نتاجاً حسناً، ويؤتي أكله بعد حين"(16).
ومن مساهمات محجوب الفكرية كتيب صغير صدر سنة 1941 بعنوان (الحركة الفكرية في السودان إلى أين تتجه) ضمّه لاحقاً إلى مقالاته المجموعة بكتابه (نحو الغد). وأهم ما تضمنه البحث، حديثه عن التنوع والتعدد الإثني والثقافي في السودان. وظني أن حديث المحجوب عن هذه المسألة يعد أول حديث يصدر عن مثقف وكاتب سوداني حول حقيقة وواقع التنوع التاريخي والتداخل والتمازج القومي المعاصر في السودان. فقد كان خريجو كلية غردون في غالبيتهم العظمي في الثلاثينيات والأربعينيات لا يعرفون ولا يقرون بانتماءَ، سوى الانتماء للعنصر العربي والثقافة العربية الاسلامية.
يقول المحجوب في ذلك البحث: "سكان هذه البلاد الأصليون هم السود أو الزنوج ولكن السودان من قديم الزمان كان قبلة كثير من الشعوب التي هاجرت إليه من عرب الحجاز واليمن وسكان آسيا ومن الأمم المجاورة كالحبشة ومصر وبربر وبلاد المغرب واختلطوا بأهله بعض الاختلاط وامتزجوا بهم إلى حد ما"(17).
ثم يضيف: "وطبيعي أن يحدث هذا الاختلاط والتزاوج وتبادل المعرفة فعلته، في تكوين الأجيال التي عقبته، حيث تجري في العروق دماء مختلفة وتتمازج وتتفاعل".
ويذهب المحجوب إلى تقصى جذور الثقافة السودانية في التاريخ القديم ويخلص إلى القول: "السودان في ماضيه القديم قد تأثر بالثقافة الفرعونية، وثقافة البطالسة، وهي في جملتها ثقافة يونانية، وبثقافة الرومان كما تأثر بالثقافة العربية. ولقد تأثر السودان بديانات وثنية وأخرى سماوية، فقد عرف عبادة الشمس وغيرها من ديانات قدماء المصريين، وعرف النصرانية بتعاليمها وطقوسها، كما عرف الإسلام الحنيف. وكل هذه لها أثرها عن طريق الوراثة في الأجيال المتعاقبة".
لكل ذلك فهو يرى أن "عقلية هذا الجيل الحاضر، من السودانيين، خلاصة حضارات متعددة متشابهة ومتنافرة وثقافات هي في الواقع الأساس لكل التراث الفكري الموجود في العالم. كما أنها وليدة عقائد دينية منها الوثني ومنها النصراني والإسلامي". انتهى.
وللمحجوب كتاب عن الديمقراطية في السودان كتبه من وحي تجربته في العمل السياسي باللغة الإنجليزية بعنوان Democracy on Trial وترجم إلى (الديمقراطية في الميزان).
المحجوب الناقد الأدبي:
المحجوب عندي أحد أهم ناقدين أدبيين ظهرا بالتزامن في تلك الفترة بعد طمبل، هو ومعاوية محمد نور. وكان المحجوب قد جمع مقالاته النقدية والفكرية، التي نشرها بمجلتي النهضة والفجر، في كتاب اسماه (نحو الغد). كما صدر له بحث صغير في كتيب سنة 1941 بعنوان (الحركة الفكرية في السودان: إلى أين تتجه) ضمّه إلى مقالات (نحو الغد) هذا إلى جانب كتاب في السيرة الذاتية اسمه (موت دنيا) صدر سنة 1946 بالاشتراك مع ابن خاله عبد الحليم محمد. هذا إضافة إلى دواوينه الشعرية. وسوف نحاول في عجالة أن نلقي بعض الأضواء على محجوب الناقد والمفكر والشاعر.
وقبل أن ندخل في تناول مساهماته النقدية، نحب أن نلفت نظر القارىء الكريم إلى أن يستصحب معه دائما البعد التاريخي عند مطالعة آثار رواد النهضة الفكرية والأدبية من أمثال: طمبل ومعاوية والمحجوب. لأنه إذا اسقطنا البعد التاريخي ستبدو لنا هذه الآثار اليوم من حيث اللغة والأفكار والمفاهيم مألوفة جدا ولكنها في تاريخ كتابتها ونشرها لم تكن كذلك، بل كانت جديدة كل الجدة لدى قارىء ذلك الزمان ولا يزال بعضها كذلك إلى اليوم.
مثلا نحن نستخدم اليوم في لغة النقد الأدبي مصطلح "تجربة" في وصف العمل الأدبي فنقول التجربة الشعرية والتجربة الفنية للشاعر أو الفنان. وهذا المصطلح كان في ذلك الوقت الذي يكتب فيه المحجوب مقالاته النقدية جديدا تماماً بل لم يكن له وجود في اللغة العربية بل كان جديدأ حتى في الآداب الأوربية.
في هذا السياق وهذه الخلفية يجب أن نقرأ مثلا مقالة المحجوب (أدب التجارب) المنشورة بمجلة النهضة السودانية بتاريخ 20 مارس 1932 فقد أراد المحجوب تنبيه الأدباء في ذلك الوقت إلى أن ما يكتبونه من أدب يجب أن يستمد من تجارب حياتهم ومن حياة مجتمعاتهم التي يعيشون فيها لا تقليداً للأدب العربي القديم أو محاكاة لكتابات أدباء الغرب في وصف مجتمعاتهم وحيواتهم. لذلك بدأ مقالته بالقول: "الأدب حصاد تجارب الإنسانية ماضيها وحاضرها، وتتبلور هذه التجارب في أعمال الأدباء المبدعين.. ولأدب التجارب قوالب كثيرة ينصب فيها من أهمها القصة والرواية والقصيدة"(18).
وقد كان الأدباء العرب في ذلك الزمان لا يستمدون أدبهم من تجاربهم في الحياة ومن واقع حياة مجتمعاتهم، إنما يكتفون بالتقليد والنقل. لذلك يقول المحجوب: "الأدب اليوم في الشرق هو أدب غربي في الشكل والروح وفي التفكير والأسلوب ولا أبالغ إذا قلت في الآراء المنقولة في وصف حياة أبعد ما تكون عن حياتنا.. لنا أن نأخذ من الغرب طرقه في الأدب ودرس الحياة. فالقصة في أوربا عامة وفي روسيا خاصة، ما هي سوى حياة القوم، صورت بكل ما فيها من مرحٍ خلوب وحزنٍ وكآبة، وما فيها من حركة وجمود، وما يسودها من عدل وظلم وحب وبغض وغنى وفقر. ولكن القصة في الشرق هي صورة من أوربا مع تغيير أسماء الأشخاص والأمكان ولذلك تجدها فاترة بليدة لا تنبىء عن شىء".
كذلك الشعر يجب أن يكون مستمدا من تجارب الحياة، لا من الخيال والتقليد. يقول: "الشعر لا يبلغ درجة الإجادة إلا إذا كان وليد التجارب الشخصية وصدى للإحساس النفسي. وأما الشعر الذي يقال للتسلية وقطع الزمن ولا يقصد به تخليد التجارب والذكريات فهو شعر الفقاقيع يفنى سريعاً كما فقاقيع الماء. ومن هذا النوع شعر الغزل، الذي لا حبَّ فيه، والرثاء الذي لا حزن وراءه، والمدح المغرِّض، وغيره من غثاثات المتشاعرين".
لذلك يخلص المحجوب في مقاله إلى أن اطلاعنا على آداب الغرب يجب أن يكون بغرض الاستفادة من القوالب (الأشكال) الأدبية عندهم، لخلق أدبي نابع من تجاربنا ومستمد من حياتنا الخاصة وحياة مجتمعاتنا، لا من حياتهم هم. يقول: "فإذا شئنا أن نستفيد من اطلاعنا على الأدب الغربي، فالسبيل الوحيد أن نسعى لإيجاد أدب، يرتكن إلى تجاربنا الخاصة في الحياة، وتكون مادته، ما نلاحظه في غدونا ورواحنا، وما نصادفه من الصعاب في مجتمعنا..".
وبذات القدر يجب أن تكون كذلك علاقتنا بالتراث العربي، إذ يقول: "ومحاولة فاشلة تلك التي يقوم بها أنصار الأدب العربي لأنهم بدورهم يحاولون اقتفاء آثار امرىء القيس، والنابغة، وعبد الحميد الكاتب، والجاحظ وغيرهم، فلا تنتج جهودهم غير التقليد في صور ممسوخة، وآراء مشوشة، لأنهم يتغزلون كما كان امرؤ القيس يتغزل، ويبكون مثله في العرصات، ويمتدحون النوق، على الرغم من أن الجمال الذي كان امرؤ القيس يهواه غير الجمال الذي يلفت الانظار اليوم ويستهوي القلوب، وعلى الرغم من أن المنازل صارت من الآجر والحجر والخرسان المسلح، وطرق المواصلات أصبحت بالبخار في البر والبحر.. وكفانا من امرئ القيس وصحبه، اللغة التي كانوا يستعملونها بما فيها من جزالة ومرونة، وحسبنا أن نخلص لأحبابنا إخلاصهم لأحبابهم، وأن ندرس حياتنا ونصورها كما فعلوا بحياتهم".
ومن القضايا التي كتب عنها المحجوب في ذلك الوقت المبكر وما يزال رأيه فيها طازجا، قضية: الشعر هل هو إلهام أم صناعة؟ ومعلوم أن هذا السؤال ظل مطروحا ولا يزال، وقد اختلفت فيه الأراء. فالرومانتيكية مثلا ترى أن الشعر وحي وإلهام، بينما نجد أن اتجاهات الحداثة النقدية التي ظهرت فيما، ترى أن الشعر صناعة وتكنيك.
ولكن المحجوب ينظر إلى الإبداع الشعري نظرة جدلية بوصفه جماع الالهام والصناعة معاً، جاء ذلك بمقال نشره بمجلة الفجر في 1 أغسطس 1934 بعنوان (الشعر الهام وصناعة) يقول في مستهله: "الشعر إحساس بالحياة وعواطف سامية. وهنالك روح علوي ينبه في النفس ذلك الاحساس ويثير تلك العاطفة. وهذا الروح العلوي ما نسميه بالوحي والالهام، وهو حظ جميع النفوس البشرية مع تفاوت في الكيف والكم، وهذا أصل الشعر ومعدنه. ولكن هذا الروح العلوي يحتاج إلى لغة تجلوه وتنقله إلى القراء وإلى قوة في الأداء وتفنن في العرض حتى تتقبله النفس، وهذا ما نسميه بالصناعة. والشاعر الثابت القدم الذي تيسر له سبيل الخلود أكثر من سواه، من كان وافر الحظ من الالهام والصناعة"(19).
مؤكداً على هذه النظرة الديالكتيكية يُفصِّل المحجوب القول أكثر: "الشعر لا يكون إلا باجتماع الالهام والصناعة، لأن الالهام وحده لا يكفي أن يجعل صاحبه شاعرا، فالشاعر يحتاج إلى دقة في التعبير واختيار في اللفظ وإلى افتنان في الوضع. وهذه محض صناعة يتقنها الشاعر بالاطلاع على قواعد اللغة وفقهها وأصول الشعر وأحكامه وبالاطلاع على التراث الفكري الذي خلفّه الأقدمون والنفاذ إلى أسراره الغامضة. كما أن الصناعة وحدها لا تجعل المرء شاعراً فهو وإن عظم مقدار علمه بأصول الصناعة وأحكامها لا يجد ما يفرغه في هذه القوالب".
ثم يقدم المحجوب نصيحة للشعراء، ما تزال صالحة إلى اليوم، وكل يوم، تتعلق بسيكلوجية الخلق الشعري. يقول: "ليس كل ما خطر بالذهن أو يثور في النفس، يستحق أن ينظم شعراً لأن هنالك خواطر تقوم في النفس في ساعات خموده وعوطف تثور في النفس وهي في ثوب حيواني وإسفاف في قيود المادة. لهذا كان من واجب الشاعر أن يترك أفكاره لتتخمر وتنضج وأن يترك عواطفه حتى تخمد ثورتها، فإذا بقيت الأفكار بعد التخمير محتفظة بصحتها وقوتها، وإذا ظلت العواطف مشبوبة النار متجددة اللهب، عرف أن تلك الأفكار والعواطف خليقة بالعرض فيضعها في شعره بعد أن يرتبها ويحكم أداءها ويلبسها الثوب الذي يليق بها".
والمقال النقدي الأخير الذي سوف نتوقف عنده يظهِر كيف كان رواد النهضة الأدبية والفكرية السودانية، في ثلاثينيات القرن الماضي، يقفون موقفاً ندياً من الأدباء المصريين والثقافة المصرية، وكلهم ثقة واعتزاز بشخصيتهم الوطنية وبعلمهم ومعرفتهم.
ومن ذلك أن كتب المحجوب قراءة نقدية لديوان (الملاح التائه) للشاعر المصري علي محمود طه المهندس وهو من رموز الحركة الرومانتيكية الكبار بمصر ومن أعضاء جماعة أبوللو، وقد نُشر مقال المجحوب بمجلة الفجر بعدد 16 يونيو 1934 تحت عنوان (الملاح التائه أو المهندس الشاعر) ويبدأ المقال بالقول: "ديوان شعر.. وضعه مهندس شاعر وأهدانيه مهندس شاعر، وأكتب عنه، وأنا مهندس اتخذت الشعر والآداب مسلاة لأقطع بها أوقات فراغي وأنسى عندها همومي"(20).
وهذا الاتفاق بين صاحب (الملاح التائه) ومحمد أحمد المحجوب في مهنة الهندسة (المحجوب درس الهندسة أولا ثم درس القانون فيما بعد) أغرى محجوب الناقد أن يعقد مقارنة طريفة ذات مغزى بين الهندسة والشعر. يقول في بدايات المقال: "نحن معشر المهندسين نرى الهندسة شعر، والشعر هندسة. الهندسة، على الأخص، فن العمارة، تنظر إلى أشياء ثلاثة: القوة والجمال والاقتصاد. القوة لتكسب البناء البقاء المعقول، والجمال لتستروح به النفوس، والاقتصاد لئلا تستهلك من المواد ما هي في غنى عنه. وكذلك الشعر فيه قوة في التركيب، وجمال في اللفظ والفن، واقتصاد في التعبير".
ثم ينتقل لتقديم القراءة النقدية لديوان (الملاح التائه) ويبدأ بالوقوف عند العنوان (الملاح التائه) فيقول عنه: "الاسم وإن كان لقصيدة قصيرة في الديوان فهو جميل ساحر جذاب، غير أني ألاحظ أن التسمية لا تتفق مع قصائد الديوان جميعها ولا تتفق مع فن الشاعر على الرغم من هيامه وشوقه إلى (الشاطئ المهجور)، ولا تناسب طبيعة مصر التي ليس لها سفن في البحر وأبناؤها لا يحتملون فراقها".
بل إن المحجوب يرى أن جميع قصائد (الملاح التائه) جاءت تعبيرا عن ثقافة الشاعر الإنجليزية وليس تعبيرا عن طبيعته المصرية وطبيعة وطنه وحياة أهله. فقد أثرت على الشاعر، كما يقول: "ثقافته المكتسبة وطغت على طبعه المصري الأكيد، فجاء شعره إنجليزي الطابع عربي اللفظ والتركيب. فالملاح التائه، يذكرني بالبحري العتيق The Ancient Mariner لـكولردج. وغرفة الشاعر، ورجوع الهارب، ومخدع مغنية، وصخرة الملتقى، وعاصفة في جمجمة، والأمسية الحزينة، والشاطئ المهجور، كل تلك العناوين تصح أن تكون إنجليزية الأصل. ولن يرجع الباحث في دواوين الشعر الإنجليزية بالخيبة إذا حاول أن ينقب عنها وعن أمثالها".
كذلك يأخذ المحجوب على الديوان الافتقار إلى التنويع في الموسيقى الشعرية. يقول: "وبعد أن جبت خلال ديوان، الملاح التائه، ورأيت أني أطالع على الدوام نغماً واحداً مطرداً حدثتني نفسي بأن أقوم بإحصائية للديوان، فوجدت أن ست عشرة قصيدة من بحر واحد والديوان فيه أربع وثلاثون قصيدة".
وإذا كان على محمود طه، المهندس، يعد في مصر من الشعراء المجددين الكبار فإن المحجوب يراه أقرب إلى فريق المحافظين، يقول: "كثيرٌ مما عرفت يعدون الأستاذ صاحب الديوان في طليعة المجددين في الشعر العربي، ولكني أرى غير ذلك لأن التجديد أول ما يظهر في الوضع (الشكل) والأستاذ محافظ في أوضاعه، يكاد يكون من طراز شوقي وحافظ. على أني لا أنكر أنه كثيرا ما يجنح إلى التجديد في آرائه وتعابيره، ولهذا هو حلقة اتصال بين المجددين والمحافظين، وخليق بعطف الفريقين، يجد أنصاره في كلتا المدرستين".
كذلك كتب المحجوب قراءة نقدية لرواية الدكتور طه حسين (أديب) نشرت بمجلة الفجر في 1 أغسطس 1935 فيعيب على الرواية ضعف الحبكة وإطالة الحوار والاسهاب في الوصف، قائلاً: "الدكتور لا يحفل كثيراً بموضوعه، فهو يسوق لنا الحديث تارة في حوار طويل صاخب شاق بينه وبين صديقه يكاد يسبب للقارئ الدوار، وتارة في رسائل مطولة لا يمكن أن يكتبها صديق إلى صديق، يتلوى فيها الحديث ويتعقد التواءه وتعقده بين الصديقين. ويحاول الكاتب أن يلم فيها بكل شيئ ولكنه لا يبلغ فيها شيئاً.. وهكذا حاول أن يصور كل شيء فأفسد ما صور"(21).
ثم يخلص المحجوب في نقده لرواية طه حسين إلى القول: "كتابة الرواية تحتاج إلى خيال واسع يحيط بكل ما يريد الكاتب تصويره، ثم تحتاج إلى تركيز وحسن اتجاه، ثم تحتاج إلى معرفة أكيدة بفنون الحوار، وربط العقد وحلها وبإحكام المفاجأة". انتهى.
نكتفي بهذا القدر من كتابات المحجوب النقدية مع أن هناك الكثير الذي يستحق الوقوف عنده لكن خطة الكتاب لا تسمح بأكثر من ذلك، ويمكن للقارىء الرجوع إلى كتابه (نحو الغد).
المحجوب الشاعر:
محمد أحمد محجوب شاعر مطبوع، جزل الأسلوب، ناصع العبارة. صدرت له ثلاثة دواوين هي: ديوان (قصة قلب) وديوان (قلب وتجارب) وديوان (مِسبحتي ودَنّي) والأخير يمثل في نظرنا أفضل ما كتبه المحجوب من شعر. و(مِسبحتي ودَنّي) أول قصائد الديوان، وهي قصيدة قصيرة تقول أبياتها:
أنا ما ابتعدتُ عــنْ القصيـ ـدِ وعـــــنْ أهازيجِــي وفنِّــي
وعــــنْ الحـــــياةِ وعـــن هـــوا ىَ وعــــن تباريحي وظنِّي
وعــنْ الجــــمــالِ يهــــــــزني ويهــــــــزُّ أوتــاري ولحــــنــــِي
أنا مــــا ابتــعـــــدتُ وإنَّـمـــا دنياي تسـرفُ في التجـنِي
أنا يــا أُمــَيـَّـةُ شـــــــاعـــــــــرٌ والشــِّعرُ مِســـــبَحتي ودنِّـي
و"هُدَى" النفوسِ قصيدةٌ روتْ الهوى والشِّعْرَ عنِّي
على أن قصيدة (الفردوس المفقود) تعد في نظرنا أجود قصائد الديوان من حيث القيمة الشعرية. والقصيدة كتبها المحجوب في زيارة له إلى أسبانيا طاف فيها على آثار حضارة الأندلس العربية الإسلامية البائدة، فأثارت أشجانه، فجادت قريحته بهذه التحفة الشعرية. وإعجابنا بهذه القصيدة ليس نابعاً من موضوعها، وإنما من كونها القصيدة التي تتجلى فيها شاعرية المحجوب في أسمى صورها. وهذه أبيات مختارة من القصيدة تبدأ بالمطلع:
نــزلتُ شَـــطّـكِ بعدَ البينِ ولهانا فذقتُ فيـــكِ مـــن التبريحِ ألوانا
وسرتُ فيكِ غريباً ضلَّ سامرُهُ داراً وشـــــوْقاً وأحــــباباً وإخــــوانا
فلا اللسانُ لسانُ العُرْب نَعْرِفُهُ ولا الـــــزمانُ كما كنّا وما كانا
ولا الخــــمائلُ تُشْــــــجـــينا بلابِلُها ولا النخـــيلُ ســـــقاهُ الطَّــــلُّ يلقانا
لمَ يَبقَ منكِ سوى ذكرى تُؤرّقُنا وغيرُ دارِ هوىً أصْغتْ لنجوانا
*
أبو الوليـــــــد تَغَنّى في مـــــرابِعِها وأجَّجَ الشَــــــــوقَ: نيــــراناً وأشْــجانا
لم يُنْسِه السجنُ أعطافاً مُرنَّحةً ولا حــبيباً بخــمــــــرِ الدَّلِّ نَشْـــــــوانا
فكم تَــــذكّرَ أيّــــامَ الهــــوى شَــــــرِقاً وكــــــــــم تَـــــــذكّرَ: أعطـــــافاً وأردانا
قــــد هاجَ منه هــوى وَلادةٍ شَــجَناً بَــرْحــــــاً وشـــــــوْقاً وتغريداً وتَحْنانا
فأسْمَعَ الكونَ شِعْراً بالهوى عَطِراً ولقّنَ الطـــــيرَ شــــكـــواه فأشــــجانا
وأبو الوليد، المذكور بالقصيدة، هو الشاعر الأندلسي الكبير، ابن زيدون الذي اشتهر بحبه للشاعرة والأميرة الأندلسية، ولادة بنت المستكفي, أبوها الخليفة المستكفي بالله. وقد ورد ذكرها أيضا في هذه القصيدة في سياق الإشارة إلى قصة تعلق ابن زيدون بها. وكان ابن زيدون وزيرا لحاكم قرطبة والذي شك في ولاء ابن زيدون له واتهمه بموالاة المعتضد بن عباد، حاكم إشبيلية، فحبسه، ولكن الشاعر تمكن من الهرب واللجوء إلى إشبيلية.
وكانت ولادة قد هجرت ابن زيدون بعد أن عاشا قصة حب عنيفة. فكتب في ذلك قصيدته النونية المشهورة:
أضحَى التنائي بديلاً من تدانينا ونابَ عن طيبِ لقيانا تجافينا
بِنْتـــم وبِنّا فمـــا ابتلـــتْ جــــوانحُنا شـــــــوقاً إليكم ولا جــفتْ مــآقينــا
والقصيدة من بحر البسيط التام، وهو بحر ملائم لإثارة الأشجان والذكريات الحرّى والعواطف القوية الصادقة. وقد بارى (من المباراة) أي جارى محمد أحمد محجوب في (الفردوس المفقود) قصيدة ابن زيدون، بحراً وقافية. وكان أحمد شوقي قد بارى أيضا قصيدة ابن زيدون، بحراً وقافية، في قصيدته التي مطلعها:
يا نائحَ الطّلحِ أشباهٌ عوادينا * نشجى لواديك أم نأسى لوادينا
ولد محمد أحمد محجوب، بالدويم في حوالي 1909م وعاش بأم درمان في فترة الدراسة بمنزل خاله محمد عبد الحليم (والد دكتور عبد الحليم محمد). تخرج من كلية غرودن، قسم الهندسة سنة 1929 وعمل مهندساً بمصلحة الأشغال. بعد إنشاء مدرسة القانون بكلية غردون (جامعة الخرطوم) في عام 1935 اختير ضمن سبعة من موظفي الحكومة طلاباً بالدفعة الأولى بمدرسة القانون (من بينهم أبورنّات أول رئيس قضاء سوداني، ومحمد إبراهيم النور ثالث رئيس قضاء، أما بابكر عوض الله، ثاني رئيس قضاء، فقد كان في الدفعة الثانية).
عقب تخرجه من القانون في 1938 عمل المحجوب قاضياً، لكنه لم يمكث بالقضاء طويلاً فقدم استقالته والتحق بالمحاماة.
انضم المحجوب لحزب الأمة، فقد كان من أشد دعاة استقلال السودان عن مصر تحت شعار (السودان للسودانيين) حماساً. ويعد من أبرز الشخصيات السياسية في السودان. عين وزيرا للخارجية في الديمقراطية الأولى سنة 1957. تولى رئاسة الوزراء في الديمقراطية الثانية عام 1967. في عهد حكومته استضاف السودان مؤتمر القمة العربية عشية هزيمة حزيران 1967. توفى بلندن في 1976م.
الهوامش والمصادر:
1- خالد الكد، الأفندية ومفهوم القومية في السودان، مركز عبد الكريم ميرغني، الطبعة الأولى2011 ص 174
2- المصدر السابق ص 174
3- عرفات محمد عبد الله، قل هذه سبيلي، إعداد قاسم عثمان نور، مركز الدراسات السودانية، الطبعة الأولى 2000، ص 21
4- المصدر السابق ص 22
5- موت دنيا، محمد أحمد محجوب وعبد الحليم محمد، سبق ذكره، ص109-112
6- محمد أحمد محجوب، مقال الوطنية والدولية، نحو الغد، دار البلد 1991، ص 150
7- موت دنيا، محمد أحمد محجوب وعبد الحليم محمد، سبق ذكره، 106
8- خضر حمد، مذكرات خضر حمد، مركز عبد الكريم ميرغني، ص 34
9- المصدر السابق، ص 31
10- محمد أحمد محجوب، موت دنيا، سبق ذكره، ص.
11- محمد أحمد محجوب، مقال الوطنية والدولية، نحو الغد، دار البلد 1991، ص 150
12- محمد أحمد محجوب، نحو الغد، ص 172-177
13- المصدر السابق.
14- المصدر السابق.
15- المصدر السابق.
16- المصدر السابق.
17- المصدر السابق، الحركة الفكرية في السودان، سبق ذكره، ص 212-215
18- محمد أحمد محجوب، نحو الغد، أدب التجارب، دار البلد، الخرطوم، 1999ص70-73
19- المصدر السابق، مقال الشعر إلهام وصناعة، ص 98-100
20- المصدر السابق، مقال الملاح التائه، ص 88-90
21- المصدر السابق، أديب تأليف الدكتور طه حسين، ص189،190
• من كتابنا (الشعر السوداني: من مدرسة الإحياء إلى قصيدة النثر)، مدارات للنشر الخرطوم، 2020
abusara21@gmail.com