أساليب الحجاج المنطقي والحِكَم والخطرات الفلسفية في ديوان الغناء السوداني 

 


 

 

kingobeidah@gmail.com

شعر الغناء العاطفي خاصةً ، هو في الغالب مناط التداعي الوجداني الحر ، والاندياح العاطفي الدفاق ، ومجلى المشاعر القلبية المشبوبة ، التي يتم التعبير عنها عادة بعبارات وأساليب تغلب عليها  لغة القلب والوجدان،  دون لغة العقل والجدل المنطقي،  والحكمة والتأمل الفلسفي.

على أنه ليس من النادر أن يعثر المرء على ومضات من هذا المنحى العقلاني والمنطقي والتأملي ، بل الحكمي في بعض القصائد والمقاطع من الشعر الوجداني بصفة عامة، بل الشعر الغنائي العاطفي على وجه التحديد.

فمن طريف ما ورد في شعر ابي العلاء المعري في هذا الباب  - على سبيل المثال - وصفه لمحبوبته بالرقة المفرطة ، حتى انها لا تستطيع تحمل النظر اليها ، فضلا عن ان تتحمل ثقل الحلي التي تلبسها:

ويا أسيرة حجليها أرى سَفَهاً

حِمْلَ الحُليّ لمن أعيا عن النّظرِ

والبيت من قصيدته " يا ساهر البرق ".

هذا ، وفي البيت مبالغة و " كسير تلج " واستهبال كان معهودا عن المعري. وما أشبه معناه بمعنى بيت الاغنية الشعبية ذائعة الصيت " القمر بوبا عليك تقيل " ، لان القمر بوبا كان نوعا من الأخراص الذهبية الكبيرة " الفدايات " التي تعلق على الآذان لزينة الفتيات في السابق .

وليس ديوان الغناء العاطفي في السودان ببدع في هذا المجال أيضاً ، فباستعراضنا وتأملنا لبعض قصائده ، تبين لنا وجود هذه الظاهرة أيضاً في عدد من الاغنيات السودانية، و من جميع الحقب قديما وحديثا.

فمن روائع أغنيات الشاعر الفحل ، ونابغة شعر الحقيبة " ابراهيم العبادي" التي تتجلى فيها هذه الظاهرة مثلا ، أغنية " برضي ليك المولى الموالي " ، والشاهد هو قوله فيها على سبيل الحكمة السائرة:

قال لي هاك أقوالاً مُصيبة

كل نفس توجد نصيبا

واليصيبا المولى بيصيبا

بالقدر كم عزّ الذليل

كم ربوعاً أجدب خصيبا

ومافي فجراً ما عقبو ليل !! الخ

وكذلك قول ذات الشاعر الفذ ابراهيم العبادي في اغنية " سايق الفيات " في خاطرة فلسفية متأملة ، وهو في معمعان انبهاره بجمال الحسان اللائي رآهن وهن يردن النهر بمشرع الرماش:

شوف النهر مار تقول هجسان

أو مر المنام بى مُقلة النعسان

جلّتْ قدرتو ما أكفر الإنسان

كم ينسى الجميل وكم يجحد الإحسان

يا سايق الفيات ..

وفي مرحلة لاحقة كتب الشاعر عبد المنعم عبد الحي في اغنيته "يا ليالي المصيف" التي أداها الفنان الكبير عثمان حسين ، كتب متسائلا ومجادلا أيضاً في تلهف:

يا ليالي المنى هل ما فات عاد

وهل أحبابنا على عهد الوداد

هل أنت وأنا سواءٌ في السُهاد

سواءٌ كلّنا ... آه .. كلنا ؟؟!!

وما افصح الصفة: سواء التي استخدمها الشاعر ههنا ،  وما أشهى جرسها في هذا السياق!

ثم ربما في ذات الفترة كتب الشاعر الصاوي عبد الكافي  في أغنية: " المنديل " التي يؤديها المطرب الشهير " سيد خليفة " ، مستخدما ذات الاسلوب المنطقي، ولغة الجدال العقلي ، لكي يستنتج من خلالها حقيقة ظفره بمحبوبه ، او على الاقل للتدليل على وجود بعض القرائن والمبشرات الموحية بذلك ، وهو قوله:

هدية من إيدك مقبولة معناها إني على بالك

ونعيد الايام الاولى أتأمل حسنك وجمالك

انت جميل والجابك لي ملاك وجميل

يا منديل .. يا منديل !!.

وعودة أخرى للمبدع عبد المنعم عبد الحي ، الذي نجده وهو يستخدم لغة التأمل والتهويم الفلسفي، على الرغم من التزامه بتقرير حقيقة مرة من حقايق الوجود ، وذلك عندما يقول في اغنيته "أنساني" من ألحان الموسيقار الخالد برعي محمد دفع الله وأداء الفنان الكبير عثمان الشفيع:

حبيبي الدنيا يوم بتروح

وما بدوم لا فرح لا نوح

ونحن اليوم ورود بتفوح

غداً نصبح حُطام أحلام

وتذرونا الرياح في الدوح

فليه قلبك تزيدو جروح !!

ومما يجري بمجرى الحكم السائرة أيضا ، وانطوت عليه بعض اغاني سبعينيات القرن الماضي ، قول المطرب صلاح مصطفى:

مرة صابر فوق أذاي

ومرة شايل جرحي واشكي

يا حبيبي الدنيا حالا

يوم تفرّح ويوم تبكّي

وفي ذات السياق كتب الشاعر الراحل عوض جبريل وغنى له المطرب الشعبي الشهير كمال ترباس:

ما تهتموا للايام

ظروف بتعدي

طبيعة الدنيا زي الموج

تجيب وتودي

.....

مصير الزول حياتو ياما فيها يشوف

وفي دنيانا بنلاقي الفرح والخوف

ما تهتموا للايام ..

وقد أغرب شاعر اغنية "طبع الزمن" التي اداها الفنان الكبير صلاح بن البادية وأبدع في استخدام اسلوب المحاججة والجدال مع الزمن ، وخصوصاً حين خاطبه قائلاً:

شوف .. نحن عارفين قيس شقى

وعارفنو كان تايه وحيد

وكان كل يوم مستني ليلى

وكان بيحلم بالجديد

أهو هسي مرت ألف ليلى وبرضو بنفكر نريد ..

مع إنه عارفين التمن

أصلو طبعك يا زمن لا راضي انت تغيرو

ولا نحن راضين بالمحن !!!.

ونود أن نختم هذه الكلمة بمقطع من اغنية "لو مني مستني الملام" للشاعر المرهف عبد الوهاب هلاوي ، والتي أداها الفنان الكبير الراحل: مصطفى سيد احمد ، وهو مقطع مدهش حقاً ، ووثيق الصلة بمسألة إخضاع العواطف والمشاعر للغة المنطق والجدل وأساليبهما. والشاهد هو قول الشاعر:

دي الوردة لو فاتا الفراش

ما أظن تلومو مع النّدى

وما بتجرح إحساسو الجميل

والرّيدة يا حِنيّن كده !!.


khaldoon90@hotmail.com

 

آراء