صالون ناهد والوعي التاريخي (2-2)

 


 

 

في المقال الأول أشرنا إلي دور السيد علي الميرغي في استقلال السودان و برز في محاور حملها انجاله. كانت خمس قضايا شكلت ثقافة الأسرة من خلال الإلتزام بها لكي تحافظ على وضعها الاجتماعي و السياسي في السودان، و الخمس قضايا كان السيد محمد عثمان الميرغني ملتزما بها في حياته السياسية و أيضا تربية أبنائه و كذلك السيد أحمد الميرغني. و تتمحور في تقديم " نسبه ببيت النبوة كما هو مشاع" كرافعة لأسرته في العمل السياسي. و هذا النسب مدثر بالقدسية تحتم على الأسرة أن تكون على مسافة من المواطنين حتى تضمن سريان القدسية: كانت مدرسة الأشراف التي أسسها السيد علي ليدرس فيها أبنائه هدفها تمنع اختلاط أبناء السيد على مع أبناء المواطنين في المدارس لكي لا تؤثر على القدسية المطلوبة سريانها مستقبلا. و هناك مقولة القطب الاتحادي محمد توفيق أن الطائفية سوف تؤثر بشكل سلبي علي العمل السياسي، أنها سوف تضيق مواعين الديمقراطية في الحزب. و حسهم بعدم الدخول المباشر في العمل السياسي من خلال الصعود للمنابر و العزوف عن اللقاءات الصحفية و التلفزيونية المباشرة, و عدم الدخول في الحوارات المباشرة مع الجماهير. و وجوب أختيار العناصر ذات الولاء، و توظيف هؤلاء في خدمة الطائفة و في الصراع السياسي حسب ما يتطلب التكتيك و المناورات السياسية.
كان السيد علي الميرغني يريد أبنه محمد عثمان الميرغني يتولى شؤون الطريقة، و السيد أحمد يهتم بالعمل السياسي، لذلك أختار السيد علي أبنه أحمد الميرغني مع الخمسة أعضاء الذين مثلوا " حزب الشعب الديمقراطي" مع الخمسة الأخرين الذين مثلوا الوطني الاتحادي بقيادة أسماعيل الأزهري في لجنة العشرة التي وحدت الحزبين و خرج المولود الجديد " الاتحادي الديمقراطي" عام 1967م، و ظل أسماعيل الأزهري في قيادة العمل السياسي، و كان السيد أحمد الميرغني عضوا في المكتب السياسي للحزب الجديد، و الشيخ علي عبد الرحمن الأمين العام للحزب. حتى جاء انقلاب مايو. بعد الانقلاب مباشرة أرسل محمد عثمان الميرغني برقية تأييد للانقلاب حيث بلغت البرقيات التي ارسلها لنظام مايو قد بلغت 21 برقية كما جاء في كتاب الدكتور منصور خالد "النخبة و أدمان الفشل،" و كان السيد أحمد الميرغني عضوا في المكتب التنفيذي للاتحاد الاشتراكي، و كان الشريف حسين الهندي قائدا للمسيرة السياسية للحزب و في الجبهة الوطنية المعارضة و متواصل مع قيادات الحزب في الداخل عبر المؤسسة الحزبية و أيضا العناصر القيادية في الاتحادات القومية و الحركة الطلابية. و حتى موت الشريف عام 1982 في أثينا لكن القيادات الاتحادية في الجبهة الوطنية كانت هي التي تقود الحزب و تفرض وجودها مع غياب كامل لأسرة الميرغني. لذلك ليس غريبا عندما سقطت كل النظم الشمولية " عبود – مايو – الانقاذ" كان بيت الميرغني مشاركا فيها.
في هذه الفترة كانت أسرة الميرغني قد أكتفت بوجود السيد أحمد الميرغني في المكتب السياسي و لم تدخل في مناكفة مع القيادات الاتحادية، حتى جاءت انتفاضة إبريل 1985م أبتعدت الأسرة الميرغنية تماما عن العمل السياسي طوال الفترة الانتقالية عندما رفعت شعارات محاكمة سدنة النظام. حتى اشتد الصراع بين المجموعات الاتحادية التي انقسمت لثلاث مجموعات رئيسية الأولى هي الشريف زين العابدين الهندي و محمد الحسن عبد الله يسن و المجموعة الثانية علي محمود حسنين و طيفور الشايب و المجموعة الثالثة حاج مضوي و محي الدين عثمان. و استعانت المجموعة الأولى بالسيد محمد عثمان الذي جاء من منفاه الاختياري في سنكات لكي يكون راعيا للحزب، ثم تم ترشيحه رئيس للحزب قبل الانتخابات رغم أن الشريف زين العابدين كان هو الذي يقوم بالفعلية السياسية حتى الانتهاء من الانتخابات حيث عين أحمد الميرغني رئيسا لمجلس السيادة. طوال هذه الفترة لم يدخل بيت الميرغني في أي مناكفات سياسية، أو أي صراع الذي حدث بين أجنحة الاتحاديين، فكان محمد عثمان الميرغني يعمل في هدوء لكنه استعان بالمجموعة التي كان يطلق عليها سدنة نظام مايو منهم الدكتور أحمد السيد حمد و أمين الربيع و غيرهم استطاع أن يوظف هؤلاء في العمل السياسي و لكنه بدأ يعين عددا من اتباعه في المكتب السياسي، فالمكتب كان من ستين عضوا بلغ مائة و خمسين عضوا الأمر الذي مكنه من السيطرة الكاملة على الحزب. و لكن ظهر دوره بصورة جلية عقب انقلاب الجبهة الاسلامية القومية في يونيو عام 1989م، خاصة في التجمع الوطني الديمقراطي، كرئيس للتجمع، رغم أنه كان رئيسا للتجمع لكن كان دور الحزب جامدا في هذا العمل، و كان التجمع يشهد صراعا سياسيا بين الحركة الشعبية مدعومة بموقف الحزب الشيوعي و في الجانب الأخر حزب الأمة، فالميرغني كان يعتقد أن وجوده على رأسة التجمع يعتبر دورا للحزب، و دون سابق إنذار عين مدير مكتبه في الطريقة محمد عثمان أحمد عبد الله سكرتيرا للحزب. و عندما أعترض أقطاب الحزب في الداخل و الخارج، عدل الوظيفة سكرتير الحزب في الخارج. و طوال فترة التجمع لم يخرج للإعلام و إجراء مقابلات صحفية إلا مقابلتين مع جريدة الشرق الأوسط التي تصدر في لندن. لكن طرح الأسئلة و الإجابة عليها جمعيها كتبها الصحفي محمد الحسن أحمد الذي كان يعمل في الجريدة. وكان يرفض التدوين. من غير العادة كان قد دعا مرة عام 1995م لاجتماع لكل عضوية الحزب في القاهرة، تحدث عن زيارته لدولة قطر، و أيضا كانت هناك دعوة للإصلاح تحدث في بإقتضاب شديد، و بعد الاجتماع طلب من سكرتاريته أن تجمع كل الأوراق من الذين كانوا يسجلون حديثه في الاجتماع، و طلب مني تسليم الورقة التي دونتها و رفضت رفضا قاطعا تسليمها و وصل معى الطالب لمساومة أن أقطع ورقة بيضاء من الدفتر و أسلمها له، و في اللقاء لا تتاح الفرص للأسئلة ينتهي اللقاء بإنتهاء حديثه. و قال لهاشم الرفاعي المحامي الذي كان قد استوقفه لكي يسأله؛ قال الميرغني أن رئيس الحزب لا يسأل و لا يحاور في الذي يطرحه.
غاب التنظيم تماما، و في عام 1996م نشط شباب في دار الحزب الذي كان في مصر الجديدة بالقاهرة، و ارادوا أن تكون هناك ندوة اسبوعية، و كانت أول ندوة بعنوان " دور الحزب في العمل المعارض" تحدث فيها الدكتور أحمد السيد حمد الذي أبتدر حديثه بسؤال أين هو الحزب الاتحادي الديمقراطي؟ و قال حمد أصبح الحزب حزب أسرة عندما يأتي السيد الميرغني للقاهرة يكون الحزب في القاهرة، و عندما يرحل يحمل الحزب في حقيبته، و أضاف قائلا أن قيادة السيد محمد عثمان الميرغني قد غيبت دور الحزب تماما من الساحة السياسية. و أخبر الميرغني بحديث حمد. فأصدر الميرغني قرارا بعدم قيام ندوات داخل دار الحزب. هذا هو الأمر الذي كان قد أشار إليه محمد توفيق في نوفمبر عام 1967م، أن الطائفية سوف تقعد بهذا الحزب. و كان دور الحزب بعد "اتفاق نيفاشا 2005م " هامشيا و ظل في هامش العمل السياسي حتى اليوم، و هذا يعود لقيادة محمد عثمان الميرغني كما أن الحزب ظل فقيرا في إنتاجه الفكري و الثقافي. و حتى أموال السيد محمد عثمان اودعها خارج السودان منذ السبعينيات من القرن الماضي، و كل استثماراته خارجية لم يستفيد منها السودان، كل الأسرة الأن في الخارج منذ انقلاب الجبهة الإسلامية و وجود مؤقت للحسن و جعفر حتى يحافظوا علي اسم الأسرة من خلال حزب تصدعت أركانه و أصبح على هامش العمل السياسي، أن الخلاف بين جعفر و الحسن كان لابد أن يحصل بسبب دخول عامل جديد التعليم.
إذا بيت الميرغني ظل محافظا علي هدي السيد علي الميرغني، في القضايا الخمسة التي يجب أن تتبعها أسرته، و إتباعها سوف يجعل الأسرة تفقد الكثير من ولاءاتها القديمة حيث تغير المجتمع الذي كان يعيش فيه السيد علي و السيد محمد عثمان الميرغني، حيث توسع التعليم في السودان و أصبحت المعلومات متوفرة و يمكن الحصول عليها عبر الانترنيت، كما أصبح 90% من جيل الشباب الفاعل مشاركا في كل قضايا السياسة، و يطرحوا رأيهم بشكل واضح دون تردد، و البعد عن هذا الشعب و عدم الاختلاط به يعني تقديم استقالة عن ممارسة النشاط السياسي بطريق غير مباشر. فالولاءات القديمة التي كانت تشكل فيها الأمية نسبة مئوية كبيرة ما عادت اليوم موجودة، فالذي يريد أن يكون رقما في العمل السياسي يجب أن يختلط بهذا الشعب في كل أنشطته السياسية و الثقافية و الاجتماعية، و أن الأخوين الحسن و جعفر سوف يصبحان أخر جيل الميرغنية المرتبط بالعمل السياسي و يجدان إشكالية كبيرة في عملية التواصل مع الأجيال الجديدة. و غذا يريدان الخوض في ممارسة السياسة عليهما نبذ تلك القضايا الخمسة الموروثة من جديهما، و ينطلقا في العمل بما يفرضه واقع التفاعل الاجتماعي و السياسي و بشروط هذا التفاعل و ليس بشروطيهما. و أعود لهما في مقال أخر.
أن فتح ملفات التاريخ مسألة مهمة جدا في قضايا السياسة و الثقافة، بهدف معرفة العوامل التي ظلت مؤثر في القضايا مجال البحث، و هل عوامل عضوية أم مصاحبة يمكن التخلص منها، فالتاريخ ليس هو دراسة الماضي فقط بل هو البحث في كيف نستطيع أن نتغلب على مشاكل الحاضر و المستقبل. و نسأل الله حسن البصيرة.

zainsalih@hotmail.com

 

آراء