في صُحـبـةِ الواثِـق وَمَنصــوْر: عن كتاب الواثق   كمير في رحلته مع منصور خالد 

 


 

 

(1)

      مَـن رسمَ هذه اللوحةَ التي بين يديك وريشته رطبة بأحبارِها وألوانِها ، هوالدكتور في علم الإجتماع والناشط السياسي  الواثق محمد حاج الخضر علي كمير. عنوان كتابه الذي صدر في سبتمبر 2021 عن دار مدارات للطباعةِ  والنشر والتوزيع  من الخرطوم عنوانه : "رحلتي مع منصور خالد: الخروج من الذات لملاقاة الآخر!"، مُضيفاً إلى العنوان  وصفاً توضيحياً : "الحركة الشعبية ، البحث عن السلام ووحدة البلاد". قدم للكتاب بحصافة وعمق كلٌ من الدكتور لام أكول أجاوين والأستاذ المحبوب عبدالسلام، وتتضمن الكتاب شهادات من عدد من البلوماسيين  عن الراحل منصور.

      هذا الألمعي الذي عرفـني وعرفتهُ منذ سنوات الصِّبا الباكر، أوّل ما التقيته في جامعة الخرطوم، في بواكير عقد السبعينات من القرن العشرين،  فتوحّدنا أصدقاءاً لا نفترق،  ولم نفترق  في بقية سنوات عمرينا  إلا افتراضاً ، إذ تباينتْ  مسيرتانا  ، ولكن بقيَ رباط القلب أقوى من رباط العقل ، وإنْ تلازم الإثنان  وما انفصلا.  ثمّة قصصٌ وروايات  وحكايات  وثّقـت لتلاقٍ بيني وصديقي الواثق، عبر سنوات أخذتنا إلى  محطات التقاعد القسري من الوظيفة، والتي ستأخذنا بانحدارها التلقائي حتماً، إلى سنوات التقاعـد القـسري من الحياة،  تراجعاً عن لذاذاتها ونأياً عن  صراعاتها،  وانكافاءاً إلى  ما نطأه بأقدامنا المُنهكة، ونبصر ملامحه الضبابية بعيونٍ  تعجز أن تبصر لأكثر من مترٍ أو مترين . نلتفـتُ آخر أمرنا إلى كسبنا الذي جنينا، وإلى خساراتنا التي  صنعنا بعضها بأيدينا، وبعضها الآخر بأيدٍ من خارج إرادتنا ، على أنّ الايجابي  في الكسب  تساوَى مع السلبي، وكلاهما  مِمّا  نَهَلَ منهما  صديقاي الإثنان  د.منصور ود.الواثق،  فتقوَّت تجربتيهما،  واستوَتْ على "الجوْدي"  فكان استحقاقهما وفاءاً  أثمانه اغتراب الواثق  الذي طال ، وابتلاء منصور في علله حتى ساعة الرّحيل. تجد قلمي يتردّد في اضفائي صفة الصديق لمعلمٍ أستاذ،  كثير الأفضال على أبناء جيلي ، فأنا ولجتُ إلى عالم الدبلوماسية السودانية ومنصور وزيرها،  وافر الظلّ،  طويل المدى، واسع الباع.  .


(2)

       حين حدَّثني أخي الواثق عن نيته سـرد قصته مع الرّاحل عظيم الفـقـد  د.منصور خالد، فإنّ  أوّل ما خطر ببالي، هو تصنيف شكل الذي  سيكتبه ، إذ حتماً سيكون سيرة رحلةٍ  لشخصه ولشخص منصور معاً .  ولأنّي ملمٌّ على قدرٍ قليل بتلك العلاقة العميقة ، فقد كنتُ أدرك أنَّ صديقي الواثق،  هوَ مَن  يستصحب في مسيره أصدقاءاً، يختارهم بمعايير مُعقـدة  قد تلتبس على الكثيرين، فإنّهُ  سيكتبَ عن منصور بما أتوقّع،   وبقلمٍ ملكَ ناصيته،  صادرِ عن عقله الرّصيْن  بالفكرِ، ومِن قلبه الجموْح بالمحبّة.

       إلى ذلك فقد بادرتُ أوَّل أمري وبعدَ رحيلِ منصور،  أحثّ صديقي الواثق الذي بدأ كتابة توثق لمرافقته منصورا، أنْ  يوافينا  بتفاصيل ما أتاحته تلك المسيرة التي تشارَك فيها مع الرّاحل ، وَرافقهُ  في وديان السياسة، وزامله في سهول النّضال ، فاستشرفا معاً أقصى الدّرجات في محبّة الوطن،  والسّعي  الدؤوب  لتبيّن   صباحاته الصّادقة.


(3)

      ولعلّي لا أزمَع هُنا أن أحدِّث عن الرّاحل منصور، بأكثر ممّا قِـيل وكُتبَ من قبل،  إذ  محاسنُ الصُّدفِ  تركتني مساهماً في تكريمِ الرّجلِ عام 2016م. إني إلى ذلك  لستُ مُجارياً  ألسِنة السودانيين  قولهم أنْ لا يجيء يوم الشُّكرِ ، بحسبانِ ذلك القول امتداحاً  وسخاءاً في الشكر يستكرهون  ذكره، إلّا بعد رحيل مُكثرِ الخير كثيرِ الأفضال.  أتأسَّى أن يكون التعبيرُ عن الوفاء عند أهلنا  لمن استحقه، هو أنْ  لا يُقال له شكراً،  إلّا بعد حلولِ ساعةِ الموت. توافقنا  نحنُ أحباب منصور تلاميذهُ وأصدقاؤه  ذلك العام، أنْ  نوافيه - وبإسم الوطن -عن  حقّه في  أنْ يستشعر عظيم  تقديرنا له، لِمَا قدم لوطنهِ  من بذلٍ  في الإستنارة السياسية ، وما استوفى من جهد خلّاقٍ  في الثقافة والتثاقف،  فأجزل. كان  الواثق مُساهماً  ذربَ القلمِ واللسان، فيما قدّم من حديثٍ وافٍ مُثلجٍ للعقول  في ساعات ذلك التكريم.

        وبمثلما توقّعت من قلم صديقي الواثق ، فقد أوفَى الرّاحل منصور بذكرِ تفاصيل تلك الصُّحبة السياسية، في طرح "سـودانٍ جـديدٍ"، بقيَ حُلماً قبل رحيل "قـرنق" وبعده. أمّا وقد صار أمرُ تلك الصُحبة الشخصية ، صداقة حقة وتواددَ سياسي،  فقد كان حريّاً عليه أن يوثّق لها التوثيق  الأنسَب ، وهو الواثق  القلم،  إسماً وفكرا. لا أحسب صديقي الواثق نافضاً  يـدَه وقلمَه عن ذلك الطّرح ، وأنا معه في ذلك.

       حينَ أرَى  توقَ شعبين في كوريا لحلم يوحّد شطريهما ، وهما إلى ساعة كتابتي هذه،  في حالِ انفصالٍ  عُمره أكثر من سـبعين عاما، فإنّي أرى حلم "السّودان الجديد"  قابلاً  للتشكّل  من جديد، فقد يلتقي الشتيتان بعد الظنِّ كلّ الظنِّ أن لا تلاقـيا، على قول الشاعر. .


(4)

      ذات عامٍ  وكلانا  في الخرطوم : أنا عائدٌ من إحدى مهامي الدبلوماسية الخارجية، والواثق في إجازة من بعثته الدّراسية في بريطانيا،  دعاني لإفطار رمضاني مع والده (رحمه الله) في مزرعة شاسعة المساحة ملكهـا في نواحي "الجزيرة اسلانج" شماليّ أم درمان. كان ذلك في أواسط سبعينيات القرن الماضي، حينَ كان الزّمانُ أطيبَ، والمكان أبرَحَ مِمّا عليه حالنا هذه الآونة الماثلة، وقد جاوزنا عقدين من الألفية الثالثة الميلادية.

      عبرنا مناطق شمال أم درمان إلى "الحزيرة اسلانج"، حتى كاد أن يدركنا آذانُ المغرب ، لكنّا وصلنا آخر الأمر لوجهتنا .  جلسنا إلى ذلك الرّجل الكبير الطيّب ، وقد قدّمني الواثق إلى والده خيرَ تقديم .  ما يثير دهشتك أن تعلم أنّ من أجداد  الواثق  مَن كان يشار إليه  بمكانته  كـ"سِـر تُجّار" مدينة الخرطوم  ، ثم هاهو والده الخرطومي  يدير ويقيم في مزرعته شمالي أم درمان. ألا ترى ما في جينات صديقي من فطرة  يسّـرت له  ميوله لملاقاة الآخر البعيد .؟

       تلك أمسية رمضانية  علقتْ في خاطري وفي خاطره ، لا تنمحِي تفاصيلها  من الذاكرة . من مثل منعطفات التلاقي تلك، ما عزّز من رسوخ صداقتي العميقة  مع الواثق.  لم أكن غريباً على أسـرة صديقي ،  فقد كنت أزوره مراراً في  بيتِ الأسرة  حوش "آل كمير" في "الخرطوم تلاتة". من مفاكهاته معي حول إسم أسرتهم، أسرّ لي أن  إسم العائلة "كمير" ، يعود لامرأة وليس لجدٍ لهم. . !

      للواثق أمٌّ  رءؤومٌ ، ظلّتْ تتلقانا كلّما قدمنا لزيارة إبنها، بحميمية  أصيلة  وبحنوٍّ طاغِ، رحمها الله.  لم ينقطع تواصل الواثق معي تلكم السنوات البعيدة،  فيزورني في دارنا  بين الفينة والأخرى ، في حيّ "أبي كدوك" ، جنوبي "خور أبي عنجـة"بمدينة أم درمان. تلك لُحمة ما كدّرتها عثرات الزَّمن، ولا انتقصَتْ منها تحوّلات السياسة وتأرجحاتها، ولا الدبلوماسية وتقلباتها الزمانية والمكانية. .


(5)

     إنّي إذ أحدّث عن صديقي الواثق، لن أتجاوز ما بيننا من صلاتٍ، توثقتْ في كلية الدراسات  الاقتصادية والاجتماعية بجامعة الخرطوم، فأشـيرُ هنا إلى ذلك التخصّص الأكاديمي المشترك  الذي عزّز أيضاً من تواصلنا في سنوات الدراسة، وضـاعـفـته مَحبّتنا  لمعلمينا في شعبة السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا الاجتماعية، في سبعينيات القرن العشريْن. من بين هؤلاء الرَّاحل د.تاج الأنبياء على الضوي، ومعلمتنا الزاهرة  د.فهيمة زاهر السّاداتي، وأستاذتنا الرّاحلة  رضا حبيب عبدالله (زوجة أستاذنا  تيموثي نيبـلـوك البريطاني  المتخصّص في الشأن السياسي السوداني) ، د.عبدالغفار محمد أحمد،  د.عباس أحمد ، د.بلقيـس بدري، د.سامية النقر. . وأكاديميون كبار صنعوا منّا  طلبة محبّين للأنثروبولوجيا الإجتماعية،  ومنحونا  قدرات في النظر الأعمق لتعقيدات الأحوال  السوسيو- سياسية في البلاد .

      كان من أصدقائي الحميمين في تلك الشّعبة،  ممّن التحق بها بعدنا مباشرة، صديقاي الواثق كمير ومحمد يوسف أحمد المصطفى.  لعلك تعجب عزيزي القاريء، أن كيفَ قُيّضَ لصديقيّ الإثيرين، وبعد تخرّجهما بسنواتٍ، ونيلهما  الشهادات العلمية التي أهلتهما إلى مقاعد المحاضرين الكبار في شعبة الأنثروبوالوجيا الاجتماعية في جامعة الخرطوم، أنْ  ينزحا إلى عالم السياسة، ليصيرا فيها من أبرز قيادات "الحركة الشعبية لتحرير السودان" ، تحت قياد الرّاحل الشهيد "جون قرنق".  تلك إشارة " الخروج من الذات لملاقاة الآخر"،  وهي التوضيحية  التي حملها عنوان كتابه عن منصور خالد عبدالماجد. مِن عجبٍ  أنّي  لم أتبعهما في مسيرتهما إلى ذلك النزوْح وكانت ميولي إلى أفكارهما أقرب.  حدَثَ  بعد عامين من تخرّجي من تلك الجامعة، أن التحقـتُ  دبلوماسياً  بوزارة الخارجية السودانية .

        تلك مهنةٌ- وإنْ أتاحَتْ لي سوانح لخدمة الوطن- إلا أنها أبعدتني مؤقتاً عن صديقيَّ، بحكم طبيعـتها المحفوفة بسياجات من الغموض والسّرية،  والأنشطة غير المُعلنة ،  فما وجدتُ سوانحَ لأستجمّ بين التنقل من سفارة إلى أخرى  في أنحاء قاراتٍ،  تتباين  أحوالها، جغرافيةً وتاريخاً، فألاقي صديقي كما اشتهي.  أنا أحـدّثك  اختصاراً عن سـنوات السبعينات من القرن الماضي  وما بعدها، إذ لم نعرف وقتها وسائل التواصل السريع، وما منحتْ ثورة الاتصالات من  تحوّلات كاسحة في العمل العام  والعمل الدبلوماسي بوجهٍ خاص في العقود الأخيرة من  القرن العشرين .  ذلك زمانٌ لم يكن يسيراً  على صديقيّ الواثق  وَ"وَد يوسـف"، أن يراجعا صديقاً  لهما،  تقف جدران سميكة  يتعسّر معها التواصل المشتهَى كعهدهما السّـابق معه.  برغم تلك  الحُجُبِ، بقيتْ خيوطُ التواصل - على رهافتها- حيّة ، تتواتر بيني وصديقي الواثق.


(6)

       إلتقينا ذات مرّة في لندن مفتتح الألفية الثالثة ، وأنا سـفير في وظيفة نائبٍ لرئيس البعثة الدبلوماسية  هناك،  والواثق  قد ابتعد عن جامعة الخرطوم .  كانت تلك لـقاءات حميمة  حفلتْ باستعادة ذكريات جمّة،  وحكايات مُنعشة عن سنوات بعيدة ، تقاسـمنا  فيها  صلاتٍ وصداقاتٍ، شملت شخوصاً بالغي التميّز والعبقرية في الفنون والأدب والسياسة:  حسين مامون شريف . هادية وحياة وأمال طلسم . "ود يوسف". زينب بشير البكري . ليـلى أبوالعلا. . وآخرين وأخريات.

       زارني أوانذاك في بيتي الحكومي، في حيّ  "ويليسدن " غربي لندن، ليسَ بعيداً عن دار  سفير السودان الرّسميّ، غير أنّي  كنتُ أحرصَ من الواثق في التواصل معه ، فلا يرصد زيارته لي من  يصنع منها قصّة  عن دبلوماسيّ سودانيّ في لندن،  يستقبل في داره  "قيادياً" في "الحركة الشعبية لتحرير السودان" ، التي تعارض - بل وتحارب - نظاماً يمثله ذلك الدبلوماسيّ.   ليسَ ذلك فحسب ، بل  أهداهُ  ذلك القيادي، كتاباً  حوَى ترجماتٍ أنجزها  من خُطب القائد الشهيد "د.جون قرنق".  ظلّ يردّد عليَّ صديقي الواثق، أنّهُ لا يريد أنْ يتسبّب لي في مشاكل مع سفارتي. لم أحمل حديثه مَحمَل جـدٍّ،  فأنا من تعوّد على هزره وسخرياته . على كلٍّ لم يكن ذلك ممّا كنت أتحسّب له.  في مرَّة، وبعد زيارة الواثق تلك،  شهدتُ لقاءاً  عاماً في أحد فنادق العاصمة البريطانية  للقائد الشهيد "جون قرنق" دُعيَ إليه عمومُ السودانيين المقيمين في لندن، وحسبتُ نفسي واحداً منهم فشاركت بالحضور.  تصوّر صديقي الواثق، أنْ لا عاصم لي من  بطش "الإنقاذيين" آنذاك،  إنْ بلغهم عنّي ذلك  الفعل.  لكنّي بالفعل والقول، لم أكن  أخشى في  الأمر مِـن شيءٍ، فأنا دبلوماسيٌّ أمثل وطني في الخارج، لا نظاما سياسيا معيّناَ. .


(7)

       لقد أسمعني  صديقي الواثق  قصّةً عمّا عرض له   من بعض دبلوماسيين سودانيين عرفهم في أديس أبابا،  أوائل سنوات التسعينات.   وَثِق فيهم  وتبسّط معهم بسودانيته المحبّبة ، ولم يتحفّظ عن تلبية دعوتهم له  لحفل عشاء في دار أحد دبلوماسيّي السفارة هناك.  لكنّهم – كما حدثتي -   وَشوا  به  إلى مخابرات ذلك البلد، لكونه مُعارضاً  شرساً  للنظام  في الخرطوم.  ولمّا كان الدفءُ  قـد عاد إلى العلاقات الإثيوبية السودانية بعد شبه قطيعة وتوتر ،  فقد استجابتْ مخابراتُ أديس لاحتجاز صديقي الواثق  فور مغادرته ذلك الحفل . لقيَ  من سوء المعاملة  في سجون أديس ما لاقى، قبل أن يغادر إلى  ساحل العاج، حيث يقيم مع زوجه  الدكتورة  زينب بشير البكري، المسئول الثاني آنذاك  في بنك التنمية الأفريقي  الذي مقرّه  أبيدجان.

      مرّ عامٌ وبعض عامٍ،  بعد زيارة الواثق تلك إلى لندن. أمّا  الرّاحل منصور خالد فقد ظلّ يتردّد على العاصمة البريطانية  لماماً،  وأكثرها زياراتٌ للمُراجعة الطبية أو للإستشفاء.  إلتقيناهُ في إحدى زياراته تلك ، وكنتُ بصحبة  السفير المُعتمد في بريطانيا  المرحوم حسن عابدين. وكعادته يحرص على الإقامة في فنادق مميزة.  وجدناه  يقيم في جناح  بفندقٍ مرموقٍ، ليسَ بعيداً عن شارعي "أوكسفورد" و "ريجنت"  في قلب لنـدن.  في زيارة  تالية عام 2003 ، وكان قد صدر لمنصور في ذات العام، كتاب "السودان : أهوال الحرب وطموحات السلام، قصة بلدين"،  عن دار تراث بلنـدن ، فأهدانا أنا ود. حسن عابدين،  نسخة لكلٍّ منّا  مِن ذلـك السِّفر الفخيم . لم يكن في سفارتنا تلك في لندن، من يشي بنا  أنا  والسفير عابدين،  إلى زبانية "الإنـقـاذ"، إذ لم يكن لهم  وجود  يُخشى  منه في العاصمة البريطانية ، ولا كان ذلك ممّا يشغلنا.


  (8)

        يريدني الواثق أن أسطّر شهادة من واقع علاقتي بالإثنين اللذين يشكلان متـنَ هذا الكتاب: إذ منصور والواثق، هما  بطلا هذه القصّة التي بين يديك. تجدني قد أسهبتُ  في الحديث عن صديقي الواثق واختصرت إشارتي عن الرّاحل منصور، إلى الحدِّ الأدنى. ذلك أمرٌ  تعمّدته ،  إذ الواثق هو من حكى عن مسيرته مع الرّاحل منصور في كتابه وأفاض،  فما  لي أن أحكي عن الرّاحل،  إلّا بعض ما كسبتُ من تجربتي الدبلوماسية حينَ كان منصور وزيراً مِلءَ كرسيّه، وكنا نحن ثلة من ناشئة الدبلوماسيين، نتبيّن خطانا  في أوّل درَجِ الدبلوماسية،  نستهدي  بما رفدنا به من  كتاباته المُذهّبة  في السياسة والدبلوماسية  والتاريخ الاجتماعي للسودان. تلك حكايات سترد في منعطفٍ لاحق، إن أسعفنا الزّمان ببراحهِ، والذاكرةُ بما حفظتْ .  ترَى ما الذي سيُكتب عن منصور، بعد "شــذراته" التي نشرها في أجزاءٍ أربعة،  قبيل رحيله بنحو عاميـن، وَحوَتْ مخابر سيرته الذاتية، ثم  جِمَاع تجاريبه،  وزيراً  ومُفكّراً  شامل الرؤى، وبلغ حجمها  ألفاً ونيّف من الصفحات ؟


(9)

      ما قد لا تجده عند منصور، سيحدّثك عنه صديقي الواثق كمير هنا، إذْ تجد حكايات سيرة الواثق مع منصور في جدّتها وطرافتها،  وبينهما  ثراءُ علاقات الفكر وعميقُ وشائج المحبّة مع الشهيد الحاضر "جون قرنق". يحدثك ليسَ عن مَحَاضِر اجتماعاتٍ وجولاتٍ حول أحوال السودان  فحسب، بل عن التفاصيل الصغيرة : القفشات والسخريات .  المناكفات والمتاعب.  الضحك والابتسام  . الآسـيات والمبكيات.  النفـور من الجلباب واختيار ربطات العنق الأنيقة. الجاكت الواسع  والـ|"تي شيرت" الأفريقي. "السودان الجديد" الذي  جاء معنىً  وشكلا يستهدف  خلخلة القديم وإرساء الجديد ، لن يكون فكراً مُعلّقا في الهواء ، بل هو أسلوب لحياة جديدة ، في وطنٍ تشاكسَتْ أطرافهُ في "مشـاكوس"،  والتبسَتْ بوصلتُهُ على بنيهِ إلى ساعة جلوسهم في "نيفاشـا".  كانت  كينيا هي آخر المطاف، وقد اقتربَ الحلمُ أن يتنزّل إلى الواقع ليحيل السودان جديداً، كما حدَّث عنه الشهيد "قرنق".

         إنَّ العنوان الجانبي  لِكتابِ الواثق كمير،  كما أشرتُ أعلاه، هو "الخروج من الذات لمُلاقاة الآخر" ،  الذي يؤشّـر بحِذقٍ إلى الأدواء والعللِ التي اعتوَرَتْ "الذات السودانية"، أمّةً ودولة، وأفضتْ بها إلى متاهات التخبّط  والانهيارات ،التي يدفع أثمانها البشر، استنزافاً وهلاكا.  إنَّ معضلة التنوّعِ  الذي عليه البلاد، لن نهتدي لحلول لتعقيداتها بيسرٍ وسلاسة ، إلا إنْ عقدنا العزمَ صادقين، لنخرج من ذواتنا    لملاقاة الآخر الذي سنكتشف أنّهُ غير مُختلفٍ عـنّا. . !

      تلكَ فسيفساءُ  السّودان التي يستجمع تفاصيلَها  طرحُ "السودان الجديد"، يرصدها من اقترب من الرّاحل منصور،  دونَ أن يقول عنها منصـور شيئاً، بلْ لعلهُ-  وهو في غيابه السّرمدي-  لنْ يتصوّر أحدٌ أنَّ شـيئاً مِن كلَّ تلك  التفاصيل، سيخرج للناس ويقرأ في كتاب .  تلك هي قيمةٌ  واحدةٌ من جِماعِ القيم  واحتشاد التفاصيلِ،  التي جاءتْ من قلمِ وذاكرةِ  الواثق كمير عن الرّاحل منصور خالد.  إنها مرئياتٌ  في  مرآة،  فاتَ على الرّاحل منصور أن ينظر تفاصيلها، إلا أن تأتي من شاهدٍ رصدها عن مسافة .  إنها شهادة المرافقة الحميمة، وحميمية الرّصد الذي قد يتجاوز حتى صاحبه، ليكمل اللمسات الأخيرة على  الرَّسـم الباذخ الذي تجسّد  بناءاً فكرياً اسمه منصور خالد عبدالماجد. .


(10)

      إنّ عشر فصول  ضمّها كتاب  في أربعمائة وخمسين صفحة، جاءتْ من قلمِ الواثق ، مُعتصِراً - ليسَ فقط ذاكرته- بل مستخلصاً من أوراقه الخاصّة حصيلة صُحبة عمرٍ مع منصور،  يجعل من هذه المادة التي بين يديك، أيها القاريء، رصداً لوقائعٍ وأحداثٍ  حملتْ  الكثيرَ من التأمّلات ، الكثيرَ من الانفعالات ، الكثيرَ من  عناء الغربة القسرية  لافتداء  الوطن واستعادته  من براثن الفشل والإفشال. وطنٌ أمسك بتلابيبه أناسٌ  زعموا أنهم أحبّوه ، لكنهم كانوا يكرهونه،  بمثلما وصف فعالهم تلك، عبقريُّ الرّواية العربية الرّاحل الطيّب صالح .  قالوا لنا إنَّ الوطنَ  جبلٌ من ذهب، وهو بالفعل غنيٌّ  بموارده وثرواته، لكنّهم أحالوها إلى ترابٍ رخيص.

          لهذا أرَى في الذي جاء من الواثق كمير- ومثلما عبَّـر في مقدمته - ليسَ سرداً رثائياً مُبكياً على عظيمٍ رحل عنا، ولكنها  شهادة ً توثّق  بَذلاً صادقاً لاستعادة الوطن، إذ هو التاريخ الذي على أهميته قد لا يفطن إليه المؤرّخون الأكاديميون، ولا المراقبون العَجِلون.  ما كتب الواثق هو إثباتٌ لحصافةِ التأصيل التي مَلك ناصيتها،  وكسب بعضها من صحبته  لمفكرٍ عبقريٍّ  مُحبٍّ  للسودان،  إسمُهُ منصور خالد عبدالماجد. . رسـمَ  صديقي الواثق، تلك اللوحة التي بين يديك،  بريشةٍ رطبةٍ بحيويةِ الفكرِ، وبأحبارٍ نديةٍ بعميقِ المحبّةِ ، وبألوانٍ قُزحيّةٍ زيّنتْ  مسيرةً  فيها من تاريخ البلاد الكثير. .

الخرطوم- 20 سبتمبر 2021


jamalim@yahoo.com

 

آراء