عَـزاءٌ في رَحـيْـلِ أميْـرِ صـبـانا: رسالة إلى أخي الحبيب هاشِـم الخَـيـْر هاشِـم

 


 

 

(1)
للمرّة الأولى تجدني أخاطبك قبل السلام عليك ، فتكون تحيتي إليك دمعة ألجمت لساني عن النطق ، وشرق القلب بدفقة حزنٍ، كادت أن تفقدني صوابي . وقفت على نعيك صديقك وصديقي خالد ساتي عمر، فانتفضتُ من مقعدي، وارتجفت أصابعي وأنا ممسك بهاتفي الجوال، غير مصدّق . صديقك يا هاشم هو بالتأكيد صديقٌ لي . سألتك ملحّاً وأنا مكلوم الفؤاد:
- حدّثني.. من خالد الذي نعيت ولم تكمل اسم العائلة. .؟
- عنيتُ خالد ساتي عمر. . حبيبنا الذي رحل اليوم. .
نطقتَ أنت بالإسم ثلاثياً كاملاً ، هو الإسم الذي درجنا على مناداته به ، يوم التقينا أوّل مرّة في صفّ مدرسة النهضة الوسطى بمدينتنا الحبيبة أم درمان، بداية ستينات القرن الماضي. سقطتْ دمعتي قبل أن يسقط هاتفي من بين أصابعي، وأنا أسمع منك النبأ الفاجع ، مؤكّداً لي أنّ من نقله إليك ، هو صديقنا البعيد المقيم في الولايات المتحدة، مصطفى يوسف التني. نسمع منه النبأ من حيث هو هناك وأنا على مرمى بعض حجر من النيل، في حيّ "بيت المال"، حيث رحل صديقنا العزيز . .

(2)
من بين مراحل التعليم التي عبرنا ، عاماً دراسـياً إثر عام، تظلّ المرحلة الوسطى القديمة، أكثر المراحل رسوخاً في الذاكرة. كنا ثلة من الصبيان لم تتجاوز سن أكبرنا عن إثني عشرة سنة، حين التحقنا بمدرسة النهضة الوسطى، وموقعها بالقرب من جامع الخليفة، قلب أم درمان الفوّاح بعبق التاريخ. كانت قاماتنا هيَ المعيار المُعتـمد لمواقع جلوسنا في الفصل. الأقصر- وهم كثر- في الصفّين الأولين ، فكنتُ من بينهم أنا ومامون حامد ، وصلاح على سليمان، وصلاح فريجون، وخالد ساتي عمر، وعبدالمنعم موسى، والهادي محمد الهادي، وآخرون تخذلني الذاكرة أن أكمل القائمة .
الأطول قليلاً في الوسط مثلـك يا هاشم : أنت ومصطفى مدثر ومصطفى يوسف التني وسليمان غندور، وعبد المجيد محمد ابراهيم، وحمد محمد السيد حمد، وفيصل زمراوي، وميرغني بشير، وميرغني الهادي، وشمس الدين محمد سالم وعزالين عبدالرحمن، كنتم تحتلون المقاعد الوسطى. طوال القامة توهّطوا – والتوهّط لغة هو الغياب في الشيء- في آخر الفصل، منهم عبدالوهاب "دركسون"، وعبدالمطلب بابكر خوجلي، ومحمد عبدالرحيم الموردابي، والأخوين مصطفى وهاشم حمد، وحسن النورعثمان، ومحمد أحمد "قرشلي"، وأمير علي لطفي، وربيع عبدالوهاب، وبدوي عثمان صنّاجة اللغة والفكر في الفصل، وزملاؤنا من أولاد الفتيحـاب : يحي البلولة، والطيب المقبول، وعبدالرافع. لحق بتلك الدفعة في مدرسة النهضة الوسطى متحوّلاً من مدرسة أخرى، صديقنا العزيز عبدالحليم صالح جاويش. .
تسألني وأنا استدعي من الذاكرة ، أن لا أنسى صلاح المطبعجي ، ولا الفاتح عجباني، أو مدثر قطبي وعبدالحميد قباني ، فإن سرادق العزاء الافتراضي في حيّ " بيت المال"، سيجمعنا الآن بمثلما اجتمعنا قبل خمسين عاما في فصلنا الدراسي بمدرسة النهضة الوسطى. لنعزّي بعضنا البعض في رحيل أمير صبانا خالد ساتي عمر. .
في جلوسنا في فصل مدرسة النهضة، لم تقم إدارة المدرسة وقتذاك بتجليسنا وفق معيارٍ معيّنٍ ، مثل معيار الدرجات المُحرزة في امتحان الالتحاق بتلـك المدرسة ، أو أيّ معيارٍ معتمدٍ لمقياس الذكاء أو الشطارة . كلا . . ! معيار طول القامة هو الذي يحدّد لك موقعـك من "السـبّورة" التي يقف أمامها المعلم . هكذا توثقت علاقاتنا في سنوات الدراسة بمدرسة النهضة الوسطى، مع بعضنا البعض ، إلا أنها توثقت أكثر بين كلّ تلميذ منا والآخر الذي يماثله في الطول.
أنا وخالد ساتي عمر، كنا الأقصر في ذلك الفصل . .

(3)
في أكثر لقاءاتنا أنا وخالـد ، ونحن في نُعمى سنوات أعمارنا المتأخرة ، يمتحن كلٌّ منا ذاكرة الآخر عن أسماء زملائنا في الفصل، وأسماء معلمينا في المدرسة، وأكثر أمانيه أن تجمعنا الأيام بهم ثانية وإن طالت بيننا السنوات منذ أيام المرحلة الوسطى في مدرسة النهضة.
لعلك يا صديقي هاشم ، تتذكّر معي الآن معلمينا من الذين أعلمني صديقنا الرّاحل في تلك السّن المبكرة عنهم.
الناظر - ولا نسميه مدير المدرسة كما الحال الآن- هو الأستاذ عمر خالد مضوي : اللـيـن والصرامة وقد اجتمعا في شخصه المهيب. طابور صباح يوم السبت، نردّد بأصواتنا الجماعية نشيد المدرسة الذي كتب كلماته المُعلم الشاعر صديق مدثر، شـقيق زميلنا في الفصل مصطفى مدثر. كان صدّيق معلماً للغة العربية في المدرسة قبل التحاقنا بها، وخلفه في موقعه المعلم حمدي بولاد. أجل، حمدي المعلم الأنيق الذ ي لم يبق طويلا بمدرسة النهضة وغادرها للإذاعة السودانية ليصير ذلك النجم الإعلامي الذي يعرفه الناس . معلم اللغة العربية الثاني هو الشاب وقتذاك الراحل عمر علي أحمد ، الذي كان كثيراً ما يحدثنا عن المفكر المصري "العملاق"ّ عباس محمود العقاد. لعلك تتذكّر معي أخي هاشم الخير، كيف ألقى علينا معلمنا عمر قصيدة طاهر الطناحي في سبعينية العقاد. . ؟ أستاذ الطاهر خالد هو معلم التربية الإسلامية . معلم التاريخ هوالأستاذ حسين . معلم اللغة الإنجليزية المِمراح بضحكاته المجلجلة، هو أستاذ جمال عيسى . أما معلم الرياضيات الذي أبعدنا بعصبيته المفرطة عن محبتها، فهو أستاذ جعفر.
أكثر هذه الأسماء التي شكّلت ، بل صاغت جوانب من تكويناتنا الشخصية ، هي ممّا كنا نحكيه لبعضنا في لقاءتنا المتواترة، أنا وأخي الرّاحل خالد ساتي عمر . يتعب قلمي وأنا أكتب لك صفة "الرّاحل" عن حبيبنا خالــد. .

(4)
الامتحان الكبير - كما كنا نسميه هو- الذي جلسنا إليه لننتقل إلى مرحلة الدراسة الثانوية. تفرّقت بنا السّبل، وتوزّعنا من جديد إلى مدارس ثانوية مختلفة، لكنا لم نخرج مـن مدينـتــنا أم درمان. بعضٌ منّا التحق بمدرسة أم درمان الأهلية وآخرون بمدرسة المؤتمر ، وفئة أخرى مضت إلى مدارس حكومية وشبه أهلـيـة. غير أن تلك المدارس الثانوية المختلفة، لم تتبدّد معها ولم تتبدّل، ما توثق من علائق المرحلة الوسطى . إنّها المرحلة التي بدأ كلّ واحد منا يتلمس فيها بداية تشكيل مكوّنات شخصيته ، وطرائق نموّ ميوله الدراسية، التي أخذتْ تتّضح فيها خيوط ومؤشرات توميء إلى توجهات كلٍّ منا المستقبلية. أنا ومصطفى مدثر، ومعنا صديقنا بدوي عثمان، وحمد السيد، ومصطفى يوسف ابن الشاعر الكبير التني، ملنا نحـو الأدب والخطابة ، فقد كنا جميعنا من نجوم الجمعية الأدبية من وكتّاب الجريدة الحائطية في المدرسة. ملتُ أنا أكثر، نحو الرّسم والتشكيل. .

(5)
لكن دارت بنا الدنيا دورات الحياة على مشارب شتى، أخي هاشم.
بعضنا وقد أكمل المرحلة الثانوية ، التحق بالجامعات السودانية للدراسات الأكاديمية . آخرون من أبناء الدفعة التحقوا بالكلية الحربية للدراسات العسكرية. لم تكن ثمّة فواصل قاطعة بين الدراستين في تلكم السنوات، مثلما بلغ التخاصم درجات بين المكوّنين المدني والعسكري على النحو الماثل الآن، ونحن في أعاصير البلاد وعواصف أحوالها. .
أمّا وقد تشاركنا سنوات الصِّبا الباكر، فقد ظلتْ الوشائج بيننا حيّة نابضة بايقاع من التآلف ، يجمعنا بين سانحة وأخرى. لربّما تكون الفواصل الزمنية بين تلاقينا، هي بضعة أيام، أو بضعة أسابيع، أو بضعة سنوات، لكن يظلّ التلاقي هو التلاقي، إذ النقـش على حجر الذاكرة وقتذاك، لا تمحوه تحوّلات رمال متحرّكة، تطرأ على مسيرة كلٍّ مِنّا .

(6)
في عام 1988م ، كنت أعمل دبلوماسياً في سفارة السّودان في المملكة السّعودية، أتولى الشئون القنصلية فيها. اقابل في يوم عملي المعتاد، بعض المواطنين السّودانيين المغتربين، ممّن أرهقتهم الضرائب الباهظة المفروضة عليهم من حكومة بلادهم. . تعوّدتُ أن أعالج بحكمةٍ وبيسر للتخفيف على أصحاب المعاملات القنصلية، بما وصفه بعض موظفي القنصلية عندي، بأنه "طولة بال" ولزوم ما لا يلزم. لكنّي لم أعبأ بمثل تلك الملاحظات.
في يوم عمل في القنصلية والزحام مشتد على مكتبي، لفت انتباهي شخصٌ يقف بباب مكتبي، منتظراً أن أدعوه للدخول. لم يكن عجلاً، بل تقدم بتمهّل لافت وباحترام مقدّر، وقال :
- لا أظنك تعرّفت علي. . ؟
رفعـتُ رأسي وتمعّـنت لبرهةٍ في وجه ذلك الشخص، فصحتُ من دهشتي . . ؟
- خالد ساتي عمر. . ؟ !
برغم السّمنة ، وبرغم زحف التصحّر على شعره ، فقد تعرّفت بغير عناءٍ، على من كان يوماً صبياً يافعاً، يجاورني في فصل مدرسة النهضة الوسطى في أم درمان، قبل سنوات طويلة. صديقي خالد. قال لي إنه اشتغل ضابطاً زمانا ، وتركها برتبة وسيطة. هو الآن في مدينة الرياض، مترجماً في وظيفة شبه أمنية، في إحدى الشركات السعودية. هكذا إمّحَتْ في غمضة عين ،سنواتٌ طويلة لم نلتق فيها ، فكأننا افترقنا البارحة.

(7)
في يوم الجمعة الأخير من شهر يونيو عام 1989م، وقع انقلاب فجر ذلك اليوم في السودان . طلب سفير السودان منّا نحن موظفي السفارة في العاصمة الرياض، أن نلتقي جميعنا عنده في السفارة بعد صلاة الجمعة للتفاكر. بعدها هاتفني هاتفني صديقي خالد ساتي عمر ، بعد أن استعادت ذاكرته أسماء بعض ضباط ذلك الإنقلاب، ودار بيني وبينه حوار قال لي فيه بوضوح الواثق من قوله :
- أولئك هم ضباط الجبهة الإسلامية من قاموا بالإنقلاب . .
- تعرفهم، يا خالــد. . ؟
جاءتني ضحكته عبر الهاتف، مؤكداً :
- تعرفني وتثق فيّ منذ أزمان سحيقة . . أعرف عدداً من أولئك الضباط الذين قاموا بالانقلاب معرفة وثيقة. .
- سأنقل ما بُحت لي به لاجتماعنا مع سفير السودان في المملكة. .
- لك أن تفعل مطمئنا. .
وقد فعلت ، وصدق حدس صديقي خالد ساتي عمر ، كما أبانت الأيام ، وقد امتدت بالانقلابيين لأكثر من عشرة ألاف يوم، أذاقوا خلالها بني وطنهم مرّ الظلم والعذاب والاستبداد . الذي أكّده لي صديقي خالـد، لم تؤكده مخابرات رجلِ مصرالأوّل الذي أذاع في العالم مفتخراً بانخداعه، أنّ "أولادنا" هم من قاموا بالانقلاب في الخرطوم، فتأمل. .

(8)
بقيَ الودّ بيننا متصلاً ، فلا نفترق إلا لنلتقي مُجدّداً . أزوره ويزورني، ونحن كلانا في سنوات التقاعد المُريح، غير أن انشغالاتنا تكاثرتْ والدنيا قد تحوّلت من حولنا ، ولم يبقَ لنا إلا اجترار ما حفظتْ الذاكرة عنده وعندي، عن جميل أيامنا التي عشنا .
ها انذا أحدّثك يا أخي هاشم، وقد رحل عنّا خالد ساتي عمر - أمير صبانا -إلى رحلته الأبدية ، فدعني أعزّيك في فقده الفاجع. إذ برحيل حبيبنا خالد ساتي عمر، فقدنا من ذاكرة الصّبا أجزاءاً عزيزة ، سعيتُ في رسالة تعزيتي إليك ، أن أبكي معك عليها وأطلق لدموعي عنان سيلها على راحلٍ أقام في ذاكرتي وذاكرتك، فما أحزن ما سيأخذ معه حبيبنا خالد إلى رحلته السرمدية، الكثير ممّا سعينا- أنا وأنت وثلة زملاء دفعتنا في المدرسة الوسطى ، أن نختزنه ثم نستعيده . لكن ستجدني يا عزيزي هاشم الخير، قد فشلتُ .
أكثر الذي كتبته لك عن حبيبنا خالـد، وعن أيام صبانا معهُ، تصنّعَتهُ ذاكرتي وقد بقي فيها القليل ، أما الكثير فقد رحل مع صديقنا وجبيبنا خالد ساتي عمر. تقبله الله مع الصديقين، وشهيداً مع كلّ شهداء الوطن الكبير، وأن يبعث الله الطمأنينة لزوجه المكلومة ولكلّ أفراد أسرته الصغيرة والكبيرة ، إذ فاجعة رحيله أقسى من أن أتحملها وحدي، أو حتى إن كنت معي أنت أو مصطفى مدثرأو مصطفى التني، أو كلّ من مثل معنا في تلك الأيام التي تقاسمنا شراكتها صبيانا زُغب الحواصل ، واقتفينا آثارها في أمكنة أنكرتنا وفي أزمان أخذت أيامنا وتركتنا تتثاقل خطانا على عتبات الرحيل. . .
رحم الله "أمير صبانا" ، وتغمده برحمته وغفرانه. .

أم درمان – 1/12/2021

 

آراء