جنرالات السودان وبؤس الدبلوماسية
جمال محمد ابراهيم
20 December, 2021
20 December, 2021
(1)
يبدو أن دبلوماسية جنرالات السودان لا يقف فـقـرها وبؤسها عند حد، فهي لا تأخذ نفساً لتراجع بعض عثراتها التي عكستها تصرفات وتصريحات، تصدر عن المجلس الحاكم، عن جنرال من هنا أو آخر هناك.
لو سلّم المتابعون بما جاء في الإعلان السياسي الذي وقعه في 23 نوفمبر/ تشرين الأول عام 2021، قائد الجيش/ رئيس مجلس السيادة، مع رئيس الوزراء، عبدالله حمدوك، الذي انقلب الجنرال البرهان عليه وعلى حكومته بليل، قبل شهر واحد، فإنّ أهم بنود ذلك الإعلان تحديد صلاحيات كلٍّ من مجلس السيادة ومجلس الوزراء، بصورةٍ لا لبس فيها. على أن جملة من التصرّفات وبعض التصريحات لم تخفَ عن العين الرّاصدة، لا تشي باحترام تلك الحدود، سواء صدرت عن غفلةٍ وحسن نية، أو عن ترصّد وسوء نية. كان أكثر ما رصده المتابعون عن تصرفات الجنرالات، يتّصل بالعلاقة مع الخارج.
(2)
في تصريح ناري من الرجل الثاني في مجلس السيادة السوداني، محمد حمدان دقلو (حميدتي)، صدر بعيد الانقلاب العسكري، بأن الجيش السوداني ربما لن يكون قادرا على كبح جماح الهجرات التي تتخذ بلاده معبراً باتجاه الدول الغربية، فيما لو أحجمت تلك الدول عن تقديم المساعدات المطلوبة للحد من موجة الهجرات. واضحٌ أن الرجل يشير إلى الإضطرابات التي يشهدها الإقليم، خصوصا ظروف الحرب الأهلية الناشبة في إثيوبيا، وجموع اللاجئين الذين يلوذون بالسودان هربا من القتال، ويعتبر بعضهم السودان منصّة للعبور إلى أوروبا. بدا تصريح ذلك المسؤول مثيراً لقلق الدوائر الأوروبية والأميركية، وبعضهم يراه تهديداً مباشراً، يرتبط بتداعيات الصراع بين المكوّنين، المدني والعسكري، في السودان، واحتمالات حجب المساعدات عن بلادٍ وقع فيها انقلاب عسكري يقصي المدنيين من مشهد المسيرة القاصدة نحو تحقيق حكم ديمقراطي في بلادٍ تخلصت من ديكتاتورية عسكرية، جثمت على صدور السودانيين ثلاثين عاما. علق مسؤول أميركي سابق قي إدارة الرئيس الديمقراطي السابق أوباما: أنّ "هذا سلوكٌ مريبٌ من مسؤول عسكري سوداني يقوم بتهديد دول الاتحاد الأوروبي بفتح الحدود أمام موجات المهاجرين نحو أوروبا، إذا لم يتم استئناف الدعم والمساعدات الاقتصادية الأوروبية المعتادة".
حتى لو افترضنا حسن النيّة، فإنّ ذلك التصريح افتقر إلى الدبلوماسية التي تطرح فيها مثل وجهات النظر تلك، في غرفٍ مغلقة ، ويتم التداولُ حولها بعيداً عن الإعلام المفتوح.
(3)
لم يهدأ الارتباك الذي أثارته تصريحات حميدتي، الرّجل الثاني في مجلس السّيادة الذي يرأسه الجنرال البرهان، فإذا البرهان نفسه يطلق تصريحات أشدّ سخونة من شبيهاتها، في لقاء مفتوح هدّد فيه سـفراء أجانب بأنّ إجراءات ستتخذ ضد كلِّ من يحرّض التظاهر ضد الجيش، بحسبانه نوعا من التدخّل في شأنٍ داخلي للبلاد. تقرأ المادة 41 من اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية الموقعة في 18 إبريل/ نيسان من عام 1961، أنه: "على جميع المتمتعين بالامتيازات والحصانات، مع عدم الإخلال بها، احترام قوانين الدول المعتمدين لديها وأنظمتها، وعليهم كذلك عدم التدخل في شؤونها الداخلية". .. ومن دون أن نقتحم جدلا متواصلاً بشأن مفهوم التدخّل في الشؤون الداخلية الذي قد تجاوزته بعض مقرّرات اتفاقياتٍ لاحقة، مثل اتفاقيات حقوق الإنسان والمحكمة الجنائية الدولية وغيرها، لكن يظلّ تناول رأس الدولة في أيّ بلدٍ ما يراه تدخلا في شأن من شؤون بلاده، أمراً ينبغي تركه للأجهزة التنفيذية، خصوصا الدبلوماسية، في بلاده للبتّ فيه، بتقييم يلتزم بالحصافة وبالتقدير المناسب لمبدأ المعاملة بالمثل، وهو مبدأ راسخ في مجال العلاقات الدولية.
لكن ليس من المناسب أن يخوض رأس الدولة بتهديده نفـرا من السّفراء الأجانب المعتمدين في بلاده، بما قد يُحسب استباقاً لذلك التقييم المطلوب، فإنْ تمّ اتخاذ إجراء عقابي على أولئك السفراء من رأس الدولة، سيصعب بعدها أن تتراجع عنه أجهزة الدولة التي تليه في المسؤولية.
(4)
ثالثة الأثافي اتفاق أقدم على توقيعه مع دولة شقيقة، حاكم ولاية دارفور في غرب السودان، وهو مسؤول جاءت به اتفاقية السلام التي جرى التفاوض حولها، والتوقيع عليها، في عاصمة دولة جنوب السودان، بين حكومة الفترة الانتقالية وبعض الحركات المسلحة في إقليم دارفور. أما طبيعة الحكم الفيدرالي واللامركزي، فهي أمر لن يتمّ حسمه بصورة نهائية، إلا بعد التوافق على دستور للبلاد، ينشئ برلمانا يقضي بالتشريع، ويكوّن حكومة منتخبة تطلع بالتنفيذ. حاكم دارفور في غربي السّودان سبق ذلك كله، وأسرع متجاوزاً صلاحيات المركز، ليوقع اتفاقاً اقتصادياً، قطعاً لا يقع ضمن صلاحياته، بل هو من صلاحيات السلطة الاتحادية. أما لو فسّر ذلك الحاكم، أنّ اتفاق "سلام جوبا" الذي وقع العام الماضي يمنحه صلاحية تحقيق السلام في دارفور، فتلك الخطوة التي أقدم عليها بتوقيع اتفاق مع طرفٍ في دولة الإمارات تمهّد بصريح التصرّفات القانونية، لانفصال كامل لإقليم دارفور عن الوطن الأمّ، حتى قبل إقرار دستورٍ تجيزه الأجهزة التشريعية المنتخبة في السودان.
(5)
في نظرة أولى إلى هذا الارتباك الواقع في ملف علاقات السودان الخارجية، فإنّ أكثر المراقبين يرونه وجهاً من وجوه الخلاف، ثمّ الصراع المتصاعد الذي أسفر عن انقلاب عسكري، جعل الصّورة التي عليها السّودان الآن في حالِ من الضبابية والاضطراب. لو كان الإعلان السياسي الذي وقّعهُ مع الجنرالات، رئيس الوزراء، حمدوك الذي ظنّ نفسه يمثل المكوّن المدنيّ، فإنّ تصاعد وتيرة التظاهرات والاحتجاجات على الانقلاب العسكري الذي قاده الجنرالات لا ينبئ عن خاتمةٍ تُرضي الشارع السوداني. التجارب التاريخية السابقة على مدى العقود الستة الماضية، وإنْ أثبتت قدرة السودانيين على تحقيق اختياراتهم بهمّة عالية وإصرار مكين، دلت على أن المجتمع الدّولي يظلّ عاملاً مهماً، إنْ لم يكن حاسماً، لتحقيق تطلعات الشعب في السودان.
///////////////////
يبدو أن دبلوماسية جنرالات السودان لا يقف فـقـرها وبؤسها عند حد، فهي لا تأخذ نفساً لتراجع بعض عثراتها التي عكستها تصرفات وتصريحات، تصدر عن المجلس الحاكم، عن جنرال من هنا أو آخر هناك.
لو سلّم المتابعون بما جاء في الإعلان السياسي الذي وقعه في 23 نوفمبر/ تشرين الأول عام 2021، قائد الجيش/ رئيس مجلس السيادة، مع رئيس الوزراء، عبدالله حمدوك، الذي انقلب الجنرال البرهان عليه وعلى حكومته بليل، قبل شهر واحد، فإنّ أهم بنود ذلك الإعلان تحديد صلاحيات كلٍّ من مجلس السيادة ومجلس الوزراء، بصورةٍ لا لبس فيها. على أن جملة من التصرّفات وبعض التصريحات لم تخفَ عن العين الرّاصدة، لا تشي باحترام تلك الحدود، سواء صدرت عن غفلةٍ وحسن نية، أو عن ترصّد وسوء نية. كان أكثر ما رصده المتابعون عن تصرفات الجنرالات، يتّصل بالعلاقة مع الخارج.
(2)
في تصريح ناري من الرجل الثاني في مجلس السيادة السوداني، محمد حمدان دقلو (حميدتي)، صدر بعيد الانقلاب العسكري، بأن الجيش السوداني ربما لن يكون قادرا على كبح جماح الهجرات التي تتخذ بلاده معبراً باتجاه الدول الغربية، فيما لو أحجمت تلك الدول عن تقديم المساعدات المطلوبة للحد من موجة الهجرات. واضحٌ أن الرجل يشير إلى الإضطرابات التي يشهدها الإقليم، خصوصا ظروف الحرب الأهلية الناشبة في إثيوبيا، وجموع اللاجئين الذين يلوذون بالسودان هربا من القتال، ويعتبر بعضهم السودان منصّة للعبور إلى أوروبا. بدا تصريح ذلك المسؤول مثيراً لقلق الدوائر الأوروبية والأميركية، وبعضهم يراه تهديداً مباشراً، يرتبط بتداعيات الصراع بين المكوّنين، المدني والعسكري، في السودان، واحتمالات حجب المساعدات عن بلادٍ وقع فيها انقلاب عسكري يقصي المدنيين من مشهد المسيرة القاصدة نحو تحقيق حكم ديمقراطي في بلادٍ تخلصت من ديكتاتورية عسكرية، جثمت على صدور السودانيين ثلاثين عاما. علق مسؤول أميركي سابق قي إدارة الرئيس الديمقراطي السابق أوباما: أنّ "هذا سلوكٌ مريبٌ من مسؤول عسكري سوداني يقوم بتهديد دول الاتحاد الأوروبي بفتح الحدود أمام موجات المهاجرين نحو أوروبا، إذا لم يتم استئناف الدعم والمساعدات الاقتصادية الأوروبية المعتادة".
حتى لو افترضنا حسن النيّة، فإنّ ذلك التصريح افتقر إلى الدبلوماسية التي تطرح فيها مثل وجهات النظر تلك، في غرفٍ مغلقة ، ويتم التداولُ حولها بعيداً عن الإعلام المفتوح.
(3)
لم يهدأ الارتباك الذي أثارته تصريحات حميدتي، الرّجل الثاني في مجلس السّيادة الذي يرأسه الجنرال البرهان، فإذا البرهان نفسه يطلق تصريحات أشدّ سخونة من شبيهاتها، في لقاء مفتوح هدّد فيه سـفراء أجانب بأنّ إجراءات ستتخذ ضد كلِّ من يحرّض التظاهر ضد الجيش، بحسبانه نوعا من التدخّل في شأنٍ داخلي للبلاد. تقرأ المادة 41 من اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية الموقعة في 18 إبريل/ نيسان من عام 1961، أنه: "على جميع المتمتعين بالامتيازات والحصانات، مع عدم الإخلال بها، احترام قوانين الدول المعتمدين لديها وأنظمتها، وعليهم كذلك عدم التدخل في شؤونها الداخلية". .. ومن دون أن نقتحم جدلا متواصلاً بشأن مفهوم التدخّل في الشؤون الداخلية الذي قد تجاوزته بعض مقرّرات اتفاقياتٍ لاحقة، مثل اتفاقيات حقوق الإنسان والمحكمة الجنائية الدولية وغيرها، لكن يظلّ تناول رأس الدولة في أيّ بلدٍ ما يراه تدخلا في شأن من شؤون بلاده، أمراً ينبغي تركه للأجهزة التنفيذية، خصوصا الدبلوماسية، في بلاده للبتّ فيه، بتقييم يلتزم بالحصافة وبالتقدير المناسب لمبدأ المعاملة بالمثل، وهو مبدأ راسخ في مجال العلاقات الدولية.
لكن ليس من المناسب أن يخوض رأس الدولة بتهديده نفـرا من السّفراء الأجانب المعتمدين في بلاده، بما قد يُحسب استباقاً لذلك التقييم المطلوب، فإنْ تمّ اتخاذ إجراء عقابي على أولئك السفراء من رأس الدولة، سيصعب بعدها أن تتراجع عنه أجهزة الدولة التي تليه في المسؤولية.
(4)
ثالثة الأثافي اتفاق أقدم على توقيعه مع دولة شقيقة، حاكم ولاية دارفور في غرب السودان، وهو مسؤول جاءت به اتفاقية السلام التي جرى التفاوض حولها، والتوقيع عليها، في عاصمة دولة جنوب السودان، بين حكومة الفترة الانتقالية وبعض الحركات المسلحة في إقليم دارفور. أما طبيعة الحكم الفيدرالي واللامركزي، فهي أمر لن يتمّ حسمه بصورة نهائية، إلا بعد التوافق على دستور للبلاد، ينشئ برلمانا يقضي بالتشريع، ويكوّن حكومة منتخبة تطلع بالتنفيذ. حاكم دارفور في غربي السّودان سبق ذلك كله، وأسرع متجاوزاً صلاحيات المركز، ليوقع اتفاقاً اقتصادياً، قطعاً لا يقع ضمن صلاحياته، بل هو من صلاحيات السلطة الاتحادية. أما لو فسّر ذلك الحاكم، أنّ اتفاق "سلام جوبا" الذي وقع العام الماضي يمنحه صلاحية تحقيق السلام في دارفور، فتلك الخطوة التي أقدم عليها بتوقيع اتفاق مع طرفٍ في دولة الإمارات تمهّد بصريح التصرّفات القانونية، لانفصال كامل لإقليم دارفور عن الوطن الأمّ، حتى قبل إقرار دستورٍ تجيزه الأجهزة التشريعية المنتخبة في السودان.
(5)
في نظرة أولى إلى هذا الارتباك الواقع في ملف علاقات السودان الخارجية، فإنّ أكثر المراقبين يرونه وجهاً من وجوه الخلاف، ثمّ الصراع المتصاعد الذي أسفر عن انقلاب عسكري، جعل الصّورة التي عليها السّودان الآن في حالِ من الضبابية والاضطراب. لو كان الإعلان السياسي الذي وقّعهُ مع الجنرالات، رئيس الوزراء، حمدوك الذي ظنّ نفسه يمثل المكوّن المدنيّ، فإنّ تصاعد وتيرة التظاهرات والاحتجاجات على الانقلاب العسكري الذي قاده الجنرالات لا ينبئ عن خاتمةٍ تُرضي الشارع السوداني. التجارب التاريخية السابقة على مدى العقود الستة الماضية، وإنْ أثبتت قدرة السودانيين على تحقيق اختياراتهم بهمّة عالية وإصرار مكين، دلت على أن المجتمع الدّولي يظلّ عاملاً مهماً، إنْ لم يكن حاسماً، لتحقيق تطلعات الشعب في السودان.
///////////////////