بشير عباس.. وثلة من الآخرين !!

 


 

 

كانت المناسبة زيارة عابرة للموسيقار بشير عباس لمدينة خليجية.. جعلتنا نسترجع دنيا النغم؛ فقد تضافرت عدة عوامل لنضوب جداول الألحان السودانية بالرحيل الأبدي أو الهجرة القسرية أو (اغتراب الضرورة) أو طول التجاهل والظروف المعاكسة و(الغربة البطّالة)..مما اندثرت معه (ساقية الألحان) وتعطّلت قواديسها..!! فقد نشطت رياح الرحيل والفقد وانقضت الأيام الخوالي إلا من بعض الاتكاءات والاجتهادات المتفاوتة: رحلت ثلة مباركة بعد سرور وكرومة؛ برعي محمد دفع الله وعبد الرحمن الريح ومحمد آدم أدهم وعلاء الدين حمزة و(حمزة علاء الدين.. النوبي الجميل) وخليل أحمد، وأحمد زاهر، وجمعة جابر، وعلي ميرغني، وعلي مكي، وأحمد المبارك، وحسن بابكر، والسني الضوي، وموسى محمد إبراهيم، والطاهر إبراهيم، وعوض جبريل، وسليمان أبو داؤود، وناجي القدسي، والفاتح كسلاوي، وإدريس الأمير، وإبراهيم موسى أبّا، وبدرالدين عجاج، وأسماء حمزة، وبابا فزاري..وآخرين.. وتوقفت بعض المزامير بعد اجتهادات لاحقة قام بها فتحي المك بتلحين أغانٍ من شاكلة (تحرمني منك) و(حلوة الصدفة البيك جمعتنا) و(أرخي الرمش فوق الرمش)..! وعندما كان عمر الشاعر يوظف إيقاع "الفرنقيبا" في (أسير حسنك يا غالي)...! ويبدو أن الأغنية السودانية تعاني حالياً من نضوب في الألحان لا تكاد تخطئه العين ولا الأذن...!
كان في المدرسة الوترية مطربون عمالقة يجيدون التلحين منهم؛ إبراهيم الكاشف وعبد الحميد يوسف ومحمد وردي وعثمان حسين وأحمد المصطفى وصلاح ابن البادية وسيد خليفة والعاقب محمد حسن ...ومصطفى سيد أحمد..على سبيل المثال..ويبقى محمد الأمين من طبقة الموسيقيين الذين لا يُشق لهم غبار ولا تدرك خيولهم الأتان.. وترابط ثلة أخرى تقاوم الإعياء وعسر الإلهام والتحفيز، وكان من بين بعض مظاليم الهوى هؤلاء: عبد اللطيف خضر (ودالحاوي) ومحمد سراج وصلاح مصطفى ويوسف الموصلي وشرحبيل أحمد وعبد الفتاح الله جابو وعمر الشاعر والنور الجيلاني والماحي سليمان وأحمد المك وآخرين..هل نسينا آخرين..؟ (نعم قطع شك)..!
بعضنا حاول أن يسترجع مع بشير عباس الألحان البديعة التي صدحت بها "البلابل" أو تلاعبت بها حنجرة أبو داؤود في أغنيته العجيبة التي كتبها عبدالله نجيب:
أشوفك في عيني ربيع الجنة داني
لو تسال حنيني او تلمس حناني.
ايه بينك وبيني..غير أنبل معااااني..!
وبعضنا حاول استرجاع اللحن الجميل الذي وضعه لأغنية الكابلي "طائر الهوى" للحسين الحسن:
طائر الهوى جناحه ماله؟
راشه النوى..؟ أم الجوى غاله..؟
مسكيييييين....طائر الهوى!
لك أن تسمع عزف بشير عباس وأنفاس الصفير بالفم في المقطوعات والأغاني من نوع: و"سمير الروح قلبي سميرو" و"من أريج نسمات الشمال" و"حاول يخفي نفسو" و"ما هو عارف قدمو المفارق" و"حجبوك من عيني ليه ياترى؟" و"المقرن في الصباح" و"لاقيتو باسم" و"بطرا اللي آمال وغاية" و"القمر في كنانة"...الخ ولك أن تتوقف عند تلحينه لأغنية حسن عطية التي كتبها السر دوليب:
حبو زي النيل..جاري في وجداني
في الملامح عربي.. وفي الجمال سوداني..!
.أو "يا سهارى" لمحمد حسنين..أو"الشال قلبي وسلا" للثنائي الكردفاني..إلخ ما كان أجدر أن يُفرَّغ بشير عباس للتلحين والتأليف والأداء الموسيقي، وأن ينشأ مركز للموسيقى وفنونها الأدائية..باسمه أو باسم أستاذه "برعي محمد دفع الله" الهرم الأكبر في عالم الألحان..؟ والسؤال هو: هل من الممكن تعليم وتعلّم الألحان والتأليف الموسيقي..؟ أم هي من غوامض الإلهام وعلى نهج (وأوحى ربك إلى النحل..)..؟!
أحمد شوقي قال في تحيته لجماعة شعراء(أبولو): (رياحين الرياض يُملُّ منها...وريحان القرائح لا يُملُّ)..! فماذا لو كانت دولتنا منحت المبدعين تفرغاً كما تفعل الدول والمجتمعات النابهة مع مبدعيها حتى لا تدهسهم أعباء الحياة وتموت فيه جذوة الإبداع...! ويقول نجيب محفوظ في حوار مع رجاء النقاش (أنا عملت موظفاً سبعة وثلاثين عاماً..أنا صنعت نفسي وأدبي كله من (نِشارة الحياة)..!! وهو يقصد من بعض "فتافيت الوقت" تشبيهاً لها بما يتساقط من نجارة الخشب...! ما بالنا لو كنا منحنا بشير عباس كل الوقت ليتفرغ لإبداعه..؟! ولكننا لم نفعل مثلما كان حالنا مع مبدعين ملء العين مثل عبد الرحمن الريح الذي لم نرحمه من كسب العيش الشاق و(معافرة الجلود) مما اضطره إلى مفارقة مرتع إبداعه في (حي العرب) ليموت منسياً في حارات أم درمان القصيّة !

murtadamore@yahoo.com
/////////////////////

 

آراء