دلالات ومعاني في يوميات أول أمريكي زار السودان (1821م) (9): سقوط سنار: مناظر الفصل الأخير

 


 

 

بعد استسلام سلطان سنار- كما بيّنا في مقال سابق – سجّل (انجلش) مناظر الفصل الأخير من دراما سقوط الدولة، واسدال الستار على حقبة من تاريخ السودان امتدت في الماضي إلى ما يزيد عن الثلاثمائة عام.
وقد تمثلت وقائع الفصل الأخير من تلك الدراما التاريخية في عدد من المناظر هي:
المنظر الأول:
يدور حول مراسيم انتقال السلطة من يدي ابناء الوطن إلى القوى الاجنبية الممثلة في شخص اسماعيل باشا قائد حملة الغزو...يقول (انجلش) في هذا الصدد: ( في اليوم التالي لوصولنا مدينة سنار تمت تحرير وختم شروط استلام سلطان سنار لسلطة الباشا. وبموجب هذه الشروط يسلم السلطان بلاده لنفوذ وزير الباب العالي (محمد علي باشا). وفي اليوم الثالث، غادر احد كبار رجال محمد علي الخصوصيين سنار على ظهر مركب الباشا إلى القاهرة حاملا وثائق الاستسلام.)
المنظر الثاني يصور حالة صاحب السلطة المفقودة بما فيها من المهانة والخضوع بل والمشاركة بالنصح والرأي والاشارة في تثبيت دعائم سلطة الغزو التي عزلته
يقول (انجليش) مسجلا موقف السلطان المتواطئ مع سلطة المحتل: ( اعترف انني قد صدمت وشعرت بالاشمئزاز من تصرف الباشا بشنق اثنين من زعماء القبائل الذين اعلنوا تمردهم على السلطة الجديدة، خاصة وقد كان قد ابدى لمسات انسانية إبان مروره بالمناطق الشمالية من البلاد مما كان سببا رئيساً في استسلامها له.. لقد شعرت تجاه هذا الفعل بنفور عظيم، ولكن – وعلى كل حال – فقد تصرف الباشا وفق نصيحة السلطان ذاته.)
ثم صوّر (انجليش) طبيعة التواطؤ في مستواه الأدنى (أي بين طبقة العامة) فضرب له مثلا حين قال: ( بعد وصولنا بأيام قليلة إلى سنار، نقل احد العبيد للباشا أن السلطان القى قبل مجيئنا بعض المدافع في النهر. فأمر الباشا بالبحث عنها وقد عثر الغواصون على اربعة مدافع من الحديد الصلب تم سحبها إلى الشاطئ. وهي كما بدت لي مدافع سفن حربية تقليدية اظن انه قد تم الحصول عليها بواسطة الاحباش كغنيمة من القوات البرتغالية ابان توغل البرتغال في منطقة البحر الأحمر، ثم انتقلت هذه المدافع – كما قال الناس - الى احد سلاطين سنار بعد الحرب التي وقعت بين البلدين.)..والتواطؤالمشار اليه في هذه الفقرة سلوك قديم يمارسه الطامعون في فتات السلطة تزلفا وطمعا وضعة ونفاقا ،فانطر حولك يا رعاك الله وتمحن.
المنظر الثالث:
يسجّل آخر مراحل المقاومة للجيش الغازي والتي تمثلت في صورتين فريدتين، الأولى منهما تتناول عصيان بعض زعماء القبائل في المنطقة المحيطة بسنار، وتتحدث عن شراسة مقاومتهم لسلطة الباشا وما انتهت اليه تلك المقاومة من مأساة أليمة. يقول (انجلش): ( أمر الباشا بشنق اثنين من المقبوض عليهم من زعماء القبائل المتمردين في ساحة السوق بسنار. فقابلا الموت بثبات نادر، إذ لم ينطق الأول إلا بالشهادة " اشهد ألا إله إلا الله وأن محمدأ رسول الله." وأخذ يرددها حتى وقوفه تحت حبل المشنقة. أما الآخر، فقد أخذ يسب ويلعن ويحقر شانقيه بقوله "أيها اللصوص والقتلة" وظل يرددها إلى آخر رمق ثم بصق في وجوههم قبل ان يسكت إلى الأبد.)
وأما الصورة الثانية للمقاومة فقد كان اشبه بالمقاومة السلمية في زماننا هذا حيث روى (انجلش) احدى مشاهداته الدرامية في سوق المدينة فقال: (..في مكان آخر من السوق انخرط ثلاثون أو أربعون جنديا في ضرب وجر بعض العصاة والمتمردين على السلطة الجديدة بمطارق ثقيلة على ظهورهم لأنهم تجرأوا بالدعوة عن الدفاع عن بلادهم وحريتهم. وعلى بعد من هذا المشهد ، وقفت نساء من اهل البلد يتصايحن احتجاجاً على هذا العمل المميت قائلات: "لا يجوز الموت هكذا إلا لمن يكفرون بالله".)
.. قمع بالضرب والسحل.. وأصوات تنادي بالدفاع عن الوطن والحرية.. وكنداكات يتظاهرن بالكلمة الناجزة في وجوه الجنود.
هكذا كان الفصل الأخير من سقوط دولة سنار كما صوره (انجليش) بمناظره الثلاثة.. لكن ( إنجلش) لم يعش ليري بعينيه كيف ان جذوة النضال لاتموت ، فقد بعثها الامام المهدي بعد ستة عقود من الاستسلام واسقط بها دولة اسماعيل.
فسبحان الله الذي جعل الأيام دول و ( دول.)

( انتهت)

 

aha1975@live.com
//////////////////////////

 

آراء