من الكاذب: الطيّب صالح أم صاحب الغرضِ؟

 


 

 

(1)

أُعجَب كاتب هذه المقالة تناول معن البياري في مقاله [عندما "كذب" الطيب صالح]، في صحيفة العربي الجديد (19/4/ 2022) منشوراً للأستاذة الجامعية المصرية، سيزا قاسم، تتهم فيه الطيّب صالح بالكذب بشأن جائزة القاهرة للإبداع الروائي في دورة عام 2003. والجائزة ينظمها المجلس الأعلى للثقافة في مصر، وقد ضمّت لجنتها في دورة ذلك العام نقاداً وروائيين وأكاديميين عرباً معروفين. وقد نظرتْ وقرّرتْ، بعد التداول، إعلان منح الجائزة للروائي المصري صنع الله إبراهيم، الذي أثار حينها ضجّة كبرى برفضه تلك الجائزة، وهاجم حكومة بلاده من منصّة الحفل، مُعدّداً مساوئ لها. وكانت سيزا قاسم عضواً في تلك اللجنة، وبعد صمتٍ عمرُه 19 عاماً، قررتْ، في عام 2022، أن تعلن للملأ أنّ رئيس اللجنة الرّوائي الرّاحل الطيب صالح "كذّب" بإعلانه أن منح الجائزة في 2003 لصنع الله كان بإجماع أعضاء اللجنة، وزعمتْ أنها لم تكن موافقة.

(2)

عرفتُ الطيب صالح وعرفتُ كتاباته كلها. وعرفت يقيناً، فوق ذلك كله وبعده، أنّ قلماً مثل قلمه ليس من السهل أن يُتّهم صاحبه بالكذب، غير أنّي لست مشايعاً غضبة بعض السودانيين في مواقع التواصل الاجتماعي، ممّن قلبوا ظهور المجن للناقدة سيزا قاسم، وألحقوا باسمها نعوتاً قاسية. قلت لنفسي لن أكون ممّن عناهم دريد بن الصّمة، إذ قال:

وما أنا إلا مِن غزيّة إنْ غوتْ/ غويتُ وإنْ ترشد غُزيّة أرشدُ

كلا.. لست هنا لأدافع عن الرّاحل الطيب صالح.

(3)

أوّل ملاحظاتي تتصل بالمعايير الأخلاقية التي ينبغي أن تعصم ألسنتنا عن التناول السلبي لمن رحل عن دنيانا، وهو هنا رئيس تلك اللجنة، خصوصاً أنّ الأمر لا يتصل بنقدٍ أو اختلافٍ في رأي، بل فيه قدحٌ بيّن في سلوك أحد رموز الرواية العربية، وبما يشبه الطعن في نزاهته وصدقيته. ليتَ ما جاء من سيزا قاسم رأي نقدي أو تحليل لأيٍّ من أعمال الطيب صالح، بمثلما فعلت في معالجتها الأكاديمية المطوّلة لثلاثية نجيب محفوظ. لكن ما جاء منها في عام 2022 اتهامٌ موجّه إلى ذمّة رجل رحل عن دنيانا عام 2009، وذلك طعنٌ في ذمة غائبٍ لا يملك أن يردّ.

(4)

ثاني الملاحظات ما يتصل بنظام الجوائز الأدبية، وما يُتّبع فيها من تقاليد وأعراف تضبط أسلوب التقييم الموضوعي والمعايير المعتمدة لتحديد الأحقّ بنيل الجائزة. مِن الطبيعي أن يُحاط التداول في عمل تلك اللجان بسرّية عالية، وألا يُسمح بتسريب المخرجات إلى أيّ جهة. والمتبع في هذه الجوائز الأدبية، مثل جائزة القاهرة للإبداع الروائي، والتي ترعاها وزارة الثقافة المصرية، ألا تتدخّل الجهة الرّاعية في أعمال اللجنة التي كلفتْ بتحديد الفائز. أما محاضر مداولات اللجنة فيفترض أن تبقى في أضابيرها السرّية. وبعض أعضاء تلك اللجنة التي حدّدت الفائز في عام 2003 على قيد الحياة، وتُلزمهم أخلاقيات النزاهة بالحفاظ على سرّية عملهم. ولكن سيزا قاسم قرّرتْ، في تصريحها، غير المبرّر في تقدير كاتب هذا المقال، أن تكسر سرّية عمل لجنة تلك الجائزة. وبغض النظر عن محتوى ما صدر عنها، فإنها أهدرتْ معياراً مهمّاً يتصل بعمل اللجنة في مداولاتها لتقييم استحقاق الجائزة، والتي يفترض بداهة أن تبقى في سرّيتها ومحفوظة لدى الجهة الرسمية الرّاعية. على كثرة ما تابعنا من جوائز عالمية أو إقليمية، لم نرصد سابقة إفشاء مداولات تقييم استحقاق جائزة، على النحو الذي جاء من سيزا قاسم، وبقي عليها أن تُعلمنا أية مادة في لائحة عمل لجنة الجائزة منحتها ذلك الحق.

(5)

ثالث الملاحظات تتصل بمصطلح "الإجماع"، وهو توافق الجميع على رأي أو موقف واحد. ومن دون الخوض في تعريفاته، فإنّ علم الأصول عند العرب يحدّث عن "إجماع سكوتي"، وهو مصطلحٌ يعني لغةً قول بعضهم بالموافقة وسكوت الباقين عن عدم رضا، فلا تثريب إن اعتمدنا المقصود في التصريح النهائي المعلن، كون اللجنة المكلفة بتحديد الفائز من بين المتنافسين لنيل جائزة القاهرة للإبداع الروائي أعلنت فوز صنع الله إبراهيم بالإجماع، فإنّ من لم يوافق من بين أعضاء اللجنة وآثر السكوت الأرجح أنْ لا يقدح ذلك في صحَّة ثبوت الإجماع، إلا أن يفصح، في حينه، صاحب الرأي المعارض. أما من صمت ولم يفصح إلا بعد 19 عاماً فذلك لن يقدح في الإجماع المعلن.

ولربّما كان على اللجنة المنظّمة أو الجهة الراعية أن تصدر تنبيهاً إلى أمرين: تقادم الصّمت بما يرجّح وجود نيّة لغرضٍ شخصيٍّ غير معلوم، عند من أفصح برأيٍ معارضٍ بعد مضي كلّ هذه السنوات. وأنّ صاحب الرأي إن قصد التعبير عن معارضته منح الجائزة لزيدٍ وليس لعبيدٍ من المتنافسين، وبعد مضي كلّ هذه السنوات، فيكون بذلك قد أفشى جانباً من عمل اللجنة ليس من حقه إفشاؤه. وفي طرح ما يتصل بمداولات اللجنة للصحافة إخلال جسيم بمعيار سرّية عمل اللجنة.

(6)

خلاصة الأمر أن تخرج الجهة الرسمية المنظّمة لحسم هذا الجدل، وتحدّثنا عمّن كذب وعمّن أفشى مداولات لم يكن يملك صلاحية نشرها على الملأ. على المجلس الأعلى للثقافة في مصر، وهو هنا الكيان الرّسمي المقصود، أنْ يدلي برأيٍ قاطع، حتى لا يُظن أنّ الجوائز في الإبداع العربي تُمنح بطرقٍ عشوائية، ولا تحكمها معايير موضوعية، أو تتحكّم فيها أمزجة وأهواء. لم تطعن سيزا قاسم في نزاهة روائي راحل اسمه الطيب صالح، كان رئيساً للجنة منح جائزة القاهرة للإبداع الروائي قبل 19 عاماً، ولكنها طعنتْ في نزاهة اللجنة والجهة الراعية لتلك الجائزة.

 

آراء