جيشٌ وجنرالات …افتراضيان !!
عز الدين صغيرون
25 July, 2022
25 July, 2022
لم يعد أحد من المشاركين في مهزلة تفكيك الدولة يستحي أو يحاول إخفاء خيانته وتآمره، أو يبالي بقيم الشرف والكرامة واحترام الذات، منذ أن دق قادة الانقلاب وشيعتهم دفوف الرقص على جثة الوطن، وخاصرهم الرقص كل ماجن مخلوع العذار.
وأصبحنا نشاهد كل يوم مقاطع على الوسائط عروضاً عسكرية هزيلة لمليشيات تؤدي التحية لقيادات قبلية، يرتدي أفرادها أزياء عسكرية ملفقة كيفما اتفق، وتنوء أكتاف ضباطها بعلامات رتب عسكرية (من العيار الثقيل)، لم يتقنوا بعد أبجديات الطابور العسكري وأداء التحية العسكرية.
(2)
مشهد هزلي/ غرائبي لا تتاح لك مشاهدته في أتفه دولة في العالم، يحدث الآن في سودان القرن الحادي والعشرين. وتسأل نفسك وأنت في غمرة ذهولك: هل يوجد في هذا البلد جيش وجهاز امن وشرطة، أم تم تسريحهم وورث الأهالي والعمد والمشايخ ملابسهم وأسلحتهم يوزعونها على أتباعهم؟!.
وإذن ما هي الوظيفة التي يشغلها البرهان وحميدتي وكباشي وياسر عطا و(مين كدا جابر) وبقية العقد الفريد من الذين يحملون رتب جنرالات ؟.
في أي جيش هم جنرالات ؟.
أم أنهم جنرالات افتراضيين، في جيش افتراضي (طالما يوجد عالم افتراضي) ؟.
* الافتراض الأخير – أي، باعتبارهم جنرالات افتراضيون في جيش افتراضي – فيما هو واضح، يرجحه – بل يؤكده – الاقتتال القبلي الدموي الطاحن، الذي تجاوز جنوبي دارفور وكردفان، ولم تعودا وحدهما مسرح عروضه، بل أخذت دوائر عنفه في التوسع والتمدد، ليشمل شرق السودان والنيل الأزرق، في غياب كامل وتام لما يشير إلى أن في هذا البلد جيش وأجهزة أمن وشرطة.
وهذا يعني (وليكن هذا واضحاً للجميع) غياب الدولة.
(3)
لم يعد السودان دولة.
لقد صار بعد الانقلاب نصف دولة أو "شِبه" دولة بسبب موت الجسد السياسي.
لا وجود فيه لسلطة تشريعية، ولا وجود سلطة تنفيذية، ولا وجود سلطة قضائية وعدلية مستقلة، فقط يوجد جيش وأجهزة أمنية وشرطية، يسيطر عليها عدد لا يتجاوز أصابع اليدين من الجنرالات، ووجود هؤلاء مهما قويت شوكتهم وتمددت سلطتهم، لا يجعل من السودان دولة تستحق هذه الصفة، بمفهومها الحديث.
وكان، وظل، حراك الشارع العنيد هو كل ما تبقى من مظاهر الدولة.
هناك شعب في هذه المساحة من الأرض توحدت إرادته حول مطالب سياسية.
عدا ذلك لا مؤسسات تشير إلى أن في هذه المساحة دولة.
لقد تم اختطاف الدولة، بجيشٍ، هو ذاته مختطف من بضع جنرالات.
أما وقد تناسلت الجيوش تحت سلطة القيادات القبلية وبعض الطفيليين، وانتشرت المليشيات، والعصابات المسلحة في كل أنحاء البلاد، في غياب تام لجيش الدولة وأجهزتها الأمنية. لم ينتفي وجود الدولة فقط. بل انتفى أيضاً وجود الجيش الذي كان يسيطر ويحكم، وصار جيشاً افتراضياً.
(4)
ونأتي الآن للسؤال الذي لم يعد من طرحه بُدٌّ:
- من المسؤول عن هذا الوضع ؟ ولماذا؟.
الإجابة على هذا السؤال تبدو في وضوح الشمس، سهلة وبديهية، لا تحتاج لذكاء استثنائي أو تفكير عميق.
إنهم الثلاثي الذي تحركه غريزتي الخوف والطمع:
البرهان ومعه جنرالات لجنة البشير الأمنية، وحميدتي، وفلول النظام الإسلاموي البائد.
هؤلاء الثلاثة لن يدخروا وسعاً لإجهاض الثورة، حتى لو تطلَّب ذلك التضحية بالدولة، وأدى ذلك إلى تفكيكها ومحوها من خارطة الدول، وإبادة شعبها حرصاً على ما نهبوه من موارد ومقدرات البلاد وطمعاً في المزيد من السرقة والنهب. وخوفاً من الحساب على ما ارتكبوه من جرائم كبرى في حق الشعب.
هذا هو الرابط الذي يجعلهم يبدون في تحالفهم "المؤقت" هذا، كما لو كانوا كتلة واحدة متجانسة متماسكة، وعلى قلب رجل واحد، بينما هم في الواقع نقيض ذلك تماماً، "تحسبهم جميعاً وقوبهم شتى" (الحشر:14).
وبالتالي، فإن ما نشهده الآن من سيولة أمنية وصلت إلى حد أن يصبح لكل زعيم عصابة مناطق نفوذه حتى داخل عاصمة البلاد، ولكل عمدة أو زعيم قبيلة جيشه الخاص يحمل ضباطه الرتب العسكرية العليا، يقوم بحشدهم ومخاطبتهم، وتذاع مشاهد احتفالاته وخطبه على منصات التواصل عياناً بياناً، وكل واحد من هؤلاء الأهالي يخاطب جيشه مشيداً بحفظهم على "أمن البلاد" وتضحياتهم الغالية. ولا تعرف عن أي بلاد يتحدث، وعن أمن مَن، ومِن مَن يزود ويدافع عنه، ولا عن أي أعداء يتحدث !!.
(5)
هذه المسرحيات الهزيلة وهذه العروض الساذجة يعدها ويخرجها الثلاثي غير المرح الذي أشرنا إليه، وهو يفعل هذا بتخطيط، يهدف إلى وضع البلاد على حافة الهاوية، ليشرعن لانقلابه الأخير بذريعة إنقاذ البلاد وحسم الفوضى. وقد نجح حتى الآن في تحريك الدمى اللازمة لإحداث الفوضى وإرباك المشهد.
ولمَّا لم يكن للناس ذاكرة سمك، فإن مسلسل تنفيذ "الانقلاب الأخير" (1)، الذي كانت لجان المقاومة وقوى الثورة الحية (صاحية له) لذا كانت تحبطه عبر كل مراحل المحاولات السابقة، بدءً بمجزرة فض الاعتصام أمام أبواب القيادة العامة (2019)، وانتهاءٍ بانقلاب 25 أكتوبر (2022) ظلت حلقاته حاضرة، في ذاكرة الثوار.
فهل سينجح هذه المرة عبر الفوضى التي بلغت أعلى مستوياتها غير المسبوقة في تاريخ الدول ؟.
كلمة أخيرة:
قرأت بأن قوات الدعم السريع ذهبت لضبط الأوضاع في ولاية النيل الأزرق. فإذا صح الخبر تكون "افتراضية" الجيش وجنرالاته قد تأكدت بصورة نهائية.
في وقت الذي يرفع فيه الثوار شعار : الجيش للثكنات والجنجويد يتحل !!.
أخشى أن يكون الجيش هو الذي تم حله.
هوامش
(1) راجع تفاصيل الفكرة في المقالات التالي على موقع صحيفة سودانايل الرقمي:
- البرهان فقد السيطرة على نفسه وأصبح أكبر مهددات الوطن
16 يوليو, 2022
- أي شيطان يوحي لهؤلاء الأحزاب مواقفهم ؟!!
14 يوليو, 2022
- أمام بوابة متحف التاريخ: الانقلاب الأخير ؟ أم انتهاء صلاحية الأحزاب ؟!.
11 يوليو, 2022
- الانقلاب الثالث والأخير !!
10 يوليو, 2022
izzeddin9@gmail.com
/////////////////////////////
وأصبحنا نشاهد كل يوم مقاطع على الوسائط عروضاً عسكرية هزيلة لمليشيات تؤدي التحية لقيادات قبلية، يرتدي أفرادها أزياء عسكرية ملفقة كيفما اتفق، وتنوء أكتاف ضباطها بعلامات رتب عسكرية (من العيار الثقيل)، لم يتقنوا بعد أبجديات الطابور العسكري وأداء التحية العسكرية.
(2)
مشهد هزلي/ غرائبي لا تتاح لك مشاهدته في أتفه دولة في العالم، يحدث الآن في سودان القرن الحادي والعشرين. وتسأل نفسك وأنت في غمرة ذهولك: هل يوجد في هذا البلد جيش وجهاز امن وشرطة، أم تم تسريحهم وورث الأهالي والعمد والمشايخ ملابسهم وأسلحتهم يوزعونها على أتباعهم؟!.
وإذن ما هي الوظيفة التي يشغلها البرهان وحميدتي وكباشي وياسر عطا و(مين كدا جابر) وبقية العقد الفريد من الذين يحملون رتب جنرالات ؟.
في أي جيش هم جنرالات ؟.
أم أنهم جنرالات افتراضيين، في جيش افتراضي (طالما يوجد عالم افتراضي) ؟.
* الافتراض الأخير – أي، باعتبارهم جنرالات افتراضيون في جيش افتراضي – فيما هو واضح، يرجحه – بل يؤكده – الاقتتال القبلي الدموي الطاحن، الذي تجاوز جنوبي دارفور وكردفان، ولم تعودا وحدهما مسرح عروضه، بل أخذت دوائر عنفه في التوسع والتمدد، ليشمل شرق السودان والنيل الأزرق، في غياب كامل وتام لما يشير إلى أن في هذا البلد جيش وأجهزة أمن وشرطة.
وهذا يعني (وليكن هذا واضحاً للجميع) غياب الدولة.
(3)
لم يعد السودان دولة.
لقد صار بعد الانقلاب نصف دولة أو "شِبه" دولة بسبب موت الجسد السياسي.
لا وجود فيه لسلطة تشريعية، ولا وجود سلطة تنفيذية، ولا وجود سلطة قضائية وعدلية مستقلة، فقط يوجد جيش وأجهزة أمنية وشرطية، يسيطر عليها عدد لا يتجاوز أصابع اليدين من الجنرالات، ووجود هؤلاء مهما قويت شوكتهم وتمددت سلطتهم، لا يجعل من السودان دولة تستحق هذه الصفة، بمفهومها الحديث.
وكان، وظل، حراك الشارع العنيد هو كل ما تبقى من مظاهر الدولة.
هناك شعب في هذه المساحة من الأرض توحدت إرادته حول مطالب سياسية.
عدا ذلك لا مؤسسات تشير إلى أن في هذه المساحة دولة.
لقد تم اختطاف الدولة، بجيشٍ، هو ذاته مختطف من بضع جنرالات.
أما وقد تناسلت الجيوش تحت سلطة القيادات القبلية وبعض الطفيليين، وانتشرت المليشيات، والعصابات المسلحة في كل أنحاء البلاد، في غياب تام لجيش الدولة وأجهزتها الأمنية. لم ينتفي وجود الدولة فقط. بل انتفى أيضاً وجود الجيش الذي كان يسيطر ويحكم، وصار جيشاً افتراضياً.
(4)
ونأتي الآن للسؤال الذي لم يعد من طرحه بُدٌّ:
- من المسؤول عن هذا الوضع ؟ ولماذا؟.
الإجابة على هذا السؤال تبدو في وضوح الشمس، سهلة وبديهية، لا تحتاج لذكاء استثنائي أو تفكير عميق.
إنهم الثلاثي الذي تحركه غريزتي الخوف والطمع:
البرهان ومعه جنرالات لجنة البشير الأمنية، وحميدتي، وفلول النظام الإسلاموي البائد.
هؤلاء الثلاثة لن يدخروا وسعاً لإجهاض الثورة، حتى لو تطلَّب ذلك التضحية بالدولة، وأدى ذلك إلى تفكيكها ومحوها من خارطة الدول، وإبادة شعبها حرصاً على ما نهبوه من موارد ومقدرات البلاد وطمعاً في المزيد من السرقة والنهب. وخوفاً من الحساب على ما ارتكبوه من جرائم كبرى في حق الشعب.
هذا هو الرابط الذي يجعلهم يبدون في تحالفهم "المؤقت" هذا، كما لو كانوا كتلة واحدة متجانسة متماسكة، وعلى قلب رجل واحد، بينما هم في الواقع نقيض ذلك تماماً، "تحسبهم جميعاً وقوبهم شتى" (الحشر:14).
وبالتالي، فإن ما نشهده الآن من سيولة أمنية وصلت إلى حد أن يصبح لكل زعيم عصابة مناطق نفوذه حتى داخل عاصمة البلاد، ولكل عمدة أو زعيم قبيلة جيشه الخاص يحمل ضباطه الرتب العسكرية العليا، يقوم بحشدهم ومخاطبتهم، وتذاع مشاهد احتفالاته وخطبه على منصات التواصل عياناً بياناً، وكل واحد من هؤلاء الأهالي يخاطب جيشه مشيداً بحفظهم على "أمن البلاد" وتضحياتهم الغالية. ولا تعرف عن أي بلاد يتحدث، وعن أمن مَن، ومِن مَن يزود ويدافع عنه، ولا عن أي أعداء يتحدث !!.
(5)
هذه المسرحيات الهزيلة وهذه العروض الساذجة يعدها ويخرجها الثلاثي غير المرح الذي أشرنا إليه، وهو يفعل هذا بتخطيط، يهدف إلى وضع البلاد على حافة الهاوية، ليشرعن لانقلابه الأخير بذريعة إنقاذ البلاد وحسم الفوضى. وقد نجح حتى الآن في تحريك الدمى اللازمة لإحداث الفوضى وإرباك المشهد.
ولمَّا لم يكن للناس ذاكرة سمك، فإن مسلسل تنفيذ "الانقلاب الأخير" (1)، الذي كانت لجان المقاومة وقوى الثورة الحية (صاحية له) لذا كانت تحبطه عبر كل مراحل المحاولات السابقة، بدءً بمجزرة فض الاعتصام أمام أبواب القيادة العامة (2019)، وانتهاءٍ بانقلاب 25 أكتوبر (2022) ظلت حلقاته حاضرة، في ذاكرة الثوار.
فهل سينجح هذه المرة عبر الفوضى التي بلغت أعلى مستوياتها غير المسبوقة في تاريخ الدول ؟.
كلمة أخيرة:
قرأت بأن قوات الدعم السريع ذهبت لضبط الأوضاع في ولاية النيل الأزرق. فإذا صح الخبر تكون "افتراضية" الجيش وجنرالاته قد تأكدت بصورة نهائية.
في وقت الذي يرفع فيه الثوار شعار : الجيش للثكنات والجنجويد يتحل !!.
أخشى أن يكون الجيش هو الذي تم حله.
هوامش
(1) راجع تفاصيل الفكرة في المقالات التالي على موقع صحيفة سودانايل الرقمي:
- البرهان فقد السيطرة على نفسه وأصبح أكبر مهددات الوطن
16 يوليو, 2022
- أي شيطان يوحي لهؤلاء الأحزاب مواقفهم ؟!!
14 يوليو, 2022
- أمام بوابة متحف التاريخ: الانقلاب الأخير ؟ أم انتهاء صلاحية الأحزاب ؟!.
11 يوليو, 2022
- الانقلاب الثالث والأخير !!
10 يوليو, 2022
izzeddin9@gmail.com
/////////////////////////////