منظومة سنائي الغزنوي وسير نحو الهدف الأعلى
د. الطيب النقر
26 August, 2022
26 August, 2022
بسم الله الرحمن الرحيم
إن النفس البشرية تواقة بطبعها لمعرفة ما يكتنف العالم الآخر من غموض، ذلك العالم الذي إذا كسبه المرء كسب جل ما يتطلع إليه، وإذا خسره خسر ما لا عوض له فيه، نعم إن الناس باختلاف مشاربهم وسحناتهم تغلغلت هذه المسألة في أصولهم وشغلت بالهم وتفكيرهم، ويجدون في سباتهم العميق ليلاً أو نهارا ملتمساً لما يصعب تداركه في اليقظة، فكثيراً ما تسمع ممن شابت ناصيته في العلم، أو الجاهل المطبق الجهالة أن حلماً داهمه عند الكرى ومضى به بعيداً عن عالمنا الذي ضنك عيشه، وكثر طيشه، وأضحى يحكمه ذئاب غاية في الظلم والاستبداد، ويخبرك أن روحه فارقت ذلك الجسد الوثيق الذي تقبع خلفه ومضت تحلق في عوالم موشاه بالحسن، ومرصعة بالدر، ويعكر صفوك بذكر كل شاردة واردة تمثلها في حلمه، فتراه يستفيض في ذكر الملائكة والجنان، ويوجز عند الزبانية والنيران، ويعتريني يقين جازم بأن كل من بسط لسانه بالمعروف أو طوى قلبه بالضغينة شكّل له أمر الموت، والحساب، والانتقال من هذا العالم الفاني إلي عالم سرمدي يوفى فيه أجره هاجساً يؤرق مضجعه ويجعل الذعر والوجل يسري في عروقه، لمعرفة ما هو المصير الذي ينتظره في ذلك العالم، أيزحزح عن النار ويدخل الجنة، أم هي الأخرى التي تصطك من هولها الركب، ويزلزل روعها الأقدام، والنزوع إلي الآخرة ليس قاصراً على شعب دون شعب، أو على عرق دون عرق، فرحلة الروح من أهم السمات المشتركة لكل الأمم والشعوب لأنهم يستمدونها من تراثهم الديني ويجترونها من أدبهم الاجتماعي، “فالمصريون القدماء قد عرفوا هذه الرحلة، ونسج لهم الخيال كثيراً من الرؤى والصور التي تدور حول الجحيم والفردوس، فتصور اوزيريس يزن الأعمال، فيدفع بقلوب الخطاة إلي الوحش الذي يفترسها، ويعطي المحسنين حقول القمح يزرعونها بلا عناء، ولدى الفرس نجد الإنسان ميدان معركة بين اهورا مزدا اله الخير واهريمن ملك الظلمات والعالم السفلى، ونجد القديس الزرادشتى ارتاك فيراز يقص على قومه ما رآه في رحلته إلي العالم الآخر من ألوان العقاب وصنوف النعيم. وفي الأدب اليوناني يذكر هوميروس في الإلياذة عالم الموتى والشياطين ونار الجحيم وأبواب السماء ونعيم الفردوس، أما فرجيل شاعر اللاتين فيذكر في الاينيادة هبوط اينياس إلى العالم السفلى ويصف ما شهده في مدينة الجحيم ((ديس)) من وحوش خرافية وشياطين وأنهار وعواصف، ويسرد أنواع الآثمين كمرتكبي خطايا الجسد والبخلاء والذين حاربوا أولياء نعمتهم، ثم ينتقل إلي أرض خضراء سعيدة، وهي موئل من جرحوا في سبيل أوطانهم ومكان الرهبان من الصادقين”. فضلاً عن الأديان السماوية الثلاث التي جددت دارس العهد من القيم ونشرت البالي من الشيم التي تمنع اختلال التوازن، واضطراب الحياة، فمن تنغمس يداه في منكر نالته شهب النار، ومن لا يقبض يده عن بذل المعروف، أو يصد نفسه عن قعقعة السيوف أسكنه الله أقبية الديباج المخوص بالذهب والنضار، وأجرى تحت رجليه شلالات الأنهار.
والحقيقة التي يجب أن نبسطها هنا أن هذه المنظومة قد حذت حذو العديد من الأعمال الأدبية التي سبقتها في الأدب الفارسي ونجد أن الباحثون الأوربيون في الدراسات الإيرانية “قد اتفقوا على أن رائد هذا الموضوع في ايران هو (ارتاك فيراز نامك) المكتوب بالفارسية الوسطى، أي كتاب القديس فيراز-ارتاك تعني القديس أو المتمسك بأهداب الدين الصحيح- ويرون أنه يمثل الهيكل الأساسي لعدد من الآثار الأدبية التي تنوعت في طريقة تناولها للموضوع، كما في سير العباد لسنائي، ومنطق الطير للعطار، ومصباح الأرواح للكرماني وأخيراً سبعة الأودية لبهاء الله”.
وحتماً هذا الكتاب في مضمونه ومحتواه يذكرنا برائعة دانتي الكوميديا الإلهية، ذلك الكتاب الذي دلق فيه الكثير من المداد، وأنشئت حوله الرسائل والدراسات، ونضحت باسمه الشروح والدراسات، التي أجلت عنه الغموض، وقربته إلى الأذهان، ولكن ما لا يند عن ذهن أو يغيب عن خاطر أن هذا العمل الأدبي رغم ما ناله من شهرة وصيت إلا أن الشعور الذي يخامر قارئه لذلك النص هو الضجر والرتابة بعد ازدراد أسطره وطي قراطيسه. ودانتي الإيطالي الذي ألهمت قريحته الفياضة وعبقريته الفذة رصفائه من الأدباء، وأيقظ مدّ أفكاره الهادر روافد العبقرية التي كانت كالنبت الذابل الذي غاية أمانيه العجاف وابل من قطر يجدد ما ذوي من أوراقه. ولكن الحقيقة التي لا يغالي فيها أحد ونتيجة لدراسات وأبحاث متعددة أن دانتي لم يكن هذا العمل من بنات أفكاره أو بتعبير آخر أن دانتي لم يكن له قصب السبق في الإيتاء بهذا اللون من الأدب، نعم لم يكن دانتي “في عمله العظيم مبتكراً تماماً، وإنما اقتبس خطة كتابه من غيره، وأفاد في جزئيات كثيرة منه من جهود سابقة بعضها شرقي اسلامي، فلقد كتب ارنولد نيلكسون المستشرق الإنجليزي سنة 1943م مقالاً بمجلة الجمعية الملكية بعنوان (رائد فارسي لدانته) يقول فيه:”أن سننائي الغزنوي يحكي في منظومته المسماة (سير العباد إلي الميعاد) مثل دانتي تماماً كيف وجد في الظلمة التي ضل طريقه فيها مرشداً صحبه عبر طرقات الخوف والفزع التي كان عليه أن يقطعها قبل أن يصل إلي غايته. ويضيف: ان من الصعب أن يقرأ الإنسان هذه المنظومة الفارسية دون أن يتذكر بشدة المنظومة الإيطالية، فالتشابه بينهما لا يمكن أن يكون عرضياً، حيث توجد تفصيلات تبعث على الدهشة وحب الاستطلاع، وتدل على أن هناك مصدراً مشتركاً للشاعرين، أو تؤكد الفكرة السائدة من أن دانتي استعان في كتابته لمنظومته بمادة موجودة في الروايات الإسلامية، أيا كانت القنوات التي تم عن طريقها وصول هذه المادة إليه”.
لقد صدق نيكسون في مزاعمه فان العملين يخرجان من مشكاة واحدة، تحتويها الأفئدة، وتضمها الأرواح، مشكاة يتزاحم عشاقها على موردها العذب، ويتسابقون إلي ضيها الملهم، لقد بذر نيلكسون بذور الشك في أحقية تفرد دانتي بهذا العمل، واستقرت تلك البذور في دخائل كل نفس، ومدارج كل حس يطالع رائعة دانتي، رغم أن هذا الشك ليس له ما يبرره، وتقاطرت جهود الأدباء كوكف المطر لإماطة اللثام عن هذه القضية التي اشتد حولها الصيال الأدبي الذي لم يدفع إلا بعد نضال عنيف وجهد وتقصي استمر عبر حقب طوال إلي أن بزغ نجم المستشرقان سنديو الإسباني وشيرولي الإيطالي، الذين بددا الغموض الذي يكتنف هذه القضية، وأزالا مواطن اللبس فيها، فلقد تكفلا بالإجابة “على السؤال الحائر الذي كان يطرحه الباحثون وهو:((من أين لدانتي بالمصادر الإسلامية يطلع عليها ويتأثر بها إذا كان لم يعرف عنه أنه كان يعرف العربية؟ حيث اكتشفا مصدر دانتي في مخطوطة أصلها عربي وموضوعها معراج الرسول صلي الله عليه وسلم ترجمت إلي الإسبانية واللاتينية والفرنسية في أواخر القرن الثالث عشر، أي في حياة دانتي”.
ومن الكتب أو الرسائل التي جاءت على هيئة أو منظومة سير العباد رسالة حي بن يقظان لابن سينا التي جرى فيها على هدي دانتي في الكوميديا الألهية حيث أدخل موضوع الرحلة نحو الهدف الأعلى الذي تبغتيه كل نفس عبر طريق مرشد، الأمر الذي أثرى الملحمة الصوفية الشعرية في الأدب الفارسي، فنجد أن سناء الغزنوي استن بمذهب ابن سينا ولزم غرسه في منظومته، ونحن إذا اردنا أن نفصح عن كنه تلك الرسالة التي تأثر بها سناء الغزنوي في ايجاز لذكرنا أنها رسالة رمزية في مضمونها نظمها ابن سينا على طريقة الصوفية وعنونها وأسماها بعنوان”حي بن يقظان” وموضوعها يدور حول شيخ من أهل البيت المقدس اسمه حي بن يقظان أي حي العقال الذي يوصل إلي الله فلقد أخذ حي بوصية والده يقظان وأضحى يتجول في المدن بعد أن أعطاه والده مفاتيح العلوم كلها، وابن سينا رمى من نسجه لتلك القصة وتنضيده لتلك الرسالة أن يزكي من العقل الذي يلهم صاحبه ويعلي من شأن المنطق والفلسفة.
وبعده بقرن من الزمان يخرج الشاعر الفارسي سننائي الغزنوي(525-1131م) منظومته (سير العباد إلي الميعاد) متخذا نفس الأسلوب الرمزي ذا الطابع الصوفي “يصور فيها الفكرة الفلسفية التي تقول أن الكائنات في حركة دائبة نحو اتجاهين: فهي تجئ من الله، من فيضه على العقل الكلي، ومن العقل الكلي على النفس الكلية، ومن النفس الكلية على الهيولي، وهي الصورة التي ترى الأنفس الجزئية في عالم الأجسام على ظواهر الأشخاص والإجرام، ثم تعود من جديد إليه متحررة من الكثرة صاعدة نحو الوحدة لتلحق بموطنها الأصلي ومصدرها الأول، وهذا الرجوع يتم عن طريق المعرفة، وهذا الهدف الحقيقي من الحكمة والفلسفة إذا عرفنا أن لكل موجود كمالاً، وكمال النفوس في اتصالها بالعقل”.
والبناء الأساسي لتلك المنظومة يقوم على فكرة الهبوط والنزول من الجنان التي خلع الله عليها وضاءة الحسن ورونق الحسن إلي الأرض التي أدخر فيها الخلق عزوجل كل ما يحتاجه ذلك الإنسان الذي أقصاه عن جنته بمقتضى الأمر الإلهي (كن) فنزلت تلك النفس خاشعة الطرف، كاسفة البال، من علياء السماوات الي أرض غائرة ممعنة في الضحالة بناء على قوله تعالى: (اهبطوا منها) بعد ذلك تلقفتها امرأة عجوز قديمة قدم الفلك تعهدت تلك النفس بالعناية وأحاطتها بالرعاية، هذه المرأة في واقع الأمر والدة مشبلة لمواليد ثلاث ولا وعي لها بالشمس ولا بالظل، وقد تفانت في تربية جسد آدم كما تعهدت برعاية كل كائن، ويمضى سناء الغزنوي في منظومته فيقول أن النفس” استقبلت بواسطة هذه المربية-التي يعني بها الأرض- والتي ربتها بحنان وصنعت لها أكسية مختلفة الألوان، اشارة إلي تطور الخلق ابتداء من النفس النباتية، التي يرمز إليها باللون الأخضر، إلي النفس الحيوانية المتصلة بالجسد، وتلك يرمز لها باللونين الأحمر والأبيض، بناء على التحول من دم إلي نطفة إلي علقة إلي عظام كسيت لحما”.
ثم تتوالى أحداث المنظومة التي أدخل فيها سننائي الغزنوي القدر الهائل من التراث الصوفي، وأضحى النواة التي انطلقت منها العديد من قرائح شعراء الفرس الذين أمسوا كِلاً وعيالاً عليه، ولكن من المآخذ على سنائي في منظومته البلبلة في الأفكار، وكثرة التكرار التي توقع القارئ في الحيرة والاضطراب، وتجعله يكاد يجزم أن المنظومة مبعثرة من غير رابط، ومشتتة من غير جامع، الأمر الذي يقلل من قيمة وشأن العمل الأدبي وإلقائه في غياهب النسيان، وهذا هو الواقع الذي آلت إليه تلك المنظومة، فرغم تهافت الباحثون عليها وتسبيحهم بحمدها في مقالاتهم التي سارت في كل صقع وواد إلا أنهم لا يصبرون على مضّ شدائدها، فالمبهمات والرموز التي تعج بها تلك المنظومة تجعل الباحث يستشعر وطأة الجمود وفداحة الثقل فيلقيه عن كاهله في تبرم ويمم شطره تجاه بحث آخر خالي من التعقيد والمعاضلة والالتواء، وهذا ما عناه مؤلفها حينما خلع على قارئها صفة الشاعرية ، ونعت من يفكك طلاسمها، ويحيط بأسرارها بالساحر.
أهم الأفكار الأساسية للمنظومة:
1- سنائى الغزنوى في منظومته “سير العباد إلي الميعاد” طرح فكرة التطور “بكل ما تعنيه صعوبة التكمل والسعي إلي الكمال اللانهائي، فيرى أن الإنسان يمثل قمة الخلق في هذا الكون، فقبل أن يصل إلي الحالة الإنسانية، كان جماداً، ثم صار نباتاً، وبعد ذلك أصبح حيواناً، ليكون في النهاية انساناً مزوداً بالعقل. ويمكنه أيضاً أن يتجاوز المرتبة الإنسانية، ليصير ملكاً، كما يمكنه فوق ذلك أن يعبر المرحلة الملكية..
2- هذا التطور يرسم الغاية لكل الكائنات والمخلوقات، ويحدد النفس الإنسانية هدفها في هذه الحياة، وهو التعرف على الله، ومسيرتها بالرجوع إلي أصلها ومنزلها الأبدي. وفي هذا التوقع يعتبر الكون كله مجرد مرقاة في سلم يصعد به الإنسان نحو ربه، وبعبارة أخرى يعتبر مجالاً لرحلة روحية يقوم بها من عالم التراب إلي أعلى عليين، بحيث يكون ابتداء الرحلة من عالم جسمه نفسه، الذي قد نسميه العالم الصغير، فيتأمله ويمعن النظر في أمشاجه، فيما يشبه التجول، فيرى في هذه الطباع التي ركب منها، من البرودة واليبوسة، اللتين ترجعان إلى التراب، والبرودة واللطافة اللتين تعودان إلي الماء، والحرارة واللطافة ينتميان إلي الهواء، ثم الحرارة واليبوسة، وهما من النار. ويتأمل نتائج هذه العناصر في ذاته، التي تظهر على شكل رذائل، هي الشره والكبر، والبخل والبغض والحسد، والشهوة والغضب. وهكذا تكون العناصر ونتائجها عالماً مستقلاً، ويمثل كل عنصر منها مرحلة أو منزلاً على طريق الرحلة الطويل”.
3- والنفس الإنسانية “بطبيعتها صالحة للقيام بهذه الرحلة، فهذه النفس التي هي كمال الجسم لها قوتان، يسميها بعض الفلاسفة وجهين، أو نظرين، نظر إلي عالم الصورة، أي العالم السفلي، ونظر إلي عالم الملكوت، أي العالم العلوي، وهذه التي تنظر إلي العالم العلوي تسمى القوة العالمة، وتلك التي تنظر إلي العالم العلوي تسمى العاملة، ويستفيد الجسم من القوة العاملة التي تدبره، كما أن القوة العاملة تستفيد من القوة العالمة التي تدبرها وتحركها، وهذه الأخيرة تستفيد من العقل الفعال الذي يوجد فيما وراء العناصر الأربعة، يدبرها ويحركها، ويمضي التسلسل على هذا النحو إلي الأفلاك: كل يتأثر بما فوقه ويؤثر فيما تحته، ابتداء من عقل فلك القمر، إلي عقل فلك الأفلاك، الذي يستفيد من العقل الكلي ويتأثر به، وهذا العقل الكلي الذي يوجد في حوزته جميع المخلوقات، يستفيد من فيض واجب الوجود.
4- والعقل الكلي كوسيط بين الوحدة المطلقة والكثرة يمثل نقطة البداية والنهاية في آن واحد، فمن هذا الموجود الأول الذي خلقه الله بلا واسطة، خلقت النفس الكلية، ثم تسلسلت عقول الكواكب ونفوسها، كل فلك له عقل ونفس عن طريقهما تسري سلسلة الخلق إلي الفلك التالي، حتى تأتي إلي فلك القمر، ومن عقل هذا الأخير ونفسه خلقت العناصر الأربعة، وتلك بدورها أدت إلي خلق المواليد الثلاثة، كل منها في ثلاث درجات، كامل وواسط وأسفل، فآخر كمال للجماد هو أدنى مرتبة للنبات، وآخر كمال للنبات هو أدنى مرتبة للحيوان، وكمال الحيوانية هو أسفل درجات الإنسانية، كما أن أعلى كمال للإنسانية هو أولى درجات الروحانية، وأعلى درجات الروحانية يشارف حدود القدرة الإلهية، وهذه لا نهاية لها، وليس في وسع العقل أن يحيط بها”.
5- والتصوف كنظام يعمل على “تطهير النفس، ووصل الإنسان بالألوهية له مظهره الأخلاقي، ففي الحياة الروحية ليس الجانب الأخلاقي مفصولاً تماماً عن الجانب الصوفي، كما قد يحاول بعض الناس أن يتصوروا كلا منهما على حدة، ومهما تك درجة التمييز بينهما فالذي لا شك فيه هو أن الجانب الأخلاقي هو المرحلة التمهيدية التي تؤدي إلي مرحلة التأمل والاستغراق التي تعتبر غالباً جوهر التجربة الصوفية….وفي منظومة سير العباد، تمشي الأخلاق مع التصوف جنباً إلي جنب مع، حتى تكاد تمثل مزيجاً متناسقاً من العناصر الأخلاقية والصوفية، فالشاعر فيها قادراً دائماً على أن يبدأ أخلاقياً لينتهي صوفياً، ثم يعود من جديد كما بدأ”.
6- والرحلة عند سنائي في جوهرها رحلة من الصورة إلي المعنى، رحلة يتحقق بها الموت عن هذا العالم المادي، بكل ما فيه، رحلة توقظ النيام، حسب العبارة المشهورة التي يسندونها إلي علي بن أبي طالب رضى الله عنه: (الناس نيام فإذا ماتوا انتهوا) وعنده أن العقل مرشد جيد في هذه الرحلة، ولكن إلي حدود، حتى إذا ما بلغها، فإن فضل الله هو الذي يقود السالك بعد ذلك إليه.
7- ونتيجة لما سبق فإن الإنسان لديه الإرادة الحرة للاختيار بين العقل والهوى، مما يفرض عليه مسئولية كبيرة، قوامها ألا بترك نفسه للهوى يستولى عليه، ومن هنا يتحدد وضع سنائي إزاء هذه المشكلة التي يمكن وصفه بوضع وسط بين الجبر والاختيار، فهو في الحقيقة ينظر إلى هذه المشكلة من خلال مذهبه العام الذي يقوم على الاعتقاد بأن الإنسان لديه الاستعداد لبلوغ قمة الكمال، وفي هذا التصور يكون الجبر وسيلة للعلو والاختيار في نظر الصالحين، ووسيلة انحطاط وتسفل في نظر الأشرار”.
خاتمة:
هذه هي أهم الأفكار والموضوعات التي تطرق لها سنائي الغزنوي في منظومته التي تأسى فيها بابن سيناء في رسالته حي بن يقظان، واستضاء من نوره، فلقد أخذ سنائي من ابن سينا فكره تصويره للعقل على هيئة شيخ تبدو عليه نضارة الشباب، ذلك الشيخ الصوفي الثائر الذي يهيب بمخاطبه أن يسارع إلي الخلاص، ولا تعنيه الوسائل بقدر ما تعنيه الغاية، ومنظومة سنائي الغزنوي التي تعتبر تحفة أدبية من حيث خصوبة الخيال وسطوته، وتعدد الصور، وقوة الإيحاء، وبلاغة الشيبة الذي رغم دقته إلا أنه أمسى مألوفاً في أدبيات المتصوفة، مثل تشبيهم للغضب بالسبع، والشهوة بالبهيم، هذه المنظومة التي رغم أنها تشيع بالحسن، وتومض بالجمال، إلا أنها مبهمة الألفاظ، ملتوية الأشعار، يحتاج قارئها إلي بوارق من الضياء حتى يدرك كنهها، ويحيط بتفاصيلها، ولن يتسنى له ذلك إلا إذا تحلى بالصبر واستظل تحت أفيائه.
هذه الدراسة استندت على عدة مراجع
د. الطيب النقر
nagar_88@yahoo.com
////////////////////////////
إن النفس البشرية تواقة بطبعها لمعرفة ما يكتنف العالم الآخر من غموض، ذلك العالم الذي إذا كسبه المرء كسب جل ما يتطلع إليه، وإذا خسره خسر ما لا عوض له فيه، نعم إن الناس باختلاف مشاربهم وسحناتهم تغلغلت هذه المسألة في أصولهم وشغلت بالهم وتفكيرهم، ويجدون في سباتهم العميق ليلاً أو نهارا ملتمساً لما يصعب تداركه في اليقظة، فكثيراً ما تسمع ممن شابت ناصيته في العلم، أو الجاهل المطبق الجهالة أن حلماً داهمه عند الكرى ومضى به بعيداً عن عالمنا الذي ضنك عيشه، وكثر طيشه، وأضحى يحكمه ذئاب غاية في الظلم والاستبداد، ويخبرك أن روحه فارقت ذلك الجسد الوثيق الذي تقبع خلفه ومضت تحلق في عوالم موشاه بالحسن، ومرصعة بالدر، ويعكر صفوك بذكر كل شاردة واردة تمثلها في حلمه، فتراه يستفيض في ذكر الملائكة والجنان، ويوجز عند الزبانية والنيران، ويعتريني يقين جازم بأن كل من بسط لسانه بالمعروف أو طوى قلبه بالضغينة شكّل له أمر الموت، والحساب، والانتقال من هذا العالم الفاني إلي عالم سرمدي يوفى فيه أجره هاجساً يؤرق مضجعه ويجعل الذعر والوجل يسري في عروقه، لمعرفة ما هو المصير الذي ينتظره في ذلك العالم، أيزحزح عن النار ويدخل الجنة، أم هي الأخرى التي تصطك من هولها الركب، ويزلزل روعها الأقدام، والنزوع إلي الآخرة ليس قاصراً على شعب دون شعب، أو على عرق دون عرق، فرحلة الروح من أهم السمات المشتركة لكل الأمم والشعوب لأنهم يستمدونها من تراثهم الديني ويجترونها من أدبهم الاجتماعي، “فالمصريون القدماء قد عرفوا هذه الرحلة، ونسج لهم الخيال كثيراً من الرؤى والصور التي تدور حول الجحيم والفردوس، فتصور اوزيريس يزن الأعمال، فيدفع بقلوب الخطاة إلي الوحش الذي يفترسها، ويعطي المحسنين حقول القمح يزرعونها بلا عناء، ولدى الفرس نجد الإنسان ميدان معركة بين اهورا مزدا اله الخير واهريمن ملك الظلمات والعالم السفلى، ونجد القديس الزرادشتى ارتاك فيراز يقص على قومه ما رآه في رحلته إلي العالم الآخر من ألوان العقاب وصنوف النعيم. وفي الأدب اليوناني يذكر هوميروس في الإلياذة عالم الموتى والشياطين ونار الجحيم وأبواب السماء ونعيم الفردوس، أما فرجيل شاعر اللاتين فيذكر في الاينيادة هبوط اينياس إلى العالم السفلى ويصف ما شهده في مدينة الجحيم ((ديس)) من وحوش خرافية وشياطين وأنهار وعواصف، ويسرد أنواع الآثمين كمرتكبي خطايا الجسد والبخلاء والذين حاربوا أولياء نعمتهم، ثم ينتقل إلي أرض خضراء سعيدة، وهي موئل من جرحوا في سبيل أوطانهم ومكان الرهبان من الصادقين”. فضلاً عن الأديان السماوية الثلاث التي جددت دارس العهد من القيم ونشرت البالي من الشيم التي تمنع اختلال التوازن، واضطراب الحياة، فمن تنغمس يداه في منكر نالته شهب النار، ومن لا يقبض يده عن بذل المعروف، أو يصد نفسه عن قعقعة السيوف أسكنه الله أقبية الديباج المخوص بالذهب والنضار، وأجرى تحت رجليه شلالات الأنهار.
والحقيقة التي يجب أن نبسطها هنا أن هذه المنظومة قد حذت حذو العديد من الأعمال الأدبية التي سبقتها في الأدب الفارسي ونجد أن الباحثون الأوربيون في الدراسات الإيرانية “قد اتفقوا على أن رائد هذا الموضوع في ايران هو (ارتاك فيراز نامك) المكتوب بالفارسية الوسطى، أي كتاب القديس فيراز-ارتاك تعني القديس أو المتمسك بأهداب الدين الصحيح- ويرون أنه يمثل الهيكل الأساسي لعدد من الآثار الأدبية التي تنوعت في طريقة تناولها للموضوع، كما في سير العباد لسنائي، ومنطق الطير للعطار، ومصباح الأرواح للكرماني وأخيراً سبعة الأودية لبهاء الله”.
وحتماً هذا الكتاب في مضمونه ومحتواه يذكرنا برائعة دانتي الكوميديا الإلهية، ذلك الكتاب الذي دلق فيه الكثير من المداد، وأنشئت حوله الرسائل والدراسات، ونضحت باسمه الشروح والدراسات، التي أجلت عنه الغموض، وقربته إلى الأذهان، ولكن ما لا يند عن ذهن أو يغيب عن خاطر أن هذا العمل الأدبي رغم ما ناله من شهرة وصيت إلا أن الشعور الذي يخامر قارئه لذلك النص هو الضجر والرتابة بعد ازدراد أسطره وطي قراطيسه. ودانتي الإيطالي الذي ألهمت قريحته الفياضة وعبقريته الفذة رصفائه من الأدباء، وأيقظ مدّ أفكاره الهادر روافد العبقرية التي كانت كالنبت الذابل الذي غاية أمانيه العجاف وابل من قطر يجدد ما ذوي من أوراقه. ولكن الحقيقة التي لا يغالي فيها أحد ونتيجة لدراسات وأبحاث متعددة أن دانتي لم يكن هذا العمل من بنات أفكاره أو بتعبير آخر أن دانتي لم يكن له قصب السبق في الإيتاء بهذا اللون من الأدب، نعم لم يكن دانتي “في عمله العظيم مبتكراً تماماً، وإنما اقتبس خطة كتابه من غيره، وأفاد في جزئيات كثيرة منه من جهود سابقة بعضها شرقي اسلامي، فلقد كتب ارنولد نيلكسون المستشرق الإنجليزي سنة 1943م مقالاً بمجلة الجمعية الملكية بعنوان (رائد فارسي لدانته) يقول فيه:”أن سننائي الغزنوي يحكي في منظومته المسماة (سير العباد إلي الميعاد) مثل دانتي تماماً كيف وجد في الظلمة التي ضل طريقه فيها مرشداً صحبه عبر طرقات الخوف والفزع التي كان عليه أن يقطعها قبل أن يصل إلي غايته. ويضيف: ان من الصعب أن يقرأ الإنسان هذه المنظومة الفارسية دون أن يتذكر بشدة المنظومة الإيطالية، فالتشابه بينهما لا يمكن أن يكون عرضياً، حيث توجد تفصيلات تبعث على الدهشة وحب الاستطلاع، وتدل على أن هناك مصدراً مشتركاً للشاعرين، أو تؤكد الفكرة السائدة من أن دانتي استعان في كتابته لمنظومته بمادة موجودة في الروايات الإسلامية، أيا كانت القنوات التي تم عن طريقها وصول هذه المادة إليه”.
لقد صدق نيكسون في مزاعمه فان العملين يخرجان من مشكاة واحدة، تحتويها الأفئدة، وتضمها الأرواح، مشكاة يتزاحم عشاقها على موردها العذب، ويتسابقون إلي ضيها الملهم، لقد بذر نيلكسون بذور الشك في أحقية تفرد دانتي بهذا العمل، واستقرت تلك البذور في دخائل كل نفس، ومدارج كل حس يطالع رائعة دانتي، رغم أن هذا الشك ليس له ما يبرره، وتقاطرت جهود الأدباء كوكف المطر لإماطة اللثام عن هذه القضية التي اشتد حولها الصيال الأدبي الذي لم يدفع إلا بعد نضال عنيف وجهد وتقصي استمر عبر حقب طوال إلي أن بزغ نجم المستشرقان سنديو الإسباني وشيرولي الإيطالي، الذين بددا الغموض الذي يكتنف هذه القضية، وأزالا مواطن اللبس فيها، فلقد تكفلا بالإجابة “على السؤال الحائر الذي كان يطرحه الباحثون وهو:((من أين لدانتي بالمصادر الإسلامية يطلع عليها ويتأثر بها إذا كان لم يعرف عنه أنه كان يعرف العربية؟ حيث اكتشفا مصدر دانتي في مخطوطة أصلها عربي وموضوعها معراج الرسول صلي الله عليه وسلم ترجمت إلي الإسبانية واللاتينية والفرنسية في أواخر القرن الثالث عشر، أي في حياة دانتي”.
ومن الكتب أو الرسائل التي جاءت على هيئة أو منظومة سير العباد رسالة حي بن يقظان لابن سينا التي جرى فيها على هدي دانتي في الكوميديا الألهية حيث أدخل موضوع الرحلة نحو الهدف الأعلى الذي تبغتيه كل نفس عبر طريق مرشد، الأمر الذي أثرى الملحمة الصوفية الشعرية في الأدب الفارسي، فنجد أن سناء الغزنوي استن بمذهب ابن سينا ولزم غرسه في منظومته، ونحن إذا اردنا أن نفصح عن كنه تلك الرسالة التي تأثر بها سناء الغزنوي في ايجاز لذكرنا أنها رسالة رمزية في مضمونها نظمها ابن سينا على طريقة الصوفية وعنونها وأسماها بعنوان”حي بن يقظان” وموضوعها يدور حول شيخ من أهل البيت المقدس اسمه حي بن يقظان أي حي العقال الذي يوصل إلي الله فلقد أخذ حي بوصية والده يقظان وأضحى يتجول في المدن بعد أن أعطاه والده مفاتيح العلوم كلها، وابن سينا رمى من نسجه لتلك القصة وتنضيده لتلك الرسالة أن يزكي من العقل الذي يلهم صاحبه ويعلي من شأن المنطق والفلسفة.
وبعده بقرن من الزمان يخرج الشاعر الفارسي سننائي الغزنوي(525-1131م) منظومته (سير العباد إلي الميعاد) متخذا نفس الأسلوب الرمزي ذا الطابع الصوفي “يصور فيها الفكرة الفلسفية التي تقول أن الكائنات في حركة دائبة نحو اتجاهين: فهي تجئ من الله، من فيضه على العقل الكلي، ومن العقل الكلي على النفس الكلية، ومن النفس الكلية على الهيولي، وهي الصورة التي ترى الأنفس الجزئية في عالم الأجسام على ظواهر الأشخاص والإجرام، ثم تعود من جديد إليه متحررة من الكثرة صاعدة نحو الوحدة لتلحق بموطنها الأصلي ومصدرها الأول، وهذا الرجوع يتم عن طريق المعرفة، وهذا الهدف الحقيقي من الحكمة والفلسفة إذا عرفنا أن لكل موجود كمالاً، وكمال النفوس في اتصالها بالعقل”.
والبناء الأساسي لتلك المنظومة يقوم على فكرة الهبوط والنزول من الجنان التي خلع الله عليها وضاءة الحسن ورونق الحسن إلي الأرض التي أدخر فيها الخلق عزوجل كل ما يحتاجه ذلك الإنسان الذي أقصاه عن جنته بمقتضى الأمر الإلهي (كن) فنزلت تلك النفس خاشعة الطرف، كاسفة البال، من علياء السماوات الي أرض غائرة ممعنة في الضحالة بناء على قوله تعالى: (اهبطوا منها) بعد ذلك تلقفتها امرأة عجوز قديمة قدم الفلك تعهدت تلك النفس بالعناية وأحاطتها بالرعاية، هذه المرأة في واقع الأمر والدة مشبلة لمواليد ثلاث ولا وعي لها بالشمس ولا بالظل، وقد تفانت في تربية جسد آدم كما تعهدت برعاية كل كائن، ويمضى سناء الغزنوي في منظومته فيقول أن النفس” استقبلت بواسطة هذه المربية-التي يعني بها الأرض- والتي ربتها بحنان وصنعت لها أكسية مختلفة الألوان، اشارة إلي تطور الخلق ابتداء من النفس النباتية، التي يرمز إليها باللون الأخضر، إلي النفس الحيوانية المتصلة بالجسد، وتلك يرمز لها باللونين الأحمر والأبيض، بناء على التحول من دم إلي نطفة إلي علقة إلي عظام كسيت لحما”.
ثم تتوالى أحداث المنظومة التي أدخل فيها سننائي الغزنوي القدر الهائل من التراث الصوفي، وأضحى النواة التي انطلقت منها العديد من قرائح شعراء الفرس الذين أمسوا كِلاً وعيالاً عليه، ولكن من المآخذ على سنائي في منظومته البلبلة في الأفكار، وكثرة التكرار التي توقع القارئ في الحيرة والاضطراب، وتجعله يكاد يجزم أن المنظومة مبعثرة من غير رابط، ومشتتة من غير جامع، الأمر الذي يقلل من قيمة وشأن العمل الأدبي وإلقائه في غياهب النسيان، وهذا هو الواقع الذي آلت إليه تلك المنظومة، فرغم تهافت الباحثون عليها وتسبيحهم بحمدها في مقالاتهم التي سارت في كل صقع وواد إلا أنهم لا يصبرون على مضّ شدائدها، فالمبهمات والرموز التي تعج بها تلك المنظومة تجعل الباحث يستشعر وطأة الجمود وفداحة الثقل فيلقيه عن كاهله في تبرم ويمم شطره تجاه بحث آخر خالي من التعقيد والمعاضلة والالتواء، وهذا ما عناه مؤلفها حينما خلع على قارئها صفة الشاعرية ، ونعت من يفكك طلاسمها، ويحيط بأسرارها بالساحر.
أهم الأفكار الأساسية للمنظومة:
1- سنائى الغزنوى في منظومته “سير العباد إلي الميعاد” طرح فكرة التطور “بكل ما تعنيه صعوبة التكمل والسعي إلي الكمال اللانهائي، فيرى أن الإنسان يمثل قمة الخلق في هذا الكون، فقبل أن يصل إلي الحالة الإنسانية، كان جماداً، ثم صار نباتاً، وبعد ذلك أصبح حيواناً، ليكون في النهاية انساناً مزوداً بالعقل. ويمكنه أيضاً أن يتجاوز المرتبة الإنسانية، ليصير ملكاً، كما يمكنه فوق ذلك أن يعبر المرحلة الملكية..
2- هذا التطور يرسم الغاية لكل الكائنات والمخلوقات، ويحدد النفس الإنسانية هدفها في هذه الحياة، وهو التعرف على الله، ومسيرتها بالرجوع إلي أصلها ومنزلها الأبدي. وفي هذا التوقع يعتبر الكون كله مجرد مرقاة في سلم يصعد به الإنسان نحو ربه، وبعبارة أخرى يعتبر مجالاً لرحلة روحية يقوم بها من عالم التراب إلي أعلى عليين، بحيث يكون ابتداء الرحلة من عالم جسمه نفسه، الذي قد نسميه العالم الصغير، فيتأمله ويمعن النظر في أمشاجه، فيما يشبه التجول، فيرى في هذه الطباع التي ركب منها، من البرودة واليبوسة، اللتين ترجعان إلى التراب، والبرودة واللطافة اللتين تعودان إلي الماء، والحرارة واللطافة ينتميان إلي الهواء، ثم الحرارة واليبوسة، وهما من النار. ويتأمل نتائج هذه العناصر في ذاته، التي تظهر على شكل رذائل، هي الشره والكبر، والبخل والبغض والحسد، والشهوة والغضب. وهكذا تكون العناصر ونتائجها عالماً مستقلاً، ويمثل كل عنصر منها مرحلة أو منزلاً على طريق الرحلة الطويل”.
3- والنفس الإنسانية “بطبيعتها صالحة للقيام بهذه الرحلة، فهذه النفس التي هي كمال الجسم لها قوتان، يسميها بعض الفلاسفة وجهين، أو نظرين، نظر إلي عالم الصورة، أي العالم السفلي، ونظر إلي عالم الملكوت، أي العالم العلوي، وهذه التي تنظر إلي العالم العلوي تسمى القوة العالمة، وتلك التي تنظر إلي العالم العلوي تسمى العاملة، ويستفيد الجسم من القوة العاملة التي تدبره، كما أن القوة العاملة تستفيد من القوة العالمة التي تدبرها وتحركها، وهذه الأخيرة تستفيد من العقل الفعال الذي يوجد فيما وراء العناصر الأربعة، يدبرها ويحركها، ويمضي التسلسل على هذا النحو إلي الأفلاك: كل يتأثر بما فوقه ويؤثر فيما تحته، ابتداء من عقل فلك القمر، إلي عقل فلك الأفلاك، الذي يستفيد من العقل الكلي ويتأثر به، وهذا العقل الكلي الذي يوجد في حوزته جميع المخلوقات، يستفيد من فيض واجب الوجود.
4- والعقل الكلي كوسيط بين الوحدة المطلقة والكثرة يمثل نقطة البداية والنهاية في آن واحد، فمن هذا الموجود الأول الذي خلقه الله بلا واسطة، خلقت النفس الكلية، ثم تسلسلت عقول الكواكب ونفوسها، كل فلك له عقل ونفس عن طريقهما تسري سلسلة الخلق إلي الفلك التالي، حتى تأتي إلي فلك القمر، ومن عقل هذا الأخير ونفسه خلقت العناصر الأربعة، وتلك بدورها أدت إلي خلق المواليد الثلاثة، كل منها في ثلاث درجات، كامل وواسط وأسفل، فآخر كمال للجماد هو أدنى مرتبة للنبات، وآخر كمال للنبات هو أدنى مرتبة للحيوان، وكمال الحيوانية هو أسفل درجات الإنسانية، كما أن أعلى كمال للإنسانية هو أولى درجات الروحانية، وأعلى درجات الروحانية يشارف حدود القدرة الإلهية، وهذه لا نهاية لها، وليس في وسع العقل أن يحيط بها”.
5- والتصوف كنظام يعمل على “تطهير النفس، ووصل الإنسان بالألوهية له مظهره الأخلاقي، ففي الحياة الروحية ليس الجانب الأخلاقي مفصولاً تماماً عن الجانب الصوفي، كما قد يحاول بعض الناس أن يتصوروا كلا منهما على حدة، ومهما تك درجة التمييز بينهما فالذي لا شك فيه هو أن الجانب الأخلاقي هو المرحلة التمهيدية التي تؤدي إلي مرحلة التأمل والاستغراق التي تعتبر غالباً جوهر التجربة الصوفية….وفي منظومة سير العباد، تمشي الأخلاق مع التصوف جنباً إلي جنب مع، حتى تكاد تمثل مزيجاً متناسقاً من العناصر الأخلاقية والصوفية، فالشاعر فيها قادراً دائماً على أن يبدأ أخلاقياً لينتهي صوفياً، ثم يعود من جديد كما بدأ”.
6- والرحلة عند سنائي في جوهرها رحلة من الصورة إلي المعنى، رحلة يتحقق بها الموت عن هذا العالم المادي، بكل ما فيه، رحلة توقظ النيام، حسب العبارة المشهورة التي يسندونها إلي علي بن أبي طالب رضى الله عنه: (الناس نيام فإذا ماتوا انتهوا) وعنده أن العقل مرشد جيد في هذه الرحلة، ولكن إلي حدود، حتى إذا ما بلغها، فإن فضل الله هو الذي يقود السالك بعد ذلك إليه.
7- ونتيجة لما سبق فإن الإنسان لديه الإرادة الحرة للاختيار بين العقل والهوى، مما يفرض عليه مسئولية كبيرة، قوامها ألا بترك نفسه للهوى يستولى عليه، ومن هنا يتحدد وضع سنائي إزاء هذه المشكلة التي يمكن وصفه بوضع وسط بين الجبر والاختيار، فهو في الحقيقة ينظر إلى هذه المشكلة من خلال مذهبه العام الذي يقوم على الاعتقاد بأن الإنسان لديه الاستعداد لبلوغ قمة الكمال، وفي هذا التصور يكون الجبر وسيلة للعلو والاختيار في نظر الصالحين، ووسيلة انحطاط وتسفل في نظر الأشرار”.
خاتمة:
هذه هي أهم الأفكار والموضوعات التي تطرق لها سنائي الغزنوي في منظومته التي تأسى فيها بابن سيناء في رسالته حي بن يقظان، واستضاء من نوره، فلقد أخذ سنائي من ابن سينا فكره تصويره للعقل على هيئة شيخ تبدو عليه نضارة الشباب، ذلك الشيخ الصوفي الثائر الذي يهيب بمخاطبه أن يسارع إلي الخلاص، ولا تعنيه الوسائل بقدر ما تعنيه الغاية، ومنظومة سنائي الغزنوي التي تعتبر تحفة أدبية من حيث خصوبة الخيال وسطوته، وتعدد الصور، وقوة الإيحاء، وبلاغة الشيبة الذي رغم دقته إلا أنه أمسى مألوفاً في أدبيات المتصوفة، مثل تشبيهم للغضب بالسبع، والشهوة بالبهيم، هذه المنظومة التي رغم أنها تشيع بالحسن، وتومض بالجمال، إلا أنها مبهمة الألفاظ، ملتوية الأشعار، يحتاج قارئها إلي بوارق من الضياء حتى يدرك كنهها، ويحيط بتفاصيلها، ولن يتسنى له ذلك إلا إذا تحلى بالصبر واستظل تحت أفيائه.
هذه الدراسة استندت على عدة مراجع
د. الطيب النقر
nagar_88@yahoo.com
////////////////////////////