ادريس عوض الكريم: عاشق الضفتين، اريتريا و السودان
عبدالجليل الشيخ
12 January, 2023
12 January, 2023
قال العاشق قيس بن الملوح:
فَإِن تَكُ لَيلى بِالعِراقِ مَريضَةً ** فَإِنِّيَ في بَحرِ الحُتوفِ غَريقُ
أَهيمُ بِأَقطارِ البِلادِ وَعَرضِها ** وَ مالي إِلى لَيلى الغَداةَ طَريقُ
(1)
كتابان سطرهما عاشق من أجل معشوقته ليلي/ الحرية، فكأنا بمثابة جناحين يحلق بهما في الأفاق. و بسبب هذين الكتابين أصبح عاشقاً يهيم في الغربة بعيداً عن معشوقته الحرية/الوطن. كانما مكتوب عليه منذ مولده مع طي صفحة الحرب العالمية الثانية، الاغتراب ذاتياً و مكانياً. كان يافعاً حين رحل الإنكليز تاركاً أهل السودان يعيشون أزمة القرار السياسي. و من ثمّ رد الفعل و انتكاسة العاشق و الاغتراب في المنافي التي فرضت عليه عشقاً يحتاج الى دولة سياسة. و العشق شيء، و السياسة شيء، يسيران على قطبين لا يلتقيان.
(2)
هو أبو منار ادريس عوض الكريم، شاعر، مترجم و اعلامي سياسي، ولد في مدينة الدويم بولاية النيل الأبيض. درس فيها المرحلة الأولية الموسومة في الذاكرة بالأيام الخوالي حسب قوله:" في تلك الايام الخوالي، و نحن ما نزال نرتدي أردية " الشورت" من قماش الكاكي، و قمصان البوبلين الأبيض.و ننتعل حذاء"باتا" ذا النعل المطاطي و القماش "المشمع". و هذا أمر مقبول لطفل في سنوات دراسته الأولى - مرحلة التاسيس للمرحلة التي بعدها. حيث الوسطى التي قضاها في مدرسة الدويم المبنية بالطوب الاحمر والحجر، و ناظرها محمد أحمد عبد القادر، و المعلمين مصطفي حسن أمين، محمد توفيق، ضرار صالح ضرار، أحمد ميرغني شكاك.
كان ميالا للثقافة، حيث أنتظم في الجمعية الأدبية التي تقام أسبوعيا كل يوم أربعاء. و تهتم بالجرائد اليومية ، اصدار مجلة الحائط. و أسماها بالتكوينية قبل الولوج في مراحل متقدمة:" تلك المرحلة كانت تكوينيه بالنسبة لجيلنا قبل دخولنا المرحلة الثانوية- اذا تبدا فيها الميول الأدبية و العلمية في التبلور تحت التاثير الكبير للمعلمين المقتدرين". و هي علامة فارقة في مكوناته الأدبية حيث وجد التشجيع من الأساتذة:" منذ المرحلة المتوسطة وجدنا من بين الاساتذة من شجعنا على تذوق الأدب عامة، و الشعر خاصة. و حفزنا هؤلاء على استظهار الجيد من الشعر و اتقان قواعد اللغة العربية. لقد كنت أحفظ اشعاراً مطولة لأحمد شوقي مثل قصيدة النيل:"من أي عهد في القرى تتدفق/ و باي كف في امدائن تغدق". و قصائد كثيرة للشاعر و اللغوي علي الجارم و منها تحية السودان:"يا نسمة رنحت اعطاف وادينا/ قفي نحييك أو عوجي فحيينا". و كذلك أشعار ايليا أبو ماضي خاصة قصيدته"وطن النجوم". و كان هناك"ديوان الشاعر التونسي ابو القاسم الشابي"اغاني الحياة". و اذكر عند كنت في المرحلة المتوسطة كنا نتداوله و نحفظ اشعاره الجميلة التي كانت قريبة من نفوسنا كل القرب لجزالة و رشاقة كلماته و أوازانها. و فضلا ان شعره كان يثير فيّ الأحزان مثلما كان يثير الألم". حيث المعانأة و التنافسية بين الطلاب في سبيل الالتحاق بالمرحلة الثانوية:"كان التنافس الدراسي على ايامنا قاسياً و طاحناً، اذ أن الفرص في وجود مقعد في المدرسة من مرحلة الى مرحلة تليها أشبه بسباق الخيول الجياد و العتاق. كل هذا بسبب قلة المدارس. و هكذا ضاع، على ما اعتقد ، الكثير من الطلبة النابهين. و تركوا ظلماً على قارعة الطريق ليغطيهم غبار الأيام و الحياة". هكذا كان شعوره حين التحق بثانوية حنتوب - كلية التربية بجامعة الجزيرة حالياً-، التي منحته فرصة الكتابة الشعرية:"بدأت محاولاتي الشعرية في المرحلة الثانوية في إطار التشجيع المعنوي. اذ كنا نجده من بعض اساتذتنا، و نشاط الجمعية الأدبية التي كنا نقدم فيها نتاجنا الشعري". و كان التشجيع بوابة الانفتاح على التيار اليساري الذي نازع هواه الصوفي الأسري، و اخرجه من عباءة التيار الإخواني في السودان.
(3)
التحق بمعهد المعلمين العالي-كلية التربية حالياً- في الخرطوم. و بدأ بنظم الشعر و ينشره في الجريدة الحائطية باسمه الحركي "جرير". الذي أختاره لأنه يرى في شخصية جرير رمزاً للحدّاثة أنذاك مقابل الأخطل التقليدي ، و هما القطبان المتنافسان في العهد الأموي. حيث تأثر في البداية بالأدب الجاهلي:"كانت دراستي للشعر العربي بصورة معمقة في السنوات الأربع لكلية التربية، خاصة الشعر الجاهلي، و قصائد الشعراء الصعاليك، و الهجاء في العصر الأموي". و مع هذا التأثر، فقد تخصص في اللغة الإنجليزية:"هذا الى جانب دراستي للأدب و الشعر و الثقافة الانجليزية خاصة، و الأوربية عامة، و تخصصت في اللغة الانجليزية". و حينها كان السودان يعيش حالات انتكاسة السياسي أمام العسكر،فأنتسب للحزب الشيوعي، و شارك في مظاهرات أكتوبر 1964م .
عمل بعد التخرج مدرساً للغة الإنجليزية في مدرسة الجيلي الثانوية، إلا ان شخصيته لا تقبل السكون، لذلك ألتحق بجامعة القاهرة فرع الخرطوم لدراسة القانون. و من ثمّ المشاركة في الحراك السياسي من خلال اتحاد الطلاب الذي اصبح رئيساً له في نهاية الستينيات من القرن الماضي. و كان حينها عضواً فاعلاً في نقابة المعلمين السودانيين، و شارك في اجتماع اتحاد المعلمين العرب ببغداد في الفترة التي تزامنت مع أحداث السودان في 19 يوليو 1971م.
(4)
ظل في بغداد لسان حاله نشيد الوداع المدرسي للاسكتلندي روبرت برنز مرددين:"هل ننسى أياما مضت، هل ننسى ذكراها، هل ننسى أياما مضت مرحاً قضيناها ". و كانت الأخبار في الخرطوم قانية مما جعله يتجه الى دمشق حيث استضافه الأصدقاء في حي المزة التاريخي. و أرتبط بعلاقات مع الاريتريين و الفلسطيين مما أدى ان يتوجه الى لبنان،" و مزاولة نشاطه من هناك بتشجيع من المجموعة القيادية في جبهة التحرير الإريترية".
كانت سنوات بيروت حافلة بالكتابة الصحافية لعدد من الدوريات و المجلات. حيث أستقر فيها، و تزوج من اريترية و أنجبا ابنتهما "منار". و كان مناصراً لقضايا التحرر الوطني في افريقيا، و الوطن العربي خصوصاً قضية فلسطين، و اريتريا. و تفرغ للعمل في مركز الدراسات و الاعلام الاريتري- المجلس الثوري(ج.ت.أ) الكائن بكورنيش المزرعة في عام 1976م.
عاد الى دمشق بعد الاجتياح الإسرائيلي لبيروت 1982م، و عمل في مكتب الإعلام الخارجي- التنظيم الموحد (ج.ت.أ)، الذي تم إنشاؤه بعد وحدة فصائل جبهة التحرير الاريترية 1983م:المجلس الثوري، اللجنة الثورية، قوات التحرير الشعبية. و شارك باسم المركز في الندوة الدولية حول اريتريا المنعقدة في تونس أنذاك. كما شارك في اعداد "ترانيم ثورية"، أول انثولوجيا اريترية. تضمنت قصيدته الموقعة باسم جرير"جبهة المجد"،
مؤرخة في سبتمبر/أيلول 1983م (ص:44/45). كتبها تعزيزاً للجبهة بعد خروجها من الميدان في عام 1982م. لاحقاً التحق بأصدقائه في التنظيم الموحد العائدين الى اسمرة بعد التحرير عام1991م. و ساهم في البنية الإعلامية الناشئة. و تقلد منصب نائب رئيس تحرير صحيفة اريتريا الحديثة، و لاحقاً منصب رئيس تحرير صحيفة اريتريا بروفايل الصادرة باللغة الإنجليزية. و كانت أسمرة -آنذاك- قبلة النُخبة السودانية كافة، التي تعمل تحت مظلة التجمع الوطني الديمقراطي. و كان ادريس واحداً من الذين ساهموا في تحرير مسودة مؤتمر القضايا المصيرية- اعلان اسمرة، 1995م. كذلك مسودة المؤتمر العام للتجمع- اعلان مصوّع 2000م.
(5)
هو صاحب"الضفة الأخرى"،مدونة سطرها على صفحات جريدة اريتريا الحديثة. حيث سطر فيها سيرته الذاتية على مرحلتين، الأولى في العدد (102) مؤرخ 2001.03.10م، الثانية في العدد (112) مؤرخ في 2002.03.24م. و هي سردية للذاكرة و مدارات الحياة و تعرجات المعانأة:" و أردت من الضفة الأخرى أن تسجل بعض أصداء تلك المؤثرات التي مررت بها منذ الصبا الباكر"المرحلة المتوسطة" على ايامنا في الخمسينيات من القرن العشرين الى مرحلة مطلع الشباب".
سطر في المدونة تأثره بالرومانسية عربياً و انجليزياً:" من المصادفات ذا المغزى ان شاعرين كبيرين معاصرين احببتهما كثيراً هما السياب و البياتي، تأثراً بهذه المدرسة الإنجليزية (الرومانسية) في الشعر. أيضاً تجد لها صدى مسموعاً في شعرهما من حيث البناء و الصورة الشعرية و أنا في اطار تجربتي الخاصة تاثرت كثيراً بشعر السياب و البياتي و افضلهما على كثير من شعراء جيلهما"." و في ظني ان شعر التفعيلة الذي كتبه هؤلاء مكنهم ان يبدعوا و يخرجوا من المدار الضيق للبحور و القوالب القديمة للشعر". و لذلك نجده ضمن تيار الشعر الحُر:" أميل الى الشعر الحر بيد أنني اطرب أيضا للشعر الموزون، و أجد متعة في قراءة الشعر العربي كتراث خالد و غني جدا ".
(6)
عاد الى الضفة الأولى (السودان) في عام 2003م، و لسان حالة مقطع من قصيدة شجو المزامير للراحل محمد عثمان كجراي:" وقفت على طريق العشب/مهموما ومعتلا/توازن عالمي أضحى/مع الأيام مختلا/بكيت نصاعة العشق الربيعي الذي ولى/ صرخت بوحشتي ..كلا ..". حيث أنهى رحلة الاغتراب المكاني، و تفرغ لعائلته الثانية، لأن أم منار هاجرت الى بلاد الصقيع، تاركة إياه مع "ليلى" التي قارع من أجلها العسكر خلال مسيرة حياته حتى فقد الأمل في عودتها. و من ثمّ الاستكانة حتى وافاه الأجل في الأيام الأخيرة من شهر فبراير 2020م. حيث وجد القارئ اختلافاً في تاريخ وفاته. حيث نشرت سودانايل رثائية سردية كتبها عمر جعفر السّوري(مع حفظ الألقاب) بعنوان"ادريس عوض الكريم يفرغ حبر دواته ويرحل"، في 2020.03.03م.
و من بعده كتب ياسر عرمان (مع حفظ الألقاب) رثائية سردية منشورة في سودانايل مؤرخه في 2020.03.05م. بعنوان :" البَحْرُ مَاتْ- دمْعةٌ ووردةٌ حَمْراء على قبْر النّورس إدْريس عَوض الكَريم"
و كلاهما أشار الى تاريخ الوفاة في يوم الجمعة 28 فبراير2020م. و أختلف معهما المناضل ياسين محمد عبدالله مدير مركز سويرا لحقوق الإنسان، الذي كتب رثائية سردية بعنوان:"ادريس عوض الكريم.. رحلة النورس الأخيرة ،مؤرخة في 2020.03.08م منشورة في سودانايل. و فيها تاريخ الوفاة (يوم الأربعاء 26 فبراير).
و بصفة عامة، المقالات-كاتب هذه السطور استفاد منها معلومات قيمة-، أسهمت في الحديث عن الراحل سياسياً و مناضلاً مما يدل على سمة الوفاء و الثناء من قبلهم لشخصية عاش عاشقاً في دولة سياسة.
و العشق شيء، و السياسة شيء لأن العشق في الثقافة العربية أن تعيش الوجع ذاتياً و تائهاً في المنافي محروماً عن المشوقة حتى تكره نضارة الأيام فوح أريجها كما يقول الشاعر كجراي:"كرهت نضارة الأيام فوح أريجها ذلا/ وعدت وثوب أعماقي من الأحزان مبتلا / وكان الفجر مطعونا/ يرش على مآقي الزهر فيض دموعه طلا / وهأنذا أرى أمسي / وشجو صباى في صوت العصافير/ وأنت معي جموح صبابة تترى/ ترش العطر في كل المشاوير/ وتصنع لي أساطير/ وتنبض في حقول الشعر/ تورق في تعابيري/وهأنذا مع الذكرى/ مع الصمت الذي ينهار من شجو المزامير". و السؤال من سيكتب عن الشاعر جرير عاشق الضفتين ؟.. بعيداً عن أزمة الكتابين و العشق السياسي (ليلى)، الذي عاشه في المنافي.
jaliloa1999@gmail.com
/////////////////////////
فَإِن تَكُ لَيلى بِالعِراقِ مَريضَةً ** فَإِنِّيَ في بَحرِ الحُتوفِ غَريقُ
أَهيمُ بِأَقطارِ البِلادِ وَعَرضِها ** وَ مالي إِلى لَيلى الغَداةَ طَريقُ
(1)
كتابان سطرهما عاشق من أجل معشوقته ليلي/ الحرية، فكأنا بمثابة جناحين يحلق بهما في الأفاق. و بسبب هذين الكتابين أصبح عاشقاً يهيم في الغربة بعيداً عن معشوقته الحرية/الوطن. كانما مكتوب عليه منذ مولده مع طي صفحة الحرب العالمية الثانية، الاغتراب ذاتياً و مكانياً. كان يافعاً حين رحل الإنكليز تاركاً أهل السودان يعيشون أزمة القرار السياسي. و من ثمّ رد الفعل و انتكاسة العاشق و الاغتراب في المنافي التي فرضت عليه عشقاً يحتاج الى دولة سياسة. و العشق شيء، و السياسة شيء، يسيران على قطبين لا يلتقيان.
(2)
هو أبو منار ادريس عوض الكريم، شاعر، مترجم و اعلامي سياسي، ولد في مدينة الدويم بولاية النيل الأبيض. درس فيها المرحلة الأولية الموسومة في الذاكرة بالأيام الخوالي حسب قوله:" في تلك الايام الخوالي، و نحن ما نزال نرتدي أردية " الشورت" من قماش الكاكي، و قمصان البوبلين الأبيض.و ننتعل حذاء"باتا" ذا النعل المطاطي و القماش "المشمع". و هذا أمر مقبول لطفل في سنوات دراسته الأولى - مرحلة التاسيس للمرحلة التي بعدها. حيث الوسطى التي قضاها في مدرسة الدويم المبنية بالطوب الاحمر والحجر، و ناظرها محمد أحمد عبد القادر، و المعلمين مصطفي حسن أمين، محمد توفيق، ضرار صالح ضرار، أحمد ميرغني شكاك.
كان ميالا للثقافة، حيث أنتظم في الجمعية الأدبية التي تقام أسبوعيا كل يوم أربعاء. و تهتم بالجرائد اليومية ، اصدار مجلة الحائط. و أسماها بالتكوينية قبل الولوج في مراحل متقدمة:" تلك المرحلة كانت تكوينيه بالنسبة لجيلنا قبل دخولنا المرحلة الثانوية- اذا تبدا فيها الميول الأدبية و العلمية في التبلور تحت التاثير الكبير للمعلمين المقتدرين". و هي علامة فارقة في مكوناته الأدبية حيث وجد التشجيع من الأساتذة:" منذ المرحلة المتوسطة وجدنا من بين الاساتذة من شجعنا على تذوق الأدب عامة، و الشعر خاصة. و حفزنا هؤلاء على استظهار الجيد من الشعر و اتقان قواعد اللغة العربية. لقد كنت أحفظ اشعاراً مطولة لأحمد شوقي مثل قصيدة النيل:"من أي عهد في القرى تتدفق/ و باي كف في امدائن تغدق". و قصائد كثيرة للشاعر و اللغوي علي الجارم و منها تحية السودان:"يا نسمة رنحت اعطاف وادينا/ قفي نحييك أو عوجي فحيينا". و كذلك أشعار ايليا أبو ماضي خاصة قصيدته"وطن النجوم". و كان هناك"ديوان الشاعر التونسي ابو القاسم الشابي"اغاني الحياة". و اذكر عند كنت في المرحلة المتوسطة كنا نتداوله و نحفظ اشعاره الجميلة التي كانت قريبة من نفوسنا كل القرب لجزالة و رشاقة كلماته و أوازانها. و فضلا ان شعره كان يثير فيّ الأحزان مثلما كان يثير الألم". حيث المعانأة و التنافسية بين الطلاب في سبيل الالتحاق بالمرحلة الثانوية:"كان التنافس الدراسي على ايامنا قاسياً و طاحناً، اذ أن الفرص في وجود مقعد في المدرسة من مرحلة الى مرحلة تليها أشبه بسباق الخيول الجياد و العتاق. كل هذا بسبب قلة المدارس. و هكذا ضاع، على ما اعتقد ، الكثير من الطلبة النابهين. و تركوا ظلماً على قارعة الطريق ليغطيهم غبار الأيام و الحياة". هكذا كان شعوره حين التحق بثانوية حنتوب - كلية التربية بجامعة الجزيرة حالياً-، التي منحته فرصة الكتابة الشعرية:"بدأت محاولاتي الشعرية في المرحلة الثانوية في إطار التشجيع المعنوي. اذ كنا نجده من بعض اساتذتنا، و نشاط الجمعية الأدبية التي كنا نقدم فيها نتاجنا الشعري". و كان التشجيع بوابة الانفتاح على التيار اليساري الذي نازع هواه الصوفي الأسري، و اخرجه من عباءة التيار الإخواني في السودان.
(3)
التحق بمعهد المعلمين العالي-كلية التربية حالياً- في الخرطوم. و بدأ بنظم الشعر و ينشره في الجريدة الحائطية باسمه الحركي "جرير". الذي أختاره لأنه يرى في شخصية جرير رمزاً للحدّاثة أنذاك مقابل الأخطل التقليدي ، و هما القطبان المتنافسان في العهد الأموي. حيث تأثر في البداية بالأدب الجاهلي:"كانت دراستي للشعر العربي بصورة معمقة في السنوات الأربع لكلية التربية، خاصة الشعر الجاهلي، و قصائد الشعراء الصعاليك، و الهجاء في العصر الأموي". و مع هذا التأثر، فقد تخصص في اللغة الإنجليزية:"هذا الى جانب دراستي للأدب و الشعر و الثقافة الانجليزية خاصة، و الأوربية عامة، و تخصصت في اللغة الانجليزية". و حينها كان السودان يعيش حالات انتكاسة السياسي أمام العسكر،فأنتسب للحزب الشيوعي، و شارك في مظاهرات أكتوبر 1964م .
عمل بعد التخرج مدرساً للغة الإنجليزية في مدرسة الجيلي الثانوية، إلا ان شخصيته لا تقبل السكون، لذلك ألتحق بجامعة القاهرة فرع الخرطوم لدراسة القانون. و من ثمّ المشاركة في الحراك السياسي من خلال اتحاد الطلاب الذي اصبح رئيساً له في نهاية الستينيات من القرن الماضي. و كان حينها عضواً فاعلاً في نقابة المعلمين السودانيين، و شارك في اجتماع اتحاد المعلمين العرب ببغداد في الفترة التي تزامنت مع أحداث السودان في 19 يوليو 1971م.
(4)
ظل في بغداد لسان حاله نشيد الوداع المدرسي للاسكتلندي روبرت برنز مرددين:"هل ننسى أياما مضت، هل ننسى ذكراها، هل ننسى أياما مضت مرحاً قضيناها ". و كانت الأخبار في الخرطوم قانية مما جعله يتجه الى دمشق حيث استضافه الأصدقاء في حي المزة التاريخي. و أرتبط بعلاقات مع الاريتريين و الفلسطيين مما أدى ان يتوجه الى لبنان،" و مزاولة نشاطه من هناك بتشجيع من المجموعة القيادية في جبهة التحرير الإريترية".
كانت سنوات بيروت حافلة بالكتابة الصحافية لعدد من الدوريات و المجلات. حيث أستقر فيها، و تزوج من اريترية و أنجبا ابنتهما "منار". و كان مناصراً لقضايا التحرر الوطني في افريقيا، و الوطن العربي خصوصاً قضية فلسطين، و اريتريا. و تفرغ للعمل في مركز الدراسات و الاعلام الاريتري- المجلس الثوري(ج.ت.أ) الكائن بكورنيش المزرعة في عام 1976م.
عاد الى دمشق بعد الاجتياح الإسرائيلي لبيروت 1982م، و عمل في مكتب الإعلام الخارجي- التنظيم الموحد (ج.ت.أ)، الذي تم إنشاؤه بعد وحدة فصائل جبهة التحرير الاريترية 1983م:المجلس الثوري، اللجنة الثورية، قوات التحرير الشعبية. و شارك باسم المركز في الندوة الدولية حول اريتريا المنعقدة في تونس أنذاك. كما شارك في اعداد "ترانيم ثورية"، أول انثولوجيا اريترية. تضمنت قصيدته الموقعة باسم جرير"جبهة المجد"،
مؤرخة في سبتمبر/أيلول 1983م (ص:44/45). كتبها تعزيزاً للجبهة بعد خروجها من الميدان في عام 1982م. لاحقاً التحق بأصدقائه في التنظيم الموحد العائدين الى اسمرة بعد التحرير عام1991م. و ساهم في البنية الإعلامية الناشئة. و تقلد منصب نائب رئيس تحرير صحيفة اريتريا الحديثة، و لاحقاً منصب رئيس تحرير صحيفة اريتريا بروفايل الصادرة باللغة الإنجليزية. و كانت أسمرة -آنذاك- قبلة النُخبة السودانية كافة، التي تعمل تحت مظلة التجمع الوطني الديمقراطي. و كان ادريس واحداً من الذين ساهموا في تحرير مسودة مؤتمر القضايا المصيرية- اعلان اسمرة، 1995م. كذلك مسودة المؤتمر العام للتجمع- اعلان مصوّع 2000م.
(5)
هو صاحب"الضفة الأخرى"،مدونة سطرها على صفحات جريدة اريتريا الحديثة. حيث سطر فيها سيرته الذاتية على مرحلتين، الأولى في العدد (102) مؤرخ 2001.03.10م، الثانية في العدد (112) مؤرخ في 2002.03.24م. و هي سردية للذاكرة و مدارات الحياة و تعرجات المعانأة:" و أردت من الضفة الأخرى أن تسجل بعض أصداء تلك المؤثرات التي مررت بها منذ الصبا الباكر"المرحلة المتوسطة" على ايامنا في الخمسينيات من القرن العشرين الى مرحلة مطلع الشباب".
سطر في المدونة تأثره بالرومانسية عربياً و انجليزياً:" من المصادفات ذا المغزى ان شاعرين كبيرين معاصرين احببتهما كثيراً هما السياب و البياتي، تأثراً بهذه المدرسة الإنجليزية (الرومانسية) في الشعر. أيضاً تجد لها صدى مسموعاً في شعرهما من حيث البناء و الصورة الشعرية و أنا في اطار تجربتي الخاصة تاثرت كثيراً بشعر السياب و البياتي و افضلهما على كثير من شعراء جيلهما"." و في ظني ان شعر التفعيلة الذي كتبه هؤلاء مكنهم ان يبدعوا و يخرجوا من المدار الضيق للبحور و القوالب القديمة للشعر". و لذلك نجده ضمن تيار الشعر الحُر:" أميل الى الشعر الحر بيد أنني اطرب أيضا للشعر الموزون، و أجد متعة في قراءة الشعر العربي كتراث خالد و غني جدا ".
(6)
عاد الى الضفة الأولى (السودان) في عام 2003م، و لسان حالة مقطع من قصيدة شجو المزامير للراحل محمد عثمان كجراي:" وقفت على طريق العشب/مهموما ومعتلا/توازن عالمي أضحى/مع الأيام مختلا/بكيت نصاعة العشق الربيعي الذي ولى/ صرخت بوحشتي ..كلا ..". حيث أنهى رحلة الاغتراب المكاني، و تفرغ لعائلته الثانية، لأن أم منار هاجرت الى بلاد الصقيع، تاركة إياه مع "ليلى" التي قارع من أجلها العسكر خلال مسيرة حياته حتى فقد الأمل في عودتها. و من ثمّ الاستكانة حتى وافاه الأجل في الأيام الأخيرة من شهر فبراير 2020م. حيث وجد القارئ اختلافاً في تاريخ وفاته. حيث نشرت سودانايل رثائية سردية كتبها عمر جعفر السّوري(مع حفظ الألقاب) بعنوان"ادريس عوض الكريم يفرغ حبر دواته ويرحل"، في 2020.03.03م.
و من بعده كتب ياسر عرمان (مع حفظ الألقاب) رثائية سردية منشورة في سودانايل مؤرخه في 2020.03.05م. بعنوان :" البَحْرُ مَاتْ- دمْعةٌ ووردةٌ حَمْراء على قبْر النّورس إدْريس عَوض الكَريم"
و كلاهما أشار الى تاريخ الوفاة في يوم الجمعة 28 فبراير2020م. و أختلف معهما المناضل ياسين محمد عبدالله مدير مركز سويرا لحقوق الإنسان، الذي كتب رثائية سردية بعنوان:"ادريس عوض الكريم.. رحلة النورس الأخيرة ،مؤرخة في 2020.03.08م منشورة في سودانايل. و فيها تاريخ الوفاة (يوم الأربعاء 26 فبراير).
و بصفة عامة، المقالات-كاتب هذه السطور استفاد منها معلومات قيمة-، أسهمت في الحديث عن الراحل سياسياً و مناضلاً مما يدل على سمة الوفاء و الثناء من قبلهم لشخصية عاش عاشقاً في دولة سياسة.
و العشق شيء، و السياسة شيء لأن العشق في الثقافة العربية أن تعيش الوجع ذاتياً و تائهاً في المنافي محروماً عن المشوقة حتى تكره نضارة الأيام فوح أريجها كما يقول الشاعر كجراي:"كرهت نضارة الأيام فوح أريجها ذلا/ وعدت وثوب أعماقي من الأحزان مبتلا / وكان الفجر مطعونا/ يرش على مآقي الزهر فيض دموعه طلا / وهأنذا أرى أمسي / وشجو صباى في صوت العصافير/ وأنت معي جموح صبابة تترى/ ترش العطر في كل المشاوير/ وتصنع لي أساطير/ وتنبض في حقول الشعر/ تورق في تعابيري/وهأنذا مع الذكرى/ مع الصمت الذي ينهار من شجو المزامير". و السؤال من سيكتب عن الشاعر جرير عاشق الضفتين ؟.. بعيداً عن أزمة الكتابين و العشق السياسي (ليلى)، الذي عاشه في المنافي.
jaliloa1999@gmail.com
/////////////////////////