الطيب صالح: نخلةُ تعشق الحياة بالكتابة

 


 

 

كتب الراحل المستشار القانوني بشير محمد صالح(ت 2019م)، شقيق صالح مقالاً ، بعنوان: "الطيب صالح .. ابن قرية من شمال السودان تُدْعَى كرمكول"، منشور في المواقع السودانية، و موجود على موقع انطولوجيا، و يكشف فيه أسراراً عن عالم شقيقه. و مما ورد في المقال:" وهل كان الطيب إلا للسودان عاشقاً ولأهله محباً . لقد قال عنه صديقه الحميم السفير الشاعر سيد احمد الحردلو فى قصيدة من عيون الشعر:" اسمك صار وطناً ".

هذا الإسم الذي أصبح وطناً ، هو الطيب بن محمد صالح أحمد، المولود في عام 1929م، فى فريق المشاوين بقرية كَرْمَكوْل، التابعة لمنطقة الدبة بإقليم مروى شمالي السودان. ولد في منزل هدمه البحر فى فيضان سنة 1948م حسب ما ورد في مقال لأخيه بشير محمد صالح:" ليس المنزل الذى نقلت صوره القنوات الفضائية ولكن فى منزل آخر هدمه البحر فى فيضان سنة 1948م. وكان جدّنا صالح يُعرف بمشاوي لأنه كما حَدَثَّنِي سار على قدميه من كَرْمَكوْل إلى سيدي عكاشه بمصر مخترقاَ أرض الدناقلة والمحس والحلفاويين. وكان يحكي عن رحلته تلك نوادر كثيرة. لذا كان أولاده يُعْرِفونَ بأولاد مشاوي.

عاش طفولته في قريته:« لقد كانت قريتي مختلفة تماماً عن الأمكنة والمدن الأخرى التي عشت فيها، ولاشك أن هذه المنطقة هي التي خلقت عالمي الروائي». و هي البيئة العالقة في الذاكرة:" في هذه البيئة بدأت مسيرة حياتي، ورغم أنني تعرجت في الزمان والمكان بعد ذلك لكن أثر البيئة لا يزال راسخاً في أعماقي، وأعتقد أن الشخص الذي يطلق عليه لفظ كاتب أو مبدع يوجد طفل قابع في أعماقه، والإبداع نفسه فيه البحث عن الطفولة الضائعة. حين كبرت ودخلت في تعقيدات الحياة كان عالم الطفولة بالنسبة لي فردوساً عشت خلاله متحرراً من الهموم، أسرح وأمرح كما شاء لي الله، وأعتقد أنه كان عالماً جميلا».

هذا الفضاء الطفولي، ما هو إلا بدايات التكوين ، حيث أشار أخوه بشير ، الى المؤثرات:" فى حياة الطيب شخصيتان عظيمتان لا يعرفهما الناس أثرتا عليه، إما وراثة أو معايشة: أولاهما والده محمد صالح أحمد الذى كان يُكَنَّى بأبى الطيب وبه كان فرحاً فخورا، وكان إذا افتخر يقول:" أنا أبو الطيب". كان محباً للعلم والعلماء لأنه ابتدأ الدراسة فى مدرسة دبة الفقراء ثم انقطع عنها وكان لذلك أسفاً أشد الأسف. وكان محباً للصالحين، وكان يفتخر بأن الفقيه بخيت الذى كان يعتكف فى غار بدبة الفقراء لم يخرج إلا لزيارته فى كرمكول. وكان محباً للعابد السائح محمد عبدالحفيظ الملقب بالحنين. و الشخصية الثانية التى تركت بصماتها على الطيب هي والدتنا عائشة بنت أحمد زكريا".
يتمثل الأثـر الأول في اصرار الأب على الدراسة:"دفع والدنا بالطيب للمدارس فى وقت كان ناس بلدنا لا ينشطون للتعليم، والدنا صبر على الطيب كما صبر عليَّ من بعده رغم فقره حتى قطع كل المراحل التعليمية". و الأثر الثاني في الذاكرة الشفاهية، حيث الأم:" تقول الشعر فى كل المناسبات وتحفظ مدائح ود سعيد وحاج الماحي وترددها بصوتها الشجي. و كانت قَصَّاصَة ماهرة تحكي الأساطير وتحول شخصياتها لرجال ونساء يمشون بين الناس. وكان الكبار قبل الصغار يلتفون حولها لسماع قصصها فى ليالي بلدنا المقمرة. وكم كان للقمر من سحر فى كرمكول". و من ثمّ الأمهات يشكّلن المخزون الثقافي الأول في الذاكرة كما يقول الطيب: «كانت أمهاتنا صغيرات السن، ففارق العمر بيني و بين والدتي سبع عشرة سنة، أذكر أننا كنا نلعب مع أمهاتنا ومن كن في جيلهن.. لها ذاكرة قوية وشديدة الحفظ، تقف في حلقة المديح فتحفظ كل ما يقال، وقد سمعتها مرارًا تروى المدائح والأغاني وشعر الدوبيت(شعر البادية).

درس في الخلوة لحفظ القرآن الكريم، وتعلم القراءة و الكتابة في مسقط راسه "كَرْمَكوْل". ثم انتقل الى مدينة بورتسودان الساحلية، ليدرس الإبتدائية والمتوسطة، حيث أستقر به المقام عند أقاربه. و أتقن خلالها اللغة الإنجليزية التي أحبها: "الواضح أن سبب تفوقي في اللغة الإنجليزية كان مرده حبي لهذه اللغة». حيث تشكّل له جسراً نحو الثقافة الانجليزية ابتداءً من شكسبير و مسرحياته، و أثرها عليه في البناء الدرامي. و أنعكس على شخصية مصطفى سعيد الذي يشبه نفسه في الرواية بعطيل، بطل مسرحية "عطيل" حيث يقول:" أنا عطيل عربي أفريقي"، أو يقول:" أنا لست عطيلا ، عطيل كان أكذوبة ".
التحق بمدرسة وادي سيدنا الثانوية في مدينة "أم درمان"، التي كتب عنها بقوله/":«كانت مدرسة وادي سيدنا مدرسة فاخرة، بناها الإنجليز بناءً باذخاً على غرار أعظم المدارس في إنجلترا وكنا ندرس تماماً كما يدرس الإنجليز في مدارس الارستقراطيين في أيتون وهارو». لكن الأهم أن يقف في باحة المدرسة لكي "يـؤبـن المهاتما غاندي واصفا إياه بالزهد الصوفي في لغة منمقة مختارة بعناية، فكان شيئاً جديداً على أقرانه ومن عاصروه ، وأساتذته الذين تنبأوا له بمستقبل باهر". و فيها عشق الشعر العربي القديم:" وفى المرحلة الثانوية، كان لنا مدرسون جيدون مطلعون اطلاعا واسعا على الشعر العربى القديم. وكان لنا مدرس اسمه الشيخ حسن أحمد. وكان هذا الشيخ يحب البحتري، ويمضى الوقت الطويل فى إنشاد قصائده. وكان يفعل ذلك بشكل مسرحي، بحيث حين يشتد به الطرب للقصيدة التى ينشدها، يبدأ فى القيام بحركات مسرحية، ناسيا نفسه، ونحن أيضا. وفى الصباح يكون شديد النشاط، لكن عندما تأتى الظهيرة يتعب، بسبب الجهد الكبير الذى كان يبذله أثناء إنشاده لقصائد البحتري.. وشخصيا تأثرت بهذا الشيخ. وقد يكون هو الذى جعلنى ازداد تعلقا بالشعر". و من حبه للأدب، التحق بكلية"غردون، الكلية الجامعية" عام 1949م- الخرطوم حاليا-، لدراسة الآدب. و لم يوفق فدرس في كلية العلوم، التي تركها إلى مهنة التدريس في المدرسة الأهلية الوسطي بمدينة رفاعة.

كانت الحياة هادئة حتى وقع بين يديه إعلاناً عن حاجة الاذاعة البريطانية الى مذيعين و مترجمين، فتقدم للوظيفة التي غيرت مسار حياته بعد قبوله للعمل بها. و مغادرة السودان الى إنجلترا عام 1953م شاباً في الرابعة و العشرين من عمره. و في ذات العام 1953م كتب أول نص قصصي له "نخلة على الجدول" وأذاعه عبر الإذاعة البريطانية التي ترفى فيها و اصبح رئيساً لقسم الدراما. وأعقبه بـ"دومة ود حامد".
نُشر العمل في عام 1966م بمجلة "أصوات" المتخصصة بالثقافة في لندن. و كان من الكتّاب المساهمين فيها مع نخبة من الكتّاب العرب و الانجليز. و ساهم من خلالها لخدمة الثقافة السودانية و رموزها ، مثلما ساهم اذاعياً. حيث يعود اليه الفضل فى اكتشاف موهبة الفنان صالج الجيلى ابو قرون، و أطلق عليه الإسم الفنى صلاح بن الباديه. و قدمه لاول مره عبر الإذاعه البريطانيه. مما مهد له الطريق للإذاعه السودانيه.

عاد إلى السودان 1967م، وعمل خبيراً في الإذاعة السودانية، ثم انتقل إلى دولة قطر، حيث عمل في وزارة الإعلام، و كان من المساهمين بتأسيس مجلة «الدوحة» مع صديقه الناقد د. محمد إبراهيم الشوش رئيس تحرير المجلة آنذاك. و من بعده الناقد المصري رجاء النقاش (1934-2008م) رئيساً للتحرير بعد عودة اصدارها مرة أخرى. و هو صاحب المقال الأشهر"الطيب صالح عبقري الرواية العربية".

توقف عن الكتابة الروائية في منتصف السبعينيات، بعد أن قدم مجموعة من القصص القصيرة:«دومة ود. حامد»،«حفنة تمر»،«هكذا يا سادتي»،«نخلة علي الجدول» ،«وهكذا يا أستاذ»،«رسالة إلي إيلين».
وفي التراجم رواية«منسي».و رواياته الخمسة:«عرس الزين»،«بندر شاه»، «ضوء البيت»، «مريود».
و رواية «موسم الهجرة إلي الشمال»، الأكثر شهرة، و اللعنة التي لاحـقـته حتى رحيله بسبب الربط بين شخصية الكاتب و بطل الرواية. تم نشرها في مجلّة "حوار" البيروتية عام 1966م، وأعادت دار العودة نشرها في بيروت. و أعاد النقاش نشرها في سلسلة "روايات الهلال" بالقاهرة.

كما تم ترجمة الرواية الى الإنجليزية زمنياً في وقت كتابتها من قبل المستعرب البريطانى دنيس جونسون ديفز (1922-2017م)، مؤسس مجلة "أصوات"، و المترجم للأعمال الأدبية العربية. الذي عاش سنوات من عمره في وادي حلفا بالسودان، و زامل الطيب صالح في الإذاعة البريطانية. حيث كتب عنها في مقال منشور في مجلة البيان الإماراتية، مؤرخ في 01 يونيو 2015م، بقوله:"أبلغني الطيب صالح، بأنه شرع في كتابة رواية جديدة أكثر طموحاً، وكان يكتبها بخط اليد، وكل بضعة أيام، كنت أتلقى في مكتبي مجموعة من الأوراق، تضم مقطعاً جديداً منها، وسرعان ما اكتملت الرواية التي حملت عنوان «موسم الهجرة إلى الشمال»، واكتملت ترجمتي لها في الوقت نفسه على وجه التقريب. كنت على تمام الثقة بأن لدي في هذه الرواية عملاً من أعمال القص العربي، سيتمكن من أن يجد مكانه لدى ناشر لندني بارز، وليس في سلسلة روايات مكرسة للكتابات العربية الحديثة. صدرت رواية «موسم الهجرة إلى الشمال» في ترجمتها الإنجليزية في عام 1969، وكان ذلك بمثابة يوم جدير باحتفال كبير بالنسبة لي، وللطيب الصلح، على حد سواء. وأتذكر أن الاحتفال أقيم في مكتبي، وحضره عدد قليل من الأصدقاء". و يعتقد البعض أن المستعرب الذي أسلم لاحقاً و أصبح عبدالودود ، هو صاحب الفضل لنجاح الطيب. و أن الطيب قد يكون يقصده بشخصية "منسي"، المركبة من شخصية أخرى .
شهدت "لندن" حياته العملية و الاعلامية و انتاجه الأدبي منذ أن وفد اليها ذات شتاء قارس:" عندما جئت إلى لندن في فبراير 1953م وجدتها تعيش تحت وطأة شتاء من أفظع الشتاءات التي عرفتها إنجلترا .. كان بردا قارسا، ما زلت حين أتذكره تصطك أسناني.. أظن أن هذا الزمهرير الداخلي الذي سبق أن أحسسته ، ظهر واضحا في رواية موسم الهجرة ". و شكّلت هذه الصورة العالقة في الذاكرة نغماً و مشهدية ليلة مقتل جين مورس:" ذات مساء داكن في شهر فبراير، درجة الحرارة عشر درجات تحت الصفر .. المساء مثل الصباح ، مثل الليل داكن مكفهر، لم تشرق الشمس طيلة أثنين وعشرين يوما . المدينة كلها حقل جليد، الجليد في الشوارع، في الحدائق عند مداخل البيوت، الماء تجمد في أنابيبه والنفس يخرج بخارا من الأفواه.. فـي ليلـة مثـل هـذه تحدث الأعمـال الجسيمة .. هذه ليلة الحساب". و لم يكن "الطيب" سعيداً في بداية غربته اللندنية ايتداءً من البلد / لندن، و الدار/ الغرفة:" جـئت إلى بلد لم أكن أرغب فيه لأعمل عملا، هو كذلك ليست لي رغبة فيه... تركت الأهل والأحباب والدور الفسيحة والتواصل الاجتماعي لأجد نفسي داخل غرفة صغيرة برودتها لا تطاق في بلد غريب بين قوم غرباء". هذه الغرفة التي اكتسبت سماته الأفريقية و بخورها وزينتها لتكون دار ضيافة للاصدقاء واقعياً، و مسرحاً لرواية موسم الهجرة للشمال.
منحته "لندن"، الفرصة للتعرف على أندية الكويكرز،التي يصف أعضاؤها بأنهم:"من أطيب البشر ومعروف عنهم أخلاقهم الفاضلة وهم يعتنقون مذهبا مسيحيا قريبا جدا من الإسلام لأنهم وحدانيون وليس لهم كنيسة. ويقول أنهم كانوا أصدقاء للسودان والسودانيين". و أغلب فتيات مصطفى سعيد من أندية الكويكرز، أو الجامعة أو التيار الإشتراكي "الفابية"، التي جعلته يميل اليها:" بعد الاطلاع على مجريات الحياة السياسية في إنجلترا وجدت نفسي أميل للاشتراكية العمالية وقرأت كثيرا عن الفابيين. وكانت مدرسة لندن للاقتصاد التي أنشأها حزب العمال توجد قرب مقر هيئة الإذاعة البريطانية و تابعت محاضرات في تلك المدرسة، الجامعة التي كانت تمثل الفكر الاشتراكي ". و من ثمّ "لندن" علامة فارقة في حياة الطيب أدبياً، لأنها شكّلت أرضاً خصبة لرواية موسم الهجرة الى الشمال من خلال شخصية مصطفى سعيد في جزئها البوهمي و الانتقامي. حيث الذات العاشقة للحباة بالكتابة منذ أن أعلن التحدي ضدها(لندن) في صورة الضحية "جين مورس" رمزية الإستعمار، و الجلاد في صورة "مصطفى سعيد" رمزية التوحش. و الموت رمزية إنتصار ظاهرياً مع أن الحقيقة هزيمة للذات و للعديد من الصور الإجتماعية، حيث المجتمع في صورتين، الأولى إنكسارية أمام جبروت الغرب، الذي حكم على مصطفى سعيد بالبراءة، و حرمانه من الموت شرفاً للأمة. و الصورة الثانية واقع مجتمع حكائي و جزئيات نمطية، تمازجت في أشكال النساء ، أشهرهن حواء العريبي، و حسنة بنت محمود أرملة مصطفى سعيد، رمزية التحدي في مجتمع التحول. حيث تزوجت- غصباً عنها- من ود الـريـس، و أنتحرت بعد موته على يديها بصورة بشعة. و تمثل نموذجاً لرفض واقع إجتماعي سـائد لا يقـبل القسمة على إثنين، أي إنتصار وهمي، يلحقة الإنتحـار و خسارة المجتمع و الحياة.

إذا حضرت الرواية العربية، فإن الطيب أحد فرسانها، حيث برع في رسم معالمها عربياً، مع أن الإرهاصات الأولية مقدمات و تحرير ذات في عرس الزين حتى ترفرف على أجنحة المجتمع السوداني. ثم الخروج عن المألوف"السكون"في موسم الهجرة إلى الشمال، الى حراك الاختلاف:"انتقال كاتب من الفراغ و السكون إلى التربع على قمة فن أدبي تصاولت فيه أقلام عمالقة و أقزام. و أختلف حول أدبه الجميع مع الإقرار بأن " الطيب صالح.. عبقري الرواية العربية"- اسم كتاب بقلم مجموعة من النقاد. و الإختلاف بين رؤيتين إحدهما تحمل سمة الرفض داخل المجتمع السوداني. و ردود أفعال لها أثر نفسي على شخصية الطيب صالح ، الذي أصبح مـقلاً في عطائه الروائي و القصصي مع ترك اليراع فواحاً برائحة المقال في أجنحة الكون و الشعر العربي. و لا يقف الإختلاف عند حدود طرف مضاد بذاته، و إنما يصل إلى أطراف أخرى متوافقة بصفة عامة مع الإختلاف في الرؤى الفكرية و القراءة النقدية. و يعود إلى اسقاطات الراوي لطروحاته الذاتية في المؤثرات المكانية و الشخوص مع رسم أدوارها بصورة شعبية حتى يشعر القارئ أن الرواية محاكاة لواقع معاش، حيث بصمة الإذاعي الذي ينقل الصورة إلى مستمعيه بلغة أقرب للواقع.
و الفكرة أعمق من أن تدركه ذات المتلقي. و من ثمّ توظيف الشخوص حتى يصل الفكرة للمتلقي مع الكشف عن مواطن الخلل و الإخفاقات في المجتمع خلال مـرحلة التحول. و الإيحاء أن القرية السودانية ليست مكاناً بذاته، و إنما نموذجاً فكرياً لذات سودانية أصيلة. و لتحقيق ذلك ، استخدم تقنية التعددية الصوتية، التي وظفها في حواراته و مقابلاته التي تتم معه و في أحاديثه الداخلية. وقد أشار الى هذه الخاصية في شخصية الطيب، صديقه المؤتمن محمود صالح عثمان صالح، في غلاف مختارات الطيب صالح التي حررها مع د.حسن ابشر الطيب و كتب على غلاف المجموعة يقوله:«...الطيب صالح في رأيي كاتب شامل. مكنته ثقافته العميقة والمتنوعة.. أن يروي ويحكي ويخبر ويوصف ويحلل ويقارن وينقد ويترجم بأسلوب سهل عذب ينفذ إلى الوجدان والفكر كما تشهد هذه المجموعة من المختارات.

ربما قراءة د. محمد إبراهيم الشوش، في كتابه أدب و أدباء ، الأقرب إلى فهم أدب الطيب صالح، الشخصية و الفنية لأسباب أهمها:"التصاق الشوش بالطيب صالح بحكم صلة القرابة بينهما و بحكم مزاملته له أيام الدراسة في بريطانيا. و كان ساكناً معه في نفس الغرفة التي رسمها الطيب سكناً لمصكفى سعيد. بالإضافة الى التصورات العقلية و الثقافية المتقاربة للإثنين معاً.

يرى بعض النقاد أن سر الإبداع عائد إلى الذائقة الشعرية، و من هؤلاء د. حلمي محمد القاعود ، في كتابه موسم البحث عن هوية – دراسات في الرواية و القصة – إصدار الهيئة المصرية العامة للكتاب 1987م،
إذ يرى في قصصه القصيرة:"صوراً رائعة لقصائد غير موزونة، تحمل في طياتها عطر الشعر بنورانيته، و لعلي لا أجاوز الحقيقة اذا قلت انه كان في نشأته شاعراً و ضاق بالقريض فوجد بغيته في التعبير القصصي.. أستمع إلى الصوت الداخلي حين يقول:"قوافي ظمأى و السراب يتوهج قدامي في صحراء الشوق"، أو قوله:" شفق المغيب ليس دماً و لكنه حناء في قدم المرأة ، و النسيم الذي يلاحقنا من وادي النيل يحمل عطراً لن ينضب في خيالي ما دمت حياً ". تأمل هذه الصورة من بعيد " و نجوم السماء مجرد فتوق في ثوب قديم مهلهل ". أليست جديدة تماماً ". فإذا كان القريض من الأسرار الإبداعية ، فإن المعهود عن الطيب صالح ، الولع الشديد بالشعر العربي، و تتسع ذاكراته التخزينية لموروث كبير من قصائد فحول الشعر العربي أمثال: ذو الرمة ، الصمة القشيري، المرقش الأكبر، المتنبي و أبي العلاء المعري ، و التي نجد أثارها في مقالاته و حواراته، و مشاركاته في المهرجانات الثقافية. و بالتالي لا جديد أن يكون القريض من الأسباب التي أدت إلى نجاح الرواية شعبياً.

و عوداً إلى رؤية أخرى للدكتور حلمي:" لعل التركيب الغني الذي لجأ اليه "الطيب" هو الذي أعطاه القدرة على العطاء الشعري المتدفق من خلال الأسلوب الخاص به . انها قصة داخل قصة. الراوي يحكي قصته و في داخلها قصة "مصطفى سعيد" البطل الرئيسي في القصة كلها ... و لا يتقيد بالترتيب و التتابع المألوفين في القصة الكلاسيكية بل هو يتحرر من ذلك مستخدماً وسائل فنية كثيرة تخدم القصة و ان كانت تأتي زاعقة بعض الأحيان من ذلك: الخطابات و الوصية و المذكرات و المنولوج الطويل". بالإضافة إلى رؤيته أن سر النجاح في تجاوز أفاق الأقليمية:( بيد أنني أؤمن أن"الطيب صالح" استطاع أن يتجاوز أفاق الأفليمية المحدودة حين استطاع أن يغلب اللغة الفصحى في أسلوبه سرداً و حواراً . و بذلك تكامل عطؤها الفني شكلاً و مضموناً ".و ينهي القراءة بقوله:"ان هذه القصة تثير فينا أشجاناً شتى و أحاسيس مختلفة تتفق جميعاً في انتزاع انتباهنا من هوة الضياع و التيه الذي يتخلف عن مرحلة التحول و الإنتقال ،و توجه اهتمامنا إلى المستقبل لتبحث فيه عن ذاتنا و شخصيتنا.. فهذا بحق"موسم البحث عن هوية".
و السؤال:هل هو البحث عن هوية؟.. لا أعتقد ذلك.حيث أن الهوية ثابتة و إنما البحث عن الذات بعد الإنكسار بالعودة (الهجرة) إلى قرية دومة ود حامد، و مجتمع الزين (الشمال السوداني)، و ليس هجرة إلى الغرب مع أن مسرح الأحداث مفعم بنكهة مدينة الضباب. و هي لعبة أسقط من خلالها القارئ لإبعاده عن غربة الذات السودانية. و يستدل بالنخلة الدلالة القطعية على أصالة الهوية و مواجهة المستقبل/الهدف
" نظرت خلال النافذة الى النخلة في فناء دارنا، فعلمت ان الحياة لاتزال بخير، انظر الى جذعها القوي المعتدل والى عروقها الضاربة في الأرض، والى الجريد الأخضر المتهدل فوق هامتها فأحس بالطمأنينة. احس انني لست ريشة في مهب الريح ولكنني مثل تلك النخلة مخلوق له أصل، له جذور، له هدف".

لقد تطرق د. يوسف نور عوض(ت 2015م)، في كتابه النقدي"الطيب صالح في منظور النقد البنيوي" إصدار مكتبة العلم بجدة 1983م إلى الأسباب التي أكسبت الرواية شهرة كبيرة، و جعلت منها عملاً ناجحاً. و أوجزها في ثلاثة عناصر رئيسة:-
أولاً : بناء الرواية على "حدوتة" مغلفة بالأسرار و المعميات و قد خاطب الكاتب بذلك تأريخاً طويلاً من
فن القص يعيش في وجدان الإنسان العربي.
ثانياً: قدرة الكاتب بإحداث تشكيلات درامية في بنية الحدث نفسه دون أن يؤثر ذلك على بنية الشخصيات.
ثالثاً: احتفاظ الكاتب بنفس الخصائص الجمالية التي تميز بها أسلوبه في أعماله السابقة.
و يرى أن فكرة صراع الحضارات ليست:"العامل الأساسي الذي فتح الطريق أمام الطيب صالح ليغزو الميدان الأدبي. و إنما يعود إلى المهارة الفنية - تقنية السينما و الإخراج الفني - التي غزا بها الطيب صالح الواقع الأدبي. بالإضافة إلى:"الخصائص الأسلوبية التي تجلت على نحو واضح في دومة ود حامد ، عرس الزين قد عرفت طريقها إلى موسم الهجرة إلى الشمال. لقد اكتشف القراء و النقاد موهبة الطيب صالح من خلال موسم الهجرة إلى الشمال التي هي في حقيقتها امتداد للخصائص التي ظهرت عند الكاتب في العملين السابقين". و هذه الرؤية مبنية على دراسة لمجموع أدب الطيب صالح، و معرفته لأنماط التفكير في المجتمع السوداني .

خلاصة الدراسة النقدية أن "دومة ود حامد، عرس الزين، موسم الهجرة إلى الشمال، بندرشاه ضو البيت، و مريود"، خاتمة لمرحلة أخرى:"اختتم بهذه المجموعة حلقة من حلقات إبداعه الفني، و لكي ينطلق في مجال القصة العربية أمامه أن يثبت وجوده في مجال غير قرية ود حامد و شخوصها ". و السؤال: هل أنطلق في مجال القصة العربية خارج سرب قرية ود حامد ؟ ان الإجابة على السؤال بسيطة جداً لعدم صدور أي أعمال فنية خلال ثلاث عقود مـن الزمن تقريبا. تفرغ خلالها لحياته العملية و الكتابة الصحافية. و كان يكتب في مجلة"المجلة" عبر زاويته"نحو أفق بعيد". تناول فيها قضايا وهموم الكتابة بأجناسها المختلفة بقدر كبير من الجدية والرصانة. و كان حينها يعمل مستشاراً بمنظمة اليونيسكو للعلوم والثفافة والتربية في باريس، ثم مديرا إقليميا و مقيماً للمنظمة بالدوحة و الخليج العربي. تم جمع هذه المقالات في عام 2004م لتكون اصداراً كتابياً في تسعة أجزاء.

و مع يراع لا ينتظر حيناً من الدهر حتى يعود ليحكي بضمير المتكلم بدلاً من راوٍ أخر، و متخلياً عن تقنية التعددية الصوتية ليكون الخطيب المفوه في عمل يختلط فيه الحقيقي و المتخيل و بلغة ساخرة ممزوجة بالدعابة تحت مسمى المُختارات:" مختارات الطيب صالح - منسي:إنسان نادر على طريقته". و عاد بهذا الإصدار مع متغيرات العـولمة – انذاك -، ليحكي ان منسي صديقه المصري القبطي، كان سبقاً الى العولمة. و يدعى مايكل بسطاوروس، يختزل كل الحياة والألقاب والمراسيم والمناصب بكلمة واحدة. و تصور الرواية تحول "منسي" إلى الإسلام ومعيشته على طريقته الخاصة، ويقول"الطيب" إنه كتب هذه الرواية وفاء لذلك الإنسان الذي صحبه سنوات عمله في هيئة الإذاعة البريطانية. مثلما صحبه في الترحال:"دوشني بالثرثرة إلى أن وصلنا دلهي، فأضاع عليّ تلك المتعة الخاصة التي أجدها قي لقاء مدينة جديدة من الجو.. أراها من الطائرة على كامل هيئتها مثل نموذج مصغر، ولعل تلك هي الصورة التي تعلق في الذهن بعد أن ينسى الإنسان أسماء الشوارع وأشكال المباني وزحمة الناس والسيارات ". و عبارة " دوشني بالثرثرة "، تجعل القارئ يطرح السؤال: هل "منسي" حقيقة أم شخصية شبيهه بشخصيات ناجي العلي ؟ أو تمجيد لذات طائر منفرد مع قراءات إنسانية مفعمة بزهو الذات حـيناً حتى يـظن القارئ أن شخصية المنسي تقدير الطيب صالح لشخصه. و الوفاء لإبداعه كتبه بأنامله قبل أن يكتب عنه الآخرون العرائض الرثائية.كأنما أراد القول:ان أشـدتـم بي بعد مماتي فإني سبقتكم و نثرت كلمات الوفاء على الورق يتطاير عبر الآفاق مثل قول المتنبي:الخيل و الليل و البيداء تعرفني، و السيف و الرمح و القرطاس و القلم. لأن "الطيب" لا يترك القارئ دون لغـز ، ينشغل به.

ربما الرؤية الفنية للدكتور يوسف نور عوض، أقرب الطروحات لفهم و تفسير ظاهرة الطيب صالح، التي شغلت النقاد:"بحثوا عن ذلك في صراع الحضارات، في الذاتية الأفريقية. و ظهر اتجاه جديد يعتبر الطيب صالح مفكراً أسلامياً اتخذ من الأعمال الروائية ستاراً يحجب وراءه حقيقة ميوله الدينية و لا أريد أن أقول إن هذه الإتجاهات في مجملها أخطأت طريقها إلى الطيب صالح لأن الطيب في حقيقته الفنية و الفكرية تشكيلة من هذه العناصر جميعها. برز ذلك على نحو خاص في الطريقة التي قدم بها نفسه للجمهور من خلال أعماله الفنية – بل أريد أن أقول لقد نسي هؤلاء في دوامة اسقاطاتهم الثقافية الكاتب نفسه و لو بحث هؤلاء في البنية النفسية و السيرة الذاتية للكاتب لعرفوا أنه لم يكتب عن شئ غير نفسه و غير فلسفته الخاصة تجاه الكون و الحياة. فلم يكن مصطفى سعيد و محيميد و مريود إلا وهم الكاتب لحقيقة وجوده".

عاش الطيب صالح كما عاش هؤلاء و انتهى إلى نفس الفلسفة التي انتهى إليها مريود في أخر أمره و هي ليست فلسفة صوفية خالصة لأنها شئ يورث الحزن و يجعل الإنسان يحس برهبة الأكوان من حوله و ضآلة موقفه في هذا البناء الكوني العجيب". و من ثمّ الرواية أكذوبة، وهم الكاتب مع نفسه، حيث يتساءل الراوي:"هل كان من المحتمل أن يحدث لي ما حدث لمصطفى سعيد؟ قال إنه أكذوبة؟ فهل أنا أيضاً أكذوبة؟". و الصراع الحضاري أكذوبة، لأن القصة في نهاية المطاف إخراج فني لواقع مُعاش برؤية مختلفة. و المُخرج له حياته الخاصة الأمنة. و في هذه الحالة العودة الى المؤثرات الرائجة أنذاك مثل:كتابات سيجموند فرويد، كولن ويلسن و كتابه"اللا منتمي" و اثرها على شخصيات الرواية. و ما يؤكد ذلك، قدرته الفصل بين حياته الخاصة، والعملية حتى يتفرغ للفعل الإبداعي و المهنية الإعلامية. فلا يوجد لدى الذاكرة الإعلامية و أقرب الناس اليه - الإعلامي طلحة جبريل، مؤلف كتاب:"على الدرب.. مع الطيب صالح، ملامح من سيرة ذاتية"، مركز الدراسات السودانية-، أي معلومات خاصة عن حياته الأسرية، زوجته الاسكتلندية "جولي ماكلين" و بناته الثلاثة. حيث كان حريصاً أن تبقى أسرته بعيداً عن وسائل الإعلام،
توفي في لندن 18 فبراير 2009م، و دُفـن في «أم درمان»،، حيث حقق شقيقه امنيته بأن يُدفن في السودان. فكأنما نفذ وصيته التي سردها محيميد مخاطباً ود الرواسي: أما أنا يا ود الرواسي ، أفندي بالغلط ، مزارع زى ما قلت، هام على وجهه و رجع لنقطه البدء. رجعت عشان ادفن هنا. أقسمت ما أعطى جثماني أرض غير أرض ود حامد».
رحل و النخلة في فناء الدار، تؤرخ للحياة الإجتماعية، تروي حكاية الرحيل و الحنين في مجتمع الشمال السوداني. هذا المجتمع الذي استطاع الطيب من خلاله الخروج من شرنقة غربة الذات إلى غربة شعب يعشق الحياة أو نـخلة تقاوم الريح بالكتابة.

jaliloa1999@gmail.com

 

آراء