برامكة البقارة وآفاق المستقبل
د. مبارك مجذوب الشريف
23 January, 2023
23 January, 2023
مقدمة:
نشر هذا المقال بمجلة السودان في رسائل ومدونات العدد (23) الصادر في عام 1940م وكاتبه هو (هيو بنيامين آربر). وفي هذه الاسطر نقدم ترجمة للمقال، ثم نبذة عن المؤلف ونختم ذلك بتعليق المترجم، اما العنوان الاصلي للمقال فقد كان (البرامكة).
البرامكة
البرامكة، أو شاربو الشاي، موجودون في قبائل البقارة في كردفان ودارفور، ونادي البرامكة في ابسط صوره هو تجمع لأعضاء معظمهم من الشباب لشرب الشاي بصورة احتفالية؛ وفيه يتغنون بأغنيات تمجد السكر (بضم السين وتشديد الكاف ويقصد مادة السكر). وقد انتشرت هذه الجمعيات كالنار في الهشيم، وانتقلت من البقارة الى من هم على صلة بهم، ومع انتشارها اكتسبت صفة الطقوس والعادة الحسنة؛ حتى اضحت الآن نوعاً من حركة شبابية لا تقتصر على البقارة فقط بل امتدت الى العرب المستقرين، والنوبة المستعربين، وشملت حتى النوبة غير المستعربين المحافظين على نوبيتهم (pure nuba).
في المناطق التي ظهرت فيها بصورتها المتطورة فان الصورة البدائية لشرب الشاي غطت على نموذجها المتماسك للتعاون الزراعي، وامتازت الحركة بسمت الديمومة؛ والجاذبية الطاغية؛ للدرجة التي مكنتها في السنوات الاثنتي عشرة الاخيرة من الصمود امام عدم الرضاء الحكومي والاستياء القبلي. وبما انها تمكنت من البقاء فهذا يجعلها جديرة بالدراسة لمعرفة أي مستقبل ينتظرها في الحياة الاجتماعية المحلية.
يعود اسم البرامكة الى البرامكة المشهورين في الخلافة العباسية، وكما يقول فيلبي: (فان منافسة عائلة برمك للخلفاء "العباسيين" في العطاء وبإسراف اصبحت مادة "جيدة" للتاريخ)، وقادت سمعتهم في الكرم الى ارتباط ذكرهم عند العرب باستخدام اسمهم برمكي وجمعها برامكة ليعني وإلى الآن الكرم وحسن الضيافة والاريحية.
جاء الاسم لنا (الاوروبيون) من خلال حكايات الف ليلة وليلة وقصة (مأدبة البرمكي) والتي تشير للبخل الشديد وهي على العكس تماماً من المعنى الحقيقي للكلمة عند العرب.
حجر الاساس لأسرة البرامكة وضعه خالد بن برمك، والذي صعد لمرتبة وزير في عهد السفاح؛ وتوفي وهو في غاية الثراء في عهد المنصور. وقد اصبح ابنه يحى والذي نال تدريباً جيداً على يد والده معلماً لهارون الرشيد بن الخليفة المهدي، ومن خلال جهود يحى تمكن الرشيد من وضع يده بأمان على الخلافة واصبح يحى وزيراً ولكنه كان الحاكم الفعلي للدولة.
وبشغل ابنيه الفضل وجعفر للمراكز الهامة في الحكم احتكرت اسرة برمك المناصب العليا في الدولة، وكانت هذه فترة ثرائهم واسرافهم في الكرم، واضحى جعفر وهو الصديق الصدوق لهارون الرشيد الاكثر شهرة في دنيا البذخ غير المحدود. وقد سقطت اسرة البرامكة عندما تخطى جعفر حدود المعقول من اللباقة وهيبة الحكم؛ فقام هارون الرشيد بقطع رأسه عام 803 ميلادية،
تربط اندية البرامكة (لدى البقارة) نفسها بجعفر، ويروى أحد كبار البرامكة البقارة القصة التالية عن سقوط جعفر:
(دخل كل من جعفر والخليفة هارون الرشيد في رهان على اقامة حفل باذخ، ولما كانت المنافسة بينهما شديدة للغاية فقد ذهبا للقاضي عبد السلام؛ واقسما امامه ان من يخسر الرهان سيشنق. اقام جعفر حفله وكانت آنية الشاي والملاعق من الفضة؛ والاكواب والصحون من الفضة؛ وحتى السلاسل كانت من الفضة، ولكن عندما اقام هارون حفله كان كل شيء من الذهب بما في ذلك السلاسل ، وهكذا خسر جعفر الرهان وجرى شنقه).
لكن حتى لو قبلت هذه الرواية فانه لم يظهر وجود لأية علاقة تاريخية تؤدي للربط بين اسم (البرامكة) وهذا النادي. أما العرب (البقارة) انفسهم فلا تفسير لديهم ابعد من ان الاسم جرى تبنيه لما يحتويه من معان ويبدو ان هذا هو الصحيح.
اشارت بعض المراجع التاريخية الى الاسم باعتباره غير محترم، ويقول الدكتور جنكر في مذكرات بعنوان (رحلات في افريقيا):
(الغازية وجمعها غوازي هن راقصات محترفات في مصر وغالبيتهن ينحدرن من حثالة المجتمع؛ ويدعين انهن من سلالة اسرة البرامكة المشهورة، وفي عام 1834 قام محمد على باشا بنفي الغوازي او البرامكة وهو الاسم الذي يحببن سماعه من افواه الناس الى صعيد مصر).
ويقول لين: (من الجائز انه ليس لديهن الحق في استخدام اسم البرامكة؛ الا اذا نظرنا لهن باعتبارهن يمثلن روح تلك الاسرة في التحرر، وإن كان تحررهن من نوع آخر).
اشار بوفات الى هؤلاء الراقصات وهو الذي لم يجد لهن سبباً مقتنعاً يربطن به انفسهن بأسرة البرامكة؛ وذكر ان الاسم اصبح مرادفاً للإهانة في القرى المصرية)، وهذا ايضاً ما اشار له الشيخ محمد عبده، لكن فيما عدا ذلك وفي كل الامكنة الاخرى حافظ الاسم على سمعته الطيبة، ونعلم ان بعضاً من هؤلاء الغوازي ادخلن للسودان بواسطة المماليك الفارين (من محمد على باشا) ومن المحتمل انهن جئن ومعهن هذا اللقب البرمكي.
من الهند يأتي دليل آخر على استخدام اسم برامكة ليشير الى نادي، وهو يستخدم هناك ليشير الى مجموعة تجتمع لتدخين الحشيش بواسطة (الشيشة) او يتناولونه كخلطة في شراب يشبه الشاي.
رغم ذلك واصلت السمعة الحسنة للاسم استمرارها؛ وربما من المحتمل القول ان شعبيتها زادت خلال فترة حكم المهدية لدى الدراويش؛ والذين كانوا يؤملون في ان يكون حكمهم مماثلاً للعهد العباسي وهو في اوج ازدهاره.
ليس بوسع برامكة البقارة القاء مزيدٍ من الضوء على الاسم لديهم، ولكنهم يتفقون على انتفاء وجود تاريخي متجذر له، غير أن الاسم يتماهى مع كماليات العصر من الشاي والسكر، والتي جاءت كما يقال مع اهل البحر الى سكان شريكلا من الهبانية، ومن المحتمل أنه ظهر بعد عام 1914م ، اي في سنة الجوع التي عرفت بسنة ام كُرسان (سنة الجذور) تلك السنة التي اكل فيها الناس شجرة الكرسان.( )
يمتاز الهبانية بتأصل الروح الاجتماعية لديهم لذا وجد النادي عندهم ارضاً خصبة، ومنهم شق طريقه لأقاربهم في جنوب دارفور، ولم يكن معروفاً فيها قبل مرحلة الاحتلال (البريطاني)، وفي الوقت نفسه وصل النادي إلى اولاد حميد والذين يقطنون الى الشمال من الهبانية فقاموا بنشره جنوباً في مجتمعات شبه الأقنان جنوب الكواهلة في ايريو و ويرني والليري. حينئذ اثبتت هذه الاندية انها شديدة العدوى فانتقلت الى معظم البقارة والحوازمة والمسيرية والحمر؛ وكانت جاذبة جدا للنوباويين المستعربين في تلودي وكادوقلي والدلنج، بل حتى للنوباويين غير المستعربين.
الانتباه الحكومي لظاهرة البرامكة حدث عام 1926م حين اكتشفها مأمور مركز رشاد عند اولاد حميد والقبائل المستقرة القريبة منهم وامرهم بحلها، وأكد هليلسون وقتها وجود جماعات مشابهة من الشباب عند الحمر والمسيرية، لكن هذه التجمعات لم تجد الرضاء (الحكومي) وتم حظرها فخفت ذكرها، ولم يعد احد يسمع عنها شيئاً؛ الى ان قدم مأمور مركز الدلنج عام 1926م تقريراً اشار فيه الى عودتها للحياة مرة اخرى في قسم النقل بسلاح الهجانة؛ والذي انتقلت له على ما يبدو من التواصل مع تلودي والليري وبعض الجبال.
طُلبت التقارير من كل المراكز وقد اتضح جلياً ان الحراك (البرمكي) كان واسع الانتشار وموجود في كل الجبال والمراكز وفي شرق كردفان وجنوبها، وبين قبائل شديدة الاختلاف كالضباب في جبل الداير والحمر.
افضل وصف مفصل لنادي البرامكة وقوانينه لدى عشيرة الفلايتة من الحمر قدمه المستر نيكولسون، وبموجبه صدر الموقف الرسمي بان هذه الاندية يجب حظرها تماماً في كل القطاعات العسكرية والشرطة باعتبارها نشاطا هداماً وضد الانضباط، وبالنسبة للقبائل ترك الامر للسلطات المحلية لتقرر ما تراه مناسبا حيالها.
لم تؤدي هذه السياسة بكل تأكيد لتقليص اندية البرامكة، رغم انه من المؤكد انها ادت الى توقفها في بعض القبائل بصفة قاطعة، فقد قضى ناظر المسيرية عليها تماماً في عام 1926م، وقام الناظر محمود ابو سعد بمنعها في ديار هبانية دارفور، وذلك بتغريم كل اعضائها، ووضع ناظر الحمر حداً لها، لكن جهد الناظر راضي كمبال ناظر اولاد حميد لوقفها ضاع سدى.
حقيقة الأمر هي ان هذه الاندية انتشرت واكتسبت ارضية ثابتة ذات فائدة وسط السكان المستقرين، واصبح للنادي غرضين: غرض اللهو والمتمثل في شرب الشاي وهو ما جعل النظار يكشرون عن انيابهم له لما فيه من بذخ واسراف وخفة عقل كما يرون، والغرض الثاني هو كونها اندية للتكافل الزراعي.
وتقدم السطور التالية على سبيل المثال وصفا تفصيلياً لاحد الاندية الموجودة في كنانة ابو جبيهة (المستقرين)، وفي منطقة الجبال الشرقية:
1- تكوين لجنة النادي المعينة:
السير: الراعي.
الناظر: الرئيس.
العمدة: رئيس الادارة.
الشيخ:
القاضي: يقوم بفض النزاعات.
الافندي: الكاتب وامين الخزينة.
الملاحظ: يقوم بضبط السلوك.
العسكري: الحارس.
2- لا يمنح أي شخص حق العضوية ما لم يقسم بالقرآن بإطاعة كل اللوائح والاوامر المنظمة للنادي.
3- هدف الجمعية هو مساعدة الاعضاء لبعضهم البعض في العمل مثل اعمال الزراعة وبناء المنازل وغير ذلك من اعمال، والمشاركة في السراء والضراء
4- اذا احتاج العضو مساعدة من زملائه الاعضاء في القيام بعمل فعليه ان يحدد الموعد، وان يجهز في هذا الموعد المشروبات الكافية لمن سيعمل معه، ومن يتخلف عن الحضور تفرض عليه غرامة مقدار (يومية عامل) ما يعادل 15 الى 30 مليما، كما على الداعي ان يقوم بتوفير الشاي والمريسة، وكذلك ذبيحة ان تيسر له ذلك.
5- ينعقد النادي في فترات زمنية محددة لاحتساء الشاي، ومناقشة شؤون العمل، كما تنظر المحكمة في القضايا المعروضة امامها. وعلى البرمكي الحاضر ان يكون يرتدي ثيابا بيضاء نظيفة، مع وضع عمامة او طاقية على رأسه، ويجلس كل الاعضاء على برش على الارض، ويجلس السير على الكرسي، ويجلس بقية الاعضاء على عنقريب مفروش؛ بينما يجلس السكرتير على بنبر، وتوضع ايضا طاولات. لا يسمح لأي عضو بان يضع رجلا على الأخرى عدا السير، لا يسمح لأي عضو بوضع كوب الشاي على الارض، كما لا يسمح له بتمريرها لآخر إن كان مكشوف الرأس، واي مخالفة لهذه القواعد تقود الى العقاب الفوري في شكل غرامة، ومهمة الملاحظ هو المراقبة وضبط هذه المخالفات، وابلاغ الشيخ بها ليرفعها للمحكمة.
6- سلطة المسؤولين محددة طبقاً لما هو في الادارة الاهلية، الغرامة التي يفرضها الشيخ لا تتجاوز قرشاً واحداً، وغرامة العمدة تصل الى قرش ونصف، والناظر إلى قرشين، بينما تصل غرامة السير الى ثلاثة قروش كحد اقصى. وفي النادي يطلق على القرش جنيه، وتعلن الاحكام دائماً بالجنيه.
7- يحضر السكرتير واحياناً القاضي جميع الجلسات، ويقوم بجمع الغرامات والتي نصرف في احضار اطعمة او مشروبات للأعضاء.
8- عندما يقدم برمكي استقالته، او يفشل شخص ما في نيل عضوية النادي ليكون برمكياً؛ فانه وفي هذه الحالة يصبح (كمكلي)، او الطفيلي الذي يكون محل احتقار الجميع.
تشكل الفقرات السابقات دستوراً لمعظم الاشكال المتطورة لنادي البرامكة، وقد تحدث اضافات او تطوير لما سبق ذكره.
في بعض المناطق هناك مساهمة نظامية قدرها قرشين من كل عضو، ويساهم بها كل الاعضاء إياً كان عددهم لأي عضو تزوج (عود العريس)، او قام بختان انجاله (عود الطاهر)، او توفي احد افراد عائلته (عود الموت).
لا يوجد حد عمري معين للبرمكي؛ ويبدو ان الكثير من الرجال متوسطي العمر سيبقون في سلك العضوية حتى تفقد اثنين من تلك المساهمات التي جرى ذكرها قيمتها بالنسبة لهم، او عندما يصبح عبء اطعام مجموعة الزراعة باهظاً وفوق طاقتهم. وغالباً ما تكون الخامسة والثلاثين هي سن التقاعد، اما سن الالتحاق فيبدو انها تعتمد على مدى توفر كمية قليلة من النقد في يد طالب العضوية. وينتشر النادي في عدة مناطق؛ فهو يتماشى عند الحوازمة الحلفا سبيل المثال مع تقسيمات العمودية.
يجتمع النادي عند القبائل المستقرة في اماكن لقاء محددة فهو احياناً تحت ظل شجرة ضخمة كما في الليري، او تحت راكوبة متسعة كما في ايريو وجنوب الكواهلة، وتوجد خدمات للضيوف داخل النادي وبموجب ذلك تقدم الضيافة للأعضاء الزائرين، وتوفر لهم اماكن الاقامة اذا لم يكن بالنادي مقر للضيافة، (وهذا يعود بالذاكرة الى المنازل التابعة للأندية التي تقدم خدمتها على اساس عمري في القبائل النيلية الحامية في جنوب السودان).
الزراعة الجماعية يمكنها أن تتوسع بزراعة قطعة ارض بالقطن بالجهد الذاتي للأعضاء والاستفادة من عائدها في انشطة النادي الاحتفالية.
حركة البرامكة كانت رجالية الطابع؛ لكن يوجد نساء برمكيات بالتوازي مع الرجال في عدة قبائل، وتحتكم هذه الاندية النسائية للقوانين نفسها المطبقة في الاندية الرجالية، ورئيسة النادي النسائي تدعى الملكة وترأس مسؤولات يحملن الالقاب نفسها الموجودة في النادي الرجالي، وتعتمد قوة النادي النسائي على مقدرتهن لجمع المال اللازم للنادي.
يتميز نادي البرامكة بمقدرته على التأقلم بما يلبي احتياجات أي مجتمع، وعندما تبناه النوباويون عمدوا لجعله عسكريا، فهو عند غلفان كرقل له ميادين استعراض مربعة ومسيرات وتشكيلات عسكرية.
وفي الليري تغير الاسم الى (توراك)، وتغير اسم القيادة ليكون بيه او مفتش، كما حل يوزباشي محل العمدة او الشيخ، ثم ميزوا انفسهم عن العرب اكثر بإدخال المريسة كبديل للشاي، كما اصبحت عضوية النادي تستوعب المزيد من كبار السن.
ينظر للنادي بانه طفل السعادة المدلل؛ وتتركز مضامينه في الاجتماعات، ومحاكاة الكبار، والزي والاغاني، وعادة ما يكون الزي هو ملابس بيضاء ناصعة، وعمامة تثبت عليها ريشة نعام، واوشحة ملونة متقاطعة عند الصدر وعصا، وهذه كلها تستخدم في رقصات المناسبات المهمة.
الاغاني التي تؤدي على طريقة البقارة التقليدية تلعب دوراً مهماً في هذه اللقاءات عندما يؤدونها جيئة وذهاباً، وهي متعددة ومعظمها في مدح الشاي والسكر، وتصف مجيئ الشاي من خارج السودان الى ان يستقر في إناء الغلي. وتهجو اغاني اخرى (الكمكلي) وجمعها (كماكلا) وتصف مأواه المزري.
لا يوجد مصدر تاريخي يفسر اسم كماكلا ، ويبدو انه اختراع بقاري مثله مثل اسمين آخرين "لا يمكن ذكرها كتابة" لمجموعتين اخريين من غير الاعضاء عرضة للهجاء ويزدريهما البرامكة. وتميل الاغاني الى استخدام رخص الضرورات الشعرية، ويتم التضحية بالمعنى احيانا من اجل ضبط القافية.
اغاني السُّكَر:
السُّكر محلها
وما اسمح نظرها
حدادي ما دقها
قام العطشجي ابو جزمة
دفتر في ايده وكدوس في خشمه
ورطن مع الملكة
بالقرطاس عمه
بالدوبارة ركه
وفوق القطر خطه
واجهة ابو حميرة
وقطع تذكرة
نزل الرهد ابو دكانا
لقي صبيان يشكرها
نجلب ثور نجلب بارا
من شايل قروش وزعها
ديل يبيع في رؤوس وديل يسألوا الوقة
ضيفان سيد الفرس الابتر
الشرب الشاي الياتو دا
حمدي الشقوي ابو موسى
سقيان المتمرة
وترى الوابور كان سيدها السنكرة
سالت من عمدة البرامكة
هو طاهر ود العجوز ابو يد المُغسَّلة
لموا البرامكة اسألوا من الحرفاء
اغاني الشاي:
المحبوب
قش الشاي الغروب
ابو راسا مقدود
بالدوبارة مكروب
يشربوا البرامكة الحرفاء
في اليد خرزان
في كراعه جزمة اما مركوب
فارت الكفتيرة
وتمَّر الكبابي
وابتسط القلوب
والله يا اخواني صبي يمد الشاهي
انت اخواننا محبوب
قصيدة هجاء الكمالكا:
الكملكي ابو نعلين
اقعد هناك من الناس
هدوم في وركي
تمدوا الشاي
ما يقول شكر الوسطاني
يقول الشاهي مالها حار كي
هجاء زوجة الكمكلي:
مراة الكملكلي
من اكل العيش
سمينة كيف ابو عزة
ومراة الحريف
تغلي الجدادة وتحمر كبدها
نغمها في الايام ديل ما تشرب الشاي
هي تكون مغلوبة
غناء اضافي للسكر:
جبار الخواطر
صفارة القواطر
ولا يشبع جيعان
ولا يسموا باطل
نشيلك ارباح
نشربك التذاكر
الكدوس والكونياك
شرب الكافي
انبسط العطشجي
زود التذاكر
من زمن المهدي المنتظر
حديث البرمكي
مسطر في الدفاتر.
كانت شعبية اندية البرامكة مدهشة؛ وانتشارها يشير الى ان الارض كانت ممهدة لبذرتها، وفي الاساس هناك خلفية اقتصادية لها من خلال تمجيد الشاي والسكر؛ ويفسر ذلك بصفة عامة ما حدث في العام 1914م وهو العام الذي تم فيه افتتاح الخط الحديدي الى الابيض؛ حيث جعل من هذه السلع رخيصة وفي متناول رجال القبائل وارتباط اهميته فيما تلى ذلك بصعود نجم القطن.
المال مهم للغاية للبرامكة، وسنة مثل هذه السنة الحالية (1938-1939) والتي كان فيها حصاد الحبوب سيئاً للغاية في كل مناطق البرامكة بالجبال الشرقية؛ بسبب الدمار الذي حاق بها من جراء الجراد ستشهد انخفاضاً في نشاط انديتهم وربما تجهض بعض النمو الضعيف.
ومن حيث المبدأ فان محاكاة الكبار واستعارة اسمائهم وسلطتهم دغدغت احلام الشباب بصورة واسعة وربما لا تزال تفعل ذلك، وبما أن كل قبائل البقارة تميل الى تفضيل حكم الشيوخ، فإن الحكم الطويل المستمر بلا نهاية لأصحاب اللحى البيضاء يتسبب في ميلاد حركة شبابية تكون موازية له. وقد شعر الكبار بتحد يهدد سلطتهم راسخة الجذور؛ وهذا ما يفسر شكاوى النظار الى مأموري المراكز وما تلى ذلك من حظر هذه الاندية في مناطق مختلفة.
ستكون تهمة الاسراف والبذخ مقبولة لو ان المال الذي ينفقه هؤلاء البرامكة كان من جيوب الآباء، كما أن صرف المال على الملابس والاحذية الجيدة شيء طيب، ومرأى عصبة نظيفة منهم كان منظراً بهيجاً لبعض الآباء .
اما تهمة العصيان للسلطة فيبدو أنها وفي بعض الاحيان بنيت على اساس، لكن بصفة عامة كان البرامكة مسالمين، ولو نظر لقضيتهم بصورة صحيحة فانهم قاموا بأعمال مفيدة من ناحية اعداد الطرق والاستراحات او حفر الحفائر وقد قاموا بهذه الاعمال بروح الفريق.
ورث البرامكة من عدة مجتمعات فكرتين قديمتين هما: (النفير) وهو العمل الجماعي في الزراعة؛ وهي فكرة معروفة في كل مناطق افريقيا العاملة بالزراعة، والفكرة الثانية هي التنظيم حسب الفئة العمرية.
في مملكة تقلى يوجد جمعية تسمى (الملكة) مهمتها تنظيم الزراعة، وللالتحاق بهذه الجمعية على الرجل ان يقدم ماعزاً ذكراً كرسم عضوية؛ وتسمى العملية بود ادام، وهناك قوانين خاصة للمساهمة وقدر محدد من البيرة حوالى سبعة جرار تقدم للمجموعة؛ وتفرض غرامات في حالة عدم الحضور.
وللجمعية اغاني للزراعة والتذرية وبعض العادات مثل الصمت المطبق خلال الشرب، هذه الجمعية من الواضح انها نشأت لدى النوباويين المستعربين من فكرة النفير الموجودة لدى النوباويين غير المستعربين وقوانينها متطابقة بصورة مدهشة مع قوانين البرامكة في الزراعة.
على البرامكة ان يسدوا بعض الفراغ في الحياة الاجتماعية في القبائل التي كان لهم فيهم شعبية وانتشارا، وقد يجنح بنا الخيال للقول بانهم ربما ورثوا ولو بصورة باهتة نظام التراتب العمري من بعض الامهات الوثنيات واللائي منح بعضهن اللون الاسود لوجوههم العربية، فقد اعطتهم هذه الحياة الاجتماعية منظمة شبابية مهما كانت اهدافها فإنها ذات تراتب عمري؛ يحافظون فيه على كرامتهم واحترامهم لأنفسهم في مواجهة اللحى البيضاء.
لاحظ المستر بيتون حراكاً متزامناً مشابهاً لدى الفور حيث استبدلت مقامات الكبار بأندية الشباب والتي استخدمت فيها القاب كبار السن والوجهاء بالطريقة نفسها لدى البرامكة.
من يعرف البرامكة سيبدو له أن هذا المقال قد اعلى من شأنهم، وانهم ربما كانوا في نظره ليسوا أكثر من شاربي الشاي، وان رياح التجارة وهجمات الجراد قد قضت عليهم، لكن هذا غير صحيح فقد تمكنوا من البقاء في فترات صعبة من قبل وسيفعلون ذلك مرة ثانية.
في الوقت الحالي فانهم منفتحو الافق بالكامل ونادراً ما يعصون السلطات، ويجدر ان نذكرهم في ثنايا الحياة الاجتماعية، غير أن التركيز الشديد عليهم من قبل المسؤولين قد يجعلهم يتوارون عن الانظار؛ مع انهم وسيلة جيدة للدعاية، وبازدياد عدد المتعلمين بينهم ربما يشكلون نواة طيبة لجمعيات تعاونية زراعية مميزة.
المؤلف:
مؤلف المقال هو البريطاني (هيو بنيامين اربر (Hugh Benjamin Arber، ولد في عام 1906 وتوفى عام 1986م، عمل في الادارة البريطانية في السودان واسمها الرسمي (إدارة السودان السياسية Sudan Political Service) لمدة ستة وعشرين عاماً في الفترة من عام 1928 والى تقاعده في عام 1954م، وبدأ حياته العملية في السودان في كردفان بمدينة الابيض في وظيفة نائب مأمور المركز، وشغل بعدها عدة وظائف، حيث عمل في قلم الاستخبارات، وفي مكتب السكرتير الاداري، وفي وظيفة نائب مأمور مركز في منقلا توريت، وشغل الوظيفة نفسها في رشاد بكردفان، ثم عمل في قوة دفاع السودان، وضابط معلومات في مكتب السكرتير الاداري، ثم مأموراً لكسلا، واختتم حياته العملية في السودان في وظيفة حاكم المديرية الشمالية.
تعليق المترجم:
يثير اسم البرامكة نوعاً من التعجب حول كيفية ظهوره لدى البقارة، خاصة وانه ظهر في مطلع القرن العشرين تقريباً، وارتبط ظهوره مع بروز سلعتين جديدتين على المجتمع السوداني دخلتا البلاد مع دخول الجيش الانجليزي المصري للسودان في اواخر القرن التاسع عشر هما السكر والشاي.
اما مصر نفسها فقد دخل الشاي اليها مع الضباط البريطانيين عام ١٨٨٢، وكان شراباً مقصوراً على العائلة الملكية والعائلات الأرستقراطية ويسمى في ذلك الوقت “الخرّوب”. ثم عملت الشركات البريطانية على نشره وسط الطبقات الشعبية لكسب المزيد من الاموال.
لم ترد أي إشارة للبرامكة في كتاب الطبقات، مما يشير الى ان ظهور الاسم وارتباطه بالكرم جاء الى السودان في فترة متأخرة. وهو يؤكد ما ذهب اليه المؤلف عند استطلاعه لآراء البقارة حول الاسم (ان الاسم جرى تبنيه لما يحتويه من معان).
ويبدو ان المقال الذي كتبه المستر اربر منقول من اضابير قلم المخابرات، والذي عمل فيه لفترة من الزمن، فقد كانت السلطات البريطانية تنظر بشك كبير وبقلق بالغ لأي نوع يظهر من التجمعات وفي ذاكرتها احداث الثورة المهدية، خصوصاً في مناطق غرب السودان، لذا فقد راقبت هذه التجمعات الوليدة للشباب تحت مسمى البرامكة وقامت بحظرها في اوساط القوات النظامية بحجة انها نشاط هدام، ثم حرضت بطريقة غير مباشرة شيوخ القبائل والادارة الأهلية على مكافحتها بدون ان تدخل نفسها في صدام مع الاهالي.
ولما تأكدت بان هذه الحركة ليست أكثر من نشاط اجتماعي سلمي خففت رقابتها بعض الشيء لكن ذلك لم يجعلها تقف مكتوفة الأيدي خاصة فيما يمس هيبة الدولة، وفي حاشية المقال جاء وصف لما حدث في غرب دارفور والمقتبس من الدورية الشهرية لمديرية دارفور عن شهر اغسطس 1938:
(ظهر نوع من الاختلاف بين المحكمة الكبرى واثنين من المحاكم الفرعية، في واحدة من القضايا، فقد اتخذت المحكمة الكبرى وجهة نظر اقل تشدداً فيما يتعلق بقضية بعض الشباب في دار طرة والذين اتهموا بانتحال القاب السكرتير الاداري، الحاكم، مدير المخابرات، بغرض الحصول على مشروبات كحولية مجانية وما الى ذلك من ترفيه، وقد افادوا انهم يتبعون عادة كانت على ايام سلطنة دارفور تبيح للشباب عند اداء الرقصات انتحال القاب: سلطان، شرتاي، وغيرها، وحتى بحضور اصحاب اللقب الحقيقيين انفسهم، وقد اطلقت المحكمة الكبرى سراحهم بالضمان، وحولت كامل ملف القضية لمأمور المركز).
اشار المؤلف الى لفظ (كمكلي) او الطفيلي الذي يكون محل احتقار الجميع. وقال: (لا يوجد مصدر تاريخي يفسر اسم كماكلا ، ويبدو انه اختراع بقاري)، لكن اللفظ موجود في دارفور، فقد ذكر جوستاف ناختقال مؤلف كتاب رحلات الى وداي ودارفور (اما المسؤولون عن ادارة البلاد فهم الكماكلة والعقداء) وذكر ناختقال اربعة من كماكل الدرجة الاولى وهم: كمكلك ترتالو، وكمكلك ترلولو وكمكلك بتاقنيك وكمكلك زيود، وقال ان بقية الكماكل يسمون (عنقريب جا) ويختصون بتطبيق الاعراف والحكم في الجرائم. وذكر ان سلطاتهم تمتد لحد توقيع العقوبات الاستئصالية. وقال ان العرف جرى بان تكون درجة الكماكل حكرا لعوائل محددة.
واضح اذن ان الهجاء الذي يوجه للكمكلي في اطار البرامكة واطلاق صفة الطفيلية به يعود الى عامل نفسي وترسبات تاريخية كان فيها الكماكلة محط كراهية السكان المحليين، لذا فقد اعادت الذاكرة بعثهم رغم تقلب الاجيال ووضعتهم في موضع الذم والسخرية.
اشار المؤلف الى تميز نادي البرامكة بالمقدرة على التأقلم بما يلبي احتياجات أي مجتمع، ويبدو ان هذا صحيحاً لحد ما، حيث يمكننا أن نلاحظ التطور في حالات انعقاد المجلس وتغير الهدف ليكون (ليس شرب الشاي لذاته وانما الغرض الاساسي هو التواصل الاجتماعي)، كما أن الاغراض الشعرية في المجلس لم تعد تقتصر على مدح الشاي والسكر.
.فقد ورد في موقع (التراث غير المادي) ما يلي:
(أهداف مجلس البرامكة:
يعقد مجلس البرامكة ليس لشرب الشاي(الشاهي) لذاته و إنما الغرض الأساسي هو التواصل الاجتماعي،
وتوجد أربعة حالات لانعقاد المجلس وهي:
1/ مجلس السمر أو الانبساط (ونسة).
2/ مجلس المساعي الحميدة (الصلح).
3/ مجلس محاكمة.
4 / مجلس فرح (احتفال) – مناسبة كبيرة.
الاغراض الشعرية في المجلس:
يمدح شعراء البرامكة الرجال العظماء، والكرماء أصحاب الشهامة والمروءة والبطولات التاريخية، والنساء العفيفات (الفنجريات) الصائنات أنفسهن والمحافظات على أعراف مجتمعهن، ويذمون (الخنبات) القافزات فوق حواجز العادات والتقاليد)).
أما وظائف لجنة النادي فقد حدث فيها مجاراة للعصر إذ ما قارناها بما خطه المستر اربر عام 1940م، فقد ظهرت وظائف بمسميات جديدة مثل ضابط المجلس والملاحظ والمفتش والكمساري (محصل النقود) والسفرجي (معد الطعام)، والمحامي وهو من يقوم بالدفاع عن المتهم وكل من يتصدى للدفاع عن صديقه ينال لقب المحامي، والخفير والتعبئة وهي عمل من يقوم بتعبئة وتوزيع الشاي، ولدى النساء ظهرت وظيفة وكيلة المحكمة ويطلق عليها بعض الاحيان (النشمينة).
ولا تزال اندية او حلقات البرامكة تُعقد، والامل ان تتطور اكثر لتقدم خدمات توعية لإنسان المناطق التي تنتشر فيها وتقدم مزيداً من الوعي له بما يمكنه من تجاوز الانغلاق القبلي والانطلاق به لآفاق أرحب. وتحقيق رؤية المستر اربر التي كتبها عام 1940م أنه (وبازدياد عدد المتعلمين بينهم ربما يشكلون نواة طيبة لجمعيات تعاونية زراعية مميزة).
nakhla@hotmail.com
نشر هذا المقال بمجلة السودان في رسائل ومدونات العدد (23) الصادر في عام 1940م وكاتبه هو (هيو بنيامين آربر). وفي هذه الاسطر نقدم ترجمة للمقال، ثم نبذة عن المؤلف ونختم ذلك بتعليق المترجم، اما العنوان الاصلي للمقال فقد كان (البرامكة).
البرامكة
البرامكة، أو شاربو الشاي، موجودون في قبائل البقارة في كردفان ودارفور، ونادي البرامكة في ابسط صوره هو تجمع لأعضاء معظمهم من الشباب لشرب الشاي بصورة احتفالية؛ وفيه يتغنون بأغنيات تمجد السكر (بضم السين وتشديد الكاف ويقصد مادة السكر). وقد انتشرت هذه الجمعيات كالنار في الهشيم، وانتقلت من البقارة الى من هم على صلة بهم، ومع انتشارها اكتسبت صفة الطقوس والعادة الحسنة؛ حتى اضحت الآن نوعاً من حركة شبابية لا تقتصر على البقارة فقط بل امتدت الى العرب المستقرين، والنوبة المستعربين، وشملت حتى النوبة غير المستعربين المحافظين على نوبيتهم (pure nuba).
في المناطق التي ظهرت فيها بصورتها المتطورة فان الصورة البدائية لشرب الشاي غطت على نموذجها المتماسك للتعاون الزراعي، وامتازت الحركة بسمت الديمومة؛ والجاذبية الطاغية؛ للدرجة التي مكنتها في السنوات الاثنتي عشرة الاخيرة من الصمود امام عدم الرضاء الحكومي والاستياء القبلي. وبما انها تمكنت من البقاء فهذا يجعلها جديرة بالدراسة لمعرفة أي مستقبل ينتظرها في الحياة الاجتماعية المحلية.
يعود اسم البرامكة الى البرامكة المشهورين في الخلافة العباسية، وكما يقول فيلبي: (فان منافسة عائلة برمك للخلفاء "العباسيين" في العطاء وبإسراف اصبحت مادة "جيدة" للتاريخ)، وقادت سمعتهم في الكرم الى ارتباط ذكرهم عند العرب باستخدام اسمهم برمكي وجمعها برامكة ليعني وإلى الآن الكرم وحسن الضيافة والاريحية.
جاء الاسم لنا (الاوروبيون) من خلال حكايات الف ليلة وليلة وقصة (مأدبة البرمكي) والتي تشير للبخل الشديد وهي على العكس تماماً من المعنى الحقيقي للكلمة عند العرب.
حجر الاساس لأسرة البرامكة وضعه خالد بن برمك، والذي صعد لمرتبة وزير في عهد السفاح؛ وتوفي وهو في غاية الثراء في عهد المنصور. وقد اصبح ابنه يحى والذي نال تدريباً جيداً على يد والده معلماً لهارون الرشيد بن الخليفة المهدي، ومن خلال جهود يحى تمكن الرشيد من وضع يده بأمان على الخلافة واصبح يحى وزيراً ولكنه كان الحاكم الفعلي للدولة.
وبشغل ابنيه الفضل وجعفر للمراكز الهامة في الحكم احتكرت اسرة برمك المناصب العليا في الدولة، وكانت هذه فترة ثرائهم واسرافهم في الكرم، واضحى جعفر وهو الصديق الصدوق لهارون الرشيد الاكثر شهرة في دنيا البذخ غير المحدود. وقد سقطت اسرة البرامكة عندما تخطى جعفر حدود المعقول من اللباقة وهيبة الحكم؛ فقام هارون الرشيد بقطع رأسه عام 803 ميلادية،
تربط اندية البرامكة (لدى البقارة) نفسها بجعفر، ويروى أحد كبار البرامكة البقارة القصة التالية عن سقوط جعفر:
(دخل كل من جعفر والخليفة هارون الرشيد في رهان على اقامة حفل باذخ، ولما كانت المنافسة بينهما شديدة للغاية فقد ذهبا للقاضي عبد السلام؛ واقسما امامه ان من يخسر الرهان سيشنق. اقام جعفر حفله وكانت آنية الشاي والملاعق من الفضة؛ والاكواب والصحون من الفضة؛ وحتى السلاسل كانت من الفضة، ولكن عندما اقام هارون حفله كان كل شيء من الذهب بما في ذلك السلاسل ، وهكذا خسر جعفر الرهان وجرى شنقه).
لكن حتى لو قبلت هذه الرواية فانه لم يظهر وجود لأية علاقة تاريخية تؤدي للربط بين اسم (البرامكة) وهذا النادي. أما العرب (البقارة) انفسهم فلا تفسير لديهم ابعد من ان الاسم جرى تبنيه لما يحتويه من معان ويبدو ان هذا هو الصحيح.
اشارت بعض المراجع التاريخية الى الاسم باعتباره غير محترم، ويقول الدكتور جنكر في مذكرات بعنوان (رحلات في افريقيا):
(الغازية وجمعها غوازي هن راقصات محترفات في مصر وغالبيتهن ينحدرن من حثالة المجتمع؛ ويدعين انهن من سلالة اسرة البرامكة المشهورة، وفي عام 1834 قام محمد على باشا بنفي الغوازي او البرامكة وهو الاسم الذي يحببن سماعه من افواه الناس الى صعيد مصر).
ويقول لين: (من الجائز انه ليس لديهن الحق في استخدام اسم البرامكة؛ الا اذا نظرنا لهن باعتبارهن يمثلن روح تلك الاسرة في التحرر، وإن كان تحررهن من نوع آخر).
اشار بوفات الى هؤلاء الراقصات وهو الذي لم يجد لهن سبباً مقتنعاً يربطن به انفسهن بأسرة البرامكة؛ وذكر ان الاسم اصبح مرادفاً للإهانة في القرى المصرية)، وهذا ايضاً ما اشار له الشيخ محمد عبده، لكن فيما عدا ذلك وفي كل الامكنة الاخرى حافظ الاسم على سمعته الطيبة، ونعلم ان بعضاً من هؤلاء الغوازي ادخلن للسودان بواسطة المماليك الفارين (من محمد على باشا) ومن المحتمل انهن جئن ومعهن هذا اللقب البرمكي.
من الهند يأتي دليل آخر على استخدام اسم برامكة ليشير الى نادي، وهو يستخدم هناك ليشير الى مجموعة تجتمع لتدخين الحشيش بواسطة (الشيشة) او يتناولونه كخلطة في شراب يشبه الشاي.
رغم ذلك واصلت السمعة الحسنة للاسم استمرارها؛ وربما من المحتمل القول ان شعبيتها زادت خلال فترة حكم المهدية لدى الدراويش؛ والذين كانوا يؤملون في ان يكون حكمهم مماثلاً للعهد العباسي وهو في اوج ازدهاره.
ليس بوسع برامكة البقارة القاء مزيدٍ من الضوء على الاسم لديهم، ولكنهم يتفقون على انتفاء وجود تاريخي متجذر له، غير أن الاسم يتماهى مع كماليات العصر من الشاي والسكر، والتي جاءت كما يقال مع اهل البحر الى سكان شريكلا من الهبانية، ومن المحتمل أنه ظهر بعد عام 1914م ، اي في سنة الجوع التي عرفت بسنة ام كُرسان (سنة الجذور) تلك السنة التي اكل فيها الناس شجرة الكرسان.( )
يمتاز الهبانية بتأصل الروح الاجتماعية لديهم لذا وجد النادي عندهم ارضاً خصبة، ومنهم شق طريقه لأقاربهم في جنوب دارفور، ولم يكن معروفاً فيها قبل مرحلة الاحتلال (البريطاني)، وفي الوقت نفسه وصل النادي إلى اولاد حميد والذين يقطنون الى الشمال من الهبانية فقاموا بنشره جنوباً في مجتمعات شبه الأقنان جنوب الكواهلة في ايريو و ويرني والليري. حينئذ اثبتت هذه الاندية انها شديدة العدوى فانتقلت الى معظم البقارة والحوازمة والمسيرية والحمر؛ وكانت جاذبة جدا للنوباويين المستعربين في تلودي وكادوقلي والدلنج، بل حتى للنوباويين غير المستعربين.
الانتباه الحكومي لظاهرة البرامكة حدث عام 1926م حين اكتشفها مأمور مركز رشاد عند اولاد حميد والقبائل المستقرة القريبة منهم وامرهم بحلها، وأكد هليلسون وقتها وجود جماعات مشابهة من الشباب عند الحمر والمسيرية، لكن هذه التجمعات لم تجد الرضاء (الحكومي) وتم حظرها فخفت ذكرها، ولم يعد احد يسمع عنها شيئاً؛ الى ان قدم مأمور مركز الدلنج عام 1926م تقريراً اشار فيه الى عودتها للحياة مرة اخرى في قسم النقل بسلاح الهجانة؛ والذي انتقلت له على ما يبدو من التواصل مع تلودي والليري وبعض الجبال.
طُلبت التقارير من كل المراكز وقد اتضح جلياً ان الحراك (البرمكي) كان واسع الانتشار وموجود في كل الجبال والمراكز وفي شرق كردفان وجنوبها، وبين قبائل شديدة الاختلاف كالضباب في جبل الداير والحمر.
افضل وصف مفصل لنادي البرامكة وقوانينه لدى عشيرة الفلايتة من الحمر قدمه المستر نيكولسون، وبموجبه صدر الموقف الرسمي بان هذه الاندية يجب حظرها تماماً في كل القطاعات العسكرية والشرطة باعتبارها نشاطا هداماً وضد الانضباط، وبالنسبة للقبائل ترك الامر للسلطات المحلية لتقرر ما تراه مناسبا حيالها.
لم تؤدي هذه السياسة بكل تأكيد لتقليص اندية البرامكة، رغم انه من المؤكد انها ادت الى توقفها في بعض القبائل بصفة قاطعة، فقد قضى ناظر المسيرية عليها تماماً في عام 1926م، وقام الناظر محمود ابو سعد بمنعها في ديار هبانية دارفور، وذلك بتغريم كل اعضائها، ووضع ناظر الحمر حداً لها، لكن جهد الناظر راضي كمبال ناظر اولاد حميد لوقفها ضاع سدى.
حقيقة الأمر هي ان هذه الاندية انتشرت واكتسبت ارضية ثابتة ذات فائدة وسط السكان المستقرين، واصبح للنادي غرضين: غرض اللهو والمتمثل في شرب الشاي وهو ما جعل النظار يكشرون عن انيابهم له لما فيه من بذخ واسراف وخفة عقل كما يرون، والغرض الثاني هو كونها اندية للتكافل الزراعي.
وتقدم السطور التالية على سبيل المثال وصفا تفصيلياً لاحد الاندية الموجودة في كنانة ابو جبيهة (المستقرين)، وفي منطقة الجبال الشرقية:
1- تكوين لجنة النادي المعينة:
السير: الراعي.
الناظر: الرئيس.
العمدة: رئيس الادارة.
الشيخ:
القاضي: يقوم بفض النزاعات.
الافندي: الكاتب وامين الخزينة.
الملاحظ: يقوم بضبط السلوك.
العسكري: الحارس.
2- لا يمنح أي شخص حق العضوية ما لم يقسم بالقرآن بإطاعة كل اللوائح والاوامر المنظمة للنادي.
3- هدف الجمعية هو مساعدة الاعضاء لبعضهم البعض في العمل مثل اعمال الزراعة وبناء المنازل وغير ذلك من اعمال، والمشاركة في السراء والضراء
4- اذا احتاج العضو مساعدة من زملائه الاعضاء في القيام بعمل فعليه ان يحدد الموعد، وان يجهز في هذا الموعد المشروبات الكافية لمن سيعمل معه، ومن يتخلف عن الحضور تفرض عليه غرامة مقدار (يومية عامل) ما يعادل 15 الى 30 مليما، كما على الداعي ان يقوم بتوفير الشاي والمريسة، وكذلك ذبيحة ان تيسر له ذلك.
5- ينعقد النادي في فترات زمنية محددة لاحتساء الشاي، ومناقشة شؤون العمل، كما تنظر المحكمة في القضايا المعروضة امامها. وعلى البرمكي الحاضر ان يكون يرتدي ثيابا بيضاء نظيفة، مع وضع عمامة او طاقية على رأسه، ويجلس كل الاعضاء على برش على الارض، ويجلس السير على الكرسي، ويجلس بقية الاعضاء على عنقريب مفروش؛ بينما يجلس السكرتير على بنبر، وتوضع ايضا طاولات. لا يسمح لأي عضو بان يضع رجلا على الأخرى عدا السير، لا يسمح لأي عضو بوضع كوب الشاي على الارض، كما لا يسمح له بتمريرها لآخر إن كان مكشوف الرأس، واي مخالفة لهذه القواعد تقود الى العقاب الفوري في شكل غرامة، ومهمة الملاحظ هو المراقبة وضبط هذه المخالفات، وابلاغ الشيخ بها ليرفعها للمحكمة.
6- سلطة المسؤولين محددة طبقاً لما هو في الادارة الاهلية، الغرامة التي يفرضها الشيخ لا تتجاوز قرشاً واحداً، وغرامة العمدة تصل الى قرش ونصف، والناظر إلى قرشين، بينما تصل غرامة السير الى ثلاثة قروش كحد اقصى. وفي النادي يطلق على القرش جنيه، وتعلن الاحكام دائماً بالجنيه.
7- يحضر السكرتير واحياناً القاضي جميع الجلسات، ويقوم بجمع الغرامات والتي نصرف في احضار اطعمة او مشروبات للأعضاء.
8- عندما يقدم برمكي استقالته، او يفشل شخص ما في نيل عضوية النادي ليكون برمكياً؛ فانه وفي هذه الحالة يصبح (كمكلي)، او الطفيلي الذي يكون محل احتقار الجميع.
تشكل الفقرات السابقات دستوراً لمعظم الاشكال المتطورة لنادي البرامكة، وقد تحدث اضافات او تطوير لما سبق ذكره.
في بعض المناطق هناك مساهمة نظامية قدرها قرشين من كل عضو، ويساهم بها كل الاعضاء إياً كان عددهم لأي عضو تزوج (عود العريس)، او قام بختان انجاله (عود الطاهر)، او توفي احد افراد عائلته (عود الموت).
لا يوجد حد عمري معين للبرمكي؛ ويبدو ان الكثير من الرجال متوسطي العمر سيبقون في سلك العضوية حتى تفقد اثنين من تلك المساهمات التي جرى ذكرها قيمتها بالنسبة لهم، او عندما يصبح عبء اطعام مجموعة الزراعة باهظاً وفوق طاقتهم. وغالباً ما تكون الخامسة والثلاثين هي سن التقاعد، اما سن الالتحاق فيبدو انها تعتمد على مدى توفر كمية قليلة من النقد في يد طالب العضوية. وينتشر النادي في عدة مناطق؛ فهو يتماشى عند الحوازمة الحلفا سبيل المثال مع تقسيمات العمودية.
يجتمع النادي عند القبائل المستقرة في اماكن لقاء محددة فهو احياناً تحت ظل شجرة ضخمة كما في الليري، او تحت راكوبة متسعة كما في ايريو وجنوب الكواهلة، وتوجد خدمات للضيوف داخل النادي وبموجب ذلك تقدم الضيافة للأعضاء الزائرين، وتوفر لهم اماكن الاقامة اذا لم يكن بالنادي مقر للضيافة، (وهذا يعود بالذاكرة الى المنازل التابعة للأندية التي تقدم خدمتها على اساس عمري في القبائل النيلية الحامية في جنوب السودان).
الزراعة الجماعية يمكنها أن تتوسع بزراعة قطعة ارض بالقطن بالجهد الذاتي للأعضاء والاستفادة من عائدها في انشطة النادي الاحتفالية.
حركة البرامكة كانت رجالية الطابع؛ لكن يوجد نساء برمكيات بالتوازي مع الرجال في عدة قبائل، وتحتكم هذه الاندية النسائية للقوانين نفسها المطبقة في الاندية الرجالية، ورئيسة النادي النسائي تدعى الملكة وترأس مسؤولات يحملن الالقاب نفسها الموجودة في النادي الرجالي، وتعتمد قوة النادي النسائي على مقدرتهن لجمع المال اللازم للنادي.
يتميز نادي البرامكة بمقدرته على التأقلم بما يلبي احتياجات أي مجتمع، وعندما تبناه النوباويون عمدوا لجعله عسكريا، فهو عند غلفان كرقل له ميادين استعراض مربعة ومسيرات وتشكيلات عسكرية.
وفي الليري تغير الاسم الى (توراك)، وتغير اسم القيادة ليكون بيه او مفتش، كما حل يوزباشي محل العمدة او الشيخ، ثم ميزوا انفسهم عن العرب اكثر بإدخال المريسة كبديل للشاي، كما اصبحت عضوية النادي تستوعب المزيد من كبار السن.
ينظر للنادي بانه طفل السعادة المدلل؛ وتتركز مضامينه في الاجتماعات، ومحاكاة الكبار، والزي والاغاني، وعادة ما يكون الزي هو ملابس بيضاء ناصعة، وعمامة تثبت عليها ريشة نعام، واوشحة ملونة متقاطعة عند الصدر وعصا، وهذه كلها تستخدم في رقصات المناسبات المهمة.
الاغاني التي تؤدي على طريقة البقارة التقليدية تلعب دوراً مهماً في هذه اللقاءات عندما يؤدونها جيئة وذهاباً، وهي متعددة ومعظمها في مدح الشاي والسكر، وتصف مجيئ الشاي من خارج السودان الى ان يستقر في إناء الغلي. وتهجو اغاني اخرى (الكمكلي) وجمعها (كماكلا) وتصف مأواه المزري.
لا يوجد مصدر تاريخي يفسر اسم كماكلا ، ويبدو انه اختراع بقاري مثله مثل اسمين آخرين "لا يمكن ذكرها كتابة" لمجموعتين اخريين من غير الاعضاء عرضة للهجاء ويزدريهما البرامكة. وتميل الاغاني الى استخدام رخص الضرورات الشعرية، ويتم التضحية بالمعنى احيانا من اجل ضبط القافية.
اغاني السُّكَر:
السُّكر محلها
وما اسمح نظرها
حدادي ما دقها
قام العطشجي ابو جزمة
دفتر في ايده وكدوس في خشمه
ورطن مع الملكة
بالقرطاس عمه
بالدوبارة ركه
وفوق القطر خطه
واجهة ابو حميرة
وقطع تذكرة
نزل الرهد ابو دكانا
لقي صبيان يشكرها
نجلب ثور نجلب بارا
من شايل قروش وزعها
ديل يبيع في رؤوس وديل يسألوا الوقة
ضيفان سيد الفرس الابتر
الشرب الشاي الياتو دا
حمدي الشقوي ابو موسى
سقيان المتمرة
وترى الوابور كان سيدها السنكرة
سالت من عمدة البرامكة
هو طاهر ود العجوز ابو يد المُغسَّلة
لموا البرامكة اسألوا من الحرفاء
اغاني الشاي:
المحبوب
قش الشاي الغروب
ابو راسا مقدود
بالدوبارة مكروب
يشربوا البرامكة الحرفاء
في اليد خرزان
في كراعه جزمة اما مركوب
فارت الكفتيرة
وتمَّر الكبابي
وابتسط القلوب
والله يا اخواني صبي يمد الشاهي
انت اخواننا محبوب
قصيدة هجاء الكمالكا:
الكملكي ابو نعلين
اقعد هناك من الناس
هدوم في وركي
تمدوا الشاي
ما يقول شكر الوسطاني
يقول الشاهي مالها حار كي
هجاء زوجة الكمكلي:
مراة الكملكلي
من اكل العيش
سمينة كيف ابو عزة
ومراة الحريف
تغلي الجدادة وتحمر كبدها
نغمها في الايام ديل ما تشرب الشاي
هي تكون مغلوبة
غناء اضافي للسكر:
جبار الخواطر
صفارة القواطر
ولا يشبع جيعان
ولا يسموا باطل
نشيلك ارباح
نشربك التذاكر
الكدوس والكونياك
شرب الكافي
انبسط العطشجي
زود التذاكر
من زمن المهدي المنتظر
حديث البرمكي
مسطر في الدفاتر.
كانت شعبية اندية البرامكة مدهشة؛ وانتشارها يشير الى ان الارض كانت ممهدة لبذرتها، وفي الاساس هناك خلفية اقتصادية لها من خلال تمجيد الشاي والسكر؛ ويفسر ذلك بصفة عامة ما حدث في العام 1914م وهو العام الذي تم فيه افتتاح الخط الحديدي الى الابيض؛ حيث جعل من هذه السلع رخيصة وفي متناول رجال القبائل وارتباط اهميته فيما تلى ذلك بصعود نجم القطن.
المال مهم للغاية للبرامكة، وسنة مثل هذه السنة الحالية (1938-1939) والتي كان فيها حصاد الحبوب سيئاً للغاية في كل مناطق البرامكة بالجبال الشرقية؛ بسبب الدمار الذي حاق بها من جراء الجراد ستشهد انخفاضاً في نشاط انديتهم وربما تجهض بعض النمو الضعيف.
ومن حيث المبدأ فان محاكاة الكبار واستعارة اسمائهم وسلطتهم دغدغت احلام الشباب بصورة واسعة وربما لا تزال تفعل ذلك، وبما أن كل قبائل البقارة تميل الى تفضيل حكم الشيوخ، فإن الحكم الطويل المستمر بلا نهاية لأصحاب اللحى البيضاء يتسبب في ميلاد حركة شبابية تكون موازية له. وقد شعر الكبار بتحد يهدد سلطتهم راسخة الجذور؛ وهذا ما يفسر شكاوى النظار الى مأموري المراكز وما تلى ذلك من حظر هذه الاندية في مناطق مختلفة.
ستكون تهمة الاسراف والبذخ مقبولة لو ان المال الذي ينفقه هؤلاء البرامكة كان من جيوب الآباء، كما أن صرف المال على الملابس والاحذية الجيدة شيء طيب، ومرأى عصبة نظيفة منهم كان منظراً بهيجاً لبعض الآباء .
اما تهمة العصيان للسلطة فيبدو أنها وفي بعض الاحيان بنيت على اساس، لكن بصفة عامة كان البرامكة مسالمين، ولو نظر لقضيتهم بصورة صحيحة فانهم قاموا بأعمال مفيدة من ناحية اعداد الطرق والاستراحات او حفر الحفائر وقد قاموا بهذه الاعمال بروح الفريق.
ورث البرامكة من عدة مجتمعات فكرتين قديمتين هما: (النفير) وهو العمل الجماعي في الزراعة؛ وهي فكرة معروفة في كل مناطق افريقيا العاملة بالزراعة، والفكرة الثانية هي التنظيم حسب الفئة العمرية.
في مملكة تقلى يوجد جمعية تسمى (الملكة) مهمتها تنظيم الزراعة، وللالتحاق بهذه الجمعية على الرجل ان يقدم ماعزاً ذكراً كرسم عضوية؛ وتسمى العملية بود ادام، وهناك قوانين خاصة للمساهمة وقدر محدد من البيرة حوالى سبعة جرار تقدم للمجموعة؛ وتفرض غرامات في حالة عدم الحضور.
وللجمعية اغاني للزراعة والتذرية وبعض العادات مثل الصمت المطبق خلال الشرب، هذه الجمعية من الواضح انها نشأت لدى النوباويين المستعربين من فكرة النفير الموجودة لدى النوباويين غير المستعربين وقوانينها متطابقة بصورة مدهشة مع قوانين البرامكة في الزراعة.
على البرامكة ان يسدوا بعض الفراغ في الحياة الاجتماعية في القبائل التي كان لهم فيهم شعبية وانتشارا، وقد يجنح بنا الخيال للقول بانهم ربما ورثوا ولو بصورة باهتة نظام التراتب العمري من بعض الامهات الوثنيات واللائي منح بعضهن اللون الاسود لوجوههم العربية، فقد اعطتهم هذه الحياة الاجتماعية منظمة شبابية مهما كانت اهدافها فإنها ذات تراتب عمري؛ يحافظون فيه على كرامتهم واحترامهم لأنفسهم في مواجهة اللحى البيضاء.
لاحظ المستر بيتون حراكاً متزامناً مشابهاً لدى الفور حيث استبدلت مقامات الكبار بأندية الشباب والتي استخدمت فيها القاب كبار السن والوجهاء بالطريقة نفسها لدى البرامكة.
من يعرف البرامكة سيبدو له أن هذا المقال قد اعلى من شأنهم، وانهم ربما كانوا في نظره ليسوا أكثر من شاربي الشاي، وان رياح التجارة وهجمات الجراد قد قضت عليهم، لكن هذا غير صحيح فقد تمكنوا من البقاء في فترات صعبة من قبل وسيفعلون ذلك مرة ثانية.
في الوقت الحالي فانهم منفتحو الافق بالكامل ونادراً ما يعصون السلطات، ويجدر ان نذكرهم في ثنايا الحياة الاجتماعية، غير أن التركيز الشديد عليهم من قبل المسؤولين قد يجعلهم يتوارون عن الانظار؛ مع انهم وسيلة جيدة للدعاية، وبازدياد عدد المتعلمين بينهم ربما يشكلون نواة طيبة لجمعيات تعاونية زراعية مميزة.
المؤلف:
مؤلف المقال هو البريطاني (هيو بنيامين اربر (Hugh Benjamin Arber، ولد في عام 1906 وتوفى عام 1986م، عمل في الادارة البريطانية في السودان واسمها الرسمي (إدارة السودان السياسية Sudan Political Service) لمدة ستة وعشرين عاماً في الفترة من عام 1928 والى تقاعده في عام 1954م، وبدأ حياته العملية في السودان في كردفان بمدينة الابيض في وظيفة نائب مأمور المركز، وشغل بعدها عدة وظائف، حيث عمل في قلم الاستخبارات، وفي مكتب السكرتير الاداري، وفي وظيفة نائب مأمور مركز في منقلا توريت، وشغل الوظيفة نفسها في رشاد بكردفان، ثم عمل في قوة دفاع السودان، وضابط معلومات في مكتب السكرتير الاداري، ثم مأموراً لكسلا، واختتم حياته العملية في السودان في وظيفة حاكم المديرية الشمالية.
تعليق المترجم:
يثير اسم البرامكة نوعاً من التعجب حول كيفية ظهوره لدى البقارة، خاصة وانه ظهر في مطلع القرن العشرين تقريباً، وارتبط ظهوره مع بروز سلعتين جديدتين على المجتمع السوداني دخلتا البلاد مع دخول الجيش الانجليزي المصري للسودان في اواخر القرن التاسع عشر هما السكر والشاي.
اما مصر نفسها فقد دخل الشاي اليها مع الضباط البريطانيين عام ١٨٨٢، وكان شراباً مقصوراً على العائلة الملكية والعائلات الأرستقراطية ويسمى في ذلك الوقت “الخرّوب”. ثم عملت الشركات البريطانية على نشره وسط الطبقات الشعبية لكسب المزيد من الاموال.
لم ترد أي إشارة للبرامكة في كتاب الطبقات، مما يشير الى ان ظهور الاسم وارتباطه بالكرم جاء الى السودان في فترة متأخرة. وهو يؤكد ما ذهب اليه المؤلف عند استطلاعه لآراء البقارة حول الاسم (ان الاسم جرى تبنيه لما يحتويه من معان).
ويبدو ان المقال الذي كتبه المستر اربر منقول من اضابير قلم المخابرات، والذي عمل فيه لفترة من الزمن، فقد كانت السلطات البريطانية تنظر بشك كبير وبقلق بالغ لأي نوع يظهر من التجمعات وفي ذاكرتها احداث الثورة المهدية، خصوصاً في مناطق غرب السودان، لذا فقد راقبت هذه التجمعات الوليدة للشباب تحت مسمى البرامكة وقامت بحظرها في اوساط القوات النظامية بحجة انها نشاط هدام، ثم حرضت بطريقة غير مباشرة شيوخ القبائل والادارة الأهلية على مكافحتها بدون ان تدخل نفسها في صدام مع الاهالي.
ولما تأكدت بان هذه الحركة ليست أكثر من نشاط اجتماعي سلمي خففت رقابتها بعض الشيء لكن ذلك لم يجعلها تقف مكتوفة الأيدي خاصة فيما يمس هيبة الدولة، وفي حاشية المقال جاء وصف لما حدث في غرب دارفور والمقتبس من الدورية الشهرية لمديرية دارفور عن شهر اغسطس 1938:
(ظهر نوع من الاختلاف بين المحكمة الكبرى واثنين من المحاكم الفرعية، في واحدة من القضايا، فقد اتخذت المحكمة الكبرى وجهة نظر اقل تشدداً فيما يتعلق بقضية بعض الشباب في دار طرة والذين اتهموا بانتحال القاب السكرتير الاداري، الحاكم، مدير المخابرات، بغرض الحصول على مشروبات كحولية مجانية وما الى ذلك من ترفيه، وقد افادوا انهم يتبعون عادة كانت على ايام سلطنة دارفور تبيح للشباب عند اداء الرقصات انتحال القاب: سلطان، شرتاي، وغيرها، وحتى بحضور اصحاب اللقب الحقيقيين انفسهم، وقد اطلقت المحكمة الكبرى سراحهم بالضمان، وحولت كامل ملف القضية لمأمور المركز).
اشار المؤلف الى لفظ (كمكلي) او الطفيلي الذي يكون محل احتقار الجميع. وقال: (لا يوجد مصدر تاريخي يفسر اسم كماكلا ، ويبدو انه اختراع بقاري)، لكن اللفظ موجود في دارفور، فقد ذكر جوستاف ناختقال مؤلف كتاب رحلات الى وداي ودارفور (اما المسؤولون عن ادارة البلاد فهم الكماكلة والعقداء) وذكر ناختقال اربعة من كماكل الدرجة الاولى وهم: كمكلك ترتالو، وكمكلك ترلولو وكمكلك بتاقنيك وكمكلك زيود، وقال ان بقية الكماكل يسمون (عنقريب جا) ويختصون بتطبيق الاعراف والحكم في الجرائم. وذكر ان سلطاتهم تمتد لحد توقيع العقوبات الاستئصالية. وقال ان العرف جرى بان تكون درجة الكماكل حكرا لعوائل محددة.
واضح اذن ان الهجاء الذي يوجه للكمكلي في اطار البرامكة واطلاق صفة الطفيلية به يعود الى عامل نفسي وترسبات تاريخية كان فيها الكماكلة محط كراهية السكان المحليين، لذا فقد اعادت الذاكرة بعثهم رغم تقلب الاجيال ووضعتهم في موضع الذم والسخرية.
اشار المؤلف الى تميز نادي البرامكة بالمقدرة على التأقلم بما يلبي احتياجات أي مجتمع، ويبدو ان هذا صحيحاً لحد ما، حيث يمكننا أن نلاحظ التطور في حالات انعقاد المجلس وتغير الهدف ليكون (ليس شرب الشاي لذاته وانما الغرض الاساسي هو التواصل الاجتماعي)، كما أن الاغراض الشعرية في المجلس لم تعد تقتصر على مدح الشاي والسكر.
.فقد ورد في موقع (التراث غير المادي) ما يلي:
(أهداف مجلس البرامكة:
يعقد مجلس البرامكة ليس لشرب الشاي(الشاهي) لذاته و إنما الغرض الأساسي هو التواصل الاجتماعي،
وتوجد أربعة حالات لانعقاد المجلس وهي:
1/ مجلس السمر أو الانبساط (ونسة).
2/ مجلس المساعي الحميدة (الصلح).
3/ مجلس محاكمة.
4 / مجلس فرح (احتفال) – مناسبة كبيرة.
الاغراض الشعرية في المجلس:
يمدح شعراء البرامكة الرجال العظماء، والكرماء أصحاب الشهامة والمروءة والبطولات التاريخية، والنساء العفيفات (الفنجريات) الصائنات أنفسهن والمحافظات على أعراف مجتمعهن، ويذمون (الخنبات) القافزات فوق حواجز العادات والتقاليد)).
أما وظائف لجنة النادي فقد حدث فيها مجاراة للعصر إذ ما قارناها بما خطه المستر اربر عام 1940م، فقد ظهرت وظائف بمسميات جديدة مثل ضابط المجلس والملاحظ والمفتش والكمساري (محصل النقود) والسفرجي (معد الطعام)، والمحامي وهو من يقوم بالدفاع عن المتهم وكل من يتصدى للدفاع عن صديقه ينال لقب المحامي، والخفير والتعبئة وهي عمل من يقوم بتعبئة وتوزيع الشاي، ولدى النساء ظهرت وظيفة وكيلة المحكمة ويطلق عليها بعض الاحيان (النشمينة).
ولا تزال اندية او حلقات البرامكة تُعقد، والامل ان تتطور اكثر لتقدم خدمات توعية لإنسان المناطق التي تنتشر فيها وتقدم مزيداً من الوعي له بما يمكنه من تجاوز الانغلاق القبلي والانطلاق به لآفاق أرحب. وتحقيق رؤية المستر اربر التي كتبها عام 1940م أنه (وبازدياد عدد المتعلمين بينهم ربما يشكلون نواة طيبة لجمعيات تعاونية زراعية مميزة).
nakhla@hotmail.com