التعليم في مملكة الفونج (4)
تاج السر عثمان بابو
29 January, 2023
29 January, 2023
توسع التعليم في مملكة الفونج (1504- 1823) التي كانت تطورا أوسع في مسار الدولة السودانية سياسيا وإداريا ، ازدهرت فيها التجارة، وانتعشت الطبقة التجارية ، واقتصاد السلعة – النقد ، والزراعة وتربية الماشية ، والصناعة الحرفية، وقامت المدن التجارية والصناعية، كما ساعد اقتصاد السلعة النقد علي ازدياد الإنتاج الزراعي ، وظهرت الملكية الخاصة للارض وتمليكها بعقود ، بالتالي تم استنباط نظام للتعليم كان ملائما لاحتياجات النظام الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، فما هي سمات التعليم في عهد الفونج؟
1
بدأ التعليم في مملكة الفونج أو سلطنة سنار كما هو معلوم بالخلوة باعتبارها الوحدة التعليمية الأساسية أو الخلية التعليمة الأولية التي تطور منها نظام التعليم فيما بعد .
كانت الخلوة تلبي حاجة مجتمع الفونج في بداية تكوينه والذي كان بسيطاً (اقتصادياً وسياسياً) فاقتصاد الفونج كان أغلبه اقتصاداً معيشياً ، ولم يكن ذلك الاقتصاد يتطلب أكثر من المعلومات الأولية في القراءة والكتابة ، ولكن بتطور النظام الاقتصادي والسياسي فيما بعد بفضل اتصال الفونج بالعالم الخارجي بشكل أوسع من البداية وتطور اقتصاد السلعة – النقد وازدياد حاجة النظام إلى كتبة وموظفين وعمال وقضاة لمواجهة احتياجات الجديدة التي نشأت بفضل تطور التجارة وتمليك الأرض وتوثيق العقود وقياس الأرض والفصل في قضايا الميراث وجمع الضرائب ، تحديد مقدارها (زكاة ، مكوس) ، وإزدياد هذه الحاجات أدت إلى تطور نظام التعليم عند الفونج .. حيث نلاحظ في الفترات اللاحقة تطور نظام التعليم من الخلوة إلى تعليم أوسط يتم فيه تدريس التصوف كما كان عليه الحال عند المجاذيب في الدامر ( للمزيد من التفاصيل راجع تاج السر عثمان الحاج ، لمحات من تاريخ سلطنة الفونج الاجتماعي، مركز محمد عمر بشير 2004) .
لتلبية هذا الغرض ازدادت البعثات التعليمية إلى الأزهر والحجاز ولتأهيل الكادر من الفقهاء والقضاء والمعلمين والشيوخ الذين بدورهم فتحوا مراكز لنيل العلم في مواقع السودان المختلفة : سنار ، الحلفايا ، شندي ، الدامر ، بلاد الشايقية (نورى) ، كترانج ، بربر ،. الخ لتلبية هذه الحاجات، كان يفد اليها الطلاب أبناء دارفور بقية المناطق. .
لم تكن فرص التعليم متساوية لكل أبناء وبنات الناس في عهد الفونج فقد كان تعليماً طبقياً وغير طبقي بمعني أن الآباء الذين كانوا يملكون الرقيق ويستخدمونهم في الزراعة أو الرعي كانوا لا يحتاجون لأبناءهم في هذه الأعمال ، وبالتالي كانوا يستغنون عن خدمات أبناءهم في هذا الجانب طوال فترة الدراسة في الخلوة (حوالى سبع أو خمس عشر سنة) وبالتالي كانت فرص هؤلاء في التعليم أكبر .
الحديث هنا عن الفرص الأكبر ذلك أن الموضوع معقد ولا يجوز التبسيط فيه ، فنظام التكافل الاجتماعي الذي كان في عهد الفونج كان يسمح أيضاً لأبناء الفقراء الراغبين في مواصلة تعليمهم .
2
ونحن نتأمل النظام الفريد الذي أبتدعه الفونج نحاول أن نستلخص أهم سمات هذا النظام في الأتي :
أ/ أن نظام التعليم عند الفونج لم يكن مركزياً أي لم يكن تابعاً للدولة ولم يكن للدولة سلطة على الشيوخ بهدف فرض أيديولوجية معينة أو طريقة معينة أو فكر معين ، وهذا إذ جاز الاستنتاج – نوع من استقلال العلم والعلماء عن حكام الفونج ونوع من التعليم الأهلى البعيد عن سيطرة الدولة وهذا نلمسه في أن سلاطين الفونج لم يكن يدفعوا لمعلمي الخلاوي مرتبات ، وكان الشيوخ ومعلمو الخلاوي يكتفون بما يقدمه الطلاب أو أباؤهم من هدايا وهبات ، كما كان لشيوخ الخلاوى أراضيهم الخاصة التي كانوا يزرعونها في المواسم لمساعدة طلابهم كما كانوا يعفون من دفع الضرائب والعشور .
وبهذا المعني استطاع الفقهاء والشيوخ والعلماء في عهد الفونج أن يقدموا إلى السودان نوعاً من التعليم ملائماً لظروف البلاد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية واحتياجاتها وقتئذ ، ومهم هنا التركيز على هذه النقطة ، صحيح أن المعلمين الأوائل الذين تلقوا تعليمهم في الحجاز ومصر استفادوا من النظم التعليمية هذه أو درسوا وفقاً لتلك النظم التي كانت قائمة على التعليم في الخلاوي أو المساجد أو المراكز التعليمية الدينية المشهورة مثل الأزهر وغيره ( للمزيد من التفاصيل راجع محمد عمر بشير ، تطور التعليم في السودان، 1989- 1956، ترجمة همرى رياض وآخرون الخرطوم 1970) .
لكن نظام التعليم عند الفونج رغم أنه استفاد من النظم التعليمية التي كانت سائدة في العالم الإسلامي وقتئذ إلا أنه جاء أصيلاً وبخصوصية معينة ولم يكن نقلاً أعمى لتلك النظم ، وإنما أخذ خصوصية السودان في الاعتبار ، وبالتالي . إذا جاز التعبير كان نظاماً سودانياً فريداً تفاعل فيه الوافد مع المحلي .
نأخذ على سبيل المثال أن ود ضيف الله عندما كتب الطبقات استفاد من كتابة التاريخ على نحو الذي كان سائداً في العالم الإسلامي من ناحية الشكل مثل : الطبقات الكبرى ، طبقات الشعراني في الأولياء والصالحين ، ولكن ود ضيف الله عندما كتب الطبقات أخذ خصوصية السودان في الاعتبار .
ولم يكرر ما هو معروف ومشار إليه في طبقات الشعراني مثلاً أو الطبقات الكبرى ، ولكنه أشار إلى طبقات أو تاريخ الأولياء والصالحين والعلماء والشعراء في السودان وبالتالي جاء المؤلف بتلك الخصوصية السودانية التي قدم فيها معرفة جليلة وقيمة بالتاريخ السوداني الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والفني والأدبي والعلمي والديني ، بل حتى استخدم اللهجة السودانية التي كانت سائدة .
فود ضيف الله كان محلياً ، ولكنه هذه المحلية هي التي اضفت على هذا الكتاب أن يكون مصدراً هاماً من مصادر دراسة التاريخ السوداني في تلك الفترة .
ود ضيف الله إذن هو نتاج ذلك التعليم الذي أبتدعه أهل الفونج والذي جاء أصيلاً ونابعاً من احتياجات الواقع السوداني .
وهذه نقطة هامة في تقديرى بالتوسع فيها يمكن أن تشكل المفتاح أو المنهج السليم لفهم نظام التعليم عند الفونج بالنسبة للباحثين والدراسين في نظام التعليم في السودان .
ب. النقطة الثانية في نظام التعليم عند الفونج أنه كان مرتبطاً بالإنتاج ، أي أنه لم يكن يعرف الفصل بين التعليم الذهني والتعليم اليدوي (إذا جاز استخدام مصطلحات علماء التربية المعاصرة) فنظام التعليم عند الفونج لم يقتصر على الدراسة فقط، بل كان الطلاب يساهمون في زراعة أراضي الشيوخ وغيرها من هبات الخلاوي من الأراضي التي كان يدفعها الأغنياء والملوك وكان الطالب يملك حق العمل في أراضي أخرى أو الاحتطاب لتوفير بعض المال الذي كان يحتاج إليه رغم مجانية الإعاشة والسكن في الخلاوى ، وكان هذا النظام سائداً عند المجاذيب في الدامر .
ج/ كان نظام التعليم عند الفونج مفتوحاً بمعني أنه لم يكن يعرف الدرجة أو الشهادة النهائية من شيخ معين أو فكي معين فكان طلاب العلم الباحثون عن المزيد من العلم والمعرفة يتنقلون من شيخ لآخر ويسعون للمزيد من المعرفة إلى شيوخ عملهم أوسع واغرز من الشيوخ السابقين الذين تعلموا على أيديهم وبالتالي كان نظاماً فريداً متعدد المعارف ومتعدد المستويات ومتفاوت الخبرات ، كل بحسب جهده .
وكل بما تيسر له وينطبق عليه مقولة " طلب العلم من المهد الى اللحد " وكان يرسخ قيم التواضع واحترام العلماء والشيوخ لا لشيء إلا أنهم أكثر علماً ومعرفة .
وهذا الشكل هو الذي ساعد على أنتشار التعليم في السودان وفي بقاعة المختلفة بتلك السرعة في فترة الفونج ، كما ساعد على أنتشار اللغة العربية والديانة الإسلامية بشكل من الكثير من التسامح وهذا الشكل كما لاحظ بروفيسور محمد عمر بشير أنتج علماء في دولة الفونج كانوا لا يقلون درجة عن رصفائهم في العالم الإسلامي يؤمئذ .
د/ أهداف ونظم التعليم : كانت أهداف التعليم هي التفقه في الدين والتصوف الذي تطور في العالم الإسلامي (مصر ، الحجاز ، شمال أفريقيا) ، وقام التعليم على أساس تعليم القرآن وحفظه .
وكانت وحدات التعليم الإساسية الخلاوى والمساجد وأغلب الشيوخ لم يكن يستخدمون كتباً أو محفوطات بل كانوا يملون دروسهم على تلاميذهم من ذاكرتهم (كانوا يقولون العلم في الرأس لا في الكراس) .
وكان القرآن يقسم إلى سور ليحفظها الطالب عن ظهر قلب وكانت السور تكتب على لوح من الخشب وتمسح بالماء بعد حفظها لتكتب عليها سورة جديدة ونتوقف قليلاً هنا عند ثقافة إنسان الفونج في أدوات الكتابة .
في تلك الفترة عرفت أروبا صناعة الورق واختراع المطبعة ،وبدأ الفونج يستوردون الورق من أوربا ولكن استخدامه كان محدوداً للحكام وفي المحاكم ولم يتم تصنيعه بشكل واسع .
هـ/ المناهج : في مناهج التدريس بعد القرآن ترد الفقه في المرتبة الثانية ، وكانت الرسالة ومختصر الخليل المالكي تشكلان المصدر الرئيسي للتدريس (أغلب السودانيين أخذو المذهب المالكي).
وكان مما يلي ذلك أهمية علوم التوحيد والكلام وكانت أكثر الكتب المستخدمة هي مقدمة السنوسية والطالب الذي يرغب في زيادة حصيلته العلمية بعد أن يكون قد أتم دراسة تلك العلوم ، يدرس تجويد القرآن أو الحديث أو التفسير أو التصوف الإسلامي بشكل موسع وفي كتاب الطبقات وردت إشارة عن بعض الطلاب الذين تفوقوا في علوم النحو والبلاغة .
و/ تدريب المعلمين : كان الشيخ أو الفكي أوالمعلم أما يكون قد تخرج في أو تدرب في السودان ، أو تخرج في الأزهر الشريف أو معاهد مكة .
ز/ نظم الأمتحانات : لم تكن تعقد اختبارات أو أمتحانات كما لم تكن الدراسة محددة بزمن معين ، وعندما كان الطالب يفرغ من دراسته كان يمنح شهادة تسمى الإجازة حيث كان يستطيع بمقتضاها فتح مدرسة ليعلم فيها سالكاً نفس المنهج الذي سلكه مع إضافة الجديد من تجربته ومحصول علمه الإضافي بعد ذلك .
3
من وسائل التربية هناك العقوبة البدنية التي كانت تسمى " الفلقة " والفلقة هي عقوبة يعاقب بها الفكي أو الشيخ المذنبين أو المهرجين من الطلاب حيث كان الفكي يجلس على عنقريب صغير ويلقى بالطالب على الأرض ويرفع راحة قدميه مع ضمهما إلى أعلى وينهال الفكي ضرباً بالعكاز أو العصا التي تصنع من فروع السلم وغيرها ، أي الضرب على أخمص القدمين ، وهي عقوبة غير مبرحة ولكنها مؤلمة وفي بعض المناطق مثل الدامر أرتبط التعليم بالتجارة والسلطة حيث جمع فقهاء المجاذيب بين العلم والتجارة الشيء الذي مكن لهم في الأرض وأستطاعوا أن يستولوا على السلطة السياسية في مجتمع الدامر في سنوات الفونج الأخيرة عندما ضعف النظام المركزي ، وكما لاحظ بركهارد أن الفقيه الكبير لم تكن سلطته دينية فقط بل كان يمارس السلطة السياسية ويفصل في قضايا الناس ، وأشار بركهارد إلى ما يفهم منه أن في الدامر نظام جمع السلطة الزمنية والدينية أي الدولة دينية مصغرة إقامها المجاذيب في الدامر .
بهذا المعني كان التعليم إضافة لوظائفه الاقتصادية في الزراعة والرعي والحرف والتجارة مصدراً من مصادر الجاه والسلطة السياسية، وكانت مملكة الفونج متباينة في التطور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي ، بالتالي جاء التعليم معبرا عن هذا التفاوت والتباين.
نخلص من ذلك إلى أن التعليم النظامي الذي بدأ في السودان بشكل واسع في فترة الفونج كان يعبر عن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية القائمة ، وكما لاحظ مؤرخو التعليم في السودان مثل: محمد عمر بشير وعبد المجيد عابدين ، وعبد العزيز أمين عبد المجيد ، أن التعليم الذي تم استنباطه في دولة الفونج هو الذي شكل النواة لتطور التعليم في السودان فيما بعد.
للمزيد من التفاصيل راجع :
- عبد المجيد عابدين : تاريخ الثقافة العربية في السودان،طبعة ثانية 1967.
- عبد العزيز أمين عبد المجيد : التربية في السودان – ثلاثة أجزاء ، القاهرة ، وزارة المعارف 1949.
- محمد عمر بشير: تطور التعليم في السودان، ترجمة هنرى رياض وآخرون ، دار الثقافة بيروت 1970.
alsirbabo@yahoo.co.uk
1
بدأ التعليم في مملكة الفونج أو سلطنة سنار كما هو معلوم بالخلوة باعتبارها الوحدة التعليمية الأساسية أو الخلية التعليمة الأولية التي تطور منها نظام التعليم فيما بعد .
كانت الخلوة تلبي حاجة مجتمع الفونج في بداية تكوينه والذي كان بسيطاً (اقتصادياً وسياسياً) فاقتصاد الفونج كان أغلبه اقتصاداً معيشياً ، ولم يكن ذلك الاقتصاد يتطلب أكثر من المعلومات الأولية في القراءة والكتابة ، ولكن بتطور النظام الاقتصادي والسياسي فيما بعد بفضل اتصال الفونج بالعالم الخارجي بشكل أوسع من البداية وتطور اقتصاد السلعة – النقد وازدياد حاجة النظام إلى كتبة وموظفين وعمال وقضاة لمواجهة احتياجات الجديدة التي نشأت بفضل تطور التجارة وتمليك الأرض وتوثيق العقود وقياس الأرض والفصل في قضايا الميراث وجمع الضرائب ، تحديد مقدارها (زكاة ، مكوس) ، وإزدياد هذه الحاجات أدت إلى تطور نظام التعليم عند الفونج .. حيث نلاحظ في الفترات اللاحقة تطور نظام التعليم من الخلوة إلى تعليم أوسط يتم فيه تدريس التصوف كما كان عليه الحال عند المجاذيب في الدامر ( للمزيد من التفاصيل راجع تاج السر عثمان الحاج ، لمحات من تاريخ سلطنة الفونج الاجتماعي، مركز محمد عمر بشير 2004) .
لتلبية هذا الغرض ازدادت البعثات التعليمية إلى الأزهر والحجاز ولتأهيل الكادر من الفقهاء والقضاء والمعلمين والشيوخ الذين بدورهم فتحوا مراكز لنيل العلم في مواقع السودان المختلفة : سنار ، الحلفايا ، شندي ، الدامر ، بلاد الشايقية (نورى) ، كترانج ، بربر ،. الخ لتلبية هذه الحاجات، كان يفد اليها الطلاب أبناء دارفور بقية المناطق. .
لم تكن فرص التعليم متساوية لكل أبناء وبنات الناس في عهد الفونج فقد كان تعليماً طبقياً وغير طبقي بمعني أن الآباء الذين كانوا يملكون الرقيق ويستخدمونهم في الزراعة أو الرعي كانوا لا يحتاجون لأبناءهم في هذه الأعمال ، وبالتالي كانوا يستغنون عن خدمات أبناءهم في هذا الجانب طوال فترة الدراسة في الخلوة (حوالى سبع أو خمس عشر سنة) وبالتالي كانت فرص هؤلاء في التعليم أكبر .
الحديث هنا عن الفرص الأكبر ذلك أن الموضوع معقد ولا يجوز التبسيط فيه ، فنظام التكافل الاجتماعي الذي كان في عهد الفونج كان يسمح أيضاً لأبناء الفقراء الراغبين في مواصلة تعليمهم .
2
ونحن نتأمل النظام الفريد الذي أبتدعه الفونج نحاول أن نستلخص أهم سمات هذا النظام في الأتي :
أ/ أن نظام التعليم عند الفونج لم يكن مركزياً أي لم يكن تابعاً للدولة ولم يكن للدولة سلطة على الشيوخ بهدف فرض أيديولوجية معينة أو طريقة معينة أو فكر معين ، وهذا إذ جاز الاستنتاج – نوع من استقلال العلم والعلماء عن حكام الفونج ونوع من التعليم الأهلى البعيد عن سيطرة الدولة وهذا نلمسه في أن سلاطين الفونج لم يكن يدفعوا لمعلمي الخلاوي مرتبات ، وكان الشيوخ ومعلمو الخلاوي يكتفون بما يقدمه الطلاب أو أباؤهم من هدايا وهبات ، كما كان لشيوخ الخلاوى أراضيهم الخاصة التي كانوا يزرعونها في المواسم لمساعدة طلابهم كما كانوا يعفون من دفع الضرائب والعشور .
وبهذا المعني استطاع الفقهاء والشيوخ والعلماء في عهد الفونج أن يقدموا إلى السودان نوعاً من التعليم ملائماً لظروف البلاد الاقتصادية والاجتماعية والسياسية واحتياجاتها وقتئذ ، ومهم هنا التركيز على هذه النقطة ، صحيح أن المعلمين الأوائل الذين تلقوا تعليمهم في الحجاز ومصر استفادوا من النظم التعليمية هذه أو درسوا وفقاً لتلك النظم التي كانت قائمة على التعليم في الخلاوي أو المساجد أو المراكز التعليمية الدينية المشهورة مثل الأزهر وغيره ( للمزيد من التفاصيل راجع محمد عمر بشير ، تطور التعليم في السودان، 1989- 1956، ترجمة همرى رياض وآخرون الخرطوم 1970) .
لكن نظام التعليم عند الفونج رغم أنه استفاد من النظم التعليمية التي كانت سائدة في العالم الإسلامي وقتئذ إلا أنه جاء أصيلاً وبخصوصية معينة ولم يكن نقلاً أعمى لتلك النظم ، وإنما أخذ خصوصية السودان في الاعتبار ، وبالتالي . إذا جاز التعبير كان نظاماً سودانياً فريداً تفاعل فيه الوافد مع المحلي .
نأخذ على سبيل المثال أن ود ضيف الله عندما كتب الطبقات استفاد من كتابة التاريخ على نحو الذي كان سائداً في العالم الإسلامي من ناحية الشكل مثل : الطبقات الكبرى ، طبقات الشعراني في الأولياء والصالحين ، ولكن ود ضيف الله عندما كتب الطبقات أخذ خصوصية السودان في الاعتبار .
ولم يكرر ما هو معروف ومشار إليه في طبقات الشعراني مثلاً أو الطبقات الكبرى ، ولكنه أشار إلى طبقات أو تاريخ الأولياء والصالحين والعلماء والشعراء في السودان وبالتالي جاء المؤلف بتلك الخصوصية السودانية التي قدم فيها معرفة جليلة وقيمة بالتاريخ السوداني الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والفني والأدبي والعلمي والديني ، بل حتى استخدم اللهجة السودانية التي كانت سائدة .
فود ضيف الله كان محلياً ، ولكنه هذه المحلية هي التي اضفت على هذا الكتاب أن يكون مصدراً هاماً من مصادر دراسة التاريخ السوداني في تلك الفترة .
ود ضيف الله إذن هو نتاج ذلك التعليم الذي أبتدعه أهل الفونج والذي جاء أصيلاً ونابعاً من احتياجات الواقع السوداني .
وهذه نقطة هامة في تقديرى بالتوسع فيها يمكن أن تشكل المفتاح أو المنهج السليم لفهم نظام التعليم عند الفونج بالنسبة للباحثين والدراسين في نظام التعليم في السودان .
ب. النقطة الثانية في نظام التعليم عند الفونج أنه كان مرتبطاً بالإنتاج ، أي أنه لم يكن يعرف الفصل بين التعليم الذهني والتعليم اليدوي (إذا جاز استخدام مصطلحات علماء التربية المعاصرة) فنظام التعليم عند الفونج لم يقتصر على الدراسة فقط، بل كان الطلاب يساهمون في زراعة أراضي الشيوخ وغيرها من هبات الخلاوي من الأراضي التي كان يدفعها الأغنياء والملوك وكان الطالب يملك حق العمل في أراضي أخرى أو الاحتطاب لتوفير بعض المال الذي كان يحتاج إليه رغم مجانية الإعاشة والسكن في الخلاوى ، وكان هذا النظام سائداً عند المجاذيب في الدامر .
ج/ كان نظام التعليم عند الفونج مفتوحاً بمعني أنه لم يكن يعرف الدرجة أو الشهادة النهائية من شيخ معين أو فكي معين فكان طلاب العلم الباحثون عن المزيد من العلم والمعرفة يتنقلون من شيخ لآخر ويسعون للمزيد من المعرفة إلى شيوخ عملهم أوسع واغرز من الشيوخ السابقين الذين تعلموا على أيديهم وبالتالي كان نظاماً فريداً متعدد المعارف ومتعدد المستويات ومتفاوت الخبرات ، كل بحسب جهده .
وكل بما تيسر له وينطبق عليه مقولة " طلب العلم من المهد الى اللحد " وكان يرسخ قيم التواضع واحترام العلماء والشيوخ لا لشيء إلا أنهم أكثر علماً ومعرفة .
وهذا الشكل هو الذي ساعد على أنتشار التعليم في السودان وفي بقاعة المختلفة بتلك السرعة في فترة الفونج ، كما ساعد على أنتشار اللغة العربية والديانة الإسلامية بشكل من الكثير من التسامح وهذا الشكل كما لاحظ بروفيسور محمد عمر بشير أنتج علماء في دولة الفونج كانوا لا يقلون درجة عن رصفائهم في العالم الإسلامي يؤمئذ .
د/ أهداف ونظم التعليم : كانت أهداف التعليم هي التفقه في الدين والتصوف الذي تطور في العالم الإسلامي (مصر ، الحجاز ، شمال أفريقيا) ، وقام التعليم على أساس تعليم القرآن وحفظه .
وكانت وحدات التعليم الإساسية الخلاوى والمساجد وأغلب الشيوخ لم يكن يستخدمون كتباً أو محفوطات بل كانوا يملون دروسهم على تلاميذهم من ذاكرتهم (كانوا يقولون العلم في الرأس لا في الكراس) .
وكان القرآن يقسم إلى سور ليحفظها الطالب عن ظهر قلب وكانت السور تكتب على لوح من الخشب وتمسح بالماء بعد حفظها لتكتب عليها سورة جديدة ونتوقف قليلاً هنا عند ثقافة إنسان الفونج في أدوات الكتابة .
في تلك الفترة عرفت أروبا صناعة الورق واختراع المطبعة ،وبدأ الفونج يستوردون الورق من أوربا ولكن استخدامه كان محدوداً للحكام وفي المحاكم ولم يتم تصنيعه بشكل واسع .
هـ/ المناهج : في مناهج التدريس بعد القرآن ترد الفقه في المرتبة الثانية ، وكانت الرسالة ومختصر الخليل المالكي تشكلان المصدر الرئيسي للتدريس (أغلب السودانيين أخذو المذهب المالكي).
وكان مما يلي ذلك أهمية علوم التوحيد والكلام وكانت أكثر الكتب المستخدمة هي مقدمة السنوسية والطالب الذي يرغب في زيادة حصيلته العلمية بعد أن يكون قد أتم دراسة تلك العلوم ، يدرس تجويد القرآن أو الحديث أو التفسير أو التصوف الإسلامي بشكل موسع وفي كتاب الطبقات وردت إشارة عن بعض الطلاب الذين تفوقوا في علوم النحو والبلاغة .
و/ تدريب المعلمين : كان الشيخ أو الفكي أوالمعلم أما يكون قد تخرج في أو تدرب في السودان ، أو تخرج في الأزهر الشريف أو معاهد مكة .
ز/ نظم الأمتحانات : لم تكن تعقد اختبارات أو أمتحانات كما لم تكن الدراسة محددة بزمن معين ، وعندما كان الطالب يفرغ من دراسته كان يمنح شهادة تسمى الإجازة حيث كان يستطيع بمقتضاها فتح مدرسة ليعلم فيها سالكاً نفس المنهج الذي سلكه مع إضافة الجديد من تجربته ومحصول علمه الإضافي بعد ذلك .
3
من وسائل التربية هناك العقوبة البدنية التي كانت تسمى " الفلقة " والفلقة هي عقوبة يعاقب بها الفكي أو الشيخ المذنبين أو المهرجين من الطلاب حيث كان الفكي يجلس على عنقريب صغير ويلقى بالطالب على الأرض ويرفع راحة قدميه مع ضمهما إلى أعلى وينهال الفكي ضرباً بالعكاز أو العصا التي تصنع من فروع السلم وغيرها ، أي الضرب على أخمص القدمين ، وهي عقوبة غير مبرحة ولكنها مؤلمة وفي بعض المناطق مثل الدامر أرتبط التعليم بالتجارة والسلطة حيث جمع فقهاء المجاذيب بين العلم والتجارة الشيء الذي مكن لهم في الأرض وأستطاعوا أن يستولوا على السلطة السياسية في مجتمع الدامر في سنوات الفونج الأخيرة عندما ضعف النظام المركزي ، وكما لاحظ بركهارد أن الفقيه الكبير لم تكن سلطته دينية فقط بل كان يمارس السلطة السياسية ويفصل في قضايا الناس ، وأشار بركهارد إلى ما يفهم منه أن في الدامر نظام جمع السلطة الزمنية والدينية أي الدولة دينية مصغرة إقامها المجاذيب في الدامر .
بهذا المعني كان التعليم إضافة لوظائفه الاقتصادية في الزراعة والرعي والحرف والتجارة مصدراً من مصادر الجاه والسلطة السياسية، وكانت مملكة الفونج متباينة في التطور الاقتصادي والاجتماعي والثقافي ، بالتالي جاء التعليم معبرا عن هذا التفاوت والتباين.
نخلص من ذلك إلى أن التعليم النظامي الذي بدأ في السودان بشكل واسع في فترة الفونج كان يعبر عن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية القائمة ، وكما لاحظ مؤرخو التعليم في السودان مثل: محمد عمر بشير وعبد المجيد عابدين ، وعبد العزيز أمين عبد المجيد ، أن التعليم الذي تم استنباطه في دولة الفونج هو الذي شكل النواة لتطور التعليم في السودان فيما بعد.
للمزيد من التفاصيل راجع :
- عبد المجيد عابدين : تاريخ الثقافة العربية في السودان،طبعة ثانية 1967.
- عبد العزيز أمين عبد المجيد : التربية في السودان – ثلاثة أجزاء ، القاهرة ، وزارة المعارف 1949.
- محمد عمر بشير: تطور التعليم في السودان، ترجمة هنرى رياض وآخرون ، دار الثقافة بيروت 1970.
alsirbabo@yahoo.co.uk