في أفريقيا: جنرالات يبيعون شعوبهم
جمال محمد ابراهيم
5 February, 2023
5 February, 2023
(1)
من مشاهد الألفية الثالثة ما هو ملاحظ من غلبة المصالح على العقائد السياسية، وأبـرز دلالاته بانت في التمهيد لانهيار دولة الاتحاد السوفيتي السابق في تسعينات القرن العشرين، وتفتتها إلى دول مستقلة ، تراجعت شعوبها إلى انتماءاتها القومية الضيقة ، اقتصادا واجتماعا وثقافة . لم تعد للايديولوجيات من سطوة ، بل عاد الركون إلى المصالح الاقتصادية مدخلا حاسما في علاقات الدول وتعاونها فيما بينها . ليس ذلك زعماً قاطعـاً، لكن صـورة المجتمع الدولي بعد أفول منافسات حقبة الحرب الباردة، صارت الأقرب إلى التمترس المصلحي لا التكتل العقائدي معيارا لعلاقات التعاون بين كيانات المجتمع الدولي.
(2)
غير أن هذه التحوّلات في العلاقات بين تلك الكيانات، باتتْ محكومة بمعـــايير بديـلة ، تتصل بالالتزام بحكم راشــد وباحترام لإرادة الشعوب وبإيمانٍ مجمل حقوقها الانســـانية. إلى ذلك ظلتْ المواثيق الدولية على فاعليتها ، أعمدة راســـخة يقوم عليها الحرص على الأمن والسلم الدوليين، وإن أصـــاب تلـك الأعمـدة وهنٌ واستضعاف. جرّاء ذلـك التنافـس المغموس بالشرِّ حول تحديات استجدت في الساحة الدولية ، مثل تنافص الموارد أمام الانفجـار السكاني، وتحولات الطبيعة التي لحقت بالبيئة والمناخ والاستحرار، ضاعتْ مصالح الشعوب في البلدان الغنية بثرواتها ، والفقيرة في قيــاداتها. .
هكذا وباختصار ، عاد العالم إلى قديمه، فيما تصاعدت وتيرة الصّـراعات تحـتـدم بين أقوياء العالم وضعفائه ، وفي مثل هذه الصراعات، تتراجع الالتزامات القيمية والأخلاقـية ، فتكاد أن تطغى قوانين الغاب و"داروينية" البقاء للأقوى.
(3)
لقد أنهكتْ تلك الصراعات أعمدة الأمن والسلم الدوليين ، ليس من صدى لمنظمات الإقليميـة ، مثل الجامعة العربية في الشرق الأوسط ، أو الإتحاد الأفريقي في القارة السمراء، أو مجموعة "الآسيان" هنالك في آسيا . تلك نماذج لكيانات ارتضتها بلدان أقاليم العالم وقاراته وتوافقتْ عليها ، ولكن أصاب بعضها نجاحــا يذكر، فيما لحق بأكثرها تهميش منكور، مثل الــذي شاهدناه عالقاً بهيـئة الأمم المتحدة بكامل أذرعها وأطرافها. ما نرى من حربٍ مستعرة بين روسيا وأوكرانيا ، هو وجـه من صراع قد يكون مدمّراً بين شرقٍ وغرب ، فيما تعجـز الأمم المتحدة وقد غلبها الأمر، والعالم مهددٌ بانتحارٍ ماثل.
من ينظر إلى أحوال القارّة الأفريقية ، يرى جنرالاتها وقد انقلبوا على حكومات بلدانهم، بلداً بعد آخر، خاصة في وسط وغرب أفريقيا، يديرون أحوال بلدانهم بغير كفاءة ، وبإهمال متعمّد للمواثيق الإقليمية والدولية.
(4)
تنافسُ الأقوياء يدفع أثمانه الفـقـراء ، فكما يجري المثل، فإنّ الأفيال لا يهمها الحشائش التي تدوس عليها، والمصيبة الكبرى هي أنّ الفـقــراء يمتلكون من الثـروات والموارد، ما يسيل له لعاب الأقويـاء الطامعيـن . تتراجع في لعـبة المصـالح والسيطرة ، تلـك المبــاديء والالتزامات الأخلاقية، يبصـرها الأقــوياء وتعمى عنها عيون الفقـراء.
في مثل تلك الصراعات و"المونديـالات" السياسية، لا مكان لالتزامات أولأخـلاق أو لقـيم. دولة قوية مثل روســيا تنشيء جيشا من المرتزقة ، تبعث بهم إلى ما وراء حدودها لتحقق مكاسب عسكرية واقتصادية ، ولا يسأل أحد عن حقوق الشعوب في الإرادة الحــرة وفي الكرامة، وفي مراعاة المباديء الانسانية. مرتزقــة مجموعات "فاجنــر" تعـبث فــي السودان وفي أفريقيا الوسطى وفي تشاد وفي العديد من البلدان الأفريقية الأخرى، وليس بيد الآخرين إلا تصنيف مثل تلك المجموعات أنها "جماعة إرهابية" وينتهي الأمر، فيما الصراع الشرير على أشــدّه.
من المؤسف أن جنرالات أفريقيا ينجحون في تجاوز مصالح شعوبهم ومخادعتها ليخدمون مصالح الأقوياء من البلدان الأخرى ، فيقبضون الثمن في غضّ الطرف عن تلك التجاوزات. ذلك نوع من الإرتزاق السياسي، يبقي مثل هؤلاء الجـنـرالات قابعيــن في كراسي الحكم في بلدانهم رغم أنف شـعوبهم ، فلا يسأل أحد عن مباديء الحكم الرشـيد والشــفافية السياســية ، وتلك الالتزامات والتعهدات التي تفضلوا بها على منظمات إقليمية لا يحفظون لـها ألا قليــل احترام. ما أن يقدم جنرال أفريقـي على القيـام بانقـلاب عسكري ، إلا وتســارع المنظـمـة الأفريقـيـة إلى تجميـد عضـوية بلاده في تلـك المنظمــة. لكن مَن مِـن الجنــرالات يعـبأ بقرارات مثل هذه. .؟
لاستدامة مصالحهم فإنّ الأقوياء ، يعمدون لاستدامة قيادات هشّـة تتحكّم في شـعوب مغلوبة على أمرها في أنحاء القارة .
(5)
ليس ذلك حال المنظمة الأفريقـية وحدها، بل لك أن تنظر إلى حال الجامعة العربية لربما هو الأسوأ حالا. لا ترى أكثر الشعوب العربية نفعا في منظمة تتحكم في مسيـرتها قيــادات وزعامات أكثرها في شمولية راسخة لسنوات، أو إنقلابية عسكرية لعقود، أو البقية سادرة في إهمال وتهميش. لكنك تشــاهد أمامك مؤتمرات تعقد وأصوات تعلو في منـــابـر الأمـــم المتحدة ،وزيارات مكوكية تتوالى من قيادات بلدان مستضعفة لعواصم الأقوياء ، والشعوب لا عاصم لها.
فيما تعمد إسرائيل إلى محو الأرض الفلسطينية، حارة بعد حارة ، وحرق مزرعة بعد مزرعة ، وبعد أن كادت أن تمحو الشعب الفلسطيني من ذاكرة المجتمع الدولي ، فإنّ مسيرة التطبيع العربي الأفريقي مع إسرائيل، تجري على قدمٍ وساق ، بل على سفاراتٍ وبيارق.
هاهي زيارة وزير خارجية إسرائيل إلى الخرطوم يرمي – في ظنه- إلى مزبلة التاريخ، لاءات الخرطوم الثلاث، فهل سيصدق التاريخ كذب القتلة الظالمين، وتلك اللاءات هي أغلـى ما منح الشعب السوداني للشعب الفلسطيني. . ؟
صحيفة العربي الجديد
الخرطوم – 5 /2/2023
من مشاهد الألفية الثالثة ما هو ملاحظ من غلبة المصالح على العقائد السياسية، وأبـرز دلالاته بانت في التمهيد لانهيار دولة الاتحاد السوفيتي السابق في تسعينات القرن العشرين، وتفتتها إلى دول مستقلة ، تراجعت شعوبها إلى انتماءاتها القومية الضيقة ، اقتصادا واجتماعا وثقافة . لم تعد للايديولوجيات من سطوة ، بل عاد الركون إلى المصالح الاقتصادية مدخلا حاسما في علاقات الدول وتعاونها فيما بينها . ليس ذلك زعماً قاطعـاً، لكن صـورة المجتمع الدولي بعد أفول منافسات حقبة الحرب الباردة، صارت الأقرب إلى التمترس المصلحي لا التكتل العقائدي معيارا لعلاقات التعاون بين كيانات المجتمع الدولي.
(2)
غير أن هذه التحوّلات في العلاقات بين تلك الكيانات، باتتْ محكومة بمعـــايير بديـلة ، تتصل بالالتزام بحكم راشــد وباحترام لإرادة الشعوب وبإيمانٍ مجمل حقوقها الانســـانية. إلى ذلك ظلتْ المواثيق الدولية على فاعليتها ، أعمدة راســـخة يقوم عليها الحرص على الأمن والسلم الدوليين، وإن أصـــاب تلـك الأعمـدة وهنٌ واستضعاف. جرّاء ذلـك التنافـس المغموس بالشرِّ حول تحديات استجدت في الساحة الدولية ، مثل تنافص الموارد أمام الانفجـار السكاني، وتحولات الطبيعة التي لحقت بالبيئة والمناخ والاستحرار، ضاعتْ مصالح الشعوب في البلدان الغنية بثرواتها ، والفقيرة في قيــاداتها. .
هكذا وباختصار ، عاد العالم إلى قديمه، فيما تصاعدت وتيرة الصّـراعات تحـتـدم بين أقوياء العالم وضعفائه ، وفي مثل هذه الصراعات، تتراجع الالتزامات القيمية والأخلاقـية ، فتكاد أن تطغى قوانين الغاب و"داروينية" البقاء للأقوى.
(3)
لقد أنهكتْ تلك الصراعات أعمدة الأمن والسلم الدوليين ، ليس من صدى لمنظمات الإقليميـة ، مثل الجامعة العربية في الشرق الأوسط ، أو الإتحاد الأفريقي في القارة السمراء، أو مجموعة "الآسيان" هنالك في آسيا . تلك نماذج لكيانات ارتضتها بلدان أقاليم العالم وقاراته وتوافقتْ عليها ، ولكن أصاب بعضها نجاحــا يذكر، فيما لحق بأكثرها تهميش منكور، مثل الــذي شاهدناه عالقاً بهيـئة الأمم المتحدة بكامل أذرعها وأطرافها. ما نرى من حربٍ مستعرة بين روسيا وأوكرانيا ، هو وجـه من صراع قد يكون مدمّراً بين شرقٍ وغرب ، فيما تعجـز الأمم المتحدة وقد غلبها الأمر، والعالم مهددٌ بانتحارٍ ماثل.
من ينظر إلى أحوال القارّة الأفريقية ، يرى جنرالاتها وقد انقلبوا على حكومات بلدانهم، بلداً بعد آخر، خاصة في وسط وغرب أفريقيا، يديرون أحوال بلدانهم بغير كفاءة ، وبإهمال متعمّد للمواثيق الإقليمية والدولية.
(4)
تنافسُ الأقوياء يدفع أثمانه الفـقـراء ، فكما يجري المثل، فإنّ الأفيال لا يهمها الحشائش التي تدوس عليها، والمصيبة الكبرى هي أنّ الفـقــراء يمتلكون من الثـروات والموارد، ما يسيل له لعاب الأقويـاء الطامعيـن . تتراجع في لعـبة المصـالح والسيطرة ، تلـك المبــاديء والالتزامات الأخلاقية، يبصـرها الأقــوياء وتعمى عنها عيون الفقـراء.
في مثل تلك الصراعات و"المونديـالات" السياسية، لا مكان لالتزامات أولأخـلاق أو لقـيم. دولة قوية مثل روســيا تنشيء جيشا من المرتزقة ، تبعث بهم إلى ما وراء حدودها لتحقق مكاسب عسكرية واقتصادية ، ولا يسأل أحد عن حقوق الشعوب في الإرادة الحــرة وفي الكرامة، وفي مراعاة المباديء الانسانية. مرتزقــة مجموعات "فاجنــر" تعـبث فــي السودان وفي أفريقيا الوسطى وفي تشاد وفي العديد من البلدان الأفريقية الأخرى، وليس بيد الآخرين إلا تصنيف مثل تلك المجموعات أنها "جماعة إرهابية" وينتهي الأمر، فيما الصراع الشرير على أشــدّه.
من المؤسف أن جنرالات أفريقيا ينجحون في تجاوز مصالح شعوبهم ومخادعتها ليخدمون مصالح الأقوياء من البلدان الأخرى ، فيقبضون الثمن في غضّ الطرف عن تلك التجاوزات. ذلك نوع من الإرتزاق السياسي، يبقي مثل هؤلاء الجـنـرالات قابعيــن في كراسي الحكم في بلدانهم رغم أنف شـعوبهم ، فلا يسأل أحد عن مباديء الحكم الرشـيد والشــفافية السياســية ، وتلك الالتزامات والتعهدات التي تفضلوا بها على منظمات إقليمية لا يحفظون لـها ألا قليــل احترام. ما أن يقدم جنرال أفريقـي على القيـام بانقـلاب عسكري ، إلا وتســارع المنظـمـة الأفريقـيـة إلى تجميـد عضـوية بلاده في تلـك المنظمــة. لكن مَن مِـن الجنــرالات يعـبأ بقرارات مثل هذه. .؟
لاستدامة مصالحهم فإنّ الأقوياء ، يعمدون لاستدامة قيادات هشّـة تتحكّم في شـعوب مغلوبة على أمرها في أنحاء القارة .
(5)
ليس ذلك حال المنظمة الأفريقـية وحدها، بل لك أن تنظر إلى حال الجامعة العربية لربما هو الأسوأ حالا. لا ترى أكثر الشعوب العربية نفعا في منظمة تتحكم في مسيـرتها قيــادات وزعامات أكثرها في شمولية راسخة لسنوات، أو إنقلابية عسكرية لعقود، أو البقية سادرة في إهمال وتهميش. لكنك تشــاهد أمامك مؤتمرات تعقد وأصوات تعلو في منـــابـر الأمـــم المتحدة ،وزيارات مكوكية تتوالى من قيادات بلدان مستضعفة لعواصم الأقوياء ، والشعوب لا عاصم لها.
فيما تعمد إسرائيل إلى محو الأرض الفلسطينية، حارة بعد حارة ، وحرق مزرعة بعد مزرعة ، وبعد أن كادت أن تمحو الشعب الفلسطيني من ذاكرة المجتمع الدولي ، فإنّ مسيرة التطبيع العربي الأفريقي مع إسرائيل، تجري على قدمٍ وساق ، بل على سفاراتٍ وبيارق.
هاهي زيارة وزير خارجية إسرائيل إلى الخرطوم يرمي – في ظنه- إلى مزبلة التاريخ، لاءات الخرطوم الثلاث، فهل سيصدق التاريخ كذب القتلة الظالمين، وتلك اللاءات هي أغلـى ما منح الشعب السوداني للشعب الفلسطيني. . ؟
صحيفة العربي الجديد
الخرطوم – 5 /2/2023