عن غياب الأبداع الحقيقي في حقل الثقافة السّودانية والحقول الأخرى
عوض حسن
9 February, 2023
9 February, 2023
awad89341@gmail.com
بداية فن الغناء :
الأغنية السّودانية ــ غياب التّأسيس النّظري وإنعدام التّعبير الدّرامي .
- الأغنية بنت الدّراما ( تمثيل ) أو هكذا يجب أن تكون وليست آداء صوتي فقط.
to sing the song is one thing)
to act the song - to give us what you actually feel is everything
- المُغنِّى السوداني يجلس حذراً أو يقف ( مُنشحطاً ) دون تعبير حركي كأنما يؤدي تسميع قصيدة في فصل مدرسي أمام زملائه التلاميذ ..
- الأغنية تعتبر أيضاً تطهير (catharsis) تنفيس وجداني ، تنقية العواطف وتهذيبها بالمفهوم الأرسطى عن الدراما ...
الأغنية غير أنها تعبيرعن حالة وجدانية ، أيضاً لها رسائل إنسانية أخري .-
- الفنان الحقيقي هو من يعرف كيف يعصر النغمة الغنائية (note) ليخرج ما بداخلها من عاطفة (emotion)..مثلما يعصر قطعة برتقال ليخرج عصيرها ..
- أغنية الحب نوع من التّسامى (sublimation) تحويل الهدف الجنسي إلي هدف أخر غير جنسي لكنه نفسياً له صلة بالجنس أو مستمد منه..
..........................
قد يرى البعض أن الحديث عن الفن ، خاصة عن الأغنية ، في زمن صخب وضجيج الصّراعات والمناكفات السياسية العبثية المستمرة في السودان ضرباً من التّفنكه والأستعراض الثقافي الإنصرافي . وقد ينسى البعض أنّ الأغنية إحدى مكونات الثقافة البشرية كالمعارف والآداب والفنون العامة الأخرى ، كذلك لها ميزتها الخاصة الإنتشارية والأكثر حضوراً داخل النسق الأيديولوجي العام بما في ذلك السياسي ، وإمكانية إستغلالها إيجاباً أو سلباً . فهي تعتبر بنت الثقافة المدلّلة المدلّعة المحبوبة لما لها من حرية ( الهملة والإنطلاقة ) في الأزمنة والأمكنة المختلفة ، لذلك هي الأكثر تأثُراً وتأثيراً في أفكار وقيم وأخلاق ووجدان وأمزجة الشعوب ، خلافاً لأنواع الفنون الأخرى التي يتطلب فعلها وإنتشارها وتأثيرها وقتاً وجهداً من الاستعدادات والترتيبات والممارسات والأجواء المعينة وإيجاد وتجهيزات الخامات وأماكن العرض ..مثال فن الرسم والنحت والرقص والرواية والمسرح والموسيقي .
قبل الاستطراد في الحديث عن موضوع الأغنية ، أولاً ، يجب الإعتراف بأنّ من أوضاع تخلُفنا ، أننا شعب بدائي وعشوائي (primitive and random) يفتقر إلي إستراتيجيات حقيقية نظرية فلسفية فكرية علمية في إدارة شئون نشاطاته الإنسانية المختلفة أي كانت ، سياسية ، إقتصادية ، صحية ، زراعية ، ثقافية ، رياضية .. كذلك النشاطات في الحقول الفنيّة فيما يخص المسرح ، السينما ، الموسيقى ، الغناء ، إذ أنّ البدائية والعشوائية كأفكار وأفعال وغيرها أي كانت دوافعها ، قطعاً لا يمكن الرهان علي نجاحها في زمننا هذا مقارنة بقواعد ضبط نظرية فلسفية علمية مدروسة ، كعوامل أساسية في ضمان إمكانية نجاح النشاط المعني أي كان نوعه . إذ من المعلوم أننا لا يمكننا تشيّد بناء رصين من غير التفكير( نظرياً ) في وضع تأسيس قاعدي له وإلا سوف ينهار.
المتتبع لهذه النشاطات المذكورة أعلاه ونجاحاتها التطبيقية في الدول المتقدمة الأوربية علي وجه الخصوص ، والتي نستورد ونستمتع بمنجزاتها المادية التكنولوجية والفنية ، وقد نجهل عمداً أو من غير عمد الأصول والجذور التي قامت عليها تلك المنجزات من أسس نظرية وقواعد معرفية فلسفية علمية عميقة سابقة للنشاط المعين أو ملازمة له . مثال على ذلك النشاط الفني الموسيقي وجذوره إمتداداً من نظرية الفيلسوف اليوناني القديم فيثاغورس حول تطوير التعاليم العددية والموسيقية مروراً بالفلسفات والنظريات والتيارات الموسيقية المتعددة حتي عصرنا الحالي مع علوم الصولفيج (solfege) والإيقاعات والنوتة الموسيقية ، كذلك فن السينما وعلاقته بفلسفة ودراسة الصورة وتكويناتها وانعكاساتها البصرية ، الفن التشكيلي والأدب والشعر وعلاقتهما بالفلسفات والنظريات العلمية من مثل التكعيبية وعلاقتها بنظرية النسبية ، السّرياليّة وعلاقتها بنظريات علم النفس (أندريه بريتون وعلاقته بسغموند فرويد ) ، المدرسة الإنطباعية في الفن وعلاقتها بنظريات فلسفة الطبيعة والضوء...وغير ذلك العديد من النشاطات الأخرى والتي لها جذور وإرتباطات فلسفية نظرية علمية ساهمت في إنشائها وتطورها عند تلك الشعوب المتقدمة .
العكس تماماً إذا ما تناولنا الحالة السّودانية بشكل عام، على ضوء ما ذكرنا أعلاه . نحن شعب نمارس تلك النشاطات حتي المُتعلّقة بأخطر الإمور الحياتية ، بإستسهالٍ وعشوائية عبثية ممزوجة بغرورٍ وثقة وهمية ، دون إجتهاد منّا ولو قليلاً في وضع ضوابط نظرية أو فلسفية أو حتي تتبع معرفي تجريبي ولو يسير تقوم عليه تلك النشاطات تعيننا علي نضوج التجربة والتّطبيق علي أرض الواقع . لذا يأتي حاصل نتاجاتنا في شتى المجالات مرهون بالفشل المحتوم ، أو الضعف أو ضيق النفس في الإستمرار . فهناك منّا من يدخل إلي عالم السياسة عشوائياً ظناً منه أنه سياسي ماهر وهو يجهل أبسط مبادئها وأسسها وعلوم وقوانين تطورها في إدارة الدولة ، وهناك من يتحدث عن الاقتصاد مُدَعياً دون معرفة ولو قليلاً عن علم الاقتصاد وقوانينه وإصوله وفلسفته وجذور نشأته ، و من يدعي كتابة الشِّعر ولم يجتهد ولو قليلاً في معرفة جذوره الفلسفية أو النظرية أو بحوره وتياراته المختلفة القديمة والحديثة ولا يفرق بين القصيدة العمودية أو التفعيلية الحرة أو المنثورة... والامثلة كثيرة عن نشاطاتنا المختلفة من حيث العشوائية وفقر وضعف وفشل تطبيقاتها ونتائجها الماثلة في الحياة السودانية لا يسمح المجال بذكرها ، فقط يكفي أن نقول أننا بلد متخلف . خلاصة ما أعنيه تحديداً ، أننا لم ننتج نظريات معرفية أو فلسفات أوعلمية خاصة بنا في المجالات المختلفة ، بل كثيراً ما نلجأ إلي التراث القديم وتقليده أو إعادته بشكل آخر ونعتبر ذلك نوع من التجديد أو الإبداع وهو ليس كذلك عند تعريفنا للإبداع ، أو نستورد نظريات وفلسفات ومعارف هي نتاج تجارب واقع شعوب أخرى يتم تشويهها قسراً عند تطبيقنا لها كي تتلاءم مع واقعنا المشوّه أصلا ، مثال ذلك مفهوم الديمقراطية كمستورد ، والذي يتم تشويهه والتشدّق به كثيراً في حياتنا دون أن نمارسه فعلياً في الواقع .
تبعاً إلى ما ذكرنا أعلاه عن النشاطات وجذورها الفلسفية والنظرية والعلمية ، يمكننا الحديث عن إشكالية الأغنية السودانية من وجهة نظر نقدية ، في ظلِّ ما أشرنا إليه سابقاً من أجواء قاتمة السواد بسبب الصراعات المختلفة والحروب العبثية قديمها وحديثها وما تفرزه هذه الأجواء العدمية ، وتأثيراتها المدمّرة البائنة علي المحيط العام سياسي ، اقتصادي ، صحي ، اجتماعي ، ثقافي ..ألخ بما في ذلك تأثيراتها علي القيم الأخلاقية المتنوعة ، وبلا شك إنعكاساتها المباشرة سلباً علي أنواع القيم الفنية ، والتي أرى أنها أكثر القيم حساسية ورهافة من حيث قابليتها للتغيرات والتحولات والتقلبات والتشوهات بحكم إرتباط بعضها ( غريزياً ) باللاوعي مخزن الأمنيات والرّغبات والشّهوات التي تتطلب إشباعاً فيزيائياً وفكرياً ونفسياً . هذه الرغبات والشهوات تمثّل طاقات كمية وكيفية إضافة إلي أنها من ضمن عمليات حفظ الذّات ، منها ما لها أيضاً خصوصية في تميّز أهدافها وسلوكها وطرق التعبير عنها ( فنياً ) مثال ذلك ما نطلق عليه اللِّبيدو (libido) الحب وهو الطاقة النفسية المتمثلة في الشّهوة أو الرغبة الجنسية . وبمعني أكثر دقة ، يشير مصطلح اللّبيدو إلي الجانب النفسي ( التعبير الدّينامي عن النّزوة الجنسيّة في الحياة النفسية ) كما يقول علم النفس التحليلي ( كتاب التحليل النفسي .تأليف جان لابلانش و.ج.ب بونتاليس . ترجمة د.مصطفي حجازي . ص 428). ويمكن تحويل أو توظيف هذا اللبيدو إلي نشاط متسامي من خلال قدراتنا علي تحويل الهدف الجنسي إلي هدف أخرغير جنسي لكنه نفسياً له صلة بالجنس أو مستمد منه ، وهنا نعني التعبير ( الفني ) عن اللبيدو بما نطلق عليه ( أغاني الحب ) المقبولة إجتماعياً والتي تبدو لا صلة لها بالجنس ، أي أنها تبدو بعيدة كل البعد مظهرياً عن الجنس بحكم القدرة الذكيّة الإبداعية للفن والفنان علي تمويه وتحويل الهدف الجنسي فنياً من خلال عمل الوعي الذي يعني مجمل العمليات العقلية التي تشترك في فهمنا لوجودنا الشخصي وفهمنا لما حولنا من واقع ، كما يعمل الوعي أيضاً علي تنظيم وترتيب وتشذيب مُخرجات اللاوعي(unconsciousness) حتي تتناسب مع سلطة الأنا الأعلى(super ego) أي الضمير الأخلاقي للفرد المتكون من تأثيرات الطبيعة والبيئة الثقافية الاجتماعية ومكوناتها الأيديولوجية المختلفة . بمعني أن لا يشذ العمل الفني في بنائه وتعبيراته ومعانيه عن قيم المجتمع السلطوية . نحن نتربى ونتعلم كيف نسلك ، كيف نمشي ، كيف نأكل ، كيف نُحب ، كيف نكتب الشعر وكيف نغني ...ألخ وفق خطوط قيم أخلاقية إجتماعية مرسومة حمراء لا يجب تخطيها .
أضافة إلي ما ذكرناه يعتبر فن الغناء أيضاً دعوة عاطفية وجدانية للمستمع أو المشاهد للمشاركة في هذه الحالة. بمعني أخر، فإن الأغنية قد تبدو كحالة من التوحد بين الفنان والمستمع أو المشاهد ، أو تماهي المستمع في الفنان وجدانياً ، فهي تعتبر في الحالتين تنفيس أو تنقية العواطف وتهذيبها ، كما يشير معني التطهير في سياق فلسفة أرسطو عن الدراما . الأغنية أيضاً تعتبر محاكاة فنية لمواقف حياتية فردية أو إجتماعية ، تعمل علي إثارة أحاسيس ومشاعر المستمع أو المشاهد . فهي مشاركة إنسانية باعتبارنا كائنات اجتماعية تشترك في الكثير من أساليب الحياة المختلفة أفراحاً وأتراحاً ، فهي غير أنها تعبيرعن حالة عاطفية سارة أو حزينة ، أيضاً لها رسالة خيّرة إنسانية إرشادية سامية تدعو لها من خلال معانيها ، والعكس تماماً سلبياً هناك من الأغاني ما يساهم في تخريب الذّوق العام ونشر وترسيخ قيم التّخلف .
في بعض المجتمعات ، كثيراً ما يتم كبت أو ضبط العواطف والمشاعر الإنسانية بطرقٍ عديدة مختلفة وكذلك ضبط التعبير عنها فنياً ، أو تزيفها أو توجيهها وفق ما ترتضيه الأيديولوجية المعينة من أساليب وأدوات متعددة بهدف السيطرة علي المجتمع ، من خلال السيطرة علي أنشطة الفنون المختلفة أو فرض نوع معين منها ، وذلك من خلال بسط قوانين وأوامر أفعل ولا تفعل ، ما بين الحرية والقمع ، الجميل والقبيح ، الحلال والحرام ، الطاهر والنّجس .. نلحظ ذلك في العديد من الإجراءات السلطوية المختلفة السياسية أو الدينية أو الاجتماعية أو تضافرهم معاً كما في حالات الكثير من الدول منها الحالة السودانية ، وقد نلحظ ذلك بوضوح في تقنين وتوجيه أدوات وبرامج الدولة الإعلامية من تلفزيون وراديو...ألخ من منع أغاني بحجة المنافاة للأخلاق أو خدش الحياء العام .
الجدير ذكره بأهمية الفنون ودورها في ثقافة الشعوب ، نشأت الكثير من الأكاديميات الفنية المختلفة في العديد من بلدان العالم ساهمت وتساهم في النهوض بمستوي الفنون ونشرها ، منها ما يخص فن الموسيقي و( علمنته ) من خلال الدراسات والتربية الموسيقية ودراسة ما يتعلق بفن الغناء وفن الألحان والإيقاعات والأصوات الموسيقية والمقامات ، وأيضا طريقة كتابتها وقراءتها وتفسيرها وتحديد خصائص الأصوات الموسيقية والطبقات الصوتية و تدريس الإملاء الموسيقية لتنمية الحس الموسيقي وتقوية مهارات تحديد النغمات والتمييز بينها ، وتسهيل تصنيف الألوان الموسيقية ودراسة الصولفيج لتعلم الغناء بطريق صحيحة .
تبعاً لكل ما سبق تناوله ، يمكننا أن نتساءل عن وضع الأغنية السودانية قديمها وحديثها ، إذا ما قارناها بما جري ويجري من تطور فن الغناء عالمياً في تناوله لمواضيع متعددة ومختلفة ، ومن فلسفات ونظريات وأستراتيجيات وتقنيات وأساليب مستحدثة في ( صناعة ) الأغنية زيادة مع عوامل أخرى تساهم في خروجها من محليتها .عليه ، نجد أن الأغنية السودانية تعاني من ( أزمات ) تخلّف حقيقية في مختلف النواحي ، أبتداءاً من أزمة الحرية الأبداعية بمختلف أنواعها .
أولاً ، يمكننا النظر إلي الفن بصفة عامة وعلاقته بالحريّة ، فهو مثله والأنشطة الإنسانية الأخرى كالعلم ، الفلسفة ، السياسة ، القانون ، الأخلاق ، الجمال ..ألخ لا يمكن أن ينمو و يعيش ويتنفس ويتطور ويُبدِع إلا في ظلّ حريات حقيقية تسمح له بحرية الفعل والتعبير والحركة والإنتشار، بإعتباره كائن حي ، أي أنه تجليات وإنعكاسات للإنسان في حياته المختلفة وتمثلاً لها . فن الغناء يختنق يمرض ويموت في ظل الكبت تحت أي سلطة قمعية أي كان نوعها سياسية دينيّة إجتماعية نفسية ... تعمل علي فرض سياج من القوانين والضوابط بهدف منع أو تصنيع أو قولبة أو تنميط المجتمع فكرياً ونفسياً من خلال فرض نوع من القيم الأخلاقية الجمالية الدينية ....ومن عادات وتقاليد وسلوكيات تتناسب مع مرامي تلك السلطات في خلق قطيع من الحيوانات البشرية بهدف الطاعة العمياء . ويمكن أستخدام الفن في تلك المهمة .
الأغنية السودانية في تركيبتها الفنية من كلمات ومعاني ولحن وآداء .. وليدة واقع مكبوت وكابت ، متخلّف تقليدي دائري رتيب . نعني بالكبت حرمان ما يمكن أن يؤدي إلي متعة الشخص الذاتية عبر الطرق التي يختارها . الأغنية السودانية تفتقر إلي الضروريات الإبداعية المختلفة . إذ نعني بالإبداع في معناه الفلسفي ( إحداث شيء علي غير مثال سابق *) نقول أبدع الشخص ، أي أتى بما لم يكن موجوداً أو تجاوزاً لما هو موجود ثابت ومعتاد ، وهذا يتطلب نوعاً من الثورة علي تكرار وترديد الثابت القديم ، ذلك من خلال المغامرة والجهد والتجريب والبحث المستمر الدؤوب عن الجديد شعراً ولحناً وآداءً ... إستناداً على خلفية جهد معرفي علمي فلسفي فكري ثقافي متسلحاً به الفنان ، وليس إجتراراً وتكراراً وتقليداً ، أو إعادةً ما هو موجود أصلاً من كلمات وصوت وألحان وآداء وإن كان بطريقة غير مباشرة وهذا مالا يمكن أن يوجد إلا في بيئة حرّة بلا قيود تكبل متطلبات الإنسان الجسدية والعقلية والروحية . إضافة إلي ذلك أيضاً بحكم سيطرة مفاهيم القيم الأخلاقية السلوكية الاجتماعية الموروثة ( ذكرأنثي أدب رزانة خجل وقوف جلوس مشي لبس حركة صوت ...) لها الأثر الكبيرعلي الفن والفنان في فرض كيفية أداء الغناء أمام الجمهور، وهذا مما يتبيّن معه إنعدام التعبيري الدرامي ( الجسدي) ، إنعدام حرية السلوك ، كبت الانفعال () كبت تدفق المشاعر الإنسانية الطبيعية ، حرية المزاج عند المغني السوداني .
المُغنّي الحر هو من يمتلك الحرية الفعلية التي يستطيع من خلالها كيف يبرز قدراته الأبداعية في الغناء ، كيف يعصر النغمة الغنائية ليخرج ما بداخلها من عاطفة مثلما يعصر قطعة برتقال ليخرج عصيرها ، كيف ينفعل وكيف يفهم إنتقال عدوى إنفعالاته تلك وتأثيرها علي جمهوره .
نحن شعب مازوشي (masochist) يعشق الحزن والشكوى والعذاب وجلد الذات مع الكسل وهكذا نغني . الأغنية السودانية تكراراً رتيب وممل ، مقابل شح الأغاني النشطة الدرامية الفرايحية المتفائلة ، لذا تجد المُغنِي السوداني في آدائه يبدو وكأنه معاق جسدياً وعاطفياً ، حذراً خائفاً ومتوجساً ومتخشباً وفاقداً للثقة في نفسه يجلس ساكناً أو يقف منتصباً جامداً دون تعبير شعوري حركي وكأنه تلميذ إبتدائي يؤدي تسميع قصيدة في فصل مدرسي أمام المدرس وزملائه التلاميذ ، لذا تبدو الأغنية السودانية هزيلة الحيوية مستلبة الرّوح أو بالأحرى ميتة ، ربما يرجع ذلك إلي سيطرة الكلمات أكثر علي حساب الموسيقى والإيقاعات . وقد يعزى ذلك ربما في إعتقادي إلي الإرتباط بالثقافة العربية التي يمكن وصفها بالروتين والرتابة وبالثبات والسكون الذي يعمّ الكثير من جوانب الحياة وينعكس ذلك بشكلٍ ما في النتاجات الفنية .
..........................................
نواصل الحاصل
بداية فن الغناء :
الأغنية السّودانية ــ غياب التّأسيس النّظري وإنعدام التّعبير الدّرامي .
- الأغنية بنت الدّراما ( تمثيل ) أو هكذا يجب أن تكون وليست آداء صوتي فقط.
to sing the song is one thing)
to act the song - to give us what you actually feel is everything
- المُغنِّى السوداني يجلس حذراً أو يقف ( مُنشحطاً ) دون تعبير حركي كأنما يؤدي تسميع قصيدة في فصل مدرسي أمام زملائه التلاميذ ..
- الأغنية تعتبر أيضاً تطهير (catharsis) تنفيس وجداني ، تنقية العواطف وتهذيبها بالمفهوم الأرسطى عن الدراما ...
الأغنية غير أنها تعبيرعن حالة وجدانية ، أيضاً لها رسائل إنسانية أخري .-
- الفنان الحقيقي هو من يعرف كيف يعصر النغمة الغنائية (note) ليخرج ما بداخلها من عاطفة (emotion)..مثلما يعصر قطعة برتقال ليخرج عصيرها ..
- أغنية الحب نوع من التّسامى (sublimation) تحويل الهدف الجنسي إلي هدف أخر غير جنسي لكنه نفسياً له صلة بالجنس أو مستمد منه..
..........................
قد يرى البعض أن الحديث عن الفن ، خاصة عن الأغنية ، في زمن صخب وضجيج الصّراعات والمناكفات السياسية العبثية المستمرة في السودان ضرباً من التّفنكه والأستعراض الثقافي الإنصرافي . وقد ينسى البعض أنّ الأغنية إحدى مكونات الثقافة البشرية كالمعارف والآداب والفنون العامة الأخرى ، كذلك لها ميزتها الخاصة الإنتشارية والأكثر حضوراً داخل النسق الأيديولوجي العام بما في ذلك السياسي ، وإمكانية إستغلالها إيجاباً أو سلباً . فهي تعتبر بنت الثقافة المدلّلة المدلّعة المحبوبة لما لها من حرية ( الهملة والإنطلاقة ) في الأزمنة والأمكنة المختلفة ، لذلك هي الأكثر تأثُراً وتأثيراً في أفكار وقيم وأخلاق ووجدان وأمزجة الشعوب ، خلافاً لأنواع الفنون الأخرى التي يتطلب فعلها وإنتشارها وتأثيرها وقتاً وجهداً من الاستعدادات والترتيبات والممارسات والأجواء المعينة وإيجاد وتجهيزات الخامات وأماكن العرض ..مثال فن الرسم والنحت والرقص والرواية والمسرح والموسيقي .
قبل الاستطراد في الحديث عن موضوع الأغنية ، أولاً ، يجب الإعتراف بأنّ من أوضاع تخلُفنا ، أننا شعب بدائي وعشوائي (primitive and random) يفتقر إلي إستراتيجيات حقيقية نظرية فلسفية فكرية علمية في إدارة شئون نشاطاته الإنسانية المختلفة أي كانت ، سياسية ، إقتصادية ، صحية ، زراعية ، ثقافية ، رياضية .. كذلك النشاطات في الحقول الفنيّة فيما يخص المسرح ، السينما ، الموسيقى ، الغناء ، إذ أنّ البدائية والعشوائية كأفكار وأفعال وغيرها أي كانت دوافعها ، قطعاً لا يمكن الرهان علي نجاحها في زمننا هذا مقارنة بقواعد ضبط نظرية فلسفية علمية مدروسة ، كعوامل أساسية في ضمان إمكانية نجاح النشاط المعني أي كان نوعه . إذ من المعلوم أننا لا يمكننا تشيّد بناء رصين من غير التفكير( نظرياً ) في وضع تأسيس قاعدي له وإلا سوف ينهار.
المتتبع لهذه النشاطات المذكورة أعلاه ونجاحاتها التطبيقية في الدول المتقدمة الأوربية علي وجه الخصوص ، والتي نستورد ونستمتع بمنجزاتها المادية التكنولوجية والفنية ، وقد نجهل عمداً أو من غير عمد الأصول والجذور التي قامت عليها تلك المنجزات من أسس نظرية وقواعد معرفية فلسفية علمية عميقة سابقة للنشاط المعين أو ملازمة له . مثال على ذلك النشاط الفني الموسيقي وجذوره إمتداداً من نظرية الفيلسوف اليوناني القديم فيثاغورس حول تطوير التعاليم العددية والموسيقية مروراً بالفلسفات والنظريات والتيارات الموسيقية المتعددة حتي عصرنا الحالي مع علوم الصولفيج (solfege) والإيقاعات والنوتة الموسيقية ، كذلك فن السينما وعلاقته بفلسفة ودراسة الصورة وتكويناتها وانعكاساتها البصرية ، الفن التشكيلي والأدب والشعر وعلاقتهما بالفلسفات والنظريات العلمية من مثل التكعيبية وعلاقتها بنظرية النسبية ، السّرياليّة وعلاقتها بنظريات علم النفس (أندريه بريتون وعلاقته بسغموند فرويد ) ، المدرسة الإنطباعية في الفن وعلاقتها بنظريات فلسفة الطبيعة والضوء...وغير ذلك العديد من النشاطات الأخرى والتي لها جذور وإرتباطات فلسفية نظرية علمية ساهمت في إنشائها وتطورها عند تلك الشعوب المتقدمة .
العكس تماماً إذا ما تناولنا الحالة السّودانية بشكل عام، على ضوء ما ذكرنا أعلاه . نحن شعب نمارس تلك النشاطات حتي المُتعلّقة بأخطر الإمور الحياتية ، بإستسهالٍ وعشوائية عبثية ممزوجة بغرورٍ وثقة وهمية ، دون إجتهاد منّا ولو قليلاً في وضع ضوابط نظرية أو فلسفية أو حتي تتبع معرفي تجريبي ولو يسير تقوم عليه تلك النشاطات تعيننا علي نضوج التجربة والتّطبيق علي أرض الواقع . لذا يأتي حاصل نتاجاتنا في شتى المجالات مرهون بالفشل المحتوم ، أو الضعف أو ضيق النفس في الإستمرار . فهناك منّا من يدخل إلي عالم السياسة عشوائياً ظناً منه أنه سياسي ماهر وهو يجهل أبسط مبادئها وأسسها وعلوم وقوانين تطورها في إدارة الدولة ، وهناك من يتحدث عن الاقتصاد مُدَعياً دون معرفة ولو قليلاً عن علم الاقتصاد وقوانينه وإصوله وفلسفته وجذور نشأته ، و من يدعي كتابة الشِّعر ولم يجتهد ولو قليلاً في معرفة جذوره الفلسفية أو النظرية أو بحوره وتياراته المختلفة القديمة والحديثة ولا يفرق بين القصيدة العمودية أو التفعيلية الحرة أو المنثورة... والامثلة كثيرة عن نشاطاتنا المختلفة من حيث العشوائية وفقر وضعف وفشل تطبيقاتها ونتائجها الماثلة في الحياة السودانية لا يسمح المجال بذكرها ، فقط يكفي أن نقول أننا بلد متخلف . خلاصة ما أعنيه تحديداً ، أننا لم ننتج نظريات معرفية أو فلسفات أوعلمية خاصة بنا في المجالات المختلفة ، بل كثيراً ما نلجأ إلي التراث القديم وتقليده أو إعادته بشكل آخر ونعتبر ذلك نوع من التجديد أو الإبداع وهو ليس كذلك عند تعريفنا للإبداع ، أو نستورد نظريات وفلسفات ومعارف هي نتاج تجارب واقع شعوب أخرى يتم تشويهها قسراً عند تطبيقنا لها كي تتلاءم مع واقعنا المشوّه أصلا ، مثال ذلك مفهوم الديمقراطية كمستورد ، والذي يتم تشويهه والتشدّق به كثيراً في حياتنا دون أن نمارسه فعلياً في الواقع .
تبعاً إلى ما ذكرنا أعلاه عن النشاطات وجذورها الفلسفية والنظرية والعلمية ، يمكننا الحديث عن إشكالية الأغنية السودانية من وجهة نظر نقدية ، في ظلِّ ما أشرنا إليه سابقاً من أجواء قاتمة السواد بسبب الصراعات المختلفة والحروب العبثية قديمها وحديثها وما تفرزه هذه الأجواء العدمية ، وتأثيراتها المدمّرة البائنة علي المحيط العام سياسي ، اقتصادي ، صحي ، اجتماعي ، ثقافي ..ألخ بما في ذلك تأثيراتها علي القيم الأخلاقية المتنوعة ، وبلا شك إنعكاساتها المباشرة سلباً علي أنواع القيم الفنية ، والتي أرى أنها أكثر القيم حساسية ورهافة من حيث قابليتها للتغيرات والتحولات والتقلبات والتشوهات بحكم إرتباط بعضها ( غريزياً ) باللاوعي مخزن الأمنيات والرّغبات والشّهوات التي تتطلب إشباعاً فيزيائياً وفكرياً ونفسياً . هذه الرغبات والشهوات تمثّل طاقات كمية وكيفية إضافة إلي أنها من ضمن عمليات حفظ الذّات ، منها ما لها أيضاً خصوصية في تميّز أهدافها وسلوكها وطرق التعبير عنها ( فنياً ) مثال ذلك ما نطلق عليه اللِّبيدو (libido) الحب وهو الطاقة النفسية المتمثلة في الشّهوة أو الرغبة الجنسية . وبمعني أكثر دقة ، يشير مصطلح اللّبيدو إلي الجانب النفسي ( التعبير الدّينامي عن النّزوة الجنسيّة في الحياة النفسية ) كما يقول علم النفس التحليلي ( كتاب التحليل النفسي .تأليف جان لابلانش و.ج.ب بونتاليس . ترجمة د.مصطفي حجازي . ص 428). ويمكن تحويل أو توظيف هذا اللبيدو إلي نشاط متسامي من خلال قدراتنا علي تحويل الهدف الجنسي إلي هدف أخرغير جنسي لكنه نفسياً له صلة بالجنس أو مستمد منه ، وهنا نعني التعبير ( الفني ) عن اللبيدو بما نطلق عليه ( أغاني الحب ) المقبولة إجتماعياً والتي تبدو لا صلة لها بالجنس ، أي أنها تبدو بعيدة كل البعد مظهرياً عن الجنس بحكم القدرة الذكيّة الإبداعية للفن والفنان علي تمويه وتحويل الهدف الجنسي فنياً من خلال عمل الوعي الذي يعني مجمل العمليات العقلية التي تشترك في فهمنا لوجودنا الشخصي وفهمنا لما حولنا من واقع ، كما يعمل الوعي أيضاً علي تنظيم وترتيب وتشذيب مُخرجات اللاوعي(unconsciousness) حتي تتناسب مع سلطة الأنا الأعلى(super ego) أي الضمير الأخلاقي للفرد المتكون من تأثيرات الطبيعة والبيئة الثقافية الاجتماعية ومكوناتها الأيديولوجية المختلفة . بمعني أن لا يشذ العمل الفني في بنائه وتعبيراته ومعانيه عن قيم المجتمع السلطوية . نحن نتربى ونتعلم كيف نسلك ، كيف نمشي ، كيف نأكل ، كيف نُحب ، كيف نكتب الشعر وكيف نغني ...ألخ وفق خطوط قيم أخلاقية إجتماعية مرسومة حمراء لا يجب تخطيها .
أضافة إلي ما ذكرناه يعتبر فن الغناء أيضاً دعوة عاطفية وجدانية للمستمع أو المشاهد للمشاركة في هذه الحالة. بمعني أخر، فإن الأغنية قد تبدو كحالة من التوحد بين الفنان والمستمع أو المشاهد ، أو تماهي المستمع في الفنان وجدانياً ، فهي تعتبر في الحالتين تنفيس أو تنقية العواطف وتهذيبها ، كما يشير معني التطهير في سياق فلسفة أرسطو عن الدراما . الأغنية أيضاً تعتبر محاكاة فنية لمواقف حياتية فردية أو إجتماعية ، تعمل علي إثارة أحاسيس ومشاعر المستمع أو المشاهد . فهي مشاركة إنسانية باعتبارنا كائنات اجتماعية تشترك في الكثير من أساليب الحياة المختلفة أفراحاً وأتراحاً ، فهي غير أنها تعبيرعن حالة عاطفية سارة أو حزينة ، أيضاً لها رسالة خيّرة إنسانية إرشادية سامية تدعو لها من خلال معانيها ، والعكس تماماً سلبياً هناك من الأغاني ما يساهم في تخريب الذّوق العام ونشر وترسيخ قيم التّخلف .
في بعض المجتمعات ، كثيراً ما يتم كبت أو ضبط العواطف والمشاعر الإنسانية بطرقٍ عديدة مختلفة وكذلك ضبط التعبير عنها فنياً ، أو تزيفها أو توجيهها وفق ما ترتضيه الأيديولوجية المعينة من أساليب وأدوات متعددة بهدف السيطرة علي المجتمع ، من خلال السيطرة علي أنشطة الفنون المختلفة أو فرض نوع معين منها ، وذلك من خلال بسط قوانين وأوامر أفعل ولا تفعل ، ما بين الحرية والقمع ، الجميل والقبيح ، الحلال والحرام ، الطاهر والنّجس .. نلحظ ذلك في العديد من الإجراءات السلطوية المختلفة السياسية أو الدينية أو الاجتماعية أو تضافرهم معاً كما في حالات الكثير من الدول منها الحالة السودانية ، وقد نلحظ ذلك بوضوح في تقنين وتوجيه أدوات وبرامج الدولة الإعلامية من تلفزيون وراديو...ألخ من منع أغاني بحجة المنافاة للأخلاق أو خدش الحياء العام .
الجدير ذكره بأهمية الفنون ودورها في ثقافة الشعوب ، نشأت الكثير من الأكاديميات الفنية المختلفة في العديد من بلدان العالم ساهمت وتساهم في النهوض بمستوي الفنون ونشرها ، منها ما يخص فن الموسيقي و( علمنته ) من خلال الدراسات والتربية الموسيقية ودراسة ما يتعلق بفن الغناء وفن الألحان والإيقاعات والأصوات الموسيقية والمقامات ، وأيضا طريقة كتابتها وقراءتها وتفسيرها وتحديد خصائص الأصوات الموسيقية والطبقات الصوتية و تدريس الإملاء الموسيقية لتنمية الحس الموسيقي وتقوية مهارات تحديد النغمات والتمييز بينها ، وتسهيل تصنيف الألوان الموسيقية ودراسة الصولفيج لتعلم الغناء بطريق صحيحة .
تبعاً لكل ما سبق تناوله ، يمكننا أن نتساءل عن وضع الأغنية السودانية قديمها وحديثها ، إذا ما قارناها بما جري ويجري من تطور فن الغناء عالمياً في تناوله لمواضيع متعددة ومختلفة ، ومن فلسفات ونظريات وأستراتيجيات وتقنيات وأساليب مستحدثة في ( صناعة ) الأغنية زيادة مع عوامل أخرى تساهم في خروجها من محليتها .عليه ، نجد أن الأغنية السودانية تعاني من ( أزمات ) تخلّف حقيقية في مختلف النواحي ، أبتداءاً من أزمة الحرية الأبداعية بمختلف أنواعها .
أولاً ، يمكننا النظر إلي الفن بصفة عامة وعلاقته بالحريّة ، فهو مثله والأنشطة الإنسانية الأخرى كالعلم ، الفلسفة ، السياسة ، القانون ، الأخلاق ، الجمال ..ألخ لا يمكن أن ينمو و يعيش ويتنفس ويتطور ويُبدِع إلا في ظلّ حريات حقيقية تسمح له بحرية الفعل والتعبير والحركة والإنتشار، بإعتباره كائن حي ، أي أنه تجليات وإنعكاسات للإنسان في حياته المختلفة وتمثلاً لها . فن الغناء يختنق يمرض ويموت في ظل الكبت تحت أي سلطة قمعية أي كان نوعها سياسية دينيّة إجتماعية نفسية ... تعمل علي فرض سياج من القوانين والضوابط بهدف منع أو تصنيع أو قولبة أو تنميط المجتمع فكرياً ونفسياً من خلال فرض نوع من القيم الأخلاقية الجمالية الدينية ....ومن عادات وتقاليد وسلوكيات تتناسب مع مرامي تلك السلطات في خلق قطيع من الحيوانات البشرية بهدف الطاعة العمياء . ويمكن أستخدام الفن في تلك المهمة .
الأغنية السودانية في تركيبتها الفنية من كلمات ومعاني ولحن وآداء .. وليدة واقع مكبوت وكابت ، متخلّف تقليدي دائري رتيب . نعني بالكبت حرمان ما يمكن أن يؤدي إلي متعة الشخص الذاتية عبر الطرق التي يختارها . الأغنية السودانية تفتقر إلي الضروريات الإبداعية المختلفة . إذ نعني بالإبداع في معناه الفلسفي ( إحداث شيء علي غير مثال سابق *) نقول أبدع الشخص ، أي أتى بما لم يكن موجوداً أو تجاوزاً لما هو موجود ثابت ومعتاد ، وهذا يتطلب نوعاً من الثورة علي تكرار وترديد الثابت القديم ، ذلك من خلال المغامرة والجهد والتجريب والبحث المستمر الدؤوب عن الجديد شعراً ولحناً وآداءً ... إستناداً على خلفية جهد معرفي علمي فلسفي فكري ثقافي متسلحاً به الفنان ، وليس إجتراراً وتكراراً وتقليداً ، أو إعادةً ما هو موجود أصلاً من كلمات وصوت وألحان وآداء وإن كان بطريقة غير مباشرة وهذا مالا يمكن أن يوجد إلا في بيئة حرّة بلا قيود تكبل متطلبات الإنسان الجسدية والعقلية والروحية . إضافة إلي ذلك أيضاً بحكم سيطرة مفاهيم القيم الأخلاقية السلوكية الاجتماعية الموروثة ( ذكرأنثي أدب رزانة خجل وقوف جلوس مشي لبس حركة صوت ...) لها الأثر الكبيرعلي الفن والفنان في فرض كيفية أداء الغناء أمام الجمهور، وهذا مما يتبيّن معه إنعدام التعبيري الدرامي ( الجسدي) ، إنعدام حرية السلوك ، كبت الانفعال () كبت تدفق المشاعر الإنسانية الطبيعية ، حرية المزاج عند المغني السوداني .
المُغنّي الحر هو من يمتلك الحرية الفعلية التي يستطيع من خلالها كيف يبرز قدراته الأبداعية في الغناء ، كيف يعصر النغمة الغنائية ليخرج ما بداخلها من عاطفة مثلما يعصر قطعة برتقال ليخرج عصيرها ، كيف ينفعل وكيف يفهم إنتقال عدوى إنفعالاته تلك وتأثيرها علي جمهوره .
نحن شعب مازوشي (masochist) يعشق الحزن والشكوى والعذاب وجلد الذات مع الكسل وهكذا نغني . الأغنية السودانية تكراراً رتيب وممل ، مقابل شح الأغاني النشطة الدرامية الفرايحية المتفائلة ، لذا تجد المُغنِي السوداني في آدائه يبدو وكأنه معاق جسدياً وعاطفياً ، حذراً خائفاً ومتوجساً ومتخشباً وفاقداً للثقة في نفسه يجلس ساكناً أو يقف منتصباً جامداً دون تعبير شعوري حركي وكأنه تلميذ إبتدائي يؤدي تسميع قصيدة في فصل مدرسي أمام المدرس وزملائه التلاميذ ، لذا تبدو الأغنية السودانية هزيلة الحيوية مستلبة الرّوح أو بالأحرى ميتة ، ربما يرجع ذلك إلي سيطرة الكلمات أكثر علي حساب الموسيقى والإيقاعات . وقد يعزى ذلك ربما في إعتقادي إلي الإرتباط بالثقافة العربية التي يمكن وصفها بالروتين والرتابة وبالثبات والسكون الذي يعمّ الكثير من جوانب الحياة وينعكس ذلك بشكلٍ ما في النتاجات الفنية .
..........................................
نواصل الحاصل