كيف كانت حالة الفكر والثقافة في المهدية؟
تاج السر عثمان بابو
15 February, 2023
15 February, 2023
تابعنا في دراسة سابقة التعليم في فترة المهدية (1885- 1889م)، ونستكمل في هذه الدراسة عن حالة الفكر والثقافة في المهدية، فكيف كانت حالة التعليم والثقافة في المهدية؟
1
، تأثرت حالة الفكر والثقافة في المهدية بعوامل عدة منها :
أ –الحروب الداخلية والخارجية التي عاشتها فترة المهدية ، وبالتالى كان الهم الأكبر هو حشد الطاقات وتركيز الجهود في هذا المجال.
ب – قامت ايديولوجية المهدية على فكرة المهدى المنتظر ، فالمهدى هو امام القرن وخليفة رسول الله ومن مهامه تجديد الإسلام ورفع المذاهب والرجوع الى الأصل ، أي الى الكتاب والسنة. ومن هذا المنطلق كما ذكرنا . اعلن المهدى الغاء المذاهب والطرق الصوفية والدينية ، وبالتالى اصبح المهدى هو الاطار المرجعي الوحيد للدين ، هذا اضافة الى أن المهدى رأى أن تعدد الكتب والمذاهب ادى الى اختلاط أمر الدين على الناس واحدث بلبله في عقولهم وأمر باحراق كل الكتب الا الكتاب ( القرآن الكريم ) والحديث الصحيح .
كان الامر بحرق الكتب وبالا على حركة الثقافة والفكر في تلك الفترة ، تلك الكتب التى كانت نتاجا لتطور العقل البشري والاسلامي في مراحله المختلفة ، ولولا هذه الكتب والمؤلفات التى اطلع عليها الامام المهدى نفسه لما وصل الى فكرة (المهدى المنتظر) والتى كانت موحودة في مؤلفات (ابن عربي) وغيره ، ولما توصل للمعارف الصوفية والتاريخية الاسلامية التى ساعدته على قيادة الثورة بنجاح، هذا اضافة الى أنها كانت عملية غير مجدية لأن الناس كانوا يمارسون القراءة سرا ، ويذكر بابكر بدرى في كتابه (تاريخ حياتي) أنه كان يمارس القراءة سرا .. هذا اضافة الى أن قرار احراق الكتب ادى الى تعطيل وتجميد الحركة الفكرية والثقافية في المهدية ، وهذا نابع من ايديولوجية المهدية التى من أهم أركانها أن الايمان بالمهدية هى وحدها الاسلام الصحيح والوحيد ، وأن معارضتها كفر وخروج على الاسلام ، وهذا الأمر كان له نتائج سلبية على حركة الثقافة والفكر في المهدية ، وفي وضع كهذا تصبح كل الكتابات والمؤلفات هى تبرير السياسات القائمة، أو الكتابة عن سيرة المهدى أو الخليفة أو اعادة طبع منشورا المهدى أو اعادة طبع ما كتبه المهدى عن موقع الخليفة عبدالله بعد وفاة المهدى ، واختزال الحياة الدينية الخصبة في راتب المهدى ( للمزيد من التفاصيل، راجع تاج السر عثمان الحاج ، دراسات في التاريخ الاجتماعي للمهدية ، مركز عبد الكريم ميرغني، 2010).
ج – وجاء الغاء التعليم المدني ليحرم دولة المهدية والمجتمع السوداني في تلك الفترة من مصادر جديدة للتعليم الحديث مثل علوم الرياضيات والهندسة والموسيقي واللغات الفرنسية والتركية والعلوم ( فيزياء وكيمياء ) التى كانت تدرس في المدارس الابتدائية وفي المدارس التبشيرية ، وكان من الممكن أن يستمر ضوء ذلك الشعاع مع ادخال التعديل المناسب الذي يتناسب مع ايديولوجية المهدية في نلك المدارس ، اضافة الى أن هذا النظام كان نتاجا للفكر الانساني الحديث الذي قامت على أساسه النهضة في اوربا في القرن الثامن والتاسع عشر ، وحتى نظام الخلاوى الذى رجعت اليه المهدية لم تحدث فيها تحولات في نظمها لتتناسب مع مستجدات العصر أو ربطها بمواد التعليم الحديث.
د – من الناحية الاخرى نجد أن أغلب المؤلفات التى اصدرتها مطبعة الحجر كانت تدور حول المهدى والمهدية ، فتم طباعة رسالة الحسين ابراهيم زهرا والحسن العبادى عن المهدى والمهدية وكتاب (الرجبية) في المواريث.
وفي امدرمان كتب اسماعيل عبدالقادر الكردفاني تاريخ المهدى والمهدية والذي سماه : ( سعادة المستهدى بسيرة الامام المهدى ) ثم كتابه الصغير ( الطراز المنقوش في قتل يوحنا ملك الحبوش ) .
وبتكليف من الخليفة عبدالله وضع الطاهر محمد التاتاى كتاب ( مجالس المهدى ) الذى دون فيه اقوال المهدى وحكمه الماثورة وما استشهد به وقد حذا حذوه آخرون من أمثال ابكر علون ووضعوا مصنفات في المجالس .
وبتكليف من الخليفة ايضا بدا جمع محررات المهدى التى كانت بايدى الناس وتوجه محمد الامين – وهو من كتاب الديوان – الى اقليم كردفان لهذا الغرض ، وفي ام درمان وضعت مصنفات كثيرة اخذ مصنفوها مادتها من الأجزاء المطبوعة من المنشورات ومن المحررات الأصلية التى كانت تكتشف من وقت لآخر في بيوت الكتاب والأمراء ، وقد كتب عوض الكريم المسلمي مجموعة الفيوضات ، وهى أوفى مجموعة لرسائل المهدى في ام درمان. (محمد إبراهيم ابوسليم : الحركة الفكرية في المهدية ، دار جامعة الخرطوم 1970 ، ص 54 ) .
ومن مراكز الثقافة المعروفة في المهدية كانت امدرمان ، وفي شرق السودان مركز (قرية افافيت) ومركز دنقلا . وفي هذه المراكز اضافة للمحررات التى تتعلق بثقافة النظام القائم . كانت هناك المؤلفات التى كان يصدرها كتاب المهدية واصحابهم في الاقاليم في الشعر الوجداني ، وكان ميدانهم المفضل هو موضوع الاخوانيات كالتهاني في المناسبات السعيدة وتقريظ المؤلفات والود الاخوى . هذا اضافة الى كثرة الشكوى من الغربة والشوق وعسر الحياة ، وهذا جانب له وزنه الخاص في المهدية ، اذ ترك معظم الناس أوطانهم ليستقروا في النقاط الحربية ويعيشوا حياة الجهاد القاسية بعيدا عن الاصدقاء والاحباب ، وهناك شعر المناسبات العامة وهو كثير ، وكان اغلبه في مدح المهدى وفي موضوع الحماس عامة ، ثم قيل شعر كثير في رثاء المهدى ومدح الخليفة ، الا أنه اغلبه شعر ركيك . ( ابوسليم : 54 ) .
2
ومن الجوانب الادبية التى كان يتبادلها الكتاب في الموضوعات الإخوانية أو فيما يتصل بأعمالهم الثقافية ومن قبيل ذلك محررات التهنئة أو الاعتذار التى كان يحررها الكتاب المتمكنين من أمثال محد مصطفى كاتب الأمير يونس الدكيم كانوا يجدون في هذا المقام المجال لابراز البراعة الادبية والحس الفني (ابوسليم : 55 ) .
ومن أهم كتاب ( مركز افافيت ) المجذوب يوسف الذي كان كاتبا للامير عثمان دقنه ومحمد المجذوب بن الشيخ الطاهر الذي اعد مخطوط وقائع الشرق الذي وصف وقائع المهدية في الشرق منذ أن حل به عثمان دقنه موفدا من المهدى .. كما صنف محمد المجذوب ايضا مجموعة ( الفيوضات الوهبية ) المحفوظة بمتحف باريس ( ابوسليم : 56 ) .
كما كان من أهم الكتاب بمركز دنقلا الشيخ محمد عبدالرحيم صاحب المؤلفات العديدة في تاريخ السودان والذي توفي في سنة 1966 م .
هكذا نخلص الى أن نمط الثقافة والفكر والادب والشعر الذي كان سائدا في المهدية والذي كان يدور حول المهدى والمهدية والنتائج التى ترتبت على حروباتها مثل الحنين الى الوطن وغيره .
وفي مضمار الثقافة والفكر في المهدية ايضا ترد كتابات المعارضين أو خصوم المهدية التى أشرنا اليها في كتابات العلماء والفقهاء ورسالة الشيخ دوليب المعارضة للمهدية وفي الأدب والشعر.
( للمزيد من التفاصيل راجع : بشرى أمين : مع شعرائنا القوميين ، دار الارشاد 1971 م ، ص 9 ، وما بعدها حول الادب القومى في المهدية ) .
أي أن المهدية شهدت ثقافة منحازة لها وثقافة معارضة ، ولكن عموما وكتقويم عام ، يمكن القول أن المهدية شهدت قحطا ثقافيا وفكريا للاسباب التى أوردناها سابقا.
alsirbabo@yahoo.co.uk
1
، تأثرت حالة الفكر والثقافة في المهدية بعوامل عدة منها :
أ –الحروب الداخلية والخارجية التي عاشتها فترة المهدية ، وبالتالى كان الهم الأكبر هو حشد الطاقات وتركيز الجهود في هذا المجال.
ب – قامت ايديولوجية المهدية على فكرة المهدى المنتظر ، فالمهدى هو امام القرن وخليفة رسول الله ومن مهامه تجديد الإسلام ورفع المذاهب والرجوع الى الأصل ، أي الى الكتاب والسنة. ومن هذا المنطلق كما ذكرنا . اعلن المهدى الغاء المذاهب والطرق الصوفية والدينية ، وبالتالى اصبح المهدى هو الاطار المرجعي الوحيد للدين ، هذا اضافة الى أن المهدى رأى أن تعدد الكتب والمذاهب ادى الى اختلاط أمر الدين على الناس واحدث بلبله في عقولهم وأمر باحراق كل الكتب الا الكتاب ( القرآن الكريم ) والحديث الصحيح .
كان الامر بحرق الكتب وبالا على حركة الثقافة والفكر في تلك الفترة ، تلك الكتب التى كانت نتاجا لتطور العقل البشري والاسلامي في مراحله المختلفة ، ولولا هذه الكتب والمؤلفات التى اطلع عليها الامام المهدى نفسه لما وصل الى فكرة (المهدى المنتظر) والتى كانت موحودة في مؤلفات (ابن عربي) وغيره ، ولما توصل للمعارف الصوفية والتاريخية الاسلامية التى ساعدته على قيادة الثورة بنجاح، هذا اضافة الى أنها كانت عملية غير مجدية لأن الناس كانوا يمارسون القراءة سرا ، ويذكر بابكر بدرى في كتابه (تاريخ حياتي) أنه كان يمارس القراءة سرا .. هذا اضافة الى أن قرار احراق الكتب ادى الى تعطيل وتجميد الحركة الفكرية والثقافية في المهدية ، وهذا نابع من ايديولوجية المهدية التى من أهم أركانها أن الايمان بالمهدية هى وحدها الاسلام الصحيح والوحيد ، وأن معارضتها كفر وخروج على الاسلام ، وهذا الأمر كان له نتائج سلبية على حركة الثقافة والفكر في المهدية ، وفي وضع كهذا تصبح كل الكتابات والمؤلفات هى تبرير السياسات القائمة، أو الكتابة عن سيرة المهدى أو الخليفة أو اعادة طبع منشورا المهدى أو اعادة طبع ما كتبه المهدى عن موقع الخليفة عبدالله بعد وفاة المهدى ، واختزال الحياة الدينية الخصبة في راتب المهدى ( للمزيد من التفاصيل، راجع تاج السر عثمان الحاج ، دراسات في التاريخ الاجتماعي للمهدية ، مركز عبد الكريم ميرغني، 2010).
ج – وجاء الغاء التعليم المدني ليحرم دولة المهدية والمجتمع السوداني في تلك الفترة من مصادر جديدة للتعليم الحديث مثل علوم الرياضيات والهندسة والموسيقي واللغات الفرنسية والتركية والعلوم ( فيزياء وكيمياء ) التى كانت تدرس في المدارس الابتدائية وفي المدارس التبشيرية ، وكان من الممكن أن يستمر ضوء ذلك الشعاع مع ادخال التعديل المناسب الذي يتناسب مع ايديولوجية المهدية في نلك المدارس ، اضافة الى أن هذا النظام كان نتاجا للفكر الانساني الحديث الذي قامت على أساسه النهضة في اوربا في القرن الثامن والتاسع عشر ، وحتى نظام الخلاوى الذى رجعت اليه المهدية لم تحدث فيها تحولات في نظمها لتتناسب مع مستجدات العصر أو ربطها بمواد التعليم الحديث.
د – من الناحية الاخرى نجد أن أغلب المؤلفات التى اصدرتها مطبعة الحجر كانت تدور حول المهدى والمهدية ، فتم طباعة رسالة الحسين ابراهيم زهرا والحسن العبادى عن المهدى والمهدية وكتاب (الرجبية) في المواريث.
وفي امدرمان كتب اسماعيل عبدالقادر الكردفاني تاريخ المهدى والمهدية والذي سماه : ( سعادة المستهدى بسيرة الامام المهدى ) ثم كتابه الصغير ( الطراز المنقوش في قتل يوحنا ملك الحبوش ) .
وبتكليف من الخليفة عبدالله وضع الطاهر محمد التاتاى كتاب ( مجالس المهدى ) الذى دون فيه اقوال المهدى وحكمه الماثورة وما استشهد به وقد حذا حذوه آخرون من أمثال ابكر علون ووضعوا مصنفات في المجالس .
وبتكليف من الخليفة ايضا بدا جمع محررات المهدى التى كانت بايدى الناس وتوجه محمد الامين – وهو من كتاب الديوان – الى اقليم كردفان لهذا الغرض ، وفي ام درمان وضعت مصنفات كثيرة اخذ مصنفوها مادتها من الأجزاء المطبوعة من المنشورات ومن المحررات الأصلية التى كانت تكتشف من وقت لآخر في بيوت الكتاب والأمراء ، وقد كتب عوض الكريم المسلمي مجموعة الفيوضات ، وهى أوفى مجموعة لرسائل المهدى في ام درمان. (محمد إبراهيم ابوسليم : الحركة الفكرية في المهدية ، دار جامعة الخرطوم 1970 ، ص 54 ) .
ومن مراكز الثقافة المعروفة في المهدية كانت امدرمان ، وفي شرق السودان مركز (قرية افافيت) ومركز دنقلا . وفي هذه المراكز اضافة للمحررات التى تتعلق بثقافة النظام القائم . كانت هناك المؤلفات التى كان يصدرها كتاب المهدية واصحابهم في الاقاليم في الشعر الوجداني ، وكان ميدانهم المفضل هو موضوع الاخوانيات كالتهاني في المناسبات السعيدة وتقريظ المؤلفات والود الاخوى . هذا اضافة الى كثرة الشكوى من الغربة والشوق وعسر الحياة ، وهذا جانب له وزنه الخاص في المهدية ، اذ ترك معظم الناس أوطانهم ليستقروا في النقاط الحربية ويعيشوا حياة الجهاد القاسية بعيدا عن الاصدقاء والاحباب ، وهناك شعر المناسبات العامة وهو كثير ، وكان اغلبه في مدح المهدى وفي موضوع الحماس عامة ، ثم قيل شعر كثير في رثاء المهدى ومدح الخليفة ، الا أنه اغلبه شعر ركيك . ( ابوسليم : 54 ) .
2
ومن الجوانب الادبية التى كان يتبادلها الكتاب في الموضوعات الإخوانية أو فيما يتصل بأعمالهم الثقافية ومن قبيل ذلك محررات التهنئة أو الاعتذار التى كان يحررها الكتاب المتمكنين من أمثال محد مصطفى كاتب الأمير يونس الدكيم كانوا يجدون في هذا المقام المجال لابراز البراعة الادبية والحس الفني (ابوسليم : 55 ) .
ومن أهم كتاب ( مركز افافيت ) المجذوب يوسف الذي كان كاتبا للامير عثمان دقنه ومحمد المجذوب بن الشيخ الطاهر الذي اعد مخطوط وقائع الشرق الذي وصف وقائع المهدية في الشرق منذ أن حل به عثمان دقنه موفدا من المهدى .. كما صنف محمد المجذوب ايضا مجموعة ( الفيوضات الوهبية ) المحفوظة بمتحف باريس ( ابوسليم : 56 ) .
كما كان من أهم الكتاب بمركز دنقلا الشيخ محمد عبدالرحيم صاحب المؤلفات العديدة في تاريخ السودان والذي توفي في سنة 1966 م .
هكذا نخلص الى أن نمط الثقافة والفكر والادب والشعر الذي كان سائدا في المهدية والذي كان يدور حول المهدى والمهدية والنتائج التى ترتبت على حروباتها مثل الحنين الى الوطن وغيره .
وفي مضمار الثقافة والفكر في المهدية ايضا ترد كتابات المعارضين أو خصوم المهدية التى أشرنا اليها في كتابات العلماء والفقهاء ورسالة الشيخ دوليب المعارضة للمهدية وفي الأدب والشعر.
( للمزيد من التفاصيل راجع : بشرى أمين : مع شعرائنا القوميين ، دار الارشاد 1971 م ، ص 9 ، وما بعدها حول الادب القومى في المهدية ) .
أي أن المهدية شهدت ثقافة منحازة لها وثقافة معارضة ، ولكن عموما وكتقويم عام ، يمكن القول أن المهدية شهدت قحطا ثقافيا وفكريا للاسباب التى أوردناها سابقا.
alsirbabo@yahoo.co.uk