تحوّل بنيويّ جديدٌ للمجال (للفضاء) العام والسياسة التداولية (التشاورية) (3 ــــ 3)
د. حامد فضل الله
28 April, 2023
28 April, 2023
Jürgen Habermas يورجن هبرماس
تقديم ومراجعة حامد فضل الله/برلين
إن التوازن الاجتماعي الدولي، الذي هو الصيغة الوظيفية المعاكسة (هذا على مستوى التجريد) هو الشرط الثالث لنجاح نظام ديمقراطي جدير بهذا الاسم. والاقتصاد السياسي؛ هو أول من يكشف عن الارتباط المنهجي بين النظام السياسي والمجتمع، وقد تابعت، من هذا المنظور، التغيير البنيوي في
المجال العام في ذلك الوقت. وعلى أكثر أو أقل، فإن الثقافة السياسية الليبرالية للدولة شرط جانبي يتم الوفاء به إلى حدّ ما من قبل الدولة، بدلاً من أن تكون الدولة نفسها قادرة على التأثير على تطورها بالوسائل الإدارية. يختلف الوضع مع التقسيم الطبقي الاجتماعي للمجتمع والمستوى الحالي من عدم المساواة الاجتماعية.
على أي حال، فإن التحديث الرأسمالي المندفع ذاتياً، يخلق حاجة إلى تنظيم الدولة من أجل ترويض القوى الطاردة للاِندماج الاجتماعي. يجب على الدول الاشتراكية، التي ظهرت في الغرب خلال النصف الثاني من القرن العشرين في إطار الدساتير الديمقراطية الوطنية أن تنفذ مثل هذا الإجراء السياسي المضاد في ظل ظروف شرعية متزايدة المطالبة. من أجل تجنب الأزمات في التكامل الاجتماعي، يحاولون تلبية مطلبين متناقضين: من ناحية، يجب عليهم ضمان استغلال رأس المال في ظلّ ظروف كافية لتوليد إيرادات ضريبية. ومن ناحية أخرى، يجب عليهم تلبية الشروط القانونية والمادية لمصلحة قطاعات واسعة من المجتمع، لممارسة استقلاليتهم الخاصة والعامة في إطار العدالة السياسية والاجتماعية - وإلاّ سيتمّ تجريدهم من شرعيتهم الديمقراطية. ومع ذلك، لا يمكن للديمقراطيات الرأسمالية أن تجد طريقاً لتجنب الأزمات بين هاتين الضرورتين إلاّ إذا كانت قدرتها التوجيهية كافية. بمعنى آخر: يجب أن يتزامن نطاق السياسة المتدخلة مع توسع الدورات الاقتصادية ذات الصلة بتأمين الرخاء الوطني. تمّ على ما يبدو، الوفاء بهذا الشرط موقتاً في ديمقراطيات الغرب فقط، إلى أن تم تحرير الأسواق عالمياً وعولمة الأسواق المالية، وبذلك تحقق السيطرة على السياسات المالية للدول منذ ذلك الحين، بما فيه الكفاية.
إذا أخذ المرء وجهات النظر المنهجية المحددة تقريباً، كأساس لوصف تاريخي للمجال العام الوطني، فيمكن للمرء أن يدرك مدى صعوبة الوصول إلى أي تعميمات يمكن الدفاع عنها حول الشروط الأساسية لعمل هذا المجال العام المعطاة في فترات تاريخية مختلفة. تتداخل الخصائص القومية مع الاتجاهات العامة للرأسمالية المنظمة للدولة القومية التي حددت التطور الديمقراطي بعد الحرب في الغرب حتى التحول النيوليبرالي. أدّى تطور دولة الرفاه الاجتماعية خلال هذه الفترة إلى تعزيز قبول الشعب للديمقراطية، في سياق تطور مجتمع استهلاكي، كما كانت هناك بالفعل علامات على وجود ميول خصوصية نحو عدم التسيس (التي رأيت بداياتها في التغيير البنيويّ في ذلك الوقت في مناخ فترة المستشار أد يناور، الذي كان ينظر إليها بمبالغة، بأنها سلطوية).
منذ التغيير النيوليبرالي للسياسة، دخلت الديمقراطيات الغربية مرحلة تزايد زعزعة الاستقرار الداخلي.
وقد تمّ تكثيف هذا، بسبب تحديات أزمة المناخ والضغط المتزايد للهجرة، وكذلك بسبب الصعود الملحوظ للصين و "والبلاد السريعة النمو" الأخرى والتغيرات الناتجة من الوضع الاقتصادي والسياسي العالمي. ازداد عدم المساواة الاجتماعية داخلياً، حيث أصبح نطاق عمل الدول القومية مقيداً بصيغة تحرير الأسواق عالمياُ، ونمت في نفس الوقت مخاوف الثقافات الفرعية المتضررة، من التدهور الاجتماعي، و عدم التغلب على التركيب للتغيرات الاجتماعية المتسارعة.
بصرف النظر تماماً عن الوضع السياسي العالمي الجديد الناجم عن الوباء، تشير هذه الظروف إلى احتمالية تكامل أكبر للدول القومية المتحدة في الاتحاد الأوروبي، أي محاولة استخدام الكفاءات التي فقدوها في سياق هذا التطور على المستوى الوطني، من خلال خلق قدرة سياسية جديدة للعمل على مستوى عابر للوطني. إن الوصف الحصيف لنُهُج مؤسسي للحوكمة العالمية، والتي عززت التفاوت في القوى الدولية، بدلاً من تقليلها، ولكنها بالكاد تثير الآمال.
يثير تذبذب الاتحاد الأوروبي، خاصة في ضوء مشاكله الحالية، التساؤل حول كيف يمكن للدول القومية أن تتحد على المستوى العابر للحدود لتشكيل نظام ديمقراطي، دون أن يكون له افتراض شخصية الدولة نفسها، ومع ذلك لديه القدرة العالمية على التصرف. وسيتطلب هذا مزيداً من الانفتاح للجمهور الوطني لبعضهم البعض. لكن كلاً من الانقسامات داخل الاتحاد الأوروبي وخروج بريطانيا المتردد، و الذي اكتمل أخيراً تتحدث بشكل أكبر عن استنفاد الأنظمة الديمقراطية الحالية - وربما حتى عن حقيقة أن السياسات العالمية للقوى العظمى يمكن أن تتطور إلى نوع جديد من الإمبريالية.
إن المشكلات الاقتصادية المترتبة على المجتمع العالمي المتأثر بالوباء يتم إدراكها ومعالجتها من قبل النخب السياسية القادرة في بلداننا. لا يوجد الآن الكثير، مما يمكن قوله عن التغيير المرغوب في السياسة نحو جدول أعمال اجتماعي – إيكولوجي يهدف إلى تكامل أكبر لأوروبا الأساسية.
يعتبر النظام الإعلامي ذا أهمية حاسمة، بالنسبة لدور المجال العام السياسي في إنتاج آراء عامة متنافسة تستوفي معايير السياسة التداولية. حيث تعتمد الجودة التداولية لهذه الآراء على ما إذا كانت تلبي متطلبات وظيفية معينة في عملية تكوينها، سواء من حيث المدخلات أو على جانب الإنتاجية والإخراج.
لا تكون الآراء العامة ذات صلة إلاّ إذا كان منتجو الرأي من صفوف السياسة وكذلك أصحاب المصالح ووكالات العلاقات العامة للأنظمة الوظيفية الاجتماعية وأخيراً الجهات الفاعلة المختلفة في المجتمع المدني تستجيب بشكل كافٍ لاكتشاف المشاكل المحتاجة للتنظيم، ومن ثم توفير المدخلات الصحيحة. وتكون الآراء العامة فعالة عندما تكون المواضيع ذات الصلة والمساهمات المقابلة ومخرجاتها، تُثير انتباه المجوعة العريضة من السكان ــ الناخبين ــ نحن مهتمون بشكل خاص بالنظام الاِعلامي المسؤول عن الانتاجية، على الرغم من أن اللقاءات المباشرة للجهات الفاعلة في المجتمع المدني في الحياة اليومية وفي المناسبات العامة، تمثل هذين المجالين القريبين من الجمهور الذي تنبثق منه مبادراتهم الخاصة، فإن الاتصال العام الذي تتحكم فيه وسائك الإعلام الجماهيري هو المجال الوحيد الذي تتركز فيه أصوات التواصل على الآراء العامة ذات الصلة والفعالة.
موضوعنا هو السؤال عن كيف غيرت الرقمنة نظام الإعلام الذي يتحكم في هذا الاتصال الجماهيري؟ يتطلب النظام الإعلامي البالغ التعقيد من الناحية التقنية والتنظيمية، موظفين محترفين يلعبون دور حراس البوابة (كما هو مسمى الآن) لتدفق الاتصالات التي يكثف منها المواطنون الآراء العامة. يتكون طاقم العمل من الصحفيين الذين يعملون في الخدمات الإخبارية ووسائل الإعلام والناشرين، أي من قوى متخصصة من مؤلفين، ومحررين، وأدباء ومراجعين، وإداريين.
يدير هؤلاء الموظفون الإنتاج، ويشكلون، جنباً إلى جنب مع الشركات التي تنظم تكنولوجيا الإنتاج وتنظيم المبيعات، والبنية التحتية للجمهور، والتي تقرر في نهاية المطاف المعلمتين الحاسمتين للاتصال العام – نطاق العرض ونوعيته التداولية. ما مدى شموليّة استقبال الآراء المنشورة في الواقع، ومدى كثافتها واستهلاكها للوقت على جانب الإخراج، من جانب القراء والمستمعين ومعالجتها بشكل أكبر في الآراء العامة الفعالة في المجالين المذكورين السابقين، من الجمهور السياسي ليتمّ معالجتهما بشكل أكبر للآراء العامة الفعالة ومدى قيمتهما لنتائج الانتخابات العامة للنظام السياسي، الاعتماد في نهاية المطاف على مستخدمي وسائل الإعلام، أي انتباههم واهتمامهم، ووقتهم، وخلفيتهم التعليمية، وما إلى ذلك.
يمكن رؤية تأثير الإعلام الرقمي على التغيير الهيكلي المتجدد في المجال العام السياسي في نطاق ونوع استخدام وسائل الإعلام منذ بداية القرن الجديد. وما إذا كان هذا التغيير يؤثر على الجودة التداولية للنقاش العام، هو سؤال مفتوح أيضاً. كما يُظهر علم الاتصالات ذي الصلة، والعلوم السياسية والبحث الاجتماعي الانتخابي – ولا سيما البحوث المتعلقة بإقبال الناخبين، وعزوف أو جهل الشعب ــ لم تكن قيم هذين البعدين للتواصل العام مرضية حتى قبل ذلك؛ لكنها كانت قيماً للظروف الديمقراطية في هذا الجانب من الأزمات التي تعرض الاستقرار للخطر.
يمكن اليوم التعرف على بوادر التراجع السياسي بالعين المجردة. وإلى مدى تظهر مساهمة المجال العام السياسي في تشكيل الرأي العام وعقلانية الآراء المعروضة. من الواضح، بأن التقييم التجريبي يواجه صعوبات كبيرة في المتغير الثاني. ومع ذلك، توفر البيانات من أجل مقارنة طويلة المدى لاستخدام وسائل الإعلام، فهي أساس لاستنتاج مستوى انعكاس الرأي العام أيضاً، من تقييم مستقل لجودة عروض وسائل الإعلام المستخدمة. قبل متابعة هذا السؤال بشكل أكبر، يجب أن نكون واضحين بالطبع حول الطابع الثوري لوسائل الإعلام الجديدة، لأنها ليست مجرد توسع في النطاق السابق للوسائط، ولكنها نقطة تحول في تطور الإعلام في تاريخ البشرية، يمكن مقارنتها بإدخال المطبعة.
بعد الدفعة التطورية الأولى لنسخ الكلمة المنطوقة، في أوائل العصر الحديث، مع إدخال المطبعة، تم فصل الأحرف الأبجدية عن الورقة المكتوب بخط اليد؛ مع الرقمنة الإلكترونية، حلّت الأحرف المشفرة الثنائية محلّ الورق المكتوب بطريقة مماثلة في العقود القليلة الماضية. في سياق هذا الابتكار الأكثر أهميّة بنفس القدر، انتشرت تدفقات الاتصال وتسارعت وشبكت بسرعة غير مسبوقة في جميع أنحاء العالم، وبأثر رجعي عبر جميع فترات تاريخ العالم. مع الالغاء العالمي للحدود في المكان والزمان، أصبحت في نفس الوقت أكثر كثافة وتميزاً ومضاعفة وفقاً لوظائفها ومحتواها، ومعممة عبر الحدود الثقافية والفئوية. كانت الفكرة المبتكرة التي بدأت هذه الثورة الثالثة في تقنيات للاتصال هي الشبكات العالمية لأجهزة الكمبيوتر، والتي من خلالها يمكن لأي شخص من أي مكان الآن التواصل مع أي شخص في أي مكان آخر على وجه الأرض. في البداية كان العلماء هم من استخدموا التكنولوجيا الجديدة. وبعد ما اتخذت مؤسسة العلوم الوطنية الأمريكية قراراً في عام 1991 بإطلاق هذا الاختراع للأغراض الخاصة والتجارية. كانت هذه هي الخطوة الحاسمة في إنشاء شبكة الويب العالمية بعد ذلك بعامين. خلق هذا الأساس التقني للإكمال المنطقي لتطور تكنولوجيا الاتصال على مدار التاريخ البشري، والذي تغلب تدريجياً على القصر الأصلي للتواصل المنطوق للمحادثات بين الحاضرين والتواصل الشفوي. بالنسبة للعديدة من مجالات الحياة والوظيفة، ينفتح هذا الابتكار بشكل لا لبس فيه. كما الغاء الحدود وتسريع إمكانيات الاتصال، وكذلك توسيع نطاق المناسبات العامة مفيدة للمواطن دون شك، بعد أن أصبح العالم أصغر حجماً على الشاشة. بالإضافة إلى مزاياها الواضحة، فإن التكنولوجيا الجديدة لها أيضاً، آثار متناقضة للغاية وربما تخريبية على المجال العام السياسي في السياق الوطني. ويرجع ذلك إلى الطريقة التي يتبعها مستخدمو الوسائط الجديدة من توفير وسائل الإعلام غير المحدود.
ليس من السهل تحديد الآثار التي أحدثها ظهور الإنترنت وخاصة وسائل التواصل الاجتماعي على تكوين الرأي والإرادة في المجال العام السياسي بشكل تجريبي. ومع ذلك فإن نتائج الدراسة طويلة الأجل حول استخدام الوسائط للفترة من 1964 إلى 2020 في جمهورية ألمانيا الاتحادية، وفقاً لقناتي التلفزيون الألماني الرئيسيتين والشبه رسمية، تسمح ببعض البيانات التقريبية حول التغييرات في عرض واستخدام وسائل الإعلام، نتيجة لإدخال التلفزيون الخاص، ثم توسعت بشكل كبير، وقبل كل شيء بسبب النطاق الواسع من الخيارات عبر الإنترنت. هذا لا ينطبق على المستوى الوطني فقط؛ كما تتيح الشبكة إمكانية
الوصول إلى عدد كبير من البرامج الصحفية والإذاعية والتلفزيونية "الأجنبية". تمكنت الأطراف المعنية
في نفس الفترة الزمنية في جميع أنحاء العالم متابعة اقتحام مبني الكابيتول مباشرة، عن طريق قناة السي إن إن . وقد ارتفعت فترة استخدام جميع وسائط الإعلام ارتفاعا حاداً منذ عام 2000، ولكنها وصلت إلى الحد الأقصى في عام 2005؛ منذ ذلك الحين، استقر يومياً بصورة مذهلة لمدة ثماني ساعات. تغيرت حصص وسائل الإعلام المختلفة على مدى عقود.
تجاوز استخدام التلفزيون كوسيلة إعلام جديدة منذ عام 1970، وسائل الإعلام التقليدية، مثل الاِذاعة والصحف اليومية. كما انخفض إصدار الصحف والمجلات المطبوعة من 60 في المائة في عام 2005
إلى 22 في المائة في عام 2020، وكثافة وزمن قراءة الصحف والمجلات، خاصة وسط الفئات العمرية من 14 إلى 29، وصلت إلى 40 في المئة في عام 2005، لتنحدر وسط هذه الفئة العمرية إلى 6 في المئة عام 2020.
كما يتعرض الكاتب لدور الانترنت كوسيلة إعلام حديثة، وتأثيره على بلدان الاِتحاد الأوروبي وألمانيا، بكثير من التفصيل مع الأرقام، نقدمها هنا باختصار شديد:
حسب آخر استطلاع، والذي تم في الاتحاد الأوروبي (28 دولة) نهاية عام 2019، يمثل الحجم الحالي للعروض واستخدام وسائل الإعلام المختلفة: يستخدم 81 بالمائة من الذين شملهم الاستطلاع التلفزيون يومياً، 67 في المائة يستخدمون الإنترنت بشكل عام، و 47 في المائة يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي، 46 في المائة للراديو و 26 في المائة للصحافة. كما ذكر الذين تم استطلاعهم، بأن 77٪ التلفزيون، 40٪ راديو و 36٪ وسائل الإعلام المطبوعة "مصادرهم الرئيسية للمعلومات"، بينما ذكر 49٪ الإنترنت بشكل عام و 20٪ وسائل التواصل الاجتماعي. حقيقة أن هذه القيمة الأخيرة ، التي تعتبر مثيرة للاهتمام في سياقنا ، قد زادت دائماً بمقدار أربع نقاط إضافية مقارنة بمسح العام السابق، تؤكد الاتجاه المتزايد الذي تم توثيقه في مكان آخر أيضاً، وهو الانخفاض الحاد في استهلاك الصحف اليومية.
والمجلات أيضاً، مؤشر على أنه منذ إدخال الإنترنت، انخفض متوسط الاهتمام بالأخبار السياسية والمعالجة التحليلية للقضايا ذات الصلة بالسياسة. ومع ذلك ، فإن المستوى المستقر نسبياً للحصة ، التلفزيون والراديو أيضاً بشكل عام في استهلاك الوسائط ، يشير إلى أن هاتين الوسيلتين تعتبران حالياً،
موثوقة وكافية في توفير معلومات سياسية متنوعة لثلاثة أرباع الناخبين على الأقل في الدول الأعضاء من الاتحاد الأوروبي.
ما يلاحظ بوضوح أيضاً، تزايد تسرب الأخبار الكاذبة للجمهور السياسي ولا سيما التطور المذهل نحو "ما بعد ديمقراطية الحقيقة"، في الولايات المتحدة، وخاصة خلال إدارة ترامب، حيث ازداد انعدام الثقة في وسائل الإعلام. يشكك 41٪ في أن تقارير وسائل الإعلام الوطنية خالية من الضغوط السياسية والاقتصادية. ويؤكد 39٪ صراحة عدم الثقة، هذا فيما يتعلق بوسائل الإعلام العامة، والتي تشكل اليوم العمود الفقري للمجال العام الليبرالي. ويقول ما يصل إلى 79 في المائة إنهم واجهوا أخباراً مشوهة أو مزيفة. ويبدو من ناحية أخرى، أنّ الخسارة الدراماتيكية لأهمية وسائل الإعلام المطبوعة مقارنة بوسائل الإعلام المرئية السمعية السائدة تتحدث عن انخفاض مستوى الطلب على العرض، وقد تناقص تقبل المواطنين للمعالجات الفكرية والسياسية، وكذلك فإن الأدلة اليومية تشير، بأن الصحف والمجلات الوطنية المتبقية، لا تزال هي وسائل الإعلام السياسية الرائدة، هي الأكثر من ناحية الطلب، وأن وسائل الإعلام الأخرى، وخاصة التلفزيون، لا تزال تقدم المساهمات والبيانات التي تعكس الموضوعات الرئيسية من حيث المحتوى. ومع ذلك، فإن عدم الثقة في حقيقة وجدية واكتمال البرامج آخذ في الازدياد بين عامة الناس، على الرغم من أن وسائل الإعلام العامة، كما قد يفترض المرء، تواصل تقديم مجموعة موثوقة من الأخبار والبرامج السياسية. ولكن الشكوك المتزايدة حول جودة وسائط الخدمة العامة تسير جنباً إلى جنب مع القناعة المنتشرة على نطاق واسع بأن الطبقة السياسية، إما غير موثوق بها أو فاسدة، أو بأي حال من الأحوال مشكوك فيها. تشير هذه الصورة العامة إلى أنه مع تنوع الوسائط من ناحية، وما يقابلها من تعددية في الآراء والحجج ووجهات النظر من ناحية أخرى.
إن الوسائط الجديدة الموجودة: تويتر، إنستغرام، يوتيوب، وفيسبوك هي بالفعل شركات تمتثل لضرورات الاستفادة من رأس المال، وهي من بين الشركات، من حيث "الأكثر قيمة" في سوق الأوراق المالية في العالم ويتم تمويلها إلى حد كبير من عائدات الإعلانات. إنهم مدينون بأرباحهم لاستغلال البيانات التي يبيعونها لأغراض إعلانية.. ويشير إلى الضغط للتكيف الذي يمارسه منطق استغلال الإعلام الجديد على الإعلام القديم، الذي يخضع لمنطق مختلف تماماً، بقدر نجاحه في برامجه، أي بمحتواه، الذي يجب أن يفي بالمعايير المعيارية أو الجمالية.
يتطرق الكاتب إلى ميول عدم التسييس التي لوحظت في الأبحاث الإعلامية منذ ثلاثينيات القرن الماضي ، ولكنها أصبحت الآن واضحة من خلال ما تقدمه وسائل التواصل الاجتماعي.
عندما ننظر من الجانب الموضوعي لهيكل الإعلام الموسع وأساسه الاقتصادي المتغير الآن، إلى جانب المتلقين وأساليب استقبالهم المتغيرة، فإننا نلامس، السؤال المركزي حول ما إذا كانت وسائل التواصل الاجتماعي تغير الطريقة التي ينظر بها مستخدموها إلى المجال السياسي العام؟ بالطبع، المزايا الفنية للمنصات التجارية- وحتى وسيلة مثل التيوتر، الذي يوفر رسائل مختصرة، يمنح المستخدمين مزايا لا يمكن إنكارها لأغراض سياسية ومهنية وشخصية. هذه التطورات ليست مشكلتنا. السؤال هو بالأحرى ما إذا كانت هذه المنصات تشجع نوعاً من التبادل حول الآراء السياسية ضمنياً أو صريحاً أيضاً، والتي يمكن أن تؤثر كذلك على تصور الجمهور السياسي على هذا النحو من خلال طريقة الاستخدام المتغيرة.
لم يتغير الأساس الاجتماعي للتمييز القانوني والسياسي للمجال العام عن المجال الخاص للعلاقات الاقتصادية والمدنية والأسرية هيكلياً خلال الفترة التي ننظر فيها؛ لأن الشكل الاقتصادي الرأسمالي للاقتصاد نفسه يقوم على هذا الفصل. و انعكس هذا الهيكل في الدول الدستورية الديمقراطية، في وعي المواطنين أيضاً، وهو يتعلق الأمر بتصورهم. يتوقع من المواطنين اتخاذ قراراتهم السياسية في مجال التوتر بين المصلحة الذاتية والتوجه نحو الصالح العام. وكما هو موضح، فإنهم يعبرون عن هذا التوتر في فضاء الاتصال في المجال العام السياسي، والذي يشمل بشكل أساس جميع المواطنين كجمهور.
وقعت السياسة في الولايات المتحدة، في دوامة الاستقطاب المستمر للرأي العام بعد أن تبنت الحكومة وأقسام كبيرة من الحزب الحاكم التصور الذاتي لرئيس نجح في وسائل التواصل الاجتماعي، الحصول يومياً عبر تويتر على موافقة أتباعه الشعبويين، كما لا يمكن للمرء إلا أن يأمل على أن يكون هذا الاستقطاب للجمهور السياسي موقتاً فقط، ولم يعد من الممكن بالنسبة لنصف السكان تقريباً، تبادل المحتوى التواصلي بصحة الادعاءات القابلة للنقد. ليس تراكم الأخبار الكاذبة مهماً بالنسبة لتشوه واسع النطاق لتصور الجمهور السياسي فحسب، وبل حقيقة أنه من منظور المشاركين، لم يعد من الممكن تحديد الأخبار على أنها كاذبة فعلاً. ولكن سيكون من الخطأ بالنسبة للعلماء المراقبين لاستخلاص النتيجة، لفصل هذه الظواهر العرضية عن الأسئلة النظرية الديمقراطية على الاِطلاق.
لأن التواصل العام الشبة مستقل، ليس بأي حال من الأحوال غير مسيّس. وحتى عندما يكون هذا هو الحال، فإنّ القوة الأساسية التي يتمتع بها هذا الاتصال بالنسبة للنظرة العالمية للمشاركين ليست غير سياسية. يتضرر النظام الديمقراطي ككل إذا لم تعد البنية التحتية للمجال العام، أن تلفت انتباه المواطنين إلى توجيه القضايا ذات الصّلة وصنع القرار والتدريب المتنافس. وهذا يعني: لم يعد من المكن ضمان الآراء المختار نوعيا، إذا تذكرنا المتطلبات الأساسية المعقدة لاستمرار وجود الديمقراطيات الرأسمالية ، والتي هي بطبيعتها عرضة للأزمات، فمن الواضح أن فقدان الوظيفة من جانب الجمهور السياسي يمكن أن يكون له أسباب أعمق. لكن هذا لا يعفينا من البحث عن أسباب واضحة، مثل مصادفة ظهور وادي السيليكون (سيليكون فالي)، أي الاستخدام التجاري للشبكة الرقمية، من ناحية، والانتشار العالمي للبرنامج الاقتصادي النيوليبرالي من ناحية أخرى. قدمت المنطقة الممتدة عالمياً لتدفقات الاتصالات الحرة، والتي أصبحت ممكنة في ذلك الوقت من خلال اختراع الهيكل التكنولوجي لـ «الشبكة»، وعرضت نفسها على أنها انعكاس لسوق مثالية. لم يكن من الضروري تحرير هذا السوق أولاً، ولكن المزعج الآن. السيطرة المختلطة على تدفقات الاتصالات، والتي يستمد منها تركيز القوة السوقية لشركات الإنترنت الكبيرة. وسحب بيانات العملاء الشخصية والمعالجة الرقمية لها، والتي يتم تبادلها بشكل غير مخفي إلى حد ما للحصول على المعلومات المقدمة مجاناً من خلال محركات البحث وبوابات الأخبار والخدمات الأخرى، مما أدى إلى رغبة اللجنة المختصة بالمنافسة في الاتحاد الأوروبي لتنظيم هذا السوق، بمعنى على هذه المنصات أن تتحمل مسؤولية نشر محتوى حساس للحقائق ومضلل، هم مسؤولون ويجب أن يكونوا مسؤولين عن الأخبار التي لا ينتجونها ولا يحررونها؛ لأن هذه المعلومات لها القدرة على تشكيل الآراء والعقليات أيضاً، عكس وسائل الاِعلام التقليدية، الصحافة والتلفزيون والاِذاعة، ملزمة بتصحيح الأخبار الكاذبة. فهذا ليس قراراً سياسياً، ولكن شرط دستوري للحفاظ على هيكل إعلامي يشمل الطابع العام والطابع التداوليّ وتمكين الرأي العام وصنع القرار.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
Jürgen Habermas, ein neuer Strukturwandel der Öffentlichkeit und die deliberative Politik, Suhrkamp, erste Auflage 2022
* Intersubjektiv البَيْنذواتية، مصطلح يستعمل في الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا للتعبير عن العلاقة النفسية بين الناس.
hamidfadlalla1936@gmail.com
////////////////////////
تقديم ومراجعة حامد فضل الله/برلين
إن التوازن الاجتماعي الدولي، الذي هو الصيغة الوظيفية المعاكسة (هذا على مستوى التجريد) هو الشرط الثالث لنجاح نظام ديمقراطي جدير بهذا الاسم. والاقتصاد السياسي؛ هو أول من يكشف عن الارتباط المنهجي بين النظام السياسي والمجتمع، وقد تابعت، من هذا المنظور، التغيير البنيوي في
المجال العام في ذلك الوقت. وعلى أكثر أو أقل، فإن الثقافة السياسية الليبرالية للدولة شرط جانبي يتم الوفاء به إلى حدّ ما من قبل الدولة، بدلاً من أن تكون الدولة نفسها قادرة على التأثير على تطورها بالوسائل الإدارية. يختلف الوضع مع التقسيم الطبقي الاجتماعي للمجتمع والمستوى الحالي من عدم المساواة الاجتماعية.
على أي حال، فإن التحديث الرأسمالي المندفع ذاتياً، يخلق حاجة إلى تنظيم الدولة من أجل ترويض القوى الطاردة للاِندماج الاجتماعي. يجب على الدول الاشتراكية، التي ظهرت في الغرب خلال النصف الثاني من القرن العشرين في إطار الدساتير الديمقراطية الوطنية أن تنفذ مثل هذا الإجراء السياسي المضاد في ظل ظروف شرعية متزايدة المطالبة. من أجل تجنب الأزمات في التكامل الاجتماعي، يحاولون تلبية مطلبين متناقضين: من ناحية، يجب عليهم ضمان استغلال رأس المال في ظلّ ظروف كافية لتوليد إيرادات ضريبية. ومن ناحية أخرى، يجب عليهم تلبية الشروط القانونية والمادية لمصلحة قطاعات واسعة من المجتمع، لممارسة استقلاليتهم الخاصة والعامة في إطار العدالة السياسية والاجتماعية - وإلاّ سيتمّ تجريدهم من شرعيتهم الديمقراطية. ومع ذلك، لا يمكن للديمقراطيات الرأسمالية أن تجد طريقاً لتجنب الأزمات بين هاتين الضرورتين إلاّ إذا كانت قدرتها التوجيهية كافية. بمعنى آخر: يجب أن يتزامن نطاق السياسة المتدخلة مع توسع الدورات الاقتصادية ذات الصلة بتأمين الرخاء الوطني. تمّ على ما يبدو، الوفاء بهذا الشرط موقتاً في ديمقراطيات الغرب فقط، إلى أن تم تحرير الأسواق عالمياً وعولمة الأسواق المالية، وبذلك تحقق السيطرة على السياسات المالية للدول منذ ذلك الحين، بما فيه الكفاية.
إذا أخذ المرء وجهات النظر المنهجية المحددة تقريباً، كأساس لوصف تاريخي للمجال العام الوطني، فيمكن للمرء أن يدرك مدى صعوبة الوصول إلى أي تعميمات يمكن الدفاع عنها حول الشروط الأساسية لعمل هذا المجال العام المعطاة في فترات تاريخية مختلفة. تتداخل الخصائص القومية مع الاتجاهات العامة للرأسمالية المنظمة للدولة القومية التي حددت التطور الديمقراطي بعد الحرب في الغرب حتى التحول النيوليبرالي. أدّى تطور دولة الرفاه الاجتماعية خلال هذه الفترة إلى تعزيز قبول الشعب للديمقراطية، في سياق تطور مجتمع استهلاكي، كما كانت هناك بالفعل علامات على وجود ميول خصوصية نحو عدم التسيس (التي رأيت بداياتها في التغيير البنيويّ في ذلك الوقت في مناخ فترة المستشار أد يناور، الذي كان ينظر إليها بمبالغة، بأنها سلطوية).
منذ التغيير النيوليبرالي للسياسة، دخلت الديمقراطيات الغربية مرحلة تزايد زعزعة الاستقرار الداخلي.
وقد تمّ تكثيف هذا، بسبب تحديات أزمة المناخ والضغط المتزايد للهجرة، وكذلك بسبب الصعود الملحوظ للصين و "والبلاد السريعة النمو" الأخرى والتغيرات الناتجة من الوضع الاقتصادي والسياسي العالمي. ازداد عدم المساواة الاجتماعية داخلياً، حيث أصبح نطاق عمل الدول القومية مقيداً بصيغة تحرير الأسواق عالمياُ، ونمت في نفس الوقت مخاوف الثقافات الفرعية المتضررة، من التدهور الاجتماعي، و عدم التغلب على التركيب للتغيرات الاجتماعية المتسارعة.
بصرف النظر تماماً عن الوضع السياسي العالمي الجديد الناجم عن الوباء، تشير هذه الظروف إلى احتمالية تكامل أكبر للدول القومية المتحدة في الاتحاد الأوروبي، أي محاولة استخدام الكفاءات التي فقدوها في سياق هذا التطور على المستوى الوطني، من خلال خلق قدرة سياسية جديدة للعمل على مستوى عابر للوطني. إن الوصف الحصيف لنُهُج مؤسسي للحوكمة العالمية، والتي عززت التفاوت في القوى الدولية، بدلاً من تقليلها، ولكنها بالكاد تثير الآمال.
يثير تذبذب الاتحاد الأوروبي، خاصة في ضوء مشاكله الحالية، التساؤل حول كيف يمكن للدول القومية أن تتحد على المستوى العابر للحدود لتشكيل نظام ديمقراطي، دون أن يكون له افتراض شخصية الدولة نفسها، ومع ذلك لديه القدرة العالمية على التصرف. وسيتطلب هذا مزيداً من الانفتاح للجمهور الوطني لبعضهم البعض. لكن كلاً من الانقسامات داخل الاتحاد الأوروبي وخروج بريطانيا المتردد، و الذي اكتمل أخيراً تتحدث بشكل أكبر عن استنفاد الأنظمة الديمقراطية الحالية - وربما حتى عن حقيقة أن السياسات العالمية للقوى العظمى يمكن أن تتطور إلى نوع جديد من الإمبريالية.
إن المشكلات الاقتصادية المترتبة على المجتمع العالمي المتأثر بالوباء يتم إدراكها ومعالجتها من قبل النخب السياسية القادرة في بلداننا. لا يوجد الآن الكثير، مما يمكن قوله عن التغيير المرغوب في السياسة نحو جدول أعمال اجتماعي – إيكولوجي يهدف إلى تكامل أكبر لأوروبا الأساسية.
يعتبر النظام الإعلامي ذا أهمية حاسمة، بالنسبة لدور المجال العام السياسي في إنتاج آراء عامة متنافسة تستوفي معايير السياسة التداولية. حيث تعتمد الجودة التداولية لهذه الآراء على ما إذا كانت تلبي متطلبات وظيفية معينة في عملية تكوينها، سواء من حيث المدخلات أو على جانب الإنتاجية والإخراج.
لا تكون الآراء العامة ذات صلة إلاّ إذا كان منتجو الرأي من صفوف السياسة وكذلك أصحاب المصالح ووكالات العلاقات العامة للأنظمة الوظيفية الاجتماعية وأخيراً الجهات الفاعلة المختلفة في المجتمع المدني تستجيب بشكل كافٍ لاكتشاف المشاكل المحتاجة للتنظيم، ومن ثم توفير المدخلات الصحيحة. وتكون الآراء العامة فعالة عندما تكون المواضيع ذات الصلة والمساهمات المقابلة ومخرجاتها، تُثير انتباه المجوعة العريضة من السكان ــ الناخبين ــ نحن مهتمون بشكل خاص بالنظام الاِعلامي المسؤول عن الانتاجية، على الرغم من أن اللقاءات المباشرة للجهات الفاعلة في المجتمع المدني في الحياة اليومية وفي المناسبات العامة، تمثل هذين المجالين القريبين من الجمهور الذي تنبثق منه مبادراتهم الخاصة، فإن الاتصال العام الذي تتحكم فيه وسائك الإعلام الجماهيري هو المجال الوحيد الذي تتركز فيه أصوات التواصل على الآراء العامة ذات الصلة والفعالة.
موضوعنا هو السؤال عن كيف غيرت الرقمنة نظام الإعلام الذي يتحكم في هذا الاتصال الجماهيري؟ يتطلب النظام الإعلامي البالغ التعقيد من الناحية التقنية والتنظيمية، موظفين محترفين يلعبون دور حراس البوابة (كما هو مسمى الآن) لتدفق الاتصالات التي يكثف منها المواطنون الآراء العامة. يتكون طاقم العمل من الصحفيين الذين يعملون في الخدمات الإخبارية ووسائل الإعلام والناشرين، أي من قوى متخصصة من مؤلفين، ومحررين، وأدباء ومراجعين، وإداريين.
يدير هؤلاء الموظفون الإنتاج، ويشكلون، جنباً إلى جنب مع الشركات التي تنظم تكنولوجيا الإنتاج وتنظيم المبيعات، والبنية التحتية للجمهور، والتي تقرر في نهاية المطاف المعلمتين الحاسمتين للاتصال العام – نطاق العرض ونوعيته التداولية. ما مدى شموليّة استقبال الآراء المنشورة في الواقع، ومدى كثافتها واستهلاكها للوقت على جانب الإخراج، من جانب القراء والمستمعين ومعالجتها بشكل أكبر في الآراء العامة الفعالة في المجالين المذكورين السابقين، من الجمهور السياسي ليتمّ معالجتهما بشكل أكبر للآراء العامة الفعالة ومدى قيمتهما لنتائج الانتخابات العامة للنظام السياسي، الاعتماد في نهاية المطاف على مستخدمي وسائل الإعلام، أي انتباههم واهتمامهم، ووقتهم، وخلفيتهم التعليمية، وما إلى ذلك.
يمكن رؤية تأثير الإعلام الرقمي على التغيير الهيكلي المتجدد في المجال العام السياسي في نطاق ونوع استخدام وسائل الإعلام منذ بداية القرن الجديد. وما إذا كان هذا التغيير يؤثر على الجودة التداولية للنقاش العام، هو سؤال مفتوح أيضاً. كما يُظهر علم الاتصالات ذي الصلة، والعلوم السياسية والبحث الاجتماعي الانتخابي – ولا سيما البحوث المتعلقة بإقبال الناخبين، وعزوف أو جهل الشعب ــ لم تكن قيم هذين البعدين للتواصل العام مرضية حتى قبل ذلك؛ لكنها كانت قيماً للظروف الديمقراطية في هذا الجانب من الأزمات التي تعرض الاستقرار للخطر.
يمكن اليوم التعرف على بوادر التراجع السياسي بالعين المجردة. وإلى مدى تظهر مساهمة المجال العام السياسي في تشكيل الرأي العام وعقلانية الآراء المعروضة. من الواضح، بأن التقييم التجريبي يواجه صعوبات كبيرة في المتغير الثاني. ومع ذلك، توفر البيانات من أجل مقارنة طويلة المدى لاستخدام وسائل الإعلام، فهي أساس لاستنتاج مستوى انعكاس الرأي العام أيضاً، من تقييم مستقل لجودة عروض وسائل الإعلام المستخدمة. قبل متابعة هذا السؤال بشكل أكبر، يجب أن نكون واضحين بالطبع حول الطابع الثوري لوسائل الإعلام الجديدة، لأنها ليست مجرد توسع في النطاق السابق للوسائط، ولكنها نقطة تحول في تطور الإعلام في تاريخ البشرية، يمكن مقارنتها بإدخال المطبعة.
بعد الدفعة التطورية الأولى لنسخ الكلمة المنطوقة، في أوائل العصر الحديث، مع إدخال المطبعة، تم فصل الأحرف الأبجدية عن الورقة المكتوب بخط اليد؛ مع الرقمنة الإلكترونية، حلّت الأحرف المشفرة الثنائية محلّ الورق المكتوب بطريقة مماثلة في العقود القليلة الماضية. في سياق هذا الابتكار الأكثر أهميّة بنفس القدر، انتشرت تدفقات الاتصال وتسارعت وشبكت بسرعة غير مسبوقة في جميع أنحاء العالم، وبأثر رجعي عبر جميع فترات تاريخ العالم. مع الالغاء العالمي للحدود في المكان والزمان، أصبحت في نفس الوقت أكثر كثافة وتميزاً ومضاعفة وفقاً لوظائفها ومحتواها، ومعممة عبر الحدود الثقافية والفئوية. كانت الفكرة المبتكرة التي بدأت هذه الثورة الثالثة في تقنيات للاتصال هي الشبكات العالمية لأجهزة الكمبيوتر، والتي من خلالها يمكن لأي شخص من أي مكان الآن التواصل مع أي شخص في أي مكان آخر على وجه الأرض. في البداية كان العلماء هم من استخدموا التكنولوجيا الجديدة. وبعد ما اتخذت مؤسسة العلوم الوطنية الأمريكية قراراً في عام 1991 بإطلاق هذا الاختراع للأغراض الخاصة والتجارية. كانت هذه هي الخطوة الحاسمة في إنشاء شبكة الويب العالمية بعد ذلك بعامين. خلق هذا الأساس التقني للإكمال المنطقي لتطور تكنولوجيا الاتصال على مدار التاريخ البشري، والذي تغلب تدريجياً على القصر الأصلي للتواصل المنطوق للمحادثات بين الحاضرين والتواصل الشفوي. بالنسبة للعديدة من مجالات الحياة والوظيفة، ينفتح هذا الابتكار بشكل لا لبس فيه. كما الغاء الحدود وتسريع إمكانيات الاتصال، وكذلك توسيع نطاق المناسبات العامة مفيدة للمواطن دون شك، بعد أن أصبح العالم أصغر حجماً على الشاشة. بالإضافة إلى مزاياها الواضحة، فإن التكنولوجيا الجديدة لها أيضاً، آثار متناقضة للغاية وربما تخريبية على المجال العام السياسي في السياق الوطني. ويرجع ذلك إلى الطريقة التي يتبعها مستخدمو الوسائط الجديدة من توفير وسائل الإعلام غير المحدود.
ليس من السهل تحديد الآثار التي أحدثها ظهور الإنترنت وخاصة وسائل التواصل الاجتماعي على تكوين الرأي والإرادة في المجال العام السياسي بشكل تجريبي. ومع ذلك فإن نتائج الدراسة طويلة الأجل حول استخدام الوسائط للفترة من 1964 إلى 2020 في جمهورية ألمانيا الاتحادية، وفقاً لقناتي التلفزيون الألماني الرئيسيتين والشبه رسمية، تسمح ببعض البيانات التقريبية حول التغييرات في عرض واستخدام وسائل الإعلام، نتيجة لإدخال التلفزيون الخاص، ثم توسعت بشكل كبير، وقبل كل شيء بسبب النطاق الواسع من الخيارات عبر الإنترنت. هذا لا ينطبق على المستوى الوطني فقط؛ كما تتيح الشبكة إمكانية
الوصول إلى عدد كبير من البرامج الصحفية والإذاعية والتلفزيونية "الأجنبية". تمكنت الأطراف المعنية
في نفس الفترة الزمنية في جميع أنحاء العالم متابعة اقتحام مبني الكابيتول مباشرة، عن طريق قناة السي إن إن . وقد ارتفعت فترة استخدام جميع وسائط الإعلام ارتفاعا حاداً منذ عام 2000، ولكنها وصلت إلى الحد الأقصى في عام 2005؛ منذ ذلك الحين، استقر يومياً بصورة مذهلة لمدة ثماني ساعات. تغيرت حصص وسائل الإعلام المختلفة على مدى عقود.
تجاوز استخدام التلفزيون كوسيلة إعلام جديدة منذ عام 1970، وسائل الإعلام التقليدية، مثل الاِذاعة والصحف اليومية. كما انخفض إصدار الصحف والمجلات المطبوعة من 60 في المائة في عام 2005
إلى 22 في المائة في عام 2020، وكثافة وزمن قراءة الصحف والمجلات، خاصة وسط الفئات العمرية من 14 إلى 29، وصلت إلى 40 في المئة في عام 2005، لتنحدر وسط هذه الفئة العمرية إلى 6 في المئة عام 2020.
كما يتعرض الكاتب لدور الانترنت كوسيلة إعلام حديثة، وتأثيره على بلدان الاِتحاد الأوروبي وألمانيا، بكثير من التفصيل مع الأرقام، نقدمها هنا باختصار شديد:
حسب آخر استطلاع، والذي تم في الاتحاد الأوروبي (28 دولة) نهاية عام 2019، يمثل الحجم الحالي للعروض واستخدام وسائل الإعلام المختلفة: يستخدم 81 بالمائة من الذين شملهم الاستطلاع التلفزيون يومياً، 67 في المائة يستخدمون الإنترنت بشكل عام، و 47 في المائة يستخدمون وسائل التواصل الاجتماعي، 46 في المائة للراديو و 26 في المائة للصحافة. كما ذكر الذين تم استطلاعهم، بأن 77٪ التلفزيون، 40٪ راديو و 36٪ وسائل الإعلام المطبوعة "مصادرهم الرئيسية للمعلومات"، بينما ذكر 49٪ الإنترنت بشكل عام و 20٪ وسائل التواصل الاجتماعي. حقيقة أن هذه القيمة الأخيرة ، التي تعتبر مثيرة للاهتمام في سياقنا ، قد زادت دائماً بمقدار أربع نقاط إضافية مقارنة بمسح العام السابق، تؤكد الاتجاه المتزايد الذي تم توثيقه في مكان آخر أيضاً، وهو الانخفاض الحاد في استهلاك الصحف اليومية.
والمجلات أيضاً، مؤشر على أنه منذ إدخال الإنترنت، انخفض متوسط الاهتمام بالأخبار السياسية والمعالجة التحليلية للقضايا ذات الصلة بالسياسة. ومع ذلك ، فإن المستوى المستقر نسبياً للحصة ، التلفزيون والراديو أيضاً بشكل عام في استهلاك الوسائط ، يشير إلى أن هاتين الوسيلتين تعتبران حالياً،
موثوقة وكافية في توفير معلومات سياسية متنوعة لثلاثة أرباع الناخبين على الأقل في الدول الأعضاء من الاتحاد الأوروبي.
ما يلاحظ بوضوح أيضاً، تزايد تسرب الأخبار الكاذبة للجمهور السياسي ولا سيما التطور المذهل نحو "ما بعد ديمقراطية الحقيقة"، في الولايات المتحدة، وخاصة خلال إدارة ترامب، حيث ازداد انعدام الثقة في وسائل الإعلام. يشكك 41٪ في أن تقارير وسائل الإعلام الوطنية خالية من الضغوط السياسية والاقتصادية. ويؤكد 39٪ صراحة عدم الثقة، هذا فيما يتعلق بوسائل الإعلام العامة، والتي تشكل اليوم العمود الفقري للمجال العام الليبرالي. ويقول ما يصل إلى 79 في المائة إنهم واجهوا أخباراً مشوهة أو مزيفة. ويبدو من ناحية أخرى، أنّ الخسارة الدراماتيكية لأهمية وسائل الإعلام المطبوعة مقارنة بوسائل الإعلام المرئية السمعية السائدة تتحدث عن انخفاض مستوى الطلب على العرض، وقد تناقص تقبل المواطنين للمعالجات الفكرية والسياسية، وكذلك فإن الأدلة اليومية تشير، بأن الصحف والمجلات الوطنية المتبقية، لا تزال هي وسائل الإعلام السياسية الرائدة، هي الأكثر من ناحية الطلب، وأن وسائل الإعلام الأخرى، وخاصة التلفزيون، لا تزال تقدم المساهمات والبيانات التي تعكس الموضوعات الرئيسية من حيث المحتوى. ومع ذلك، فإن عدم الثقة في حقيقة وجدية واكتمال البرامج آخذ في الازدياد بين عامة الناس، على الرغم من أن وسائل الإعلام العامة، كما قد يفترض المرء، تواصل تقديم مجموعة موثوقة من الأخبار والبرامج السياسية. ولكن الشكوك المتزايدة حول جودة وسائط الخدمة العامة تسير جنباً إلى جنب مع القناعة المنتشرة على نطاق واسع بأن الطبقة السياسية، إما غير موثوق بها أو فاسدة، أو بأي حال من الأحوال مشكوك فيها. تشير هذه الصورة العامة إلى أنه مع تنوع الوسائط من ناحية، وما يقابلها من تعددية في الآراء والحجج ووجهات النظر من ناحية أخرى.
إن الوسائط الجديدة الموجودة: تويتر، إنستغرام، يوتيوب، وفيسبوك هي بالفعل شركات تمتثل لضرورات الاستفادة من رأس المال، وهي من بين الشركات، من حيث "الأكثر قيمة" في سوق الأوراق المالية في العالم ويتم تمويلها إلى حد كبير من عائدات الإعلانات. إنهم مدينون بأرباحهم لاستغلال البيانات التي يبيعونها لأغراض إعلانية.. ويشير إلى الضغط للتكيف الذي يمارسه منطق استغلال الإعلام الجديد على الإعلام القديم، الذي يخضع لمنطق مختلف تماماً، بقدر نجاحه في برامجه، أي بمحتواه، الذي يجب أن يفي بالمعايير المعيارية أو الجمالية.
يتطرق الكاتب إلى ميول عدم التسييس التي لوحظت في الأبحاث الإعلامية منذ ثلاثينيات القرن الماضي ، ولكنها أصبحت الآن واضحة من خلال ما تقدمه وسائل التواصل الاجتماعي.
عندما ننظر من الجانب الموضوعي لهيكل الإعلام الموسع وأساسه الاقتصادي المتغير الآن، إلى جانب المتلقين وأساليب استقبالهم المتغيرة، فإننا نلامس، السؤال المركزي حول ما إذا كانت وسائل التواصل الاجتماعي تغير الطريقة التي ينظر بها مستخدموها إلى المجال السياسي العام؟ بالطبع، المزايا الفنية للمنصات التجارية- وحتى وسيلة مثل التيوتر، الذي يوفر رسائل مختصرة، يمنح المستخدمين مزايا لا يمكن إنكارها لأغراض سياسية ومهنية وشخصية. هذه التطورات ليست مشكلتنا. السؤال هو بالأحرى ما إذا كانت هذه المنصات تشجع نوعاً من التبادل حول الآراء السياسية ضمنياً أو صريحاً أيضاً، والتي يمكن أن تؤثر كذلك على تصور الجمهور السياسي على هذا النحو من خلال طريقة الاستخدام المتغيرة.
لم يتغير الأساس الاجتماعي للتمييز القانوني والسياسي للمجال العام عن المجال الخاص للعلاقات الاقتصادية والمدنية والأسرية هيكلياً خلال الفترة التي ننظر فيها؛ لأن الشكل الاقتصادي الرأسمالي للاقتصاد نفسه يقوم على هذا الفصل. و انعكس هذا الهيكل في الدول الدستورية الديمقراطية، في وعي المواطنين أيضاً، وهو يتعلق الأمر بتصورهم. يتوقع من المواطنين اتخاذ قراراتهم السياسية في مجال التوتر بين المصلحة الذاتية والتوجه نحو الصالح العام. وكما هو موضح، فإنهم يعبرون عن هذا التوتر في فضاء الاتصال في المجال العام السياسي، والذي يشمل بشكل أساس جميع المواطنين كجمهور.
وقعت السياسة في الولايات المتحدة، في دوامة الاستقطاب المستمر للرأي العام بعد أن تبنت الحكومة وأقسام كبيرة من الحزب الحاكم التصور الذاتي لرئيس نجح في وسائل التواصل الاجتماعي، الحصول يومياً عبر تويتر على موافقة أتباعه الشعبويين، كما لا يمكن للمرء إلا أن يأمل على أن يكون هذا الاستقطاب للجمهور السياسي موقتاً فقط، ولم يعد من الممكن بالنسبة لنصف السكان تقريباً، تبادل المحتوى التواصلي بصحة الادعاءات القابلة للنقد. ليس تراكم الأخبار الكاذبة مهماً بالنسبة لتشوه واسع النطاق لتصور الجمهور السياسي فحسب، وبل حقيقة أنه من منظور المشاركين، لم يعد من الممكن تحديد الأخبار على أنها كاذبة فعلاً. ولكن سيكون من الخطأ بالنسبة للعلماء المراقبين لاستخلاص النتيجة، لفصل هذه الظواهر العرضية عن الأسئلة النظرية الديمقراطية على الاِطلاق.
لأن التواصل العام الشبة مستقل، ليس بأي حال من الأحوال غير مسيّس. وحتى عندما يكون هذا هو الحال، فإنّ القوة الأساسية التي يتمتع بها هذا الاتصال بالنسبة للنظرة العالمية للمشاركين ليست غير سياسية. يتضرر النظام الديمقراطي ككل إذا لم تعد البنية التحتية للمجال العام، أن تلفت انتباه المواطنين إلى توجيه القضايا ذات الصّلة وصنع القرار والتدريب المتنافس. وهذا يعني: لم يعد من المكن ضمان الآراء المختار نوعيا، إذا تذكرنا المتطلبات الأساسية المعقدة لاستمرار وجود الديمقراطيات الرأسمالية ، والتي هي بطبيعتها عرضة للأزمات، فمن الواضح أن فقدان الوظيفة من جانب الجمهور السياسي يمكن أن يكون له أسباب أعمق. لكن هذا لا يعفينا من البحث عن أسباب واضحة، مثل مصادفة ظهور وادي السيليكون (سيليكون فالي)، أي الاستخدام التجاري للشبكة الرقمية، من ناحية، والانتشار العالمي للبرنامج الاقتصادي النيوليبرالي من ناحية أخرى. قدمت المنطقة الممتدة عالمياً لتدفقات الاتصالات الحرة، والتي أصبحت ممكنة في ذلك الوقت من خلال اختراع الهيكل التكنولوجي لـ «الشبكة»، وعرضت نفسها على أنها انعكاس لسوق مثالية. لم يكن من الضروري تحرير هذا السوق أولاً، ولكن المزعج الآن. السيطرة المختلطة على تدفقات الاتصالات، والتي يستمد منها تركيز القوة السوقية لشركات الإنترنت الكبيرة. وسحب بيانات العملاء الشخصية والمعالجة الرقمية لها، والتي يتم تبادلها بشكل غير مخفي إلى حد ما للحصول على المعلومات المقدمة مجاناً من خلال محركات البحث وبوابات الأخبار والخدمات الأخرى، مما أدى إلى رغبة اللجنة المختصة بالمنافسة في الاتحاد الأوروبي لتنظيم هذا السوق، بمعنى على هذه المنصات أن تتحمل مسؤولية نشر محتوى حساس للحقائق ومضلل، هم مسؤولون ويجب أن يكونوا مسؤولين عن الأخبار التي لا ينتجونها ولا يحررونها؛ لأن هذه المعلومات لها القدرة على تشكيل الآراء والعقليات أيضاً، عكس وسائل الاِعلام التقليدية، الصحافة والتلفزيون والاِذاعة، ملزمة بتصحيح الأخبار الكاذبة. فهذا ليس قراراً سياسياً، ولكن شرط دستوري للحفاظ على هيكل إعلامي يشمل الطابع العام والطابع التداوليّ وتمكين الرأي العام وصنع القرار.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
Jürgen Habermas, ein neuer Strukturwandel der Öffentlichkeit und die deliberative Politik, Suhrkamp, erste Auflage 2022
* Intersubjektiv البَيْنذواتية، مصطلح يستعمل في الفلسفة وعلم النفس وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا للتعبير عن العلاقة النفسية بين الناس.
hamidfadlalla1936@gmail.com
////////////////////////