قيادات الشيوعي هل قرأت تراث حزبها
زين العابدين صالح عبد الرحمن
11 June, 2023
11 June, 2023
أن نمو الوعي السياسي في المجتمع بصورة عامة، و عند النخب السياسية و الثقافية بصورة خاصة، يعتمد على معرفة تطور الوعي في المراحل التاريخية للمجتمع، لآن معرفة تاريخية الوعي تجعل الباحث و السياسي مدرك للعوامل التي أدت للتطور و التي أخفقت في ذلك. و للأسف لم يحصل قرءة لتطوره تاريخيا مما دفع الأغلبية من المهتمين بالشأن السياسي تقول أن الأحزاب السياسية ما استفادت من التجارب التاريخية. أي أنها لم تستوعب دروس التاريخ، و القيادات و المثقفين الذين استطاعوا قراءة التجارب و خطابات القوى السياسية السابقة في مرحلها المختلفة، هم الذين يستطيعون توظيفها لخدمة الوعي السياسي. هذا يذكرنا بالتصنيفات التي حددها غرامشي للمثقف، و نأخذ المثقف العضو الذي جعله على قمة الهرم. هذا تمييز لآن المثقف العضو يستفيد من كل قرأته للتجارب و حصيلته المعرفية و ثقافته و دراسته للمجتمع و تجارب التاريخ وتوظيفها في معركة الوعي و التغيير. لكن القيادات التي تفتقد لهذه الخاصية المعرفية بالضرورة تفتقد للوعى المطلوب لعملية التغيير. و في المؤسسات الحزبية يتطور الوعي و يتراجع اعتمادا على مساحة الحرية و الحوار المسموح به داخل المؤسسات الحزبية، لآن هذا النشاط هو الذي يجعل المؤسسة منتجة للإستنارة التي تخلق الوعي الجديد المطلوب لعملية التغيير المطلوبة. و كلما قل الاطلاع و انعدمت الحرية داخل الأحزاب تراجع دورها الاستناري و فاعليتها الثقافية ثم السياسية.
أن الوعي السياسي هو الذي يجعل صاحبه مدرك لعملية التغيير، و التحولات التي تحدث في الثقافة و الوعي في المجتمع، و هذا الإدراك يجعله يحدد مساحة حركته و فاعليتها في الحقلين الثقافي و السياسي. الآن إذا تتبعنا رداة الفعل و الأراء في الحرب الدائرة في العديد من قروبات المثقفين و السياسيين التي يتواجد فيها العديد من زملاء الحزب الشيوعي تجدهم في حالة من إنعدام الوزن من خلال البوسترات التي يرفعونها و التعليقات عليها، حالة مضطربة جدا، مرة يحاولون أن يجدون تبريرا لأفعال مليشيا الدعم السريع باعتبارها تحارب جيش الكيزان، و مرة يؤيدون الجيش و تصديه للمليشيا التي ارتكبت جرائم حرب و دخلت منازل المواطنين و سرقة محتويت هذه المنازل ثم يلكنوها لكن الجيش جيش الكيزان. الملاحظ غياب الحوارات الفكرية أو التحليلات المنهجية للأحداث. الأمر الذي يؤكد أن الحزب الشيوعي يعيش أعمق أزمة في تاريخه، جعلته خارج دائرة الفعل السياسي. أن ثورة ديسمبر 2018م قد كشفت بصورة كبيرة أزمة الحزب. و القيادات التاريخية تعلم أن فتح حوارات فكري داخل الحزب ليس في مصلحتها، و قد اثبتت تجارب الصراع الفكري داخل الحزب الشيوعي أن الحوارات الفكرية تؤدي لخروج العديد من العناصر ذات القدرات الإبداعية و الفكرية من الحزب.
في تجارب الحزب التاريخية... و في اوائل يونيو عام 1958م عندما اشتد الخلاف وسط حكومة السيدين و بدأ كل فريق يتقرب للأزهري، في معركة سياسية تنذر بعدم الاستقرار؛ أصدر الحزب الشيوعي السوداني بيانا ممهورا بأسم المكتب السياسي قال في هذا البيان " أن الحالة المؤسفة التي وصلت إليها البلاد من جراء الإنقسام الراهن بين القوى الوطنية، تدعونا لمخاطبتكم بضمير مخلص لخلق الظروف الملائمة لتخفيف حدة التوتر القائمة الآن، و إيجاد نقاط اتفاق مشتركة تدفع بعوامل الانقسام إلي الخلف مما يساعد بدوره على بناء وحدة وطنية تحمي الوطن و تعزز استقلاله" السؤال هل يستطيع الحزب الشيوعي أن يلعب هذا الدور الذي يشار إليه في ذلك البيان في ظل أزمة سياسية تحولت إلي حرب شرسة تهدد وحدة السودان، و يبني موقفه على المشتركات التي يمكن أن تخلق واقعا جديدا في البلاد؟
الحزب الشيوعي يؤمن بالمتضادات حيث ينادي بالثورية و يرفع شعار الديمقراطية و لم يوضح في اجتهاد فكري كيف تركب العلاقة بينهما. أقرب موقف للحزب الشيوعي خروجه من قوى الحرية و التغيير، و كان بحكم تاريخه السياسي أن يلعب دورا مهما في تضييق هوة الصراع بين القوى السياسية، و كان على قيادة الحزب أن ترجع للتجارب التاريخية للحزب و تقرأ بتمعن دوره في العمل من أجل الوصول لتوافقات وطنية من خلال المشتركات بهدف المصلحة الوطنية، لكن الفارق الكبير بين درجة الوعي في تلك الفترة السابقة و الفترة الحالية. فالفترة السابقة كانت تضم عدد كبير من المفكرين منهم ( عبد الخالق محجوب و أجمد سليمان و كامل محجوب و عمر مصطفي المكي و غيرهم ) و في القيادات النقابية التي كانت واعية لدورها النقابي و السياسي أمثال (لشفيع أحمد الشيخ و الحاج عبد الرحمن و الجزولي سعيد و قاسم أمين و إبراهيم زكريا و غيرهم) و في العمل السياسي ( عزالدين على عامر و التجاني الطيب و فاطمة أحمد إبراهيم و بروف فاروق محمد إبراهيم و معاوية أحمد إبراهيم) و في مرحلة أخرى ظهر مفكرين أخرين ( محمد إبراهيم نقد و الخاتم عدلان و الشفيع خضر) الأمر الذي خلق حالة من السكون الفكري داخل الحزب. تلك كانت قيادات تشتغل بالذهن أي أنها أهم أدواتهم الفكر باعتباره أهم أداة للتغيير. و أيضا يجيدون التكتيك و يعرفون متى يناورون. و في اشد أزمة مرت على الحزب الشيوعي ( حل الحزب و طرد نوابه من البرلمان) لم تلجأ قيادات تلك الفترة إلي حرب الشعارات للنيل من الآخرين، بل فتحت حوارا فكريا بين رؤيتين داخل الحزب رؤية عمر مصطفي المكي الذي تحدث عن مصطلح ( البرجوازية الوطنية) و هو مصطلح كان يحتاج لتعريف وفقا للفلسفة الماركسية حيث كان المكي يعتقد أن المؤسسة العسكرية جزء من القوى الطليعة للطبقة الوسطى، و كان أحمد سليمان يذهب في نفس خط عمر مصطفى المكي لكنه استخدم مصطلح ( الديمقراطيين الثوريين) باعتبار هؤلاء يمكن لهم أن يحدثوا واقعا اجتماعيا يسير في خط التحول الاشتراكي.، و كانت هناك رؤية أخرى يمثلها عبد الخالق محجوب السكرتير العام للحزب الذي يقول " أن القوى الثورية تمتلك إمكانية واسعة لتطوير نشاطها في ظل النظام الديمقراطي البرلماني الليبرالي، و هذا النظام تتقطع أوصاله يوما بعد يوم على يد قوى التمين فتصبح الحقوق الديمقراطية نفسها أداة في يد الحركة الثورية" ذهبت الرؤيتان في جدل فكري لدورة اللجنة المركزية في 1968م و نالت رؤية عبد الخالق أغلبية بسيطة و جعلت السجال دائرا. و لكن ذهب الحزب في طريق مصطلحي ( الديمقراطيين الثوريين و الوطنيين) و أنجز انقلابين 25 مايو 1969م و 19 يوليو 1971م. و الانقلاب الذي ضيق على بروز عناصر فكرية بالصورة المطلوبة. و الانقلابان خلفا أكبر أثر سلبي على الحزب في النواحي التنظيمية و الفكرية. و إذا نظرنا لنشاط الحزب في ستينات القرن الماضي حيث كان يمثل ذبدة الطليعة الواعية في البلاد لذلك كان النشاط الثقافي و الفكري طاغي على القوى الأخرى جميعها، بعد الانقلابان تراجع هذا الدور و أن استعاد النشاط في وسط السبعينات و الثمانينات لكن ليس بالصورة السابقة، و في التسعينات بدأت مرحلة أخرى.
ثم جاء سقوط حائط برلين 1990م الذي انهار معه الاتحاد السوفيتي 1991م و الذي كان يمثل حاضنة قوية للماركسية، الحدثان خلقا حالة من عدم الاتزان وسط المجموعات اليسارية الماركسية و القومية، من بينهم الحزب الشيوعي و الذي فتحت حوارا حول المرجعية الفكرية و تغيير أسم الحزب، الأمر الذي قاد لخروج اعداد كبيرة من الحزب أغلبيتهم من العناصر التي تشتغل بالفكر و العديد من العناصر ذات القدرات الإبداعية في حقول الأدب و الإبداع، هذا الخروج خلق أزمة فكر داخل المنظومة الحزبية، حيث صعدت للقيادة عناصر أغلبيتها من القيادات التي كانت تشتغل بالعمل التنفيذي، و هؤلاء أيضا أغلبيتهم من المفرغين للعمل الحزبي، و يريدون الاحتفاظ بمواقعهم و بالتالي لا يريدون الدخول في أي سجالات فكرية أو يتخذون مواقف تعرضهم للنقد، فخرجوا من تحالف قوى الحرية و التغيير، حتى يعرضون انفسهم لأي نقد يتناول فشل و نجاح الحكومات التي يكونها التحالف. و بعد انقلاب 25 أكتوبر أتخذوا موقفا أخر تكوين تحالف الجذرية من الحزب و واجهاته الأخرى و رفضوا التعامل مع أي قوى سياسية أخرى، و اعتمدوا على تظاهرات شباب المقاومة دون أن يكون لهم رؤية سياسية واضحة تحمل مبادرة تفتح حوارا وطنيا، و قيادات الحزب أن الديمقراطية لا تصنع بالثورة و لكن بالحوارات المفتوحة التي تؤدي إلي التوافق الوطني. و بعد الحرب توقفت التظاهرات و غاب أي دور للحزب. أصبح الحزب دون أي رؤية لذلك تجد اعداد من عضويته في القروبات ليس لها دور غير رفع البوسترات مع..ضد.... هذا يذكرني بقول أنطونيو غرامشي في كراسات السجن " الأحزاب تنشأ و تتشكل كتنظيمات لكي تؤثر في الوضع القائم في الحظات تاريخية حاسمة بالنسبة لطبقتها و لكنها ليست قادرة دائما على التكيف مع المهام الجديدة و العهود الجديدة أو مسايرة تطور مجمل علاقات القوى في البلد " بالفعل أن القيادات التاريخية الاستالينية فضلت أن تكون في حالة من النوم العميق في مرحلة الحرب لكي تخلي الساحة للأخرين. و هي تعلم أن الحرب سوف تخلق واقعا جديدا في البلاد. و أي منتصر فيها هو الذي يقع عليه عبء تشكل مستقبل البلاد، و حتى إذا انتهت الحرب بتسوية أن قياداتها هي التي سوف تشكل الساحة السياسية. هذا الواقع الذي يعيشه الحزب.. هل يعتبر حالة من حالة العجز الفكري، أم عدم استيعاب لمجريات الأحداث لا تستطيع أن تجاوب عليها المرجعية الفكرية الآرثوذكسية؟
يقول عبد الخالق محجوب الذي كان يشغل موقع السكرتير العام للحزب في كتابه ( إصلاح الخطأ في العمل بين الجماهير ص 22) يقول " البرجوازية الصغيرة و خاصة في المدن تسلك سبيل الدراسة المعزولة و تجنح إلي الفصل بين النظرية و العمل، و مرجعيتها النصوص دائما لا الحياة و متطلباتها .. و تحاول بهذا أن تخضع الحياة للنصوص لقد عانينا من هذا الاتجاه كثيرا و أتخذ شكلا حادا" و هذه هي المعضلة أن قيادات الحزب أصابها الجمود.. أن الحزب الشيوعي الآن لا يريد أن يتخذ من المشتركات مدخلا له في تقديم مبادرة وطنية تبقي على الوطن و تخرجه من دائرة النزاعات و الحروب، و لا حتى أن يتخذ من نصوص الماركسية الجديدة ما بعد الحداثة رؤية له تفتح أفاقا جديدة لعمله السياسي لكي يقدم رؤية يقتنع بها قطاع واسع من الجماهير. لكن لحزب فضل أن يعتمد على الكتابات الأرثوذكسية الماركسية التي تبرز بصورة واضحة في كتابات مفكر الحزب الأستاذ تاج السر عثمان بابو مع تقديرنا له و لكتاباته، لكن البشرية تجاوزتها باعتبارها تمثل مرحلة للفكر التاريخي الماركسي، فهي لا تصنع ديمقراطية و لا حتى صراع ثوري. و الغريب أن الحزب الشيوعي يريد الثورية و في نفس الوقت يرفع شعارات الديمقراطية و هذه الصقة لا يستطيع الحزب معالجتها فكريا. يقول الكاتب جورد طرابيشي في كتابه ( في ثقافة الديمقراطية) يقول " مبدأ الصراع في الديمقراطية هو النسبي في مواجهة النسبي.. أما المواجهة في الثورة فهي بين مطلق و مطلق .. مطلق من الخير في مواجهة مطلق من الشر.. و عندما تتواجه المطلقات على هذا النحو المانوي، فإن المنطلق الذي يفرض نفسه هو منطق الاستئصال حتى الجذر و حتى نخاع العظم" و بالتالي المطلق لا يؤسس إلا نظاما ديكتاتوريا شموليا. فالثورة أداة الصراع الصفري و هي الأداة التي تتمسك بها قيادات تاريخية استالينية لم تراع تطور الفلسفة الماركسية في معاهد المعرفة... و نجدها تحاول أن تجمع المتضادات دون أن تقوم بأي دراسة فكرية تبين للناس كيف تصنع الثورة ديمقراطية. أن التناقض في الشعارات التي يرفعها الزملاء نتيجة لعدم المواكب في التطور الذي حدث للماركسية في كتابات العديد من فلاسفتها و مفكريها أمثال هربرت ماركوزا و أودورنو و ريموند غويس و هبرماس و ماكس هوركهايمر و غيرهم. و هؤلاء قدموا مجهوداتهم الفكرية انطلاقا من مرجعياتهم الماركسية في نقد الماركسية الكلاسيكية.
أن القيادات التاريخية الحالية في قمة الحزب، إذا استطاعوا أن يقرأوا تاريخ الحزب الشيوعي، و دوره المساهم في تصحيح مسار العمل الديمقراطي تايخيا، إذا أختلف معه الناس أو أتفقوا لكن كانوا سوف يدركون أن حزبهم كان يملك قيادات لها قدرات فكرية استطاعت بها أن تفتح العديد من الحوارات الجادة في الساحة السياسية، و تسمع و تحترم للرؤى الأخرى و لا تتجاهله، و لا تفرض الأستاذية على الأخرين. كان الأمل أن يأتي المؤتمر السابع يحمل بشريات للتغيير بعناصر جديدة تحمل رؤى فكرية تساعد الحزب على الحركة الفاعلة وسط القوى السياسية، و لكن جاءت الحرب لكي تخلق واقعا جديدا في الساحة. هنا تطرح أسئلة: هل الحزب مع التغييرات التى تحدث في الساحة السياسية أم أنه سوف يقف في ذات محطة المراقبة أم عنده تصورا أخر يتجاوز كل مواقفه السالبة الماضية؟ هل يستطيع الزملاء أن يراجعوا قراءة تجاربهم و يقدم مبادرة تراعي المشتركات و تبني عليها أم مازالوا يقفون في محطة المعهد الفني و حدثة شوقي؟ هل تستطيع قوى سياسية تقيد مساحة الحرية داخل منظومتها السياسية أن تنجح في صناعة الديمقراطية؟ نسأل الله حسن البصيرة.
zainsalih@hotmail.com
////////////////////////
أن الوعي السياسي هو الذي يجعل صاحبه مدرك لعملية التغيير، و التحولات التي تحدث في الثقافة و الوعي في المجتمع، و هذا الإدراك يجعله يحدد مساحة حركته و فاعليتها في الحقلين الثقافي و السياسي. الآن إذا تتبعنا رداة الفعل و الأراء في الحرب الدائرة في العديد من قروبات المثقفين و السياسيين التي يتواجد فيها العديد من زملاء الحزب الشيوعي تجدهم في حالة من إنعدام الوزن من خلال البوسترات التي يرفعونها و التعليقات عليها، حالة مضطربة جدا، مرة يحاولون أن يجدون تبريرا لأفعال مليشيا الدعم السريع باعتبارها تحارب جيش الكيزان، و مرة يؤيدون الجيش و تصديه للمليشيا التي ارتكبت جرائم حرب و دخلت منازل المواطنين و سرقة محتويت هذه المنازل ثم يلكنوها لكن الجيش جيش الكيزان. الملاحظ غياب الحوارات الفكرية أو التحليلات المنهجية للأحداث. الأمر الذي يؤكد أن الحزب الشيوعي يعيش أعمق أزمة في تاريخه، جعلته خارج دائرة الفعل السياسي. أن ثورة ديسمبر 2018م قد كشفت بصورة كبيرة أزمة الحزب. و القيادات التاريخية تعلم أن فتح حوارات فكري داخل الحزب ليس في مصلحتها، و قد اثبتت تجارب الصراع الفكري داخل الحزب الشيوعي أن الحوارات الفكرية تؤدي لخروج العديد من العناصر ذات القدرات الإبداعية و الفكرية من الحزب.
في تجارب الحزب التاريخية... و في اوائل يونيو عام 1958م عندما اشتد الخلاف وسط حكومة السيدين و بدأ كل فريق يتقرب للأزهري، في معركة سياسية تنذر بعدم الاستقرار؛ أصدر الحزب الشيوعي السوداني بيانا ممهورا بأسم المكتب السياسي قال في هذا البيان " أن الحالة المؤسفة التي وصلت إليها البلاد من جراء الإنقسام الراهن بين القوى الوطنية، تدعونا لمخاطبتكم بضمير مخلص لخلق الظروف الملائمة لتخفيف حدة التوتر القائمة الآن، و إيجاد نقاط اتفاق مشتركة تدفع بعوامل الانقسام إلي الخلف مما يساعد بدوره على بناء وحدة وطنية تحمي الوطن و تعزز استقلاله" السؤال هل يستطيع الحزب الشيوعي أن يلعب هذا الدور الذي يشار إليه في ذلك البيان في ظل أزمة سياسية تحولت إلي حرب شرسة تهدد وحدة السودان، و يبني موقفه على المشتركات التي يمكن أن تخلق واقعا جديدا في البلاد؟
الحزب الشيوعي يؤمن بالمتضادات حيث ينادي بالثورية و يرفع شعار الديمقراطية و لم يوضح في اجتهاد فكري كيف تركب العلاقة بينهما. أقرب موقف للحزب الشيوعي خروجه من قوى الحرية و التغيير، و كان بحكم تاريخه السياسي أن يلعب دورا مهما في تضييق هوة الصراع بين القوى السياسية، و كان على قيادة الحزب أن ترجع للتجارب التاريخية للحزب و تقرأ بتمعن دوره في العمل من أجل الوصول لتوافقات وطنية من خلال المشتركات بهدف المصلحة الوطنية، لكن الفارق الكبير بين درجة الوعي في تلك الفترة السابقة و الفترة الحالية. فالفترة السابقة كانت تضم عدد كبير من المفكرين منهم ( عبد الخالق محجوب و أجمد سليمان و كامل محجوب و عمر مصطفي المكي و غيرهم ) و في القيادات النقابية التي كانت واعية لدورها النقابي و السياسي أمثال (لشفيع أحمد الشيخ و الحاج عبد الرحمن و الجزولي سعيد و قاسم أمين و إبراهيم زكريا و غيرهم) و في العمل السياسي ( عزالدين على عامر و التجاني الطيب و فاطمة أحمد إبراهيم و بروف فاروق محمد إبراهيم و معاوية أحمد إبراهيم) و في مرحلة أخرى ظهر مفكرين أخرين ( محمد إبراهيم نقد و الخاتم عدلان و الشفيع خضر) الأمر الذي خلق حالة من السكون الفكري داخل الحزب. تلك كانت قيادات تشتغل بالذهن أي أنها أهم أدواتهم الفكر باعتباره أهم أداة للتغيير. و أيضا يجيدون التكتيك و يعرفون متى يناورون. و في اشد أزمة مرت على الحزب الشيوعي ( حل الحزب و طرد نوابه من البرلمان) لم تلجأ قيادات تلك الفترة إلي حرب الشعارات للنيل من الآخرين، بل فتحت حوارا فكريا بين رؤيتين داخل الحزب رؤية عمر مصطفي المكي الذي تحدث عن مصطلح ( البرجوازية الوطنية) و هو مصطلح كان يحتاج لتعريف وفقا للفلسفة الماركسية حيث كان المكي يعتقد أن المؤسسة العسكرية جزء من القوى الطليعة للطبقة الوسطى، و كان أحمد سليمان يذهب في نفس خط عمر مصطفى المكي لكنه استخدم مصطلح ( الديمقراطيين الثوريين) باعتبار هؤلاء يمكن لهم أن يحدثوا واقعا اجتماعيا يسير في خط التحول الاشتراكي.، و كانت هناك رؤية أخرى يمثلها عبد الخالق محجوب السكرتير العام للحزب الذي يقول " أن القوى الثورية تمتلك إمكانية واسعة لتطوير نشاطها في ظل النظام الديمقراطي البرلماني الليبرالي، و هذا النظام تتقطع أوصاله يوما بعد يوم على يد قوى التمين فتصبح الحقوق الديمقراطية نفسها أداة في يد الحركة الثورية" ذهبت الرؤيتان في جدل فكري لدورة اللجنة المركزية في 1968م و نالت رؤية عبد الخالق أغلبية بسيطة و جعلت السجال دائرا. و لكن ذهب الحزب في طريق مصطلحي ( الديمقراطيين الثوريين و الوطنيين) و أنجز انقلابين 25 مايو 1969م و 19 يوليو 1971م. و الانقلاب الذي ضيق على بروز عناصر فكرية بالصورة المطلوبة. و الانقلابان خلفا أكبر أثر سلبي على الحزب في النواحي التنظيمية و الفكرية. و إذا نظرنا لنشاط الحزب في ستينات القرن الماضي حيث كان يمثل ذبدة الطليعة الواعية في البلاد لذلك كان النشاط الثقافي و الفكري طاغي على القوى الأخرى جميعها، بعد الانقلابان تراجع هذا الدور و أن استعاد النشاط في وسط السبعينات و الثمانينات لكن ليس بالصورة السابقة، و في التسعينات بدأت مرحلة أخرى.
ثم جاء سقوط حائط برلين 1990م الذي انهار معه الاتحاد السوفيتي 1991م و الذي كان يمثل حاضنة قوية للماركسية، الحدثان خلقا حالة من عدم الاتزان وسط المجموعات اليسارية الماركسية و القومية، من بينهم الحزب الشيوعي و الذي فتحت حوارا حول المرجعية الفكرية و تغيير أسم الحزب، الأمر الذي قاد لخروج اعداد كبيرة من الحزب أغلبيتهم من العناصر التي تشتغل بالفكر و العديد من العناصر ذات القدرات الإبداعية في حقول الأدب و الإبداع، هذا الخروج خلق أزمة فكر داخل المنظومة الحزبية، حيث صعدت للقيادة عناصر أغلبيتها من القيادات التي كانت تشتغل بالعمل التنفيذي، و هؤلاء أيضا أغلبيتهم من المفرغين للعمل الحزبي، و يريدون الاحتفاظ بمواقعهم و بالتالي لا يريدون الدخول في أي سجالات فكرية أو يتخذون مواقف تعرضهم للنقد، فخرجوا من تحالف قوى الحرية و التغيير، حتى يعرضون انفسهم لأي نقد يتناول فشل و نجاح الحكومات التي يكونها التحالف. و بعد انقلاب 25 أكتوبر أتخذوا موقفا أخر تكوين تحالف الجذرية من الحزب و واجهاته الأخرى و رفضوا التعامل مع أي قوى سياسية أخرى، و اعتمدوا على تظاهرات شباب المقاومة دون أن يكون لهم رؤية سياسية واضحة تحمل مبادرة تفتح حوارا وطنيا، و قيادات الحزب أن الديمقراطية لا تصنع بالثورة و لكن بالحوارات المفتوحة التي تؤدي إلي التوافق الوطني. و بعد الحرب توقفت التظاهرات و غاب أي دور للحزب. أصبح الحزب دون أي رؤية لذلك تجد اعداد من عضويته في القروبات ليس لها دور غير رفع البوسترات مع..ضد.... هذا يذكرني بقول أنطونيو غرامشي في كراسات السجن " الأحزاب تنشأ و تتشكل كتنظيمات لكي تؤثر في الوضع القائم في الحظات تاريخية حاسمة بالنسبة لطبقتها و لكنها ليست قادرة دائما على التكيف مع المهام الجديدة و العهود الجديدة أو مسايرة تطور مجمل علاقات القوى في البلد " بالفعل أن القيادات التاريخية الاستالينية فضلت أن تكون في حالة من النوم العميق في مرحلة الحرب لكي تخلي الساحة للأخرين. و هي تعلم أن الحرب سوف تخلق واقعا جديدا في البلاد. و أي منتصر فيها هو الذي يقع عليه عبء تشكل مستقبل البلاد، و حتى إذا انتهت الحرب بتسوية أن قياداتها هي التي سوف تشكل الساحة السياسية. هذا الواقع الذي يعيشه الحزب.. هل يعتبر حالة من حالة العجز الفكري، أم عدم استيعاب لمجريات الأحداث لا تستطيع أن تجاوب عليها المرجعية الفكرية الآرثوذكسية؟
يقول عبد الخالق محجوب الذي كان يشغل موقع السكرتير العام للحزب في كتابه ( إصلاح الخطأ في العمل بين الجماهير ص 22) يقول " البرجوازية الصغيرة و خاصة في المدن تسلك سبيل الدراسة المعزولة و تجنح إلي الفصل بين النظرية و العمل، و مرجعيتها النصوص دائما لا الحياة و متطلباتها .. و تحاول بهذا أن تخضع الحياة للنصوص لقد عانينا من هذا الاتجاه كثيرا و أتخذ شكلا حادا" و هذه هي المعضلة أن قيادات الحزب أصابها الجمود.. أن الحزب الشيوعي الآن لا يريد أن يتخذ من المشتركات مدخلا له في تقديم مبادرة وطنية تبقي على الوطن و تخرجه من دائرة النزاعات و الحروب، و لا حتى أن يتخذ من نصوص الماركسية الجديدة ما بعد الحداثة رؤية له تفتح أفاقا جديدة لعمله السياسي لكي يقدم رؤية يقتنع بها قطاع واسع من الجماهير. لكن لحزب فضل أن يعتمد على الكتابات الأرثوذكسية الماركسية التي تبرز بصورة واضحة في كتابات مفكر الحزب الأستاذ تاج السر عثمان بابو مع تقديرنا له و لكتاباته، لكن البشرية تجاوزتها باعتبارها تمثل مرحلة للفكر التاريخي الماركسي، فهي لا تصنع ديمقراطية و لا حتى صراع ثوري. و الغريب أن الحزب الشيوعي يريد الثورية و في نفس الوقت يرفع شعارات الديمقراطية و هذه الصقة لا يستطيع الحزب معالجتها فكريا. يقول الكاتب جورد طرابيشي في كتابه ( في ثقافة الديمقراطية) يقول " مبدأ الصراع في الديمقراطية هو النسبي في مواجهة النسبي.. أما المواجهة في الثورة فهي بين مطلق و مطلق .. مطلق من الخير في مواجهة مطلق من الشر.. و عندما تتواجه المطلقات على هذا النحو المانوي، فإن المنطلق الذي يفرض نفسه هو منطق الاستئصال حتى الجذر و حتى نخاع العظم" و بالتالي المطلق لا يؤسس إلا نظاما ديكتاتوريا شموليا. فالثورة أداة الصراع الصفري و هي الأداة التي تتمسك بها قيادات تاريخية استالينية لم تراع تطور الفلسفة الماركسية في معاهد المعرفة... و نجدها تحاول أن تجمع المتضادات دون أن تقوم بأي دراسة فكرية تبين للناس كيف تصنع الثورة ديمقراطية. أن التناقض في الشعارات التي يرفعها الزملاء نتيجة لعدم المواكب في التطور الذي حدث للماركسية في كتابات العديد من فلاسفتها و مفكريها أمثال هربرت ماركوزا و أودورنو و ريموند غويس و هبرماس و ماكس هوركهايمر و غيرهم. و هؤلاء قدموا مجهوداتهم الفكرية انطلاقا من مرجعياتهم الماركسية في نقد الماركسية الكلاسيكية.
أن القيادات التاريخية الحالية في قمة الحزب، إذا استطاعوا أن يقرأوا تاريخ الحزب الشيوعي، و دوره المساهم في تصحيح مسار العمل الديمقراطي تايخيا، إذا أختلف معه الناس أو أتفقوا لكن كانوا سوف يدركون أن حزبهم كان يملك قيادات لها قدرات فكرية استطاعت بها أن تفتح العديد من الحوارات الجادة في الساحة السياسية، و تسمع و تحترم للرؤى الأخرى و لا تتجاهله، و لا تفرض الأستاذية على الأخرين. كان الأمل أن يأتي المؤتمر السابع يحمل بشريات للتغيير بعناصر جديدة تحمل رؤى فكرية تساعد الحزب على الحركة الفاعلة وسط القوى السياسية، و لكن جاءت الحرب لكي تخلق واقعا جديدا في الساحة. هنا تطرح أسئلة: هل الحزب مع التغييرات التى تحدث في الساحة السياسية أم أنه سوف يقف في ذات محطة المراقبة أم عنده تصورا أخر يتجاوز كل مواقفه السالبة الماضية؟ هل يستطيع الزملاء أن يراجعوا قراءة تجاربهم و يقدم مبادرة تراعي المشتركات و تبني عليها أم مازالوا يقفون في محطة المعهد الفني و حدثة شوقي؟ هل تستطيع قوى سياسية تقيد مساحة الحرية داخل منظومتها السياسية أن تنجح في صناعة الديمقراطية؟ نسأل الله حسن البصيرة.
zainsalih@hotmail.com
////////////////////////