إنّها الحرب التي لابد وأن نفقد فيها العزيز !!

 


 

 

والتي لا يعرف معناها إلّا من خاض غمارها وتكبد خسائرها وفقد عزيزاً عند احتدام معاركها، والحروب في ذاكرة الشعوب بها من البشاعة ما لا يخطر ببال أحد، فبالأمس القريب قتل خميس أبكر والي غرب دارفور واليوم تم ذبح شباب بحي الثورة بأمدرمان، وغداً ربما تشاهدون جثة البرهان ملقية على عتبات مدارج مباني القيادة العامة، إنّها الحرب التي لا تميز بين هذا وذاك وسوف يكون مسؤول عن عواقبها الوخيمة من أشعل شرارتها الأولى بالمدينة الرياضية وسوبا، ذلك المعتوه الذي كان واثقاً من أن ميزان الغلبة لا شك مرجح لكفته وحاط لكفة الصائمين المغدورين، فحينما تتفجر الأوضاع بالقنابل والصواريخ والألغام لا يدري المفجر ولا المتفجر على أي جنب سيكون عند الله مصرعه، ولكم سمعنا من أنصار المرحوم خميس أبكر عن تجميع مليون جندي من نفس أثنية الوالي الراحل لخوض حرب عنصرية ضد مواطنين لهم حق العيش الكريم بمدينة الجنينة، إنّ من خطل العنصريين في السودان أنهم لا يتقبلون الآخر إلّا من باب الأجير والخفير والخادم المطيع، لا من باب المواطنة الحقّة التي يتمتع فيها الفرد بكامل الحقوق، فحربي الجنينة والخرطوم تشتركان في عامل واحد يتمثل في كون قلة قليلة من سكان المدينتين متطرفون لدرجة أنهم لا يريدون بينهم شريكاً في المواطنة، بينما يشاركون الآخرين في بورتسودان وكسلا والأبيض هذا الحق.
هذه الحرب اللعينة المفروضة على من لم يشهروا سلاحاً تجاه الدولة سوف تضع أوزارها، لكن وبمجرد وضعها لأوزارها سوف يتواضع الكثير من الجهويين والمتنطعين عن طموحهم الزائف غير المشروع، وستؤسس دولة العدالة والقانون والمساواة التي لن يجد الجهوي والإثني والقبلي فيها مكاناً بين صفوف المواطنين الشرفاء، لكن لابد أن نعلم بأن فاتورة هذا السلام القادم ستكون باهظة الثمن يدفعها الذين لم يشهدوا حرباً شاملة لمدى أكثر من قرن، وبعدما يتساوى الناس في ويلاتها من فقدان للأهل والعشيرة وتشرد ونزوح ولجوء الأعزاء، يكون الوعي بالسلم والأمن المجتمعي قد أصبح قناعة تجتاح نفوس الجميع، فبينما كان الجنوبسودانيون يحزمون أمتعتهم للذهاب جنوباً، كنا نحن في الشمال الكبير نظن أنهم قد خسروا جنة الشمال، دون أن ندري رجاحة عقل هذا الإنسان الكوشي الأبنوسي النبيل، الذي أدرك باكراً أن القاطرة القديمة المعطوبة على وشك الخوار والتعطل، فاليوم قد أصبحت الخرطوم مثل جوبا إبّان الحرب الأهلية، طيران حربي يقصف المدنيين وقتل على الهوية واتهام البعض للبعض بالطابور الخامس، تماماً مثل هذه العاصمة الأماتونجية عندما كنا نصدر لها براميل الموت من قاعدة وادي سيدنا الجوية، يا سبحان الله، اليوم نفس الترسانة الحربية تتجه لمسافات قريبة داخل أحياء العاصمة السكنية، لتدك منازل المواطنين وتسومهم سوء العذاب.
هذه الحرب رسالة بليغة للمتخمين من الانتهازيين والوصوليين الذين عاشوا سنين على قضم عظام الفقراء والمساكين وامتصاص دمائهم، الذين لم يصبروا ساعة واحدة بعد سماع زخات الرصاص، فهرع من هرع منهم إلى الجارة الشمالية ويمم البعض الآخر وجهه شطر الجار الإثيوبي، وكعادة الانتهازيين لا يبقون في الأوطان عند مدلهمات الخطوب، فالوطن لديهم كما البقرة الحلوب، يرضعون من ثديها طالما أنها بكامل صحتها وعافيتها تأكل من خشاش الأرض عشباً رطباً مسقياً من مياه أمطار السافنا الغنيّة البعيدة عن المركز الذي يقيمون فيه، لكنهم لا يلوون على الدفاع عن الوطن الذي سقاهم الماء العذب والحليب الطازج، فهم أقوام جبلوا على الانتهازية والفوقية وبناء الأمجاد على ظهور الكادحين، فهذه الحرب الضروس التي تدور رحاها هذه الأشهر ستضع حداً فاصلاً بين الدولة القديمة، والدولة الحديثة المبرأة من عسف الحاكم وأنانية التاجر وعنف العسس، وهي منظومة جديدة تضع لبنة المواطنة الحقّة التي لن تجد فيها مواطناً في مدينة الجنينة يطالب بإخراج مواطن آخر من نفس المدينة بناءً على الانتماء القبلي، وكذلك لن يقيم بها مواطن بالخرطوم وهو يدعو الناس عبر المنابر لإخراج مواطنين آخرين بحجة أنهم ينتمون إلى إقليم سوداني أصيل له إسهامه التاريخي والحضاري الكبير في بناء الدولة الوطنية الأولى في أواخر القرن التاسع عشر.

إسماعيل عبدالله
16 يونيو 2023

ismeel1@hotmail.com

 

آراء