المَكَارِثِيَّة السُّودانية أو الكِيزَانُوفُوبيَا وخَطَل مصطلح “لوثة العداء للكيزان”

 


 

 

للتنبؤ بما يُمكن أن يحدث أثناء أو بعد الحرب، لابد من قراءة خطاب "ما قبل الحرب"، وخطاب "الحرب نفسها"، بحكم أن خطاب الحرب هو مكوِّن هام جدًا من مكونات الصراعات والنزاعات المحلية، الإقليمية أو العالمية؛ وقد يصبح مؤثرًا أو يؤثر فيما بعد في سياسة طرف الحرب الأقوى، ويصير طريقاً لتحقيق الأهداف السياسية والعسكرية. لذا، ينبغي التعامل مع هذا الخطاب بشكل جادّ ومحدَّد بقدر المستطاع.

في حالتنا، أنتجت هذه الحرب حتى الآن خطابين؛ خطاب مثل خطاب "بل بس" -لمن هم من الجيش ولمن خلفهم من الكيزان- وهو خطاب ملفوف بالتهديد الصريح، ليس للدعم السريع، الذي هو الطرف الآخر في الحرب، بل -وهذا هو الأهم- لكل التنظيمات السياسية التي وقفت ضد مشروع الإنقاذ وأسقطته. ومؤخراً، بعد سقوط الإنقاذ، من تلك القوى التي نادت بالديمقراطية، والتخلص من بقايا دولة الكيزان والتأسيس لحكمٍ مدنيٍّ مستدام. يتمظهر هذا الخطاب في مقولات الإسلاميين، المدنيين والعسكريين، على حدٍّ سواء، على شاكلة تصريحات الفريق معاش فتح الرحمن محي الدين (ووصفه لقوى الحرية والتغيير بالشرذمة، حينما قال لا يمكن أن تنتهي هذه الحرب ونعود لهؤلاء الشرذمة من قوى الحرية والتغيير (والدعم السريع)؛ والقصد هنا الحكم المدني الديمقراطي- حكم ليس للعسكر فيه مكان من خلال الجيش كمؤسسة عسكرية والأمثلة كثيرة، منها وعيد الكيزان -من أمثال أنس عمر، الجزولي، علي كرتي وآخرين- وكذلك من ضباط الجيش المعاشيين ومن هم في الخدمة، ككباشي وياسر العطا؛ مما يشي بأن الحرب ليست من أجل التخلص من الدعم السريع فقط، بل -وهذا السبب الرئيس- التخلص من كل من نادى أو ينادي بالحكم المدنى الديمقراطي.
وللأسف هناك تماهٍ، عن قصدٍ، مع هذا الخطاب من المنتمين لبعض القوى المدنية الداعمة لانقلاب ٢٥ أكتوبر، وبعض المثقفين والأكاديميين من الوسط والشمال النيلي.
الخطاب الآخر كان هو خطاب الدعم السريع؛ وهو خطاب يحمل في ظاهره النوايا الحسنة، التي بدأت بالاعتذار عن، والتملص من انقلاب ٢٥ أكتوبر، والانحياز أو الموالاة للاتفاق الإطاري، والوقوف إلى جانب مجموعة تنظيمات قوى الحرية والتغيير ودعاة الحكم المدني الديموقراطي.
المنظمات والتنظيمات السياسية التي تنادي بالتحول إلى نظامٍ مدنيّ-ديمقراطيّ حقيقيّ، والتوجه نحو الحكم المدني، اكتسبوا عداء الحركة الإسلامية ممثلةً في المؤتمر الوطني والمؤسسة العسكرية ومؤيّديهم. فوضع تلك المنظمات والتنظيمات -دون إثبات طبعاً- في صف الداعمين للدعم السريع، بالرغم من أن أقصى ما فعلته تلك القوى المناهضة للحكم العسكري هو رفع شعار (لا للحرب)؛ هكذا، حتّى ذلك لم يشفع لها، لأن الشعار الذي رفعه الكيزان القائل بمن لم يقف معنا (مع الجيش) فهو ضدنا أو مع العدو.
وتم تخوين قوى الحرية والتغيير وكل من قال "لا للحرب"، واُتُّهموا بالعمالة والارتشاء، ولوثة العداء للكيزان. وبالرغم من أن هذه القوى أطلقت التحذيرات العديدة، والتي ملأت الأسافير والميديا التقليدية، من مغبة الانزلاق للمواجهة العسكرية؛ وتمثل ذلك في خطابها المناهض للوقيعة بين الجيش والدعم السريع حتى لا تسير الأوضاع إلى ما سارت إليه الآن، وكانت دائماً -منذ ما قبل التوقيع على الاتفاق الاطاري- في حالة سعيٍ بين الجيش وبقية القوى الأخرى خارج الإطاري لإيجاد توافقٍ يقود إلى انتقال سلس نحو الحكم المدني-الديموقراطي، رغم كل ذلك، كان الموقف السلبي لقوى الثورة الأخرى من "قحت" مماثلاً لموقف الكيزان، على اختلاف زاوية النظر والموقف من قحت. والسبب واحد، ألا وهو عدم رغبة قوى الثورة الأخرى والكيزان في أي تقاربٍ مع الجيش.
بالنسبة لفلول المؤتمر الوطني، فإن الجيش مؤسسة تتبع للحركة الإسلامية، وحدث ذلك بمجهودٍ منهجيّ حثيث من خلال ممارسة التمكين التي اتبعها حزب المؤتمر الوطني خلال ثلاثين عاماً من الحكم المطلق.
لذلك، فإن أي تحول في الحكم يؤدي إلى إعادة هيكلة الجيش، وبالتالي إنهاء دولتهم العميقة والقضاء على أي أمل لهم في العودة للحكم مرة أخرى، عن طريق كوادر الإسلاميين في الجيش.
بالنسبة لقوى الثورة الأخرى، التي تقف خلف الجيش الآن -ويا للعجب!- فإنها ناصبت قوى الحرية والتغير العداء طيلة الأربع سنوات الماضية بسبب أنها خانت الثورة والثوار، وتحالفت مع الجيش لتحقيق الانتقال.
عموماً، بالرغم من كل ذلك، واصلت قوى الحرية والتغيير والمؤيدين لعملية التغيير والانتقال التدريجي إلى الحكم المدني-الديموقراطي، كما استمرت في حثها للجيش وللمنظمات المحلية والدولية للحوار والعمل معها على منع الانزلاق إلى الحرب، والتي تعنى الفوضى الشاملة، وفتح النوافذ لعودة الكيزان بمشروعهم الإقصائي مرة أخرى. بل سعت إلى توفير الظروف الملائمة للاختيارات الحرة والنزيهة، ونادوا بعدم الوقيعة بين أطراف الجيش والدعم السريع، بالإضافة لضمان حقوق المواطنين في المشاركة في الحياة السياسية والتأثير في صنع القرارات الحكومية عن طريق منظمات المجتمع المدني من خلال حكومة انتقالية، تعمل على تعزيز حقوق الإنسان وتنفيذ إصلاحات مهمة من ضمنها -وبشكل أساسي- القضاء على التمكين الذي انتهجته حكومة الكيزان للسيطرة على مفاصل الدولة، بما يتضمن مؤسساتها العسكرية والمدنية، ومن ثم إعادة هيكلة وبناء مؤسسات هذه الدولة وربطها بمؤسسات وبمنظمات المجتمع الدولي التي انعزلت عنها لعقود من الزمان. كما بالعمل مع تلك المؤسسات على التهيئة لحكم مدني ديمقراطي مستدام.
إن السعي للحكم المدني-الديمقراطي يتطلب الحوار مع الجيش، الجيش الذي ظلَّ يحتكر السلطة ليس لشيء سوى أنه يُمثّل القوة الوحيدة التي تمتلك أدوات العنف -كما وصفها دكتور الواثق كمير- ليس بالحوار فقط، بل السعي نحو الشراكة معه، كما مع المواطنين والمنظمات المدنية، وكذلك الاستعانة بمنظمات إقليمية ودولية شاركت في عمليات انتقال مشابهة، كتلك التي حدثت في سيراليون وليبيريا ودول أخرى.
وبحكم أننا لسنا جزيرة معزولة عن ما حولنا (فكانت الأمم المتحدة ممثلة في بعثة يقودها فولكر، التي تم تفويضها للعب الدور المناط بها، وهو دعم إعادة بناء مؤسسات الدولة التي تم تدميرها خلال حكم الكيزان عن طريق التأهيل والتدريب للكوادر السودانية لإدارة هذه المؤسسات. إلا أن انقلاب ٢٥ اكتوبر حوَّل دورها لوسيط بين المدنين والعسكريين.
أيضًا كانت هناك دول داعمة لهذا الخط نحو الانتقال، لبناء مستقبل أكثر استقراراً للسودان وشعبه، ليُسهموا في استقرارٍ إقليميّ ودوليّ بحكم موقع السودان الجغرافي، السياسي، الاقتصادي والاجتماعي.
صار الخطاب الداعم للتحول المدني-الديمقراطي خطاباً مدعوماً من الدعم السريع، الذي كان، حتى الأمس، قوات نظامية لها كل ما للجيش وعليها ما عليه. إنه الدعم السريع الذي قام بعمليات عسكرية واسعة في دارفور نيابة عن، أو مع الجيش، ثم تحول لحماية البشير من الجيش الذي صار ملكاً للحركة الإسلامية، ودخل في صراعات أقطابها السياسية، فصار الدعم السريع الطرف الحامي والداعم للبشير، ولم يُعرَف له أيّ انتماءٍ أو خطابٍ سياسيّ مباشر قبل العام ٢٠١٩، أي بعد انحيازه للثورة والثوار برفضه التعليمات (جاءت تعليمات البشير للدعم السريع بفض الاعتصام من أمام القيادة لشكوك البشير في تواطؤ كيزان الجيش مع ما يجري حول القيادة للتخلص منه)، وبعدها قام قائده باعتقال البشير، ووضعه في التحفظ المنزلي، ومن ثم إيداعه الحبس؛ مما جعله في قلب العملية السياسية بحيث ستكتب فيه لاحقاً المقالات التي ستمجّده في صحف الكيزان، والتي تُشيد بدوره في حفظ الأمن بفض الاعتصام من حول القيادة، وبسط الاستقرار في دارفور.
والآن، هذا ما يطالبنا به الكيزان ومن لف لفهم، أن لا نصدق دعوى التحول للحكم المدني-الديمقراطي الذي رفعه قائد الدعم السريع. بل علينا الانحياز لوعدهم لنا بالبل والقتل والسحل بعد القضاء على الدعم السريع.

لوثة العداء للكيزان أو الكيزانفوبيا، وهو التشخيص السايكولوجي الذي يطرب له الكيزان أثناء هذه الحرب، بل صاروا يستخدمونه لتأليب الشارع على كل من قال لا للحرب، وهو المصطلح الذي أطلقه الدكتور عبد الله علي إبراهيم، ووافقه عليه الكثيرون من مثقفي وأكاديميي الوسط والشمال النيلي، وهو وصف أُطلق على كل من وقف وقال "لا للحرب" بسبب أن وراء هذه حرب الكيزان، والمستفيد الأول والأخير هم الكيزان، والمتضرر هو الوطن وشعب هذا الوطن. صحيح أن ثمة تخوف، وهو مشروع، من عودة الكيزان ليعبثوا بهذا الوطن.
مرة أخرى. صحيح كذلك أن هناك كيزانفوبيا. لكن استخدام هذا الوصف الآن به من الخبث الكافي ليعمل على تغبيش الرؤية، أو إغماض أعين المواطن عن النظر إلى هذه الحرب فقط في ظرفها اللحظي، والابتعاد عن أن أي قراءة لجذورها أو مسبباتها، التي ترجع لعوامل كثيرة ومترابطة، أبرزها:
1- الصراع العرقي القبلي الذي كان للكيزان اليد العليا فيه، وفي مسبباته في أطراف من السودان؛ دارفور، كردفان والنيل الأزرق، حيث أدار الكيزان هذه الصراعات بكوادرهم في الأجهزة الأمنية واستخبارات الجيش.

2- الصراع الديني الذي أدخله الكيزان في السياسة السودانية، والذي صار فيه أئمة الجوامع يُنَظِّرُون حتى في الفيزياء والطب والفلك بوجود من يحملون الدكتوراة في تلك العلوم.
3- التمييز والإقصاء السياسي الذي تم من قبل الفئات الحاكمة على مر الحكومات المتعاقبة، واستفحل واستشرى في ظل حكم الكيزان.
4- الوضع الاقتصادي المتدهور منذ استيلاء عسكر نظام مايو على السلطة 1969-1985م، والتحول غير المدروس وتأميم شركات القطاع الخاص مما ساهم في هروب رأس المال الأجنبي والوطني، وكانت بداية العزلة عن المؤسسات الاقتصادية العالمية التي تفاقمت بعد استيلاء الكيزان على السلطة 1989م، فدخل السودان في صعوبات اقتصادية متواصلة كان يمكن الخروج منها في فترة ضخ البترول، إلا أن فساد وجشع الإسلاميين زاد الوضع تدهوراً بعد أن ازدادت حركة الاقتراض لمشاريع فاشلة بضمانات البترول، وأشياء ستظهر لاحقاً. بل حتى بعد العام ٢٠١٩م، وقف الكيزان حائلاً أمام أية محاولة انفراجة اقتصادية؛ إما بوضع العقبات أمام أي برنامج اقتصادي إسعافي، وكان ذلك يتم بكوادرهم في مفاصل الحكم، أو عن الطريقة التقليدية التي استخدموها إبان مايو وأيام الديمقراطية الثالثة 1986-1989. وهي عن طريق تجفيف السوق من المواد التموينية الأساسية.

5- العنف والفوضى اللذان انتهجهما تنظيم الكيزان بعد سقوط البشير من أجل زعزعة ثقة المواطن في أي حكم غير عسكري؛ والأمثلة كانت كثيرة في تقاعس الشرطة عن أداء واجبها بدعوى (دي المدنية العايزنها؟).
فوصفة لوثة الكيزان، أو الكيزانوفوبيا، هي حملة أشبه بالحملة المكارثية الشهيرة في الولايات المتحدة الأمريكية، والتي استهدفت أفراد في الجيش والحكومة يعارضون حرب فيتنام، فأطلقت عليهم تهم الانحياز إلى الشيوعية، وهي حملة أطلقها السيناتور جوزيف مكارثي في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، وذهب فيها إلى اتهام العديد من المثقفين والنشطاء بالتنصل عن ولائهم للبلاد، فأدت إلى اضطهاد، سجن، وعزل العديد من الأشخاص المؤثرين في المجتمع الأمريكي على مختلف المستويات، وكان للكُتَّاب، المثقفين وصُنَّاع السينما الحظ الأوفر. وأدت إلى ضغوط عالية على أفراد في الحكومة والعمل السياسي مما دفعهم لتقديم استقالتهم والانزواء. موخراً تمّ نقد المكارثية، وهناك كتابات وأفلام عديدة من هوليوود تُعَرِّي وتنتقد تلك الحملة، فحملة الكيزانفوبيا ولوثة الكيزان التي تتعرض لها "قحت"، وكل من قال لا للحرب، هي محاولة لوضعنا في موقف المدافع والنظر إلى أو قراءة كل التاريخ من لحظة نشوب هذه الحرب -فقط من لحظة نشوبها- وبمنظار الكيزان، وهي محاولة لتبرئة الكيزان وجعلنا نلتف حول برنامجهم المستقبلي الذي ليس لنا فيه مكان حسب خطابهم التهديدي.
في الحقيقة مكاننا هو "البل بس".

 

آراء